مقالات

اللغة ومسألة تمثّل العالم: فيتغنشتاين متوسّطا فريجه وهيدغر

الحسين أخدوش

توطئة عامّة

شكلت اللغة صلب النقاش الفلسفي المعاصر على مختلف الأصعدة: استشكالا واستدلالا واشتغالا بالمفهوم. ولقد حدث هذا التحول نحو نموذجية اللغة في الفكر، نتيجة للمنعطف اللغوي الذي دشّنه فيلسوف المنطق الحديث «غوتلوب فريجه» أواخر القرن التاسع عشر، كما توسّع فيه فلاسفة اللغة والمنطق المعاصرين.[1] تحوّل البحث الفكري المنطقي حول قضايا اللغة جرّاء ذلك، متخذا وجهات تحليلية وتأويلية مختلفة (الذرية المنطقية، الوضعية المنطقية، التحليليات، البيانيات، الخ). نتيجة لهذا المخاض المنهجي، حاول بعض مفكّري القرن العشرين إدراك طبيعة الإشكالات التي أفرزها هذا النموذج النظري. تشكّل بموجب ذلك تياران فلسفيان بارزان حاولا مقاربة مشكلة علاقة اللغة بالعالم بأدوات مختلفة، وهما: تيار فلسفة التحليل المنطقي للغة («فريجه»، «راسل»، «فيتغنشتاين»)، وتيار فلاسفة الاختلاف («هيدغر»، «دولوز»، «دريدا»..). سعى كلّ من فلاسفة التحليل ومفكّري الاختلاف إلى مناقشة إشكالية اللغة والعالم عبر توجيه النظر لاستيضاح طبيعة علاقتهما المفترضة بالفكر والمنطق والواقع؛ فكان ذلك مدخلا أساسيا لتجديد النظر في طبيعة الفلسفة ذاتها، باعتبارها ممارسة نقدية بأبعاد متعدّدة ومتداخلة. كان لتأثير مشكلات اللغة تلك بالغ الأثر في طبيعة الفلسفة المعاصرة، رغم أنّ اهتمام الفلسفة باللغة ليس جديدا، وإنّما قديم قدم هذا الفكر نفسه.

لم تعد فرادة التناول المعاصر للغة تنحصر في تلك المشكلات الكلاسيكية التي كانت تناقش ما إذا كانت هذه الأخيرة فطرية أم اصطلاحية. فقد تعدّى الاهتمام بمسألة اللغة هذا النقاش إلى طرح أسئلة موسّعة حول قضايا منطقية تحليلية دقيقة، خاصّة منها مشكلة الإحالة ونظرية الدلالة، ثم مشكلات التفسير والفهم والتأويل؛ وما إذا كان دور اللغة ينحصر في إثبات أو نفي الوقائع؟ فكيف ترسم لنا اللغة صورة عن الواقع والعالم بصفة عامّة؟ هل اللغة، بذلك، تعبير عن الوقائع أو تصوير لها؟ أم إنها، فقط، إظهار للوجود بكشف الحجاب عمّا يوجد فيه من أشياء وموجودات؟

نقترح في هذه الورقة البحثية مقاربة هذه الأسئلة من زاوية اللغة في علاقتها بالعالم والوجود بشكل عام، وذلك على ضوء نموذج «لودفيغ فيتغنشتاين» الذي يتقاطع ويفترق، في الآن ذاته، مع فكر كل من «غوتلوب فريجه»، فيلسوف المنطق الحديث، و«مارتن هيدغر» الذي يعدّ معاصرا لفيتغنشتاين ومختلفا معه في طريقة بحث هذه المسألة.

السياق النظري للمشكلة: فريجه والمنعطف اللغوي

دشّن فيلسوف المنطق الحديث «غوتلوب فريجه» للتصّور الدلالي الوصفي للغة، متوسّلا في سبيل ذلك طريقة التأويل الدلالي الصدقي للجمل للوقوف على معنى العبارات من خلال كيفية إحالتها على الواقع. اعتبر «فريجه» عالم الأفكار مستقلا بشكل موضوعي عن مستوى القول اللغوي العادي، زاعما بذلك أنّه لا ينتمي التعبير اللغوي إلى ماهية الأفكار، لأنّ مستوى الأفكار مستقلّ موضوعيا عن النطق اللساني.[2] وفقا لذلك، أصبح لزاما البحث عن طريقة صارمة في توصيف ما يجري على مستوى الفكر بحيث تمكّننا من التعبير عن صرامة الأفكار، سواء ما تعنيه تعنيه، أو فيما تقوم دلالات القضايا والعبارات التي تشكّلها اللغة. بالتالي؛ سوف يصبح تحليل الدلالة اللسانية قد سمح بالانتقال إلى تحليل الأفكار تحليلا منطقيا موضوعيا.[3]

أسهمت أبحاث «فريجه» حول إمكان قيام لغة صورية بديلة للغة العادية في تعميق فكرة دور اللغة في تسديد أفكارنا وتصوّراتنا للعالم، من جهة، وفي تجاوز تصوّر «كانط» القاضي بعدم الركون إلى اللغة أو الاستناد إليها في استخلاص الشروط الضرورية التي يمكن للفكر أن يعتمدها في تناول موضوعاته (نقصد هنا تحديدا المقولات) من جهة أخرى.[4] خلافا لذلك، قامت دعوى المنظور الوصفي للغة على اعتقاد نظري مفاده أنّ التحليل المنطقي للغة يقود إلى تبرير فلسفي عام للأفكار التي تبلّغ عنها هذه اللغة.[5] تأسّس على هذا الأمر النّظر إلى اللغة على أساس كونها صورة للعالم، وذلك بالنّظر إلى قدرتها على الاستجابة للتعبير الصحيح في إفادة المعنى الحقيقي عن الوقائع وحول الموضوعات التي تحيل إليها وتدلّ عليها.

كان مبتدأ هذا الأمر مع «فريجه» الذي دشّن بأبحاثه حول المنطق والحساب الرياضي للغة الفكر للمنعطف اللساني للفلسفة المعاصرة، حسب «ميشائيل دوميت»؛[6] ثم تبعه، بعد ذلك، بعض تلامذته، وكان على رأسهم «برتراند راسل»[7]. لقد أحدث هذا التصوّر الجديد نقلة نوعية في كيفية تصوّرنا للغة المستعملة، حيث قطع مع بعض التصوّرات الكلاسيكية التي تعتبر اللغة مجرّد ترجمة لمعاني العقل (الأفكار) من حيث أنها تعكسها فقط، لصالح نظرة جديدة ترى أولوية اللغة على الأفكار اعتقادا منها بكون اللغة تشكّل الفكر بداية.[8] ظهرت تصورات أخرى لا ترى ضرورة تخصيص اللغة الواحدة بالأولية مقارنة بالفكر، مادامت كل الأحداث اليومية تنتج المعنى كما كان يعتقد بذلك السوسيولوجي الأمريكي «هارولد غرافينكل».[9]

شكّل تحليل المعنى مركز النقاش في هذا التصوّر، وقد اعتبر العنصر القاضي بجعل فلسفة التحليل تستقل بذاتها عن تيارات الفلسفة المعاصرة الأخرى، خاصّة الفينومينولوجيا.[10] ظهرت أبحاث «لودفيغ فتغنشتاين» الخاصّة بالمنطق في هذا الإطار، وكان متأثرا بأفكار «فريجه» خصوص في كتابة “رسالة منطقية فلسفية”، حيث كان مهتما بإظهار كيف أنّ قضايا المنطق الصوري، ومن خلال باقي قضايا الفلسفة، محكوم عليها بأن لا تفيد معلومات جديدة عن العالم. لكنها، في المقابل، تكون قادرة علي أن تفسر القضايا التي تفيد معلومات عن هذا العالم؛ إذ هي لا تسجّل الوقائع، وإنما تصحّح سوء استخدامنا للوقائع المسجلة. أخفق المنطق الصوري، كما الفلسفة، في إرضاء تلك المتطلبات المنهجية التي تمت صياغتها حديثا للعلم الاستدلالي والاستقرائي معا. أمّا لدى «فريجه»، فإنّ المعنى لا يستقلّ عن اللغة بالمطلق، وإنّما يرتبط بها أيّما ارتباط؛ غير أنّ تحقّقه يستلزم اعتماد المفهوم الدلالي الصدقي للغة الذي يتم عبره تحقيق العبارات والقضايا صوريا وفقا لنموذج دلاليات منطق المحمولات.

لقد اعتبر «فريجه» المعنى العام لتفكيرنا لا ينفصل عن معاني الأجزاء المكوّنة لهذا الفكر؛ فبما أنّ استخدام أسماء العلم، مثلا، يختلف من متكلّم إلى آخر، فإنّ معنى كلّ اسم علم سيتغيّر بحسب تبدّل استخدامه. بناءً على ذلك، لزم تأسيس مستوى آخر لمعالجة هذه المشكلة، بحيث يكون هذا المستوى بمثابة “المجال الثالث” للمعنى.[11] إنّه باختصار المملكة الثالثة للأفكار، حيث التفكير الخالص يؤسّس المعنى في استقلال تام عن باقي الجوانب الذاتية والسيكولوجية، عبر المرور من التحديد الصارم لمعنى هذه الأفكار بالحساب المنطقي الصوري. لذلك يقول «فريجه»: “لا أعني بالفكر الممارسة الذاتية للتفكير، بل مضمونه الموضوعي الذي يمكن أن يكون الملكية المشتركة للعديد من الأشخاص.” [12]  

يبدو أن تصوّر «فريجه» للفكر (Der Gedank) عامة يطغى عليه الطابع الموضوعي، وعليه فالجانب الذاتي مغفل هنا ومقصي من الاعتبار. لمّا كان الأمر كذلك، فإنّ نظره إلى المعنى والدلالة لن يخرج عن هذا التوجّه؛ بل سوف يحاول أن تعكس مفاهيمه المنطقية هذا التصوّر الموضوعي وعلى رأسها مفهوم المعنى والإحالة. فضلا عن ذلك، يمكن رصد ثلاثة أشياء في تمحيص «فريجه» لمحتوى التفكير لدى الإنسان: فعل التفكير، معرفة حقيقة الفكر (الحكم) ، ثم إثبات هذا الحكم.[13]  يقوم هذا التفريق على اعتبار فكرنا الخالص هو ما يعكس معنى العبارات بشكل منطقي، وذلك عبر قدرته على تمثيل موضوعات العالم الواقعي تمثيلا دقيقا يقبل التحقّق الماصدقي الصوري.

تسمح الأفكار الموضوعية، إذاً، بالتحقّق من صدقها دون غيرها من الأفكار المشوّشة، حيث يعبّر الفكر عن حقيقة موضوعية؛[14] أما التمثلات الذاتية فهي تختلف من شخص إلى آخر، ممّا يصعّب عملية هذا التحقيق الموضوعي ويجعل عملية إفادة المعنى بدقة أمرا عسيرا. يستبعد هذا التصور الجوانب السيكولوجية عن الفكر كلية، ليحصّنه بالطابع الموضوعي لمضامينه.[15] فالأفكار لا تتميّز عن التمثلات هنا فقط، وإنّما تختلف، أيضا، عن الأشياء الواقعية التي تعبّر عنها. إنّها وفقا للمجال الثالث الذي تحدّث عنه «فريجه»، لا تعطى لنا عبر الحواس، بحيث لا نستطيع رؤيتها ولا إحساسها. فإذاً ليست الأفكار أشياء العالم الخارجي، ولا هي بالتمثلات الذاتية، بل إنّ لها مجالا ثالثا (Ein Drittes Reich) يخصّها وتستقلّ به. إنّه المستوى الذي يلزم قبوله كمجال مستقل عنّا وله واقعه الموضوعي الذي يجب أن تنضبط له الحقيقة المنطقية. إنّ مقصود «فريجه» من هذا “المجال الثالث” للأفكار، تعيين مستوى مثالي يتعالى على الطابع السيكولوجي للتمثلات الذاتية، وذلك كي يتسنى ضبط معنى القضايا والعبارات في استقلال تام عن ظروفها السياقية النفسية والاجتماعية.[16]

لقد أفضى هذا المنظور الدلالي المنطقي للفكر إلى تخليصه من الأبعاد الذاتية والسياقية التي تتعلّق به، اتقاء للنزعة السيكولوجية التي وقع فيها منطق «فرانتس برينتانو» سابقا (كان «برنتانو» أستاذ «فريجه» في المنطق)، حيث كان لمثل ذلك التصوّر تأثيره البيّن على كيفية استعمال اللغة. غير أنّه، ولئن كان «فريجه» قد اتجه نحو تهميش اللغة الطبيعية لصالح اللغة الرمزية الصورية تماشيا مع تصوراته الفلسفية للتفكير ولوظائفه؛ فإنّه أيضا قد أبدى نفورا بيّنا من الأفكار الذاتية والسيكولوجية بشكل عام. لذلك، عمد هذا الأخير إلى ربط المعنى باستقلالية الفكر عن الجوانب السيكولوجية والسياقات الثقافية والذاتية؛[17] ممّا عزّز لديه الطابع الرياضي للمنطق الحديث الذي سوف يلهم فلاسفة المنطق المعاصر بعده،[18] خاصّة «راسل» و«فيتغينشتاين» الأوّل.

فيتغنشتاين ومشكلة الحدود بين اللغة والعالم

انفرد «فيتغنشتاين» في كتابه “رسالة منطقية فلسفية”[19] بميّزة تخصّه، تتمثّل تحديدا في حرصه الشديد على عدم الخروج عن مستوى اللغة في التحليل المنطقي للقضايا المنطقية.[20] لقد اعتبر اللغة في نموذجه الفلسفي (النموذج الدلالي الذي بسطه في كتابه “الرسالة” ذاك) منغلقة على نفسها فلا تحيل إلاّ على ذاتها، ممّا جعل المنطق لديه محايثا للغة لا غريبا عليها.[21] لذا، رفض «فيتغنشتاين» اعتبار الصياغة الصورية مجرّد تمثّل صوري لواقع غير لساني. إنّ قضايا المنطق من خلال هذا المنظور هي مجرّد تحصيلات حاصل، ليست لها أيّة علاقة صورية بالوجود الخارجي، كما أنّ الصورة المنطقية لا تلتزم بأنطولوجيا الوجود الواقع،[22] وتأتي في صيغة العبارة المحمولية:  س ك (س). [23]

يفيد معنى هذه العبارة المنطقية بأنّ الصورة المنطقية للقضية لا تسوّر المتغيّر المنطقي (س)، من ثمّ فإنّ القضية المنطقية لا تتقيّد بأنطولوجيا معيّنة، وذلك مادامت هذه القضية لا يمكن أن توجد إطلاقا بنفس النحو الذي توجد به في دالة الصدق المنطقية. بهذا التأويل، اعترض «فيتغنشتاين» على مسألة وضع قانون متميّز للمتغيّرات والثوابت المنطقية في بناء نسقه المنطقي، لأنّه لا توجد موضوعات منطقية أو ثوابت منطقية بالمعنى الذي يقول به كلّ من «فريجه» و«راسل».[24] الظاهر من هذا الموقف أنّه يتعيّن على المنطق أن يبقى في حياد تام حيال وقائع العالم الخارجي؛ لذلك لا يشترط هذا النموذج الاقتضاء الأنطولوجي للحدود المكوّنة للقضايا في نسقه المنطقي، ممّا ينتج عنه رفض تسوير الحدود المنطقية.[25]

يُناكف هذا التصوّر المنطقي للغة في “الرسالة” عن وجود لغة منطقية فوقية يمكن أن تختزل إليها كلّ اللغات، بما فيها اللغة العادية التي عادة ما تكون صورتها النحوية سطحية تخفي المنطق الذي تعبّر عنه. لذا، فمتى تبيّن أنّ جملة ما في اللغة الطبيعية لا تقبل أن يعاد بناؤها في لغة المنطق الكلية، فذلك يعني كونها خالية من المعنى؛ بالتالي يجب إقصاؤها اعتبارا من كون “ما يخرج عن المنطق لا يكون إلاّ عَرَضا”، كما يزعم «فيتغنشتاين» في الفقرتين: 3- 6 من الرسالة.[26] ويتلخّص هذا الموقف كلّه في الشذرة الشهيرة “ما لا نستطيع قوله، يجب أن نسكت عنه”.[27] إنّ ما يمكن أن يقال -حسب قولة «فيتغنشتاين» هذه- هو مجرّد تلك القضايا المتّفق عليها في دائرة العلم الضيّقة، بينما يبقى الباقي ضمن دائرة ما نسكت عليه. يشمل هذا الذي لا يمكن التعبير عنه كلاّ من المنطق والفلسفة؛ وتبعا لهذا الأمر، يكمن النهج الأمثل في تعليم الفلسفة في التزام الإنسان ببعض قضايا العلوم التي تقرّرت بكلّ وضوح ودقة، تاركا بذلك الأفكار الفلسفية الخالية من المعنى. لقد صبغ عدم الاطمئنان للغة كما للفلسفة فكر هذا الفيلسوف بسمة مفارقة، حدّ حديث بعضهم عن نوع من معاداة الفلسفة لديه.[28] فهل يكفي التزام الصمت هذا لمواجهة كلّ الأسئلة الحارقة في الفلسفة والفكر؟ ماذا عن الحياة العادية؟ كيف يمكن للغة أن تفيد فيها تأسيس معنى ممكن؟

الظاهر أنّ حكمة الصمت وإن كانت صالحة في دائرة العلم الطبيعي والمنطقي الضيقة، إلاّ أنها مستعصية في عالم المعيش. لذلك، سوف يراجع «فيتغنشتاين» تصوّره المنطقي السابق في “الرسالة”، خاصّة عندما تخلّى عن برنامج اللغة المنطقية الفوقية الواصفة لكلّ اللغات. ونتيجة لذلك، صرف في “أبحاث فلسفية” اهتمامه إلى الاشتغال بظاهرة التواصل التي تتم عبر لغة المحادثة اليومية (langage ordinaire) التي تتكوّن استنادا إليها صور حياتنا المعيشة، آخذا بالاعتبار استعمالات اللغة المتنوعة عبر السياق.[29] من أجل هذا التحوّل النظري العميق، غيّر «فيتغنشتاين» من تصوّره للمعنى الذي كان يقول به في الرسالة، حيث اعتبر في “البحوث” أنّه حيثما يوجد المعنى، فثمّة هناك نظام تام. وهذا ما كان يعني أنّ النظام التام يجب أن يوجد أيضا في الجمل والعبارات الأكثر إبهاما.[30]

دافع «فيتغنشتاين» في مرحلة الأبحاث الفلسفية عن التحليل الذي يقتضي بوجود صلة وثيقة بين اللغة والنشاط التواصلي.[31] فلئن كانت “الرسالة” لا تحكم بالوجود إلاّ على العبارات الإثباتية التي تقول شيئا عن الواقع (وهي بالأساس قضايا العلم الطبيعي)؛ فإنّه في “الأبحاث” لم يعد ينظر إلى العبارات الإثباتية إلاّ باعتبارها لعبة من ألعاب اللغة التي لا يمكن اختزال بعضها إلى بعض.[32] بذلك، نحتاج في فهمنا للغة إلى مهارات التمكّن من قواعد اللعب؛ ويتوقّف تعرّفنا لهذه القواعد بدوره على بلورة معنى عمليا بحيث تكون اللغة والفعل فيه منتميان إلى أنموذج واحد هو أنموذج ألعاب اللغة.[33]

يفيد التمكن من قواعد اللعب تلك، حسب تصوّر «فيتغنشتاين» الثاني للغة، التمكّن من صُوَّرِ الحياة، أي من ذلك الإطار المرجعي الذي يتعلّم فيه المرء السلوك عندما يتدرّب النطق بلغة جماعته اللسانية.[34] فتعلّم اللغة هو ذاته تعلّم لطريقة في النظر إلى الأشياء، إنّها اكتساب لافتراضات جديدة تمكّن من ممارسات تكتسب منها جمل هذه اللغة معانٍ ودلالات أخرى حسب سياقات استعمالها.[35] بهذا المعنى، أصبحت اللغة أمرا محكوما بسيرورات التواصل الجاري ضمن كلّ جماعة لسانية يتقاسم أعضاؤها كما هائلا من الاستعمالات المشتركة لنفس اللغة المتداولة بينهم. كذلك، يغدو استعمال الرموز مقرونا بالاستجابات لتوقعات السلوك والإجماع والمواضعة التي تحكم تحقّق هذه التوقّعات، وبذلك تصبح اللغة تداولية.[36] من جهة أخرى، اعتبر «فيتغنشتاين» ظاهرة ألعاب اللغة موضوعة للمقارنة (Vergleichsobjeckte) لأنّها تتوجّه للقيام بالإنارة ضمن شروط لغتنا عبر التشابهات والاختلافات.[37] فاللغة بما هي صورة الحياة، هي لغة طبيعية تشكّل فضاءً للتواصل ولألعاب اللغة التي تتكون استنادا إليها صور الحياة العاكسة للتعقيد والغنى الذي يسمح به تنوع سياق الاستعمال. فالنشاط التواصلي الجاري هو ما يغني اللغة ومن خلالها فالعبارة اللغوية لا تنحصر في صنف الأقوال الاثباتية، وإنما هي لعبة من بين ألعاب لغوية مختلفة وكثيرة لا يمكن حصرها أو اختزالها ورد بعضها إلى بعض.

أفضى الفهم المستحدث، في مرحلة الأبحاث، إلى جعل اللغة “صُورة للحياة” بدلا من التصوّر السابق (تصور كتاب رسالة منطقية فلسفية) الذي جعلها “صورة للعالم”، بذلك غدا التمكّن من ألعاب اللغة هو نفسه التمكن من صُوّر الحياة.[38] بموجب ذلك، استدعى أمر فهم اللغة التمكّن من قواعد اللعب هذه بالتوسل بالمعنى العملي لها، حيث الفعل واللغة ينتميان إلى نموذج الألعاب اللغوية القاضية بكون الإنسان لا يفهم العبارات والأقوال معزولة عن بعضها بعضًا في سياق مجرى الكلام. إنّ اللغة عمومية عند استعمال الرموز والعبارات والأقوال، وينجم عن كل استعمال عادي لها توقع حصول استجابات وتفاعلات سلوكية واجتماعية لدى الأفراد. لذلك، كان حديث «فيتغنشتاين» عن اتباع القاعدة مقرونا باستعمال الجماعة لها، مادام ليس بإمكان الفرد الواحد أن ينتجها لوحده، فبالأحرى غير قادر على اتباعها من تلقاء ذاته.[39]

يمثّل اتباع هذه القاعدة مسألة عمومية تتحدّد بالممارسة المؤسّساتية والاجتماعية للغة، فضلا عن كونها بديهية فيما نعتبره استعمالا سليما أو غير سليم من الأقوال التي نستخدمها. إنّها تسوّغ تطبيقنا للعبارات وردود أفعالنا من خلال ما ننجزه من أقوال وأفعال، حيث يكون الاتفاق الذي يحصل بين الأفراد هو ما يسمح بظهور هذه القاعدة المتبعة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى هذه اللغة ظاهرة مُلْغزة إلى حدّ كبير؛ إذ التعبير الصحيح، حسب «فيتغنشتاين»، هو ما يكشف عن “معجزة وجود العالم”، لكنّه رغم ذلك ليس أساسيا للغتنا إطلاقًا، وإنّما الأمر الأساسي والخطير كلّه هو وجود هذه اللغة نفسها. فماذا يعني أن نكون مدركين لهذه المعجزة؟ هل يتقاطع «فيتغنشتاين» هنا مع منظور «مارتن هيدغر» لمسألة علاقة اللغة بالوجود؟

اللغة والعالم: فيتغنشتاين على تخوم هيدغر

لما كان مطمح الإنسان ومسعاه، من استعمال اللغة، هو أن يذهب إلى ما وراء هذا العالم، فيستطيع قول ما يتعدى التعبيرات المباشرة ذات المعنى الواقعي؛ فذلك لأنّ غاية كلّ الذين حاولوا أن يكتبوا أو يتكلموا عن الأخلاق والدين، على سبيل المثال، هي اقتحام معركة هذه المواجهة التصادميّة مع حدود اللغة التي دأبنا على مواجهتها في متداولنا اليومي. إنّ هذه المسألة الفارقة هي ذاتها ما يؤسّس للمواجهة التصادمية مع جدران قفصنا الميْؤوس منه (قفص اللغة).[40]

لقد كشف «فيتغنشتاين» الأوّل (أي مرحلة كتاب “رسالة منطقية فلسفية”) عن الوجه المنطقي لهذه المسألة، عندما بيّن كيف أنّ هناك حدودا لتحقّق الصدق مثلما توجد حدودا للمعنى ذاته؛ غير أنّ الواقع التجريبي لا يضيف شيئا لمعنى العبارة أو القضية المنطقية. إنّ عملية التحقّق تلك ما هي في العمق إلاّ مسألة منطقية خالصة. لكن، لمّا كان هذا المعنى المنطقي هو الممكن الوحيد بالنسبة لهذا التأويل، فقد غدا الخلو من المعنى ذاك هو نفسه الأمر الغالب، بل الأكثر حضورا من حيث هو حدث الانقطاع بين اللغة والعالم. ومع ذلك، يبقى السؤال معلّقا؛ إذ، كيف يمكن لموقف الصمت أن يصبح هو البديل الراجح؟

إن المقصود بالخلو من المعنى ذاك، هو وصف تلك الحالة التي لا نعرف فيها إذا كان ما نقوله صادقا أو كاذبا، وهي ما يتجلى في حالة الانقطاع بين اللغة والعالم حيث تضيق العبارة عن تمثّل هذا العالم فيتلاشى المعنى. بالنسبة لموقف “الرسالة” من هذه المسألة، فإنّ ما تمثّله كلّ قضية منطقية هو فقط معناها الصدقي، في حين تبقى اللغة أوسع بكثير من أن تعبّر عنها أيّة قضية مهما كان نطاق مفهومها وماصدقها الدلالي، خاصّة عندما تقطع العلاقة التمثيلية بين صنف القضايا الأولية وبين تلك الوقائع الأولية في العالم. فخارج هذه الدائرة المنطقية، يمكن فقط إظهار ما يتجلّى دون الزعم بامتلاك معناه الصدقي، غير ذلك يحدث عادة عندما تستعمل اللغة في قول شيء ما عن نفسها، مثل الحديث عن معنى رموزها أو عمّا هو مشترك بينها والعالم. وقد يحدث كذلك عندما تستعمل اللغة في الحديث عما لا وجود له أصلا في العالم، كالحديث عن الأمور الميتافيزيقية والمفارقة.[41]

“حدود عالمي هي حدود لغتي”؛ عبارة تجد ما يؤسّسها لدى «فيتغنشتاين» في أنّ ما يمكن قوله عن طريق التعبير، لا يمكن أن يقال دونما الاصطدام بالحدود التي تَرْسُم لنا اللغة عبرها ما لا نستطيع قوله كما نريد. إنّ الأقوال التي نعبّر بها عن عالمنا دون مراعاة لهذه الحدود، هي عادة ما تكون هراءً، خاصّة عندما لا نلتزم الصمت حيث يتعذّر القول بوضوح. اللغة كذلك، ليس لأنّنا لا نعثر فيها على التعبيرات الصحيحة والملائمة، وإنّما لأنّ ما نقوله خارج حدود المنطق هراء (كلام خالٍ من المعنى). نتيجة لذلك، يلزم الصمت حيال كلّ ما لا يمكن قوله بوضوح. هكذا، كان الموقف الصوفي من مسألة اللغة في “الرسالة”، حيث كان «فيتغنشتاين» مقتنعا بأنّ مجال القول محكوم بما يمكن التعبير عنه بوضوح، وأنّ القضايا الخالية من المعنى هي كذلك لأنها لم تحترم واجب الصمت، وليس لكونها غير خاضعة لمبدأ التحقّق الماصدقي. تنكشف مثل هذه القضايا في إطار ما يمكنه إظهاره وليست ضمن نطاق ما يمكن قوله؛ لذلك، فالرسالة لا تنتهي إلى إدانة وضعية للميتافيزيقا، كما زعم الوضعيون ذلك فيما بعد، بل دعت فقط إلى التزام الصمت في الفلسفة.[42] لكن، ما رأي «فيتغنشتاين» لما تخلّى عن هذا التصوّر في مرحلة تالية للرسالة؟

لقد انفرد تصوّر «فيتغنشتاين»، في مرحلته الثانية، بالخروج على تصورات «فريجه» و«راسل» للغة، حيث سعى إلى وضع الحدود التي تجعل اللغة تلتزم الصمت حيث يجب الصمت في حين  قام هؤلاء ببحث الشروط التي تمكّن اللغة ليس فقط من الحديث عن الأشياء، ولكن كذلك من الحديث عن نفسها. فالصمت الذي كان قد دعا إليه «فيتغنشتاين» ليس مشكلة، وإنّما علامة على ممارسة سليمة للفلسفة من حيث هي موقف يلتزم باحترام حدود اللغة.[43]

إنّ عدم القدرة على التعبير عن كل ّما هو صوفي فينا لا يعود إلى نقص في موقف التصوف هذا، ولا إلى نقص في اللغة التي نتكلّمها، وإنّما المشكلة كلّها تكمن في عدم صبرنا على الفراغ الذي يتركه فينا موقف “التزام الصمت” ذاك بخصوص القضايا التي لا نستطيع التعبير عنها بوضوح. فلئن كان على اللغة أن تكفي ذاتها بذاتها، فإنّه يتوجب علينا نحن الذين نستعملها أن نقتنع بالصمت حيث يجب الصمت، استجابة للتفلسف الحقيقي المنفتح على التصوف. أكثر من ذلك، رأى  في التصوف الذي انتهى إليه في الرسالة اكتشافا مهمّا في الفلسفة، أي ذلك “الاكتشاف الذي جعله قادرا على التوقّف عن التفلسف حيث يلزم ذلك ويريد تبنّيه كموقف فكري روحي”.[44]

تعد فكرة “رمي السلم” علامة فارقة على ممارسة نوع من التفلسف الأصيل، إضافة إلى تطبيق عملي وتمرين روحي للفلسفة بمعناها الأرحب، حيث لا معنى واحد ولا مخرج وحيد للتفلسف. ولعلّ هذه القناعة الصوفية هي ما حدا بـ«فيتغنشتاين» إلى الاعتقاد في أنّ الفلسفة عليها أن تستمر بدون توقف، وذلك حتى لو كلّفها ذلك “التزام الصمت” في لحظات معيّنة.[45] لكن، كيف لها أن تستمر بينما الخروج عن الحدود هو القدر المحتّم للذات لمواجهة مصيرها ككينونة داخل العالم؟

بصدد هذه المشكلة، سيعتبر فيلسوف الكينونة «مارتن هيدغر» اللغة مسكنًا للوجود، بحيث فيها يقطن وبها يحتمي من ادّعاءات العقل الميتافيزيقيّ التقني. لقد ذهب هذا الأخير أبعد ممّا فعل «فيتغنشتاين»، إذ عمد إلى ترسيخ استقلالية الوجود في حركة انكشافه وانحجابه عن أيّة علاقة تمثّلية مع اللغة،[46] فجعل له تاريخًا خاصًّا به، هو التاريخ الأصيل الذي يسمو على التاريخ الحدَثيّ المباشر. فكيف أعاد هذا الفيلسوف مشكلة علاقة اللغة بالعالم إلى أرضيتها الأصلية (أرضية الوجود)؟

بناءً على التحليل الفينومينولوجي للأنطولوجيا الأساسية، تحوّلت الميتافيزيقا لدى «هيدغر» لتنقلب تاريخًا لنسيان الوجود. بهذا المعنى، أصبحت مسألة الوجود تقضي بضرورة تتجاوز الميتافيزيقا لتغدو مشيئة الوجود هي ما يحرّك التاريخ الحدَثيّ ليبلغ به أقصى إمكاناته.[47] مدخل هذا التأويل ليس هو المنطق، ولا اللغة بما هي أداة تواصل وتعبير؛ فبخلاف الميتافيزيقا التي تختزل علاقة اللغة بالعالم إلى مجرّد البعد المقولي التمثّلي،[48] اعتبر «هيدغر»  الفنّ هو ما ينجح في تأسيس هذا الوجود ذاته، وذلك بحسن إصغائه لندائه، وقدرته على تسمية (Nomination) الأشياء فيه وجعلها مدعوة للانكشاف فيه. إنّ التسمية، بهذا المعنى، عبارة عن دعوة ونداء للأشياء كي توجد؛ إنّها تأسيس لتلك الأشياء ضمن الوجود ذاته. يظهر العمل الفني صدى اللغة وقوة التسمية لدى الكلمة. فلمّا برزت له هذه القوة الأصلية للتسمية، وهي في الأساس قوة تنتسب لا إلى الشاعر في الأساس وإنّما إلى اللغة؛ فالشعر يظهر ما يظلّ خفيا في اللغة العادية، أي ما يقتصر الناس على استعماله كأداة للتخاطب. بالنسبة لـ«هيدغر» فكل شعر يقول جوهره، وفي نفس الوقت الجوهر الكشّاف للغة، الذي هو “القصيدة الأصلية”، الحشد الصامت للكائن.[49]

تُبرز القصيدة قوّتها وقدرتها على إظهار الأشياء بالكشف عنها في العالم؛ إنها تفعل أن تنير العالم وتسمح بذلك في الآن نفسه، وهذه الخاصية هي ما يمنحها سماكة الأرض وقوّة التأسيس. إنّ الشعر، كما يقول «هيدغر»، هو “اللغة الأصلية” للشعب؛ وهو بهذا المعنى الفنّ الذي يروي ما تكون اللغة قد أوصلته في صمت وتراكمها وتكاثرها الأوّلي إلى المنفتح. إنّ الشعر هو التسمية التأسيسية للكائن ولجوهر كلّ الأشياء (وهو ليس قولا تعسّفيا)، وإنّما هو ذاك الذي بواسطته يتم الكشف عن كلّ ما نعالجه ونناقشه فيما بعد. إنّ الشعر هو الذي يبدأ بجعل الكلمة ممكنة؛ لذلك، فهو ما يجعل اللغة تقدر على الانفتاح عندما تكون الكلمة الشعرية لغتها الإشارية المسموعة التي تكشف لا عن الأصوات أو العلامات فقط، وإنّما أيضا عن البعد الأساسي لإقامة الإنسان؛ أي عندما تصبح العبارة إشارة رحبة واسعة لا تضيق.

هكذا، تفتح اللغة الشعرية الآفاق الواسعة ليتخذها الإنسان مسكنا للإقامة على الأرض تحت رعاية السماء ومن حيث هي “بيت العالم”، وكلّ هذا يعطي اللغة الأهمية البالغة في إظهار ما يختفي ويتحجّب في الوجود.[50] يعنى، بالنسبة إلى «هيدغر»، أن نسمي الأشياء باستعمال لغة الإشارة الشعرية أن ندعها توجد مادامت للكلمة الشعرية القدرة على توليد الأشياء؛ وهي القدرة التي نُسيت تماما من قبل اللغة الأداتية. فأن يظهر الشعر الأشياء كما لو أنّها أعيدت إلى فجر ولادتها، أو كما لو أنّنا “نراها للمرة الأولى”، فذلك لا يتأتى من أنّه “يترك المبادرة للكلمات” فقط، وإنّما بالأحرى لأن الشعر هو الذي يجدد مرة أخرى قدرتها وقوتها على الكشف. وليست هذه القدرة من خيال الشاعر، وإنّما هي تنتسب إلى الكشف الذي استكملته اللغة قبل ذلك في صمت. يكتفي الشاعر ككل كائن بأن يقول بعد ذلك ما تقوله اللغة بصوت خافت. على هذا الأساس يمكن تفسير الاهتمام القليل الذي يوليه «هيدغر» لذاتية الشاعر الذي يعظّم حقيقة أرض وحقيقة عالم، بدلا من تجربته.

ليس الشعر موسيقى اللغة فقط، أو قدرتها على الكشف فحسب، وإنّما حقيقته تكمن أيضا في الصور التي يولّها بطريقته الاشارية. فالصورة الشعرية ليست نسخة منحطة للواقع، ولا علاقة تماثلية فيها بين المحسوس والمعقول، ولا تخصيصا تجريبيا لرسم خيالي أنتجته ذاتية استعلائية، لا تقاربا متجاوزا للواقع ولأبعاد أقصاها في واقع الأمر العقل والرشاد. هنا يكون «هيدغر» أكثر واقعية من «كانط» و«أرسطو» و«أفلاطون»؛ فهو متناقض مع فطرة نيتشه التي أتممها «مَالاَرْمِيه» ووسعها السورياليون، فيما بعد، والتي تقول بأن الشعر خيال محض. والعكس حاصل أيضا بالنسبة لـ«هيدغر»، حيث تعتبر الصورة الشعرية طريقة في إيضاح العالم وإنارته لنا، فتمكّننا “من رؤية” شيء ما بداخله. إنّها تّظهر العالم الذي نعيش بداخله، أي عالمنا اليومي الذي تسعفنا في التواجد فيه؛ غير أنّها تظهره لنا بطريقة خاصّة، بل غريبة عن معتادنا التواصلي العادي. إنّها تكشف اللامرئي فيه، أي لغز الحضور في قلب المرئي الأشد بساطة والأكثر وضوحا. إنّها، بالأحرى، تخفي ما يتلخّص من العالم العادي المعتاد لنا، وتكون تضمينات لا مرئية للغريب في مظهر المألوف. لكن ما هو هذا الغريب؟ وهل هو قضية الفكر الأساسية حقّا؟

يعني عند «هيدغر» انسحاب الكائن المقدّس من عالمنا المعاصر؛ وهو ما يتخذ معنى انسحاب الإله. فالصورة الشعرية، هنا، تعرض الغرابة فجأة ولا تفسّر شيئا، بل وليس من طبيعتها أن تفسّر. ينفتح «هيدغر» على الشاعر الرومانسي، الشهير، «هولدرلين» خاصّة في كلامه عن اللغة الشعرية والمقدّس والإله المتواري، معتبرا الشعراء، من هذا الطراز، رعاة الوجود وحماته ماداموا هم من يقدرون قول الوجود شعرا. وكما يقول «هولدرلين» “ما يبقى يؤسّسه الشعراء”؛ فالشعر لا يؤسّس فقط الوجود، ولكن يؤسّس التاريخ أيضا. اللغة الشعرية، إذاَ، هي بمثابة الفضاء الأرحب لاستقبال هذا اللغز المحيّر والغريب عن ميتافيزيقا الحضور التي تعمّ طُرقنا الحديثة في الكلام عن الوجود.[51] إنّ “اللغة مسكن الوجود”، إنّها كذلك مادام يتأتى عبرها فقط قول ما يكشف عنه الوجود؛ أمّا الشاعر، باعتباره الكينونة التي يصدح الوجود من خلاله، فهو الراعي الذي يقول ما يظهر في انكشافه وتجلّيه في الحياة. ليس هناك شعرٌ، إذاً، كما ليس هناك فكر، دون هذه العلاقة الوطيدة بين اللغة والوجود.

تكمن مهمّة الشاعر حسب هذا المنظور في أن يسائل المقدّس ويطالب به، لا أن يدّعي نبوة معيّنة ووعد بخلاص ما؛ إنّه ليعبّر فقط عن شقاء معيّن، هو شقاء عصره، لا شقاء حياته الخاصّة. لذلك، فلغة الشعر مقدّسة بالمعنى الذي يفيد كونها نوعا من تجلّي المقدّس في الكلام من حيث كون انفعالات الشاعر ناجعة وليست هروبا ما. إنّ حزن الشاعر ومنفاه وتمرّده وعذابه أو فرحه، كلّ هذه الإحساسات إنّما تهبط إلى أعماق عصره لتتغذّى من ينابيعه. اللغة، ها هنا، أكبر من أن تكون أداة تعبير ونقل للمعلومة عن العالم فقط، بل هي تدفّق جديد لتاريخ الكينونة. إنّها ليست تصويرية للعالم كما اعتقد «فيتغنشتاين» في المرحلة الأولى في الرسالة، بل إشارية شعرية وصوفية. وتأكيدا لدور اللغة في إنجاز التفكير لمهمّته بخصوص الأسئلة الأساسية للفكر، اعتبر «هيدغر»، في معرض حديثه عن مسألة الوجود والزمان، الشاعر جورج تراكل (George Trakl) أنّه لو أمكننا الاستماع الآن إلى الشاعر “جورج تراكل”، وهو يلقي علينا إحدى أروع قصائده بنفسه، فإنّنا سنصغي إليه بكل طواعية وهو ينشدها، متخلّين عن الرغبة في إدراكها بوضوح مباشر.[52]

إنّ اللغة عند «هيدغر» كلام ينير العالم ويظهر الأشياء التي بداخله، وليست مجرّد تعبير تمثّلي عن هذا العالم. لذلك، ليس يهمّ في شيء عدد الذين يفهمون هذا الكلام، بالقدر الذي تهم نوعية أولئك الذين يمكنهم أن يولوا هذا الكلام أهميته الشعرية التي سوف تقرّر موقع الإنسان في التاريخ.[53] بهذا المعنى، قوّض «هيدغر» المنظور التمثّلي للغة بما هو تصوّر ميتافيزيقي دأب على اعتبارها أداة إبلاغ وصورة عن العالم. فبخلاف «فيتغنشتاين»، لا يعطي «هيدغر» لكلمة صورة أيّة دلالة للمطابقة والتمثّل كما يفعل رواد المنطق. أن تكون اللغة صورة للعالم كما اعتقد «فيتغنشتاين» الأول (مرحلة كتاب الرسالة)، هذا يعني أن تبقى أسيرة منظور الحضور التمثلي الذي دأبت الميتافيزيقا على نهجه في تعاطيها لمسألة الوجود بما هو حضور للموجود في قوالب مفهومية مجرّدة ومقولات نظرية منطقية.[54]

العالم بالنسبة لـ «هيدغر» تسمية تخصّ الموجود في كليته، ولا يمكن أن تختزل في دلالة الكوسموس (Cosmos) فقط، أو الطبيعة، لأنّ التاريخ أيضا يمثّل جزءً لا يتجزّأ من العالم. لكن، الطبيعة والتاريخ، في تداخلهما وتقاطعهما وتجاوز الواحد منهما للآخر، لا يستنفدان مفهوم هذا العالم؛ ذلك أنّ هذه الدلالة تطال أيضا العالم في مبدئه خاصّة. إنّ العالم، كما تم تناوله في كتاب «هيدغر» “الوجود والزمان” لا يمكن فهمه ولا الإصغاء له، إلاّ من خلال هذه الكينونة – هنا (Da-sein) التي تصغي إلى نداء الوجود من خلال هذه اللغة التي يقطنها. ولذلك، تظلّ هذه المسألة متجذرة في المساءلة الأساسية عن معنى الوجود ذاته. أمّا فيما يتصّل بـ”الصورة”، فإنّها تحيل، لدى «هيدغر»، قبل كلّ شيء إلى التفكير في إعادة إنتاج شيء ما، ويتحوّل المعنى القائم في “صورة العالم” إلى لوحة تشتمل على الموجود في كليته. وهذا التعبير يعني الشيء الكثير، ويمكننا أن نفهم منه بأنّ الأمر يتعلّق بالعالم ذاته وبالموجود في كليته، وبكونه يفرض علينا أنظمة قياسات مختلفة.[55]

الواضح من هذا المعنى أنّ الصورة ليست مجرّد نسخة، بل هي أيضا المعنى الذي تمدّنا به العبارة الألمانية (Bild)، والتي تقول لنا في حرفيتها “إنّنا بالنسبة لشيء ما داخل الصورة”؛ وهذا المعنى هو الذي يفيد كوننا في خضم “الشيء”، أو بالأحرى نحن بصدد هذا الشيء. إنّنا، والحالة هاته، نقبض على الشيء الذي يوجد أمامنا بما لا يعني أنّ الموجود يكون حاضرا عندنا في التمثّل فقط، بل أساسا لكوننا نقبض عليه؛ ولأنّه كذلك فهو أمامنا في كلّ ما يصدر عنه ويقوم فيه. العالم هنا مخالف تماما لما تصوّره «فيتغنشتاين» وورثه عن التراث الفلسفي الميتافيزيقي الغربي برمّته. إنّ «هيدغر»، نفسه، لم يكن ليأخذ بتصوّر التمثل الميتافيزيقي للعالم، وإنّما قوّض التصوّر الكلاسيكي لهذه الفكرة بمعزل عن المضمون الميتافيزيقي المسبق، ذاتيا أو موضوعيا، عن هذا العالم.[56]

يلتقي «هيدغر» مع «فيتغنشتاين» في هذه النقطة تحديدا، حيث لا ينبغي للفلسفة، بحسبه، أن تتدخل بأي شكل من الأشكال في الاستعمال الفعلـي للغـة. فما يفعـله الفلاسفة الميتافزيقيون هو أنهم يحاولون تحويل العبارات، ومن خلالها اللغة ككل، من استعمالها اليومي العادي إلى تأويلها نظريا عبر بناء نماذج ميتافيزيقية للتفسير. فحين يستعـملون لفظة معينة (حقيقة، موضوع، قضية، اسم، الخ،) فإنهم يبحثون كيفية الإمساك بمعنى مفترض وثابت فيها، يفترضون له جوهرا خالدا. والواقع أنّه في مثل هذه الظروف، يلزمنا التمسك بموضوعات تفكيرنا اليومي؛ بالتالي، لا نذهب بعيدا فنتصور أن علينا أن نصف أشياء غاية في التجريد. إنّه علينا، حسب «فيتغنشتاين» الثاني، أن ننظر إلي عمل لغتنا في الحياة العادية، لا أن نتصوّر عوالم مجرّدة موازية لها. إنّ الفوضى التي تشغلنا لا تنشأ عندما تعمل لغتنا العادية، بل عندما تتحوّل لتكون مجرّد آلة عاطلة، محنّطة وجامدة في قوالب نظرية ثابتة.

خاتمة

حاولنا في هذه المقالة إبراز كيف أنّ اللغة هي أكبر من تختزل في مجرّد صورة منطقية للعالم، كما العالم ليس فقط هو ما نعبّر عنه في حدود لغتنا كما اعتقد «فيتغنشتاين» في “رسالة منطقية فلسفية”. وقد اعتمدنا في ذلك بما آل إليه مشروع هذا الفيلسوف في مرحلته الثانية، حيث تخلى بنفسه عن تصوّر الرسالة لعلاقة اللغة بالعالم. كما بيّنت على ضوء نموذج «هيدغر» أنّ اللغة، وبخلاف تصورات المناطقة وفلاسفة اللغة، هي مسكن الوجود، والعالم مقرّ سكن الإنسان بما هو كينونة (Da-sein) ملقاة في خضمّ هذا العالم وهي لا تفتأ تعيش تجربة الوجود- في- العالم (être dans le monde). إنّ العالم لدى «هيدغر» انبجاس وانفراج، في حين تظلّ الأرض بمثابة تلك العتمة والظُلمة التي تحتاج الاستنارة والإظهار، واللغة هي التي تقوم بهذا الكشف والإظهار للعالم والوجود.[57]

اللغة على ضوء هذا التأويل مسكن هذا الوجود، هي كذلك لإنّها في ماهيتها الأصيلة غير مستنفدة في كونها وسيلة فهم فقط؛ وإنّما، فضلا عن ذلك، هي أخطر ما يمتلكه الإنسان كراع للوجود. إنّها في المقام الأول كلّ ما يضمن هذا الوجود الذي ينبغي أن يكون منكشفا بفضل اللغة. لذا، فحيث توجد اللغة يوجد العالم، وحيث يوجد العالم، فكذلك يوجد التاريخ. بهذا المعنى، تعتبر اللغة نعمة بالمعنى الأصيل لأنها ضمان لهذا العالم ولهذا التاريخ: تضمن أن يكون في مستطاع الإنسان الوجود بوصفه وجودا تاريخيا. أمّا وأنّها أكثر من مجرّد وسيلة للتواصل والتعبير، فذلك لكونها هي ما يسمح بانكشاف الكينونة في العالم. لهذه الاعتبارات كلّها، يظهر كم كان «هيدغر» مختلفا عن التصوّر المنطقي الذي أودعه «فيتغنشتاين» كتابه “رسالة منطقية فلسفية”.

إنّ اللغة ليست صورة للعالم ولا هي صورة للحياة فيه، بل هي أخطر النعم كلّها؛ ولأنّها كذلك، فقد جعلها «هيدغر» أكثر الأشياء عرضة من غيرها للتخريب، ذلك لكونها سرعان ما تحولت، بفعل هيمنة الذاتية، إلى مجرّد أداة للسيطرة على الموجود. إنّ انحطاط اللغة الذي تكلّم عنه «هيدغر» ليس سببا فيما آلت إليه من اختزال شديد، وإنّما نتيجة لسيرورةٍ تخلّت اللغة بموجبها، تحت هيمنة الميتافيزيقا، عن أصالتها الشعرية. ونتيجة لذلك، بقيت هذه الأخيرة تخفي عنّا ماهيتها باعتبارها مسكن الوجود.

بالمقابل، ظلّت محاولة «فيتغنشتاين» بصدد علاقة اللغة بالعالم غير محسومة في مرحلته الأولى، رغم كلّ الإشارات التي لمّح عبرها إلى ما يمكن أن يكون موقفه الصوفي الخاص، خاصة في مسألة “التزام الصمت” و”عدم قول غير ما يظهر”. لكن، تبقى مسألة التزام حدود اللغة التي تحدّث عنها في كتاب “رسالة منطقية فلسفية” مشروعة، بل إنّ عملية “رمي السلّم” الشهيرة تلك، هي أكثر ما يشي لديه بعدم الاقتناع كفاية بجدوى السبل المنطقية الصورية المتوسّلة في هذه المرحلة الأولى. لذلك، كان ضروريا بموجب حدسه الصوفي، سواء في يوميات 1914 – 1916 أو في الرسالة، إعادة النظر في اعتبار علاقة اللغة بالعالم لا على أساس اعتبارها صورة منطقية له، وإنّما من حيث هي ألعاب لغوية لا تفتأ تُلعب في الحياة اليومية.

لقد استطاع «فيتغنشتاين» في مرحلته الثانية إعادة الاعتبار للغة العادية، خاصة بعد خروجه عن المنظور المنطقي الدلالي الصدقي الضيّق الذي أسّس له «فريجه»، لصالح تصوّر استعمالي أرحب يفتح المعنى على الغنى الدلالي للغة العادية. بهذا الانعراج الذي أحدثه «فيتغنشتاين» (الثاني) في “أبحاث فلسفية” الموسّع لعلاقة اللغة بالعالم، أصبح هذا الأخير قريبا من الأفق الهيدغري رغم ما كلّ الفروق الواسعة الموجودة بينهما.


البيبلوغرافيـــــــــــــا

  • باللغة العربية
  • يوسف السيساوي «الإحالة وإشكالاتها المنطقية»، منشورات مختبر الفلسفة والتراث في مجتمع المعرفة، سلسلة 1، تنسيق ثريا بركان، ط الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2012،
  • فيتغنشتاين لودفيغ: محاضرة عن علم الأخلاق، ترجمة علي رضا، نشر مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدراسات الدينية، 13 ماي، 2017
  • مصطفى الحداد: اللغة والفكر وفلسفة الذهن؛ ط الأولى، نشر دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، 2013،
  • مارتن هيدغر: التقنية، الحقيقة، الوجود؛ ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، نشرة المركز الثقافي العربي، ط الأولى، بيروت، الدار البيضاء، 1995
  • مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق د. فتحي المسكيني، بيروت، دار الكتاب الجديد المتّحدة، 2012،
  • باللغات الأجنبية
  • Badiou (A): L’antiphilosophie de Wittgenstein; éd Nous, Paris, 2009.
  • Bouveresse (J): Le pays des possibles: Wittgenstein, les mathématiques et le monde réel; éd minuit, Paris, 1988.
  • Bouveresse (J): La force de la règle: Wittgenstein et l’invention de la nécessité; éd minuit, Paris, 1987.
  • Brentano, (F) : De la diversité des acceptions de l’être d’après Aristote; tr de l’allemand par Pascal David, éd Vrin, Paris, 1992.
  • Chauvineau, (J) : La logique moderne, édition Puf, Paris, 1957.
  • Cometti (J, P): Philosopher avec Wittgenstein; éd puf, Paris.
  • Dummett, (M): Les origines de la philosophie analytique, tr de l’allemand par Marie-Anne Lescourret, éd Gallimard, 1991.
  • Dummett, (M): the logical of metaphysics; edition Harfard University press, 1993.
  • Frege, (G): Wissenschaftlicher Briefwechsel; Felix meiner verlag Hamburg, Frege an Jourdain undatier, Zweiter Band, 1976.
  • Frege, (G) : Ecrits logiques et philosophiques; Paris, Seuil, 1971.
  • Hottois (G) : La philosophie du langage de Ludwig Wittgenstein, Bruxelles, Editions de l’Université de Bruxelles, 1976.
  • Ishiguro, (H) : «Référence, identité et culture»; in Sémantique et épistémologie; Collection débats philosophiques, sous la direction de Ali Benmakhlouf; éd le Fennec, Casablanca, Mai 2004.
  • Kant, (E) : Critique de la raison pure; , tr de Jules Barni, Flammarion, Paris, 1976.Heidegger (M): Le principe de raison ; éd Gallimard, Paris, 1962.
  • Heidegger (M) : Traité des catégories et de la signification chez Duns Scot; tr Florent Gaboriau, éd Gallimard (1970), coll tel gallimard, Paris, 2019.
  • Heidegger (M): Chemins qui ne mènent nulle part; éd Gallimard, Paris, 1987.
  • Heidegger (M) : Lettre sur l’humanisme, 27, Montaigne, sans date.
  • Heidegger (M): Le principe de raison ; éd Gallimard, Paris, 1962.
  • Heidegger (M): Introduction à la métaphysique; traduction par Gilbert Kahn, éd Gallimard, Paris, 1967.
  • Heidegger (M) : En guise de contribution à la grammaire et à l’étymologie du mot « être » ; Introduction en la métaphysique (chap. 2), tr et commenté par Pascal David; éd du Seuil, Paris, 2005.
  • Langendonck, (W) : Theory and Typology of Proper Names, by Walter de Gruyter Gmbh et Co. KG, D-10785. Berlin. 2007.
  • Linsky, (L) : Le problème de la référence; tr S. Stern-Gillet, Ph. Devaux, P. Gochet; édition Seuil, Paris, 1974.
  • Quine, (W): Le mot et la chose; tr Joseph Dopp et Paul Gochet, éd Flammarion, Paris, 1977.
  • Russell, (B) : Signification et vérité, tr Philippe Devaux, éd Flammarion, coll Champs essais, Paris, 2013.
  • Schaff, (A): Langage et connaissance; tr du polonais par Claire Brendel, éd Anthropos, 1969.
  • Urmson (J.O), “L’histoire de l’analyse”, in collectif, 1960.
  • Wittgenstein (L): Recherches philosophiques; tr Françoise Dastur, Maurice Élie, Jean-Luc Gautero, Dominique Janicaud, Élisabeth Rigal éd tel Gallimard, paris, 2004.
  • Wittgenstien (L): Tractatus logico-philosophicus; tr Gil Gaston Granger, éd Gallimard, Paris, 19
  • Wittgenstein (L): Tractatus Logico-Philosophicus, suivi d’Investigations philosophiques, trad. Fr, p. Klossowski, Gallimard, Paris, 1961.
  • Wittgenstien (L): Carnets 1914 – 1916; tr Gil Gaston Granger, éd Gallimard, Paris, 1971.

[1] لقد دشّن فريجه بهذا التأويل الدلالي الجديد عصر فلسفة التحليل، فكان أوّل منظّر لفلسفة اللغة المعاصرة كما صرّح بذلك ميشائيل داميت عندما سُئل عمّا إذا كان يوجد بين الفلاسفة الآخرين من يستحقّ اعتباره جدّا (le grand-père) لفلسفة التحليل المعاصرة بغض النظر عن فريجه؟ فردّ بأنّه وحده الجدّ المؤسس لفلسفة التحليل، بحيث لا يجاريه في ذلك أحد من الفلاسفة الآخرين. أنظر بهذا الخصوص:

-Dummett, (M): Les origines de la philosophie analytique, tr de l’allemand par Marie-Anne Lescourret,  éd Gallimard, 1991, p.181.

[2] – Dummett, (M): Les origines de la philosophie analytique, op, cite, p.102.

[3]– Ibid, p.26.

[4]  جدير بالذكر أنّ هذا الموقف الكانطي قد وضع اللغة جانبا معزّزا بذلك من مكانة الوعي (الفكر الخالص) في التقويم والتنظير. وقد برّر كانط موقفه هذا المقطع 18 من فصل “الاستنباط المتعالي للمقولات” والذي كتبه للطبعة الثانية ل “نقد العقل الخالص” سنة 1789م، فاعتبر بمقتضى ذلك علاقة اللغة بالفكر اعتباطية؛ وبالتالي لا يمكن الاستناد إلى اللغة لاستنتاج الشروط الضرورية التي يمكن للفكر أن يكون موضوعا فيها. أنظر بهذا الخصوص:

-Kant, (E) : Critique de la raison pure; , tr de Jules Barni, Flammarion, Paris, 1976. p.159.

أمّا بعض الفلاسفة المنتبهين لأهمية اللغة في تقدير ثقافات الشعوب وأفكارها، فقد حاولوا نقد هذا التصوّر واستبعاده. حصل هذا التصوّر الجديد بعد القرن الثامن عشر مع همبولت (Humboldt) ثمّ هردر(Herder)، حيث حاولا أن يعيدا للغات التاريخية مكانتها في تطوّر البشرية. أنظر بهذا الخصوص:

  • Schaff, (A) : Langage et connaissance; tr du polonais par Claire Brendel, éd Anthropos, 1969., p.34.

[5]  من المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ هذا التوجّه قد لقي ترحيبا وانتشارا واسعا مع مدرسة الوضعية المنطقية التي تصوّرت اللغة صورة منطقية للعالم.

[6] – إنّ ما يميّز هذا المنظور الفلسفي حسب ميشائيل دوميت هو انصرافه إلى تكريس القول بأنّ التحليل الفلسفي للغة يفضي إلى توضيح الفكر وتحليله، ومن ثم الاعتقاد بأنّ الطريق نحو فهم العالم وتمثّله تمثّلا صحيحا يمرّ عبر تحليل لغتنا التي نعبّر بها عن هذا العالم. أنظر بهذا الخصوص : أصول فلسفة التحليل لميشائيل دوميت، الترجمة الفرنسية التي نحيل عليها في البحث.  ص 25

[7] – Russell, (B) : Signification et vérité, tr Philippe Devaux, éd Flammarion, coll Champs essais, Paris, 2013, p.15.

[8]– Dummett, (M) : Les origines de la philosophie analytique, op. cite, p.27.

[9] – Ibid, p.13.

[10]  من المعروف عن هوسرل مؤسّس هذا التيار استبعاده للغة من إنتاج المعنى، حيث ربط هذا الأخير بأفعال العقل من خلال قصدية الوعي بشكل حصري. وعلى خلافه، قام فريجه بربط المعنى باللغة من حيث هي بنية منطقية مخصوصة يمكن صورنتها بدقة. أنظر بهذا الخصوص:

– Dummett, (M) : Les origines de la philosophie analytique; op. cite, p.22.

[11] – Ibid, p.65.

[12]  -ورد هذا القول في بحث حول “مسألة العلاقة بين المعنى والإحالة في فلسفة اللغة: حالة أسماء العلم”، أنظر بهذا الخصوص النص الفرنسي المترجم عن النص الألماني  «Über Sinn und Bedeutung » في:

– Maurice, (L) : La question du rapport entre le sens et la référence dans la philosophie du langage: le cas des noms propres; op. cite, p.65. Je site le passage: « Par pensée, je n’entends pas l’activité subjective de penser, mais son contenu objectif, qui a la possibilité d’être la propriété commune de plusieurs personnes. ».

[13] – Frege, (G) : Ecrits logiques et philosophiques; Paris, Seuil, 1971, p.175.

[14] – Laurie, (D) : « Philosophie de langage » ; In Précis de philosophie analytique; sous la direction de Pascal Engel ; éd Puf, Paris, 2000, p.112.

[15] – Frege, (G) : « Dix-sept propositions clés sur la logique »; in Ecrits Posthumes, Nîmes, Editions Jacqueline Chambon, 1994, p.208.

[16] – Hottois, (G): Penser la logique, De Boeck-Wesmael s.a. Bruxelles, 1989, p.215.

[17] – Langendonck, (W) : Theory and Typology of Proper Names, by Walter de Gruyter Gmbh et Co. KG, D-10785. Berlin. 2007, p.27.

[18] – Chauvineau, (J) : La logique moderne, édition Puf, Paris, 1957, p.6.

[19] – Wittgenstien (L): Tractatus logico-philosophicos; tra de l’allemand par Gil Gaston Granger, éd Gallimard, Paris, 1993.

[20] – Bouveresse (J): Le pays des possibles: Wittgenstein, les mathématiques et le monde réel; éd minuit, Paris, 1988, p.23.

[21]  يعود السبب في هذا إلى موقفه من المنطق الخالص، حيث يعتبر القضية المنطقية تبعا له عبارة عن رسم للواقعة بحيث يكون إما صادقا أو كاذبا؛ وما يوجد ببين هذا الرسم والواقعة ليس سوى نوعا مشتركا من البنية. وإنّ هذه البنية المشتركة لهي التي تجعل القضايا قادرة على أن تكون رسوما للوقائع؛ غير أنّها (أي هذه البنية) لا يمكن التعبير عنها هي نفسها، طالما كانت هي بنية للألفاظ بقدر ما هي بنية للوقائع التي تشير إليها هذه الألفاظ. أنظر بهذا الخصوص:

– Wittgenstien (L): Carnets 1914 – 1916; tr G. G. Granger, éd Gallimard, Paris, 1971, pp. 98 – 100.

[22] – Bouveresse (J): La force de la règle: Wittgenstein et l’invention de la nécessité; éd minuit, Paris, 1987, p.150-151.

[23] – Wittgenstien (L): Carnets 1914 – 1916; op. cite, p.102.

[24]  -يوسف السيساوي، «الإحالة وإشكالاتها المنطقية»، منشورات مختبر الفلسفة والتراث في مجتمع المعرفة، سلسلة 1، تنسيق ثريا بركان، ط الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2012، ص 47.

[25]– Wittgenstien (L): Tractatus logico-philosophicos; tr Gil Gaston Granger, op, cite, p70.

[26] – Ibid,  frg 3  et frg 6.

[27] – Ibid,  frg 7, p.112.

[28] – Badiou (A): L’antiphilosophie de Wittgenstein; éd Nous, France, 2009, p.87

[29] – Wittgenstein (L) : Recherches philosophiques; tra de l’allemand par Françoise Dastur, Maurice Élie, Jean-Luc Gautero, Dominique Janicaud, Élisabeth Rigal éd tel Gallimard, paris, 2004, p.39-43.

[30] – Wittgenstein (L) : Tractatus Logico-Philosophicus, suivi d’Investigations philosophiques, trad. Fr, p. Klossowski, Gallimard, Paris, 1961, p.111-364.§98.

[31]– Ibid, §57.

[32] -Ibid, p.135.

[33] – Urmson (J.O), “L’histoire de l’analyse”, in collectif, 1960, p.17.

[34] – Bouveresse (J): La force de la règle: Wittgenstein et l’invention de la nécessité; op. cite, p.41.

[35] – Hottois (G) : La philosophie du langage de Ludwig Wittgenstein, op., cite, p.23.

[36]  -مصطفى الحداد، اللغة والفكر وفلسفة الذهن؛ ط الأولى، نشر دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، 2013، ص 78.

[37] – Cometti (J, P): Philosopher avec Wittgenstein; éd puf, Paris, p.26.

[38]  – المقصود بصور الحياة هو الإطار المرجعي الذي يتعلّم فيه الإنسان السلوك لمّا يتدرّب على لغة جماعته اللسانية؛ وبالتالي، فتعلّم اللغة هو تعلّم لطريقة في النظر إلى الأشياء. انظر بهذا الخصوص: – مصطفى الحداد: اللغة والفكر وفلسفة الذهن، مرجع سابق، ص 76.

[39]  – يعتبر فيتغنشتاين أنّ ما نسمّيه اتباع القاعدة “لا يمكن أن يكون المرء قد اتبع قاعدة مرّة واحدة فقط, لا يمكن أن يكون الأمر قد صدر وفُهم مرة واحدة، أو المحادثة أجريت مرّة واحدة. إنّ اتباع القاعدة أو إجراء المحادثة أو إصدار الأمر أو لعب جولة للشطرنج تعد عادات (استعمالات، مؤسّسات)”. أنظر الفقرة 199 من الأبحاث الفلسفية.

[40]  -فيتغنشتاين لودفيغ: محاضرة عن علم الأخلاق، ترجمة علي رضا، نشر مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدراسات الدينية، 13 ماي، 2017، ص 9.

[41]  -يمكن القول إنّ الحالات التي تحدّث عنها فيتغنشتاين في الرسالة باعتبارها غير ذات معنى ترجع في معظمها إلى أنّ انقطاع العلاقة التمثيلية بين اللغة والعالم، وما ينتج عنه من انعدام المعنى، يعود إلى استخدام اللغة في قول ما لا يقال، وهذا ما يفسّر حضور البعد الصوفي في كلام فيتغنشتاين عن اللغة والعالم. أنظر بهذا الخصوص:

  • Wittgenstein (L): Tractatus logico-philosophicus; cite, (6, 53), p.112

[42] – Chauviré (C): Vocabulaire de Wittgenstein; op. cite, p.84.

[43] – Wittgenstein (L) : Tractatus logico-philosophicus;  op. cite, (§5, 60), p.93

[44] – Wittgenstein (L): Recherches philosophiques ; op. cite, §123

[45] – Wittgenstein (L): Tractatus logico-philosophicus;  op. cite, (§5, 61), p.93

[46] – Heidegger (M) : En guise de contribution à la grammaire et à l’étymologie du mot « être » ; Introduction en la métaphysique (chap. 2), tr et commenté par Pascal David; éd du Seuil, Paris, p.67.

[47]  – مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق د. فتحي المسكيني، مرجع سابق، ص 336.

[48] – Heidegger (M) : Traité des catégories et de la signification chez Duns Scot; tr Florent Gaboriau, éd Gallimard (1970), coll tel gallimard, Paris, 2019, pp.113-114.

[49] – Heidegger (M) : Acheminement vers la parole; tr Jean Beaufret, éd  Gallimard, Paris, 1976, p.63.

[50]  -تقع قناعة فكرية في صلب تفكير هيدغر مفادها أنّ حقيقة الوجود لا تمنح نفسها لإرادة الهيمنة لدى الإنسان. فلئن كان الموجود معرّض دوما للاستغلال، فإنّ الإنسان بحكم إصراره على أن يبقى قوة مهيمنة لا يتوانى عن تعريض نفسه للإنهاك كما يحدث الآن في العصر الراهن. وعلى خلاف ذلك، يلزم الإنسان أن يتحول عن النمط الحديث للكينونة إلى نمط مختلف جديد يستطيع فيها، باعتباره راعيا للوجود، أن يتعلّم كيف يقيم بجوار الكينونة. يتسم مفهومه للإقامة هذه بطابع روحاني، لأنّه عندما تتعرض هذه “الإقامة الروحية في الوجود” للتصحّر غالبا ما نكون أمام ما يسمّيه هيدغر في كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا ب”الانحطاط الروحي للأرض” الذي يسم عصرنا الراهن باعتباره عصر اكتمال التقنية بما هي ميتافيزيقا.  أنظر بهذا الخصوص:

–  Heidegger (M): Introduction à la métaphysique; traduction par Gilbert Kahn, éd Gallimard, Paris, 1967, p.68.

[51] -لقد أعلى هيدغر من شأن الشعر معتبرا الفن في أرقى صوره شعر؛ ولأنّ الفن يهيّئا لانكشاف الحقيقة، حقيقة الوجود، فإنّ المهمة الأساسية للفن الشعري تتمثّل في صياغة الحقيقة شعريا. تكشف الحقيقة عن نفسها شعريا، وهذا ما يجعلها قصيدة (Poème)، واللغة ذاتها هي القصيدة الأصل، حيث يأتي الشعر تاليا لها ليعيد ما تقوله.  والأرض أساس الفنّ ومأواه ومستقرّه، وهذه الأرض نفسها هي اللغة باعتبارها مأوى الوجود؛ والشعر بما هو، فنّ أصيل، يحاول تأسيس عالم هو بمثابة إنارة للأرض التي هي اللغة الأصلية، فغاية الشعر هنا أن يحاول حمل الوجود على الظهور إلى حيّز الظهور والانكشاف رغم استعصائه وتواريه الدائم. أنظر بهذا الخصوص:

  • Heidegger (M): Chemins qui ne mènent nulle part; éd Gallimard, Paris, 1987, p.28-29.

[52]  – Heidegger (M): Question 4; nrf, éd Gallimard, 1976, p.50.

[53]  -مارتن هيدغر، التقنية، الحقيقة، الوجود؛ ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، نشرة المركز الثقافي العربي، ط الأولى، بيروت / الدار البيضاء، 1995، ص 38.

[54]–  Heidegger (M): Le principe de raison ; éd Gallimard, Paris, 1962, p.203-204.

[55]  -مارتن هيدغر، التقنية، الحقيقة، الوجود، مرجع سابق، ص 163

[56] – Heidegger (M): Introduction à la métaphysique; op. cite, p13-62.

[57]  -يستعمل هيدغر “الأرض” ولا يقصد بها الطبيعة التي خضعت للآلية الحسابية والموضعة التقنية والعلمية خاصّة في العصور الحديثة؛ حيث تم إفراغها من أسرارها حتى صارت مجالا لسيادة الإنسان الحديث. فالطبيعة قد أفشت جميع أسرارها، بينما الأرض بقية غامضة نوعا ما، لا تظهر إلاّ لتنسحب من جديد؛ فهي اللاانكشاف واللاتحجّب الذي يستعصي بطبيعته على أيّ انكشاف.  أنظر بهذا الخصوص:

  • Heidegger (M): Le principe de raison ; op., cit, p.237.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى