يعد سمير عكاشة – على نطاق واسع – أحد أكبر فلاسفة العلم في الوقت الحاضر. حصل على جائزة لاكاتوش السنوية لعام 2009 تقديرًا لإسهامه المتميز في فلسفة العلم، وهو كذلك زميل الأكاديمية البريطانية والرئيس الحالي للجمعية الأوروبية لفلسفة العلم. عمل الأستاذ الدكتور سمير عكاشة رئيسًا لقسم الفلسفة بجامعة بريستول بالمملكة المتحدة. وتضم أبحاثه مجالين رئيسين هما: فلسفة البيولوجيا وفلسفة العلم.
———————————————-
خالد قطب: الأستاذ الدكتور سمير عكاشة يسعدني دعوتك إلى مِنصة معنى وأشكر لك مرة أخرى على قبولك الدعوة.
سمير عكاشة: شكرًا لك الأستاذ الدكتور قطب، وهذا من دواعي سروري.
كثيرًا ما أتذكر عندما تكرمتم بدعوتي كأستاذ زائر في قسم الفلسفة بجامعة بريستول في العام 2013، لقد كانت فرصة عظيمة لكي أتعرف على أفكارك والاتجاهات الجديدة في فلسفة العلم، لا سيما تلك التي عبرت عنها الأعمال المتميزة لألكسندر بيرد وجيمس ليديمان وهافي كاريل. لنبدأ بالسؤال عن اسمك، وهو اسم مألوف في العالم العربي، هل لهذا الاسم أصل عربي؟
سمير عكاشة: نعم، والدي مصري، غير أني عشت معظم حياتي في المملكة المتحدة.
بشكل عام، تعد كتابة كتب المقدمات القصيرة جدًّا مهمة شائكة لكثير من الفلاسفة. كيف استطعت التغلب على المشكلات المتعلقة (بالكتابة) في أثناء كتابة كتبك مثل: «فلسفة العلم: مقدمة قصيرة جدًّا» (مطبعة جامعة أكسفورد) والذي تُرجم إلى العديد من اللغات، وآخرها كتابك «فلسفة البيولوجيا: مقدمة قصيرة جدًّا» (مطبعة جامعة أكسفورد) والذي نُشر في عام 2019؟
سمير عكاشة: حسنًا، أعتقد أن من الأهمية بمكان أن يكون لدى الفلاسفة القدرة على تفسير الأفكار الأساسية في حقلهم المعرفي بطريقة واضحة وبسيطة؛ بحيث يمكن لأي شخص عادي يتمتع بقدر من الذكاء أن يفهمها. إنها مهارة غالبًا ما يتم تجاهلها، والسر في هذا الأمر هو العمل جيدًا على كتابة جمل بسيطة قصيرة، مع الاستشهاد بأمثلة ملموسة والحد من الرطانة الأكاديمية، إضافة إلى ضرورة الإفادة من «التعاطف الفكري» الذي يعني أن تضع نفسك في موضع القراء الذين لا يعرفون شيئًا عن الموضوع، وتطرح سؤالًا وهو: «هل سيفهمون هذا بالفعل أم لا»؟
تعتقد أن فلسفة البيولوجيا قد ظهرت في سبعينيات القرن العشرين، وأن التجريبية المنطقية وتوماس كون وآخرين قد استبعدوها من مشهد فلسفة العلم، هل لك أن تخبرنا، من فضلك، عن الأسباب التي جعلتهم يتجاهلون فلسفة البيولوجيا؟
سمير عكاشة: باختصار شديد ترعرع التجريبيون المناطقة (كارناب ورايشنباخ وشليك وهيمبل) – إضافة إلى تماس كون – في ظل الفيزياء، فكان طبيعيًّا أن تكون فلسفتهم في العلم مرتكزة بشكل أساسٍ على الفيزياء، أظن أنهم إذا واصلوا المسيرة في هذه النقطة فإنهم سيجيبون بأن البيولوجيا لا تثير نوعية الأسئلة الفلسفية العميقة نفسها التي تثيرها الفيزياء (رغم أن هذا مجرد توقع هنا) إضافة إلى ذلك، يُنظر إلى الفيزياء بطريقة تقليدية على أنها الأكثر جوهرية بالنسبة للعلوم الطبيعية، بهذا المعنى، يمكن اختزال أي شيء، من حيث المبدأ، إلى الفيزياء، وسواء كان هذا أمرًا صحيحًا فعلًا أم لا فإنه موضوعٌ لنقاش ما زال قائمًا (ويعتمد ذلك، بدقة على ما تعنيه كلمة «اختزال») قد يبدو طبيعيًّا بالنسبة لأي شخص متعاطف مع الفكرة الاختزالية، كما هو الحال عند التجريبيين المناطقة، أن تكون فلسفة العلم متمركزة حول الفيزياء.
من اللافت للنظر أن ثمة بعضًا من الناس يخلط بين البيولوجيا وفلسفة البيولوجيا، وفي هذا الصدد أصبح معروفًا جيدًا بين فلاسفة العلم اليوم أن ما حدث مؤخرًا من دمج بين المناقشات البيولوجية والفلسفية يعود إلى سمير عكاشة، إلى أي مدى يمكننا تجسير الفجوة بين البيولوجيا وفلسفة البيولوجيا من وجهة نظرك؟
سمير عكاشة: هذا كرم كبير منك، ولكن في حقيقة الأمر ثمة العديد من فلاسفة البيولوجيا الناطقين باللغة الإنجليزية من الرعيل الأول منذ سبعينيات القرن العشرين، مثل: ديفيد هول، ومايكل روس، ثم كتّاب لاحقون مثل إلوت سوبر، وكيم ستيرلني وفيليب كيتشر، قد مارسوا جميعهم فلسفة البيولوجيا بطريقة أو بأخرى وأسهموا في دمج المناقشات العلمية والفلسفية، لقد حاولت في عملي الخاص أن أحذوَ حذوهم. لا أعتقد أنه من الأهمية أن تظل فلسفة البيولوجيا -وأيضًا فروع أخرى من فلسفة العلم- على اتصال وثيق بالعلم، وبوجه عام فإن الفلاسفة من جميع الأطياف على دراية بالعلم المعاصر، وكما أسلفت سيكون هناك دومًا فجوة ما ولكن ليس هذا بالضرورة أمرًا سيئًا. غالبًا ما نهتم نحن الفلاسفة بالأسئلة التي على درجة عالية من التجريد والتي لا تمت بصلة مباشرة لمعظم الأنشطة العلمية اليومية. وليس العلماء كلهم مهتمين بهذه الأسئلة، وأعتقد أن هذا أمرٌ جيدٌ، وأنا لا أشارك وجهة نظر الفلاسفة «الطبيعانيين» الذين يعدون أن ممارسة العلم ضرورية للمناقشة الفلسفية حتى تكون لها قيمة.
ذكرت أنك مهتم بقضايا مثل: مشكلة الاحتمال والاستقراء والدليل والتأييد والسببية والكلية الإبستمولوجية؛ ولكن بالنظر إلى أعمالك الرئيسة نلاحظ أن معظمها يتطرق إلى نظرية التطور. إذا كنتُ محقًّا في ذلك، هل بإمكانك إلقاء الضوء على سبب اهتمامك بمثل هذه النظرية على وجه الخصوص؟
سمير عكاشة: لقد بدأت حياتي المهنية بالعمل على قضايا إبستمولوجية كتلك التي ذكرت، ونشرت عددًا قليلًا من الأبحاث حول تلك القضايا على مر السنين، وما زلت مستمرًّا في التفكير والكتابة عنها اليوم (عندما يسمح الوقت!)، لقد أصبحت متيما بنظرية التطور عندما كنت في جامعة أكسفورد في تسعينيات القرن العشرين، حيث كان هناك الكثير من الحماس لأفكار ريتشارد دوكنز ووليم دونالد هاملتون وآخرين. انعكس هذا الحماس في بعض الأعمال الفلسفية في تلك الحقبة، مثل أعمال دانيال دينيت. في بادئ الأمر كانت نظرية التطور إحدى اهتماماتي الجانبية ولكن مع مرور الوقت أصبحت شغلي الشاغل. تحول بحثي أكثر فأكثر نحو التطور؛ حيث ركزت على الأسئلة التأسيسية والتصورية التي ظهرت داخل نظرية التطور ذاتها (مثل قضية «مستويات الانتخاب» والتي هي موضوع كتابي لعام 2006) وعلى تطبيق الأفكار التطورية على الأسئلة الفلسفية التقليدية. أعتقد أن لنظرية التطور مكانةً فريدة بين النظريات العلمية وأيضًا الأسئلة التأسيسية والتصورية (ولهذا أختلف تمامًا مع لودفيغ فتغنشتاين الذي كتب يقول «إن نظرية التطور ليست وثيقة الصلة بالفلسفة مقارنةً بأي فرضية أخرى في العلوم الطبيعية»).
لقد كنت الباحث الرئيس في مشروعين ممولين كبيرين، الأول كان عن التطور والتعاون والعقلانية، والآخر عن الداروينية ونظرية الاختيار العقلي، ما أهداف هذين المشروعين ونتائجهما؟
سمير عكاشة: كانت الفكرة الرئيسة في هذين المشروعين هي دراسة العلاقة بين السلوك التكيفي والسلوك العقلي من وجهتي النظر العلمية والفلسفية. يشير السلوك التكيفي (للكائنات الحية بشكل عام وليس بالضرورة للبشر) إلى السلوك المتطور بفعل الانتخاب الطبيعي والذي يتناسب مع البيئة ويتلاءم معها من حيث إنه يعزز الملاءمة البيولوجية للكائن الحي. أما السلوك العقلي فيشير إلى السلوك الذي يفي بدراسة المبادئ العقلانية في نظرية الاختيار العقلي والاقتصاد (على سبيل المثال: تحولية الاختيار، وتعظيم المنفعة المتوقعة، وأشياء أخرى من هذا القبيل) يفهم عادة كلٌّ من التكيف والعقلانية على أنهما يتضمنان شكلًا من أشكال التعظيم – غير أن الكمية التي عُظِّمت تختلف في الحالتين: («الملاءمة» في الحالة الأولى، و«المنفعة» في الحالة الأخرى)، كان هدف كلا المشروعين هو تحقيق مزيد من الوضوح فيما يتعلق بالعلاقة بين ما هو تكيفي وما هو عقلي باستخدام منهجية عابرة للتخصصات تعتمد على الفلسفة والبيولوجيا والاقتصاد.
لديك اهتمامات واضحة بالتطورات الجديدة في فلسفة البيولوجيا، وخاصة البيولوجيا التطورية وعلم المناعة والمكروبيولوجيا، هل لك أن توضح للقراء هذه التطورات الجديدة؟
سمير عكاشة: عادة ما يركز فلاسفة البيولوجيا على التطور وعلم الوراثة، وربما يرجع هذا بشكل جزئي إلى حدث تاريخي، ويعكس هذا جزئيًّا حقيقة ظهور أكثر القضايا الفلسفية إثارة للاهتمام في هذه المجالات. وتحول انتباه عدد من فلاسفة البيولوجيا في العقدين الأخيرين، نحو تخصصات بيولوجية فرعية أخرى، كتلك التي ذكرتها أنت على أمل العثور على قضايا جديدة للمناقشة، وكان هذا التطور موضع ترحيب، ومثالًا لذلك قدم آلان لاف (جامعة مينيسوتا- الولايات المتحدة) وجون دوبري (جامعة أكستر- المملكة المتحدة) وتوماس براديو (جامعة بوردو- فرنسا) أعمالًا مهمة في هذه الموضوعات.
إذا قبلنا حجتك أنه بإمكاننا فهم إنجازات الإنسان على أساس بيولوجي، هل تعتقد أنه يمكن تفسير هذه الحجة على أنها عودة لتبني الحتمية؟
سمير عكاشة: لا أوافق على وجهة النظر التي تقول إننا بإمكاننا فهم معظم إنجازات الإنسان (العلم والفن والموسيقى) على أساس بيولوجي، فمن الواضح أن إنجازات البشر الثقافية والاجتماعية والفكرية لم تكن لتتحقق إلا من خلال القدرات الإدراكية والتي من المفترض أنها قد تطورت عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ غير أن هذا لا يعني أن البيولوجيا التطورية يمكنها بشكل مباشر الإجابة عن الأسئلة التي تهمنا أكثر عن البشرية، فالعلاقة بين طبيعتنا البيولوجية المتطورة وإنجازات البشرية هي علاقة غير مباشرة. وقد حاجَّ بعض المفكرين أن العلوم الاجتماعية مثل الاجتماع والاقتصاد والسياسة هي علوم يجب أن تستند إلى مبادئ تطورية، بيد أني لست مقتنعًا بهذا، ولا أعتقد أن الحتمية البيولوجية يمكن أن تعود إلى الظهور من جديد – لقد أصبح مقبولًا على نطاق واسع أن التأثيرات الثقافية والبيئية على سلوك الإنسان لا تقل أهمية عن التأثيرات الجينية.
تستخدم في كتبك ما تطلق عليه «العدالة الجينومية»، هل لك أن تخبر القارئ عما تقصده بهذا المصطلح؟
سمير عكاشة: استعرت هذا المصطلح من مات ريدلي المؤمن بمذهب التطور، وهو مصطلح يشير إلى الحقيقة التي تقول إنه يُنقل نصف جينات الكائن المستنسخ بطريقة جنسية فقط إلى كل ذرية، ويُختار هذا النصف بطريقة عشوائية (بفضل طريقة الانقسام المنصف (مع بعض الاستثناءات)، فلكل جين في الكائن الحي فرصة عادلة (50/50) لأن ينتقل إلى أي نسل، ومن هنا جاء مصطلح العدالة.
حاولت أن تجد علاقة بين الاقتصاد والفلسفة عندما اكتشفت التناقض بين التفسيرات العقلية والسلوكية في نظرية القرار، هل لك أن تفسر هذه العلاقة؟
سمير عكاشة: الأبحاث التي كتبتها عن نظرية القرار ليس لها علاقة مباشرة بعملي في فلسفة البيولوجيا وفلسفة العلم، فهي تمثل إلى حد ما اهتمامًا جانبيًّا، ففي البحث الذي تشير إليه كنت مهتمًّا بمحاولة فهم السبب في أن نظرية القرار (التي تدرس مبادئ اتخاذ قرار رشيد عند مواقف الارتياب) تفهم بطريقة مختلفة في الأدبيات الفلسفية والاقتصادية، وينشأ هذا الاختلاف من حقيقة أن علماء الاقتصاد (حتى اليوم) متأثرون بشدة بالسلوكية – الفكرة القائلة بضرورة تعريف البنى العقلية بشكل مباشر عن طريق لغة السلوك الملاحظ – في حين يعد الفلاسفة بوجه عام أن السلوكية عقيدة بائدة.
قدمت تفسيرًا جديدًا ومهمًّا عما تطلق عليه «تجنب المخاطر» عند اتخاذ القرار. هل لك أن تلقي الضوء على هذا التفسير؟
سمير عكاشة: لقد اتبعت آخرين في محاولة فهم ما إذا كان، وإلى أي مدى يمكن اشتقاق تجنب المخاطر عند اتخاذ القرار من المبادئ التطورية الأساسية (على سبيل المثال إما تفضيل استلام إيصال محدد بقيمة 100 دولار أمريكي أو المقامرة التي قد تمنحك 200 دولار أمريكي أو لا شيء، احتمالية متساوية)، فهل لنا أن نتوقع أن التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي سيؤدي بالكائنات الحية (بما فيهم البشر) إلى تجنب المخاطر أم لا؟ هذا سؤال مثير للاهتمام وموضوع لأدبيات كبيرة في البيولوجيا التطورية وأيضًا في النظرية الاقتصادية.
يتوجب علينا توجيه انتباهنا إلى الحجج المتعلقة بمستويات الانتخاب التي تناولتها في كتابك «التطور ومستويات الانتخاب» (2009)؛ حيث أثارت مثل هذه الحجج العديد من القضايا المهمة. فهل لك أن تقدم للقارئ وجهة نظر أكثر شمولية عن هذا الموضوع البالغ الأهمية؟
سمير عكاشة: كتابي هذا تحليل فلسفي لخلاف قديم في البيولوجيا التطورية يتعلق بالمستوى الذي يعمل فيه الانتخاب الطبيعي. يعمل الانتخاب الطبيعي وفقًا للتفسيرات الداروينية القياسية على مستوى الكائنات الحية الفردية، بمعنى أن الكائنات الحية الفردية تحصل على «الاختيار» عن طريق الانتخاب اعتمادًا على صفاتها؛ ورغم ذلك، من الممكن أن يعمل الانتخاب، من حيث المبدأ، على مستوى الجماعة، حيث تفضل بعض الجماعات على أخرى، وهي نقطة ثمَّنها دارون نفسه والتي استُخدمت بشكل تقليدي لمساعدة تفسير أشكال سلوك «الإيثار»، أي أشكال السلوك التي تعد مكلفة على المستوى الفردي ولكنها مفيدة بالنسبة للجماعة. افترض بعض علماء البيولوجيا ضرورة التفكير بطريقة واقعية في أن عملية الانتخاب الطبيعي تتم على المستوى الجيني؛ حيث تفضل تلك الجينات التي لها تأثيراتها الظاهرة الانتقال إلى الجيل التالي، وهي الأطروحة الرئيسة في كتاب دوكنز الشهير عام 1976 «الجين الأناني»، وكتابي الذي صدر عام 2007 ما هو إلا محاولة لتوضيح مثل هذه المناقشات المحيرة إلى حد كبير والمتعلقة بمستويات الانتخاب في الأدبيات العلمية.
كيف تقارب العقلانية العلمية من خلال نظرية التطور؟
سمير عكاشة: لا أعتقد أن لنظرية التطور أي شيء يمكن أن تقوله عن العقلانية العلمية، غير أني أعتقد أنها قادرة على إرشادنا بشيء ما عن الاعتقاد والفعل العقليين بوجه عام. من المغري تمامًا افتراض أن تشكيل المعتقدات بطريقة عقلية (أو مفضية للحقيقة) والتصرف بطريقة عقلية، يمكن أن يكون مفيدًا من الناحية التطورية للكائن الحي، وأشياء أخرى متساوية. ومثالًا لذلك كتب دانيال دينيت: «يضمن الانتخاب الطبيعي أن تكون معظم معتقدات الكائن الحي صحيحة وإستراتيجيتها عقلية». وفي كتابي الأخير أحد الأسئلة التي تناولتها هو: هل كان رأي دينييت المتفائل صوابًا أم لا.
تأخذ بعين الاعتبار العلاقة الوثيقة بين الاختيار العقلي والتطور، وقد لا يعرف الكثيرون ذلك. كيف تناولت هذه القضية؟
سمير عكاشة: انظر إلى إجابتي عن السؤال السابق، ولكن ثمة نقطة إضافية سأضيفها في هذا الصدد. فعلى مستوى غاية في التجرد، ثمة على ما يبدو علاقة تصورية بين الاختيار العقلي والتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي بهذا المعنى التالي: عندما يعمل الانتخاب الطبيعي في المجتمع البيولوجي فإن الطبيعة تختار بين الكائنات الحية (أو متغيرات جينية مختلفة) وفقًا لمعيار الملاءمة الأكبر. ويمكن أن يكون هذا، وفي بعض الأحيان، مشابهًا لصورة الاختيار العقلي؛ حيث يكون الشخص الذي يختار هو الطبيعة. في كتابي الصادر عام 2018 «الفاعلون والأهداف في التطور» أحاج بأنه يمكن أن يكون هذا الاستيعاب الاستعاري للانتخاب الطبيعي للاختيار العقلي عاملًا مساعدًا مفيدًا لفهم التطور، بل يمكن أن يكون أيضًا خطيرًا، حيث إن الاستعارة لا تصمد في جميع النواحي.
تهتم بأصول التعاون البشري من وجهة نظر تطورية، هل لك أن تفسر هذا الأمر، من فضلك؟
سمير عكاشة: البشر أنواع متعاونون على نحو ملحوظ، ونحن الأنواع الوحيدة التي تنخرط في تفاعلات تعاونية مع غير الأقارب، وتعتمد العديد من مؤسساتنا الاجتماعية: (الجامعات، والحكومات، والشركات) على هذا. اهتمت البيولوجيا التطورية لفترة طويلة تُقارب العام بسؤال يدور حول كيفية السلوك التعاوني والسلوك الداعم للمجتمع (في الحيوانات) من خلال الانتخاب الطبيعي. فمن الطبيعي طرح سؤال ما إذا كانت نظرية التطور في إمكانها أن ترشدنا بشيء ما عن ميل الإنسان للتعاون مع الآخرين. لقد تناول العديد من الباحثين في مجالات مختلفة هذا السؤال، وثمة كتاب جيد في هذا الموضوع هو «أنواع متعاونة» لعالمي الاقتصاد صامويل بولز وهيرب جينتس.
من الواضح أن إحدى القضايا التي تهتم بها هي محاولتك إيجاد تشابه بين الاختيار الاجتماعي واختيار نظرية. هل لك أن تزودنا بتفسير موجز عن أهمية هذا المسعى والنتائج التي توصلت إليها؟
سمير عكاشة: أنت تشير إلى البحث الذي كتبته قبل بضع سنوات؛ حيث أقارن فيه بين الاختيار العقلي واختيار نظرية، إذ يشير الاختيار الاجتماعي إلى العملية التي تُجمَّع من خلالها تفضيلات أفراد المجتمع أو الجمع بينها لتؤدي إلى تفضيل اجتماعي وهو موضوع معروف في علم الاقتصاد الرياضي. ويشير اختيار نظرية في فلسفة العلم إلى العملية التي تُختار من خلالها نظرية علمية واحدة (أو فرضية) على أخرى اعتمادًا على نجاحها في تحقيق معايير مختلفة، مثل: توافق البيانات، والبساطة، وغيرهما من المعايير (ناقش توماس كون هذا الموضوع الشهير). لقد أوضحت في بحثي أن مشكلات الاختيار الاجتماعي واختيار النظرية تشترك في بنية مشتركة؛ فمن الممكن استخدام النتائج الرياضية من نظرية الاختيار الاجتماعي لإلقاء الضوء على مشكلة اختيار النظرية في فلسفة العلم.
يميل بعض الباحثين إلى التمييز بين التطور الثقافي والتطور الجيني، في حين يدمج البعض الآخر بينهما. كفيلسوف في البيولوجيا كيف ترى هذه القضية؟
سمير عكاشة: حسنًا، أعتقد أن التطور الثقافي هو بالتأكيد عملية مغايرة عن التطور الجيني، فمن بعض الأوجه، يعمل التطور بشكل مختلف تمامًا؛ ولهذا السبب كان التطور الثقافي أسرع بكثير، فضلًا عن أن الإرث الثقافي، بوجه عام، أفقيًّا (على الأقل من الناحية الجزئية) وليس رأسيًّا (من الأب إلى الأبناء)، وهي صفات تميز معظم الإرث الجيني. ربما تكون القضية الأكثر أهميةً هي ما إذا كان ينبغي النظر إلى التطور الجيني والثقافي على أنهما متشابهان بشكل أساسٍ، أي أنهما ببساطة تجسيدان مختلفان للعملية العامة نفسها للتطور الدارويني، أو هما بالأحرى عمليتان تحملان فحسب تشابهًا سطحيًّا مع بعضهما بعضًا. لقد أخذ الباحثون بوجهات نظر مختلفة إزاء هذه القضية، وأنا شخصيًّا ليس لدي رأي متين في هذا الشأن.
ترى في أجزاء عديدة من أعمالك أن معيار التمييز بين العلم والعلم الزائف لكارل بوبر هو معيار فاشل. ما الأسباب في رأيك وراء هذا الفشل (كما تراه)، وهل تتفق مع فايرآبند في قوله إن كارل بوبر لم يكن فيلسوفَ علمٍ حقيقيٍّ مقارنةً بفتغنشتاين على وجه الخصوص؟ وهل تعتقد أن كارل بوبر قد قدم أفكارًا مهمة؟
أعتقد أن بوبر كان على خطأ حينما اعتقد في إمكانية رسم معيار قاطع وسريع بين العلم والعلم الزائف، وكان أيضًا على خطأ حينما وضع الماركسية والتحليل النفسي الفرويدي في جانب ما هو زائف علميًّا في هذا التقسيم. لا أعتقد أن من المفيد محاولة رفض المساعي الفكرية كلها على أنها مجالات علمية زائفة ربما باستثناء حالات خاصة (مثل علم الخلق) أو (حركة التصميم الذكي في الولايات المتحدة). كان جزء من خطأ بوبر أنه قدم توصيفًا مبسطًا للغاية عن المنهج العلمي (في قصته «الحدس الفرضي والتفنيد»).
لم أكن أعلم أن فايرآبند قد وصف بوبر بأنه ليس فيلسوفَ علمٍ حقيقي، ولا أتفق مع هذا التوصيف، وهو يبدو لي بالأحرى وصفًا غير منصف، وأجد صعوبة في فهم ما قد يعنيه فايرآبند. بوبر بالنسبة لي بالتأكيد فيلسوف علم أكثر من فتغنشتاين. فأفكار بوبر أكثر أهميةً، وأعتقد أن أفكاره المتعلقة بالتكذيب مهمة حتى لو لم تكن مقبولة في النهاية، غير أن أفكاره عن الاستقراء والاحتمالية كانت أفكارًا خاطئةً إلى حد كبير؛ ولكن بطبيعة الحال، هذه الأحكام تصدر نتيجة الاستفادة من تجاربنا السابقة. ربما تثبت أفكار بوبر عن المجتمع المفتوح أنها أكثر استمرارية مقارنةً بأفكاره عن فلسفة العلم نفسها.
ما موقفك من الاتجاهات الجديدة في فلسفة العلم، خاصة فلسفة العلم النسوية؟
سمير عكاشة: لا أصف فلسفة العلم النسوية على أنها اتجاه جديد، فهي موجودة منذ سبعينيات القرن العشرين، وأعتقد أن النسوية كحركة اجتماعية وسياسية مهمة للغاية، وأنا متعاطف بدرجة كبيرة مع أهدافها، والتي لم تتحقق بعد في أجزاء كبيرة من العالم. ولكنني لست مقتنعًا أننا في حاجة إلى فلسفة علم أو إبستمولوجيا نسوية مختلفة. وأعتقد أن قضية غياب تمثيل المرأة في كل من العلم وفلسفة العلم هي بحق قضية مهمة. ولحسن الحظ أن بعض التحركات الإيجابية لمعالجة غياب التمثيل هذا جارية في بعض البلدان بما فيها المملكة المتحدة. أنا الرئيس الحالي للجمعية الأوروبية لفلسفة العلم ويسعدني أن أعلن أن هذه الجمعية بذلت جهودًا متضافرة لمعالجة غياب تمثيل المرأة، وجماعات الأقليات الأخرى في فلسفة العلم الأكاديمية.
الأستاذ الدكتور سمير عكاشة قبل الانتهاء من هذه المقابلة المهمة للغاية، أود توجيه الشكر لك مجددًا على صبركم وأتطلع إلى لقائكم مجددًا في بريستول قريبًا.
سمير عكاشة: على الرحب والسعة، وأشكر لك على دعوتي لإجراء هذه المقابلة.