
سيلفيا بلاث الأمريكية هي أشهر شاعرات اللغة الإنجليزية في القرن العشرين. يُحتفى بشِعرها في البيئات الجامعية والأدبية لما فيه من القوة والأصالة وضبط لتقنيات الشِّعر، ولازديانه بصورٍ شعرية تخلد في الذاكرة. وفي الثقافة الشعبية هي أشبه ما تكون بمارلين مونرو الأدب: رمزٌ للتراجيديا، وأيقونة نسوية، وموضوع أسطورة جامحة.
أنهت سيلفيا بلاث حياتها بالغاز في لندن عام 1963. كانت تبلغ الثلاثين حينها، ولها طفلان، وقد نشرت قبل ذلك بأيام معدودات عملها الفريد: «الناقوس الزجاجي»، وأتمّت كتابة ديوان قصائدها الذي رأته من أفضل ما كتبته.
آنذاك، كان زواجها من الشاعر الإنجليزي تيد هيوز منهارًا وعصيًّا على الإصلاح، والاكتئاب الذي عانت منه في نهاية مرحلة مراهقتها عاد ليحاصرها، وارتبطت باسمها كلمات الانتحار والمرض النفسي. رغبت هيثر كلارك بكتابة سيرة عنها، رغم كومة السيَر التي كُرّست لها، تصوّر حقيقتها وتحررها من الخطابات العاطفية والميلودرامية التي قيلت عنها، وتُنصف ما كانت عليه: كاتبة دؤوبة ومُجدّة، كتبت بفضل مواظبتها واجتهادها عملًا فريدًا.
في عام 1994، أفردت الصحفية جانيت مالكوم عملًا بأكمله عن بلاث(1) بعد الجدل الذي احتدم حول السيَر المتوالية التي كُتبت عنها. واليوم، وفي وقت لم يعد أحدٌ من أبطال القصة موجودًا، ظهرت للعلن نسخة من مذكرات بلاث غير المنقحة – مما بقي محفوظًا، فالمذكرات الأخيرة أتلفها تيد هيوز – ومجلدان سميكان من رسائلها. تمكن هيثر كلارك من تفحصها وتفحّص عدد آخر من المواد غير المنشورة، والمحصّلة هي سيرة شخصية مفصَّلة، تروي بشكل شبه يومي حياة بلاث، وتظهر تطور موهبتها وعرضًا متّسقًا وثريًا لشخصيتها(2).
وُلدت سيلفيا بلاث ونشأت في ضواحي بوسطن، وقضت سنيّها الأولى على ساحل المحيط الأطلسي مما حدا بها للاحتفاظ بالذكرى الساحرة للمحيط بقية حياتها. والدها رجل صارم، مهاجر من أصول ألمانية، وأستاذ للأحياء في جامعة هارفارد وعالم حشرات متخصص في دراسة النحل. خلّفت وفاته حين كانت سيلفيا في الثامنة من عمرها صدمة أثرت عليها وتعاملت معها باتّزان. شكّلت علاقة سيلفيا المعقدة بأمها عاملًا محوريًّا في نموّ شخصيتها، أمها أوريليا بلاث، المرأة المتعلمة التي ضحت بحياتها المهنية من أجل زوجها، ثم ترمّلت وبدأت بالتدريس مُعلّقة كل آمالها الأدبية على ابنتها. أما سيلفيا التي ربطتها علاقة متينة بأمها فقد رأت فيها طيلة حياتها قدوة ومنبعًا للثقة، كما أنها رأتْ فيها حضورًا خانقًا وبغيضًا بسبب خنوع أمها الأخلاقي والاجتماعي.
تفوقت سيلفيا الطفلة في الرسم والأدب. وأجادت قبل بلوغها سن المراهقة علم العروض الشعرية ومقاييس وأشكال كتابة الشِّعر. وعقب تسعة أشهر من وفاة والدها نشرت قصيدتها الأولى في صحيفة بوسطن، والتي تبعتها قصائد أخرى كما محاولاتها في النثر التي حاولت نشرها في الصحيفة المحلية من أجل تأمين عائد مادي شخصي، فعائلتها لم تكن ميسورة الحال. برزت في عدد من كتاباتها المبكرة المخيِّلة القوطية التي ميّزت أشعارها لاحقًا: القمر الجليدي، وضوء المساء الخافت، والأشجار السوداء المشؤومة، والسماء العاتية، وبرودة الشتاء. وقرأت سيلفيا بفضل أستاذ جامعيِّ اُعجبت به أعمالَ تولستوي، ودوستويفسكي، وتوماس هاردي، وجوزيف كونارد، ود.هـ.لورانس وفيرجينيا وولف اللذين كانا من أهم ملهميها. عاشت شابّةً اجتماعية تولي أهمية للصداقات والمغازلة. وكانت متوقّدة الطموح، شغوفة وتواقة للمثالية، تغار من تفوّق الآخرين ولا تتسامح مع الإخفاق مطلقًا.
في عام 1950، بدأت سيلفيا دراستها في كلية سميث، المؤسسة التعليمية المدرجة ضمن عدة جامعات للفتيات والتي تكافئ في مستواها جامعات رابطة اللبلاب المرموقة. كانت أمريكا في الخمسينيات من القرن العشرين ما تزال تقصر دور النساء على مهامهنّ في المنزل، وقد ناضلت سيلفيا طوال حياتها ضد الفكرة السائدة بأن الرجال وحدهم من يستطيعون كسب رزقهم من الكتابة، وعارضت بقسوة النساء اللواتي حصرن همومهن على العمل وحده، النسوة «العقيمات» اللاتي لم يحظين بأطفال، أو اخترن الإجهاض، فالزواج عندها شأن مقدّس. رغبت سيلفيا رغم التناقض بين المذاهب التقليدية والتجديدية وطموحاتها الشخصية، أن تبرع في جميع أدوارها: الكاتبة والمرأة والزوجة والأم، وكتبت لاحقًا: «أحب أبنائي، وأودّ رغم ذلك أن أعيش لنفسي. أن أكتب كتبًا، وألتقيَ الناس، وأسافر. (…) أحببت السعادة الحسّية للحمل والإرضاع، ورغم ذلك سأقول أنني أحب جسدي خفيفًا ورشيقًا، وأن أمارس الجنس».
حين رُفض ترشيحها للبرنامج الصيفي بجامعة هارفارد في 1953، مرّت بنوبة اكتئابها الأولى. تلقت علاجًا بالصدمات الكهربائية، بشكله الوحشيّ حينئذٍ، وحاولت إثره الانتحار عبر تناول كمّ كبير من الحبوب المنومة والاختباء في قبو منزل أمها. احتُجزت بعد ذلك في مشفى ماكلين في بوسطن، حيث تولّت تطبيبها الطبيبة النفسيّة الشابة: د.بيوشر. لم يُسفر العلاج النفسي المبنيّ على التحليل النفسي ولا حقن الإنسولين عن النتائج المرجوّة، فقررت الطبيبة بيوشر معاودة سلسلة جديدة من الصدمات الكهربائية، التجربة التي تركت آثارها على بلاث طيلة ما بقي من حياتها ولم تمنعها رغم ذلك من استمرار علاقتها بالطبيبة التي أحبتها. روت بلاث إقامتها في مشفى ماكلين في عملها «الناقوس الزجاجي»، وفيه جمعت النقد الاجتماعي لبيئة الطب النفسي وقصة اكتئابها. عادت لكلية سميث عقب انتهاء احتجازها في المشفى، وتخرجت في عام 1955 بامتياز مع مرتبة الشرف، وقد كتبت أطروحتها عن ثيمة الازدواجية في أعمال دوستويفسكي(3). ثم نالت بعد مدة يسيرة منحة دراسية في جامعة كامبردج في بريطانيا، هناك حيث ستلتقي بتيد هيوز.
لتيد هيوز بنية جسدية قوية، وشخصية خشنة تُضاهي هيثكليف من رواية «مرتفعات ويذرنغ»، كما أن حُسنه يسوق إليه كل من لاقاه؛ وخصوصًا من النساء. وُلد الحب بينه وبين سيلفيا بلاث سريعًا، كما كتبت عنه: «طويل القامة، داكن السحنة، وجميل. الوحيد الذي اكتفيت به» و«صوته كالرعد». جسّد هذا الشاعر الإنجليزي المعروف رجل أحلام سيلفيا بشخصيته الرجولية وبشهرته ككاتب.
أما سيلفيا فشخصيتها تماثل سيدات الطبقة الوسطى الأمريكية: أنيقة، ترعى صحّتها، تحب نيل استحسان الآخرين وتبحث عن الاختلاط بالناس. يخالفها في ذلك تيد هيوز الذي ترعرع في بيئة فقيرة وريفيّة؛ إذْ يهوى الصيد والقنص وعالم الحيوانات، ولا يولي اهتمامًا لمظهره ويفضّل الوحدة بجوار الطبيعة على الحياة المدنية. تزوج الاثنان سريعًا، وقضيا سنوات من التوافق في كل النواحي، الجسدية والعقلية والعاطفية والفنّية. نجح تيد هيوز في استمالة زوجته إلى الأبراج وعلم التنجيم وعلوم الخفيانيّة والتنويم المغناطيسي والروحانيّات، وستترك هذه الممارسات والقناعات سيماها عليها لاحقًا. كان حبهما للأدب هو أشدّ ما وحّد بينهما، مع تباينهما فيه، والذي وصفه صديقهما المشترك لوكاس مايرز: «نجح تيد وسيلفيا في التعبير عن أفضل ما لديهما بالكلمات لكن (…) بنوايا مختلفة. رغبت سيلفيا أن تُقرأ كلماتها، فيما رغب تيد أن يكتبها فقط». وتصديق ذلك أن أشد ما كان يبهج سيلفيا هو ظهور شيء من كتاباتها شعرًا أو نثرًا في مجلات ذي أتلانتك، أو هاربر، أو النيويوركر.
غادر تيد وسيلفيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد سنة من زواجهما، وعاشا فيها ثلاث سنوات، وهناك ستمرّ بمرحلتين تشكلان دورًا مهمًا في تطوّرها الفني. تبعت سيلفيا حتى ذلك الوقت ملهميها من الشعراء المعاصرين: ويليام بتلر ييتس، توماس ستيرنز إليوت، ويستر.هـ.أودين، ديلان توماس، والاس ستيفنس، ماريان مور. إلا أنها تعرفت لاحقًا أثناء إقامتها في معسكر الفنانين في يادو – نيويورك، على القصائد التجريبية والاستبطانية لثيودور رويثك. والتقت في بوسطن بروبرت لويل وآن ساكستون التي سترافقها وتتحدثان كثيرًا عن الانتحار(4). ومثل سيلفيا ورويثك، مرّ لويل وساكستون بتجربة الاكتئاب والمشافي النفسية وذَكَراها في أعمالهما. في مقابلة إذاعية مسجلة عام 1962، تحدثت سيلفيا بلاث عن تأثرها بأسلوب هؤلاء الشعراء في استكشاف مواضيع متفردة أو محظورة مجتمعيًا.
استقر الزوجان بعد عودتهما إلى إنجلترا في لندن، ووضعت سيلفيا مولودتها فريدا ثم ابنها نيكولاس بعدها بعامين. استغلت الأم الشابة كل أوقات فراغها ولا سيما التي تسبق الفجر للتركيز على كتابة الشعر. ونُشر أول ديوان لقصائدها «العملاق» عام 1960 وهو الوحيد الذي نُشر أثناء حياتها. كانت تحافظ على غطاء من الاتزان والهدوء بينما يتخذ عالمها الداخلي الخيالي والسريالي أبعاده. انتقل الزوجان إلى ديفون، أخذًا برأي تيد، وهي بلدة في الجنوب الغربي من إنجلترا. وحين يستعيد تيد ذكرى الماضي، سيرى أن هذه الخطوة كانت أول نقطة في نهاية زواجهما. وبقدر ما كانت الحياة في الريف حلمًا لتيد، هزّ سيلفيا افتقاد الحياة الثقافية والاجتماعية في لندن.
كانت متوقّدة الطموح، شغوفةً وتواقةً للمثالية، تغار من تفوّق الآخرين ولا تتسامح مع الإخفاق مطلقًا.
بيد أن شرارات النزاع بين الزوجين بدأت قبل ذلك بكثير، فحين كانا في الولايات المتحدة الأمريكية، استعرت بينهما لمرات عديدة جدالات عنيفة. خلافهما الأقسى كان حول العمل، كما وصفت ذلك هيثر كلارك: «في سنيّ زواجهما الأولى، أعان الزوجان أحدهما الآخر في إنتاجهما الكتابيّ وطموحاتهما، إلا أن كلاهما ندم على الوقت الذي كرّسه للآخر. غضبت بلاث من الساعات التي أفنتها في تطوير مسيرة هيوز، وتذمر هيوز من دعمه لوقت طويل ما أسماه أزمة بلاث وطباعها الحادة». وكانت القاصمة حين عرفت سيلفيا بشأن علاقة تيد هيوز الخفيَّة مع سيدة متزوجة وهي إحدى معارفهما: آسيا ويفل. لم تحدث هذه الخيانة صدفةً بينهما في تلك الفترة تحديدًا، فبينما كانت قصائد سيلفيا تواصل ازدهارها، كان تيد هيوز من حظي بالشهرة التي أتاحت له فرصًا لمغامرات مهنية وعاطفية، في وقت ظنّ فيه أن زوجته تحبسه في الحياة المنزلية.
انفصل الزوجان، وكتبت سيلفيا رسائل محمومة لطبيبتها د.بيوشر تنفّس فيها عن غضبها وحزنها وخيبتها. «كذب تيد علي، كان يكذب طيلة الوقت، صار وضيعًا». و «تيد مميز. (…) تقترن الرغبة بالجنس عندي بإعجابي بالذكاء والقوة والجمال الرجولي لذا شعرت أن تيد الوحيد الذي أريده»، وأحيانا في رسائل أخرى وصفت شعورها بالخفة: «الحياة دون تيد رائعة. لم أعد أحيا في ظِلاله». انتقلت سيلفيا إلى لندن بعدما بقيت وحيدة في ديفون، وسكنت في منزل الشاعر ييتس ورأت في ذلك فألًا طيبًا، وأصابت في ذلك، على الأقل في فنها؛ فرغم الاضطراب الشعوري الذي أضناها -أو بفضله- كتبت في عدة شهور وبوتيرة مذهلة قصائدها الأربعين التي استحقت بها مكانةً ضمن صفوة الكُتّاب.
كان آل ألفاريز، الرجل والشاعر المرموق في مجتمع لندن الأدبي والذي يعرف تيد وسيلفيا، من أوائل من شهدوا على هذا التدفق الإبداعي لسيلفيا. كتب ألفاريز في مقالة له حول الانتحار(5)، وهو الذي كان قد رغب بالانتحار مرة، عن تفاصيل الأسابيع الأخيرة من حياة سيلفيا بلاث، وسيندد تيد هيوز بتصرفه الذي رآه مفتقرًا للباقة وحسن التصرف. تدهورت حالتها النفسية آنئذٍ، وفي فجر الحادي عشر من فبراير 1963، وبعدما سدّت غرفة أطفالها لتبقيهم بمأمن من الأدخنة، فتحت غاز المطبخ. يومها كان من المقرر أن تدخل المصحة النفسية لبضع أيام راحة. لكن ذكرى علاج الصدمات الكهربائية، والخوف والإذلال من فكرة أن تجد نفسها تحت تصرّف الأطباء، وحسبما تظن كلارك: الفزع من أن يؤذي هذا أطفالها، ساهم في حسم قرارها. ربما لمضادات الاكتئاب التي كانت للتو وُصفت لها تأثير أيضًا، فلم يبدُ أن أعراضها الجانبية قد وُضعت بالحسبان. وعلى كلٍّ، لا جدوى من محاولة فصل المسببات عن بعضها. فكما لخصت ديان ميدلبروك في سيرتها عن الزوجين(6) بإيجاز لاذع: قتل الاكتئاب سيلفيا بلاث.
سيرفض تيد هيوز لوقت طويل الحديث عن حياته مع سيلفيا والظروف الداعية لموتها والتي اتهموه بإثارتها(7) (أزيل اسمه ثلاث مرات من شاهد قبر زوجته.) وفي 1998، قبل بضعة شهور من وفاته، سينشر روايته عما حدث في كتابه «رسائل عيد الميلاد»، وهو ديوان قصائد كتبها على مرّ حياته. وقبلها كان قد شرع في نشر ما لم يُنشر لسيلفيا بلاث، بدءًا بقصائدها التي كتبتها في شهورها الأخيرة، وجُمعت في ديوان اسمه : «آرييل». حرّرت سيلفيا فيه كتابتها من عدة قيود، والتزمت بمنهج التقسيم لمقاطع لكنها تخلت غالبًا عن الكتابة المقفاة. وحسب هيثر كلارك، فإن قوة تلك القصائد تكمن في الصور الشعريّة التي ذُكرت عن القتل والتعذيب والإبادة والحرب والانتحار والمرض، عن الانتقام والغضب، وأيضًا عن المقاومة والنهوض والانتصار. وفي قصيدتها «أبي» التي هاجمت فيها الرمز الأبوي (والدها الألماني، وضمنيًا تيد هيوز) أشارت للنازية والهولوكوست. أشاد الناقد جورج شتاينر بالقصيدة وعدّها بمثابة «غرنيكا الشعر الحديث»(8)، لكن رفض مثقفون يهود مثل إرفينغ هاو، وليون ويسيلتير، وآدم كيرش التلميح التاريخي في العمل.
لا يجب أن يُنسى تأثير الوضع العالمي آنذاك على مخيلة سيلفيا بلاث. فالناقوس الزجاجي يبدأ باستحضار إعدام الزوجين روزينبرغ إثر اتهامهما بالتجسس للاتحاد السوفييتي، والتشابه بين الكرسي الكهربائي(9)، والصدمات الكهربائية التي تعرضت لها الكاتبة هو موضوع الرواية ضمنيًا. آمنت بلاث بالديموقراطية والسلام؛ ولذا فقد كان للشأن السياسي الأمريكي في الخمسينيات من القرن العشرين، والذكرى التي لمَّا تخمد بعد للإبادة اليهودية، والحملة المعادية للشيوعية برئاسة السيناتور مكارثي والحرب الباردة والتهديد النووي، سطوة عليها.
لم تعتقد سيلفيا أن على الشعر أن يكون مواسيًا وشافيًا، لكن الشاعر كما تقول “«جب أن يعرف كيف يضبط ويفيد من كل الأحوال حتى الشديد منها، كالجنون مثلًا. (…) وعليه أن يعرف كيف ينتفع من التجارب بحكمة وكياسة».
قصائدها في ديوان آرييل رغم كثرة ما تكشفه إلا أنها منظومة ببراعة وتتخللها إشارات رمزية للميثولوجيا والأدب. وبحسب آدم كيرش: «قوة هذه الإشارات تأتي من إتقان سيلفيا تحويل التجربة الحميمية إلى ما لا يمكن للآخرين تمييزه».(10)
ومن سمات هذه القصائد أيضًا كثرة الجِناس فيها، وكانت بلاث قد ذكرت أنها كتبتها وهي تقرؤها بصوت مسموع. لم تستطع إليزابيث هاردويك إخفاء دهشتها حين سمعت تسجيلًا لسيلفيا في الـ BBC وهي تقرأ قصائدها بصوت قوي ممزوج بنغمات ساحرة ونطق إنجليزي ممتاز (كانت تنطق مزيجًا من لكنة بوسطن وأكسفورد).(11)
عاشت سيلفيا بلاث حياة قصيرة غير أنها حافلةٌ بأعمالها، كتبت بضع مئات من القصائد، وعشرات المقالات النقدية، وروايات، وقصص للأطفال. لم تكن شخصًا سهل المِراس، حتى في الحياة اليومية. كانت نرجسية، وتنزع إلى المبالغة. حين نقرأ يومياتها ورسائلها وسيرتها التي كتبتها هيثر كلارك، يُدهشنا ذكاؤها، وشفافيتها فيما يتعلق بنفسها، وشجاعتها وإصرارها النادر الذي واظبت عليه طيلة حياتها لتطوِّر كتابتها وموهبتها دون أن تقصِّر في بقية مساعيها. يرى الذين ينظرون لها بنظرة حالمة أن افتتانها الشعري بالموت هو ما سبَّب انتحارها، لكننا نظن نقيض ذلك، أن ارتباطها بالأدب هو ما ساعدها على ترويض شياطينها إلى أن أتت اللحظة المصيرية التي تغلبت فيها عليها.
كاتب المقالة: ميشيل أندريه، متخصص في الفلسفة، عمل في سياسة البحث والثقافة العلمية على المستوى الدولي.
المصدر: كُتبت هذه المقالة لمجلة Books الفرنسية ونُشرت في العدد 114 – يوليو-أغسطس 2021، وحصلت منصة معنى على إذن خاص بترجمتها.
الهوامش:
(1): The Silent Woman, Vintage, 1993
(2): Red Comet: The Short Life and Blazing Art of Sylvia Plath, Knopf, 2020
(3): “The Magic Mirror” A Study of the Double in Two of Dostoevsky’s Novels.
(4): انتحرت آن ساكستون في 1974 بعد محاولات عدة.
(5): The Savage God, Norton, 1990
(6): Son mari, Phébus, 2006
(7): كان هيوز في ليلة انتحار سيلفيا برفقة امرأة أخرى غير آسيا ويفل. تزوج آسيا لاحقًا وانتحرت بالطريقة عينها التي انتحرت بها سيلفيا، وأنهت حياة ابنتها معها.
(8): لوحة جدارية لبيكاسو مستوحاة من قصف غرنيكا في الحرب الأهلية الإسبانية 1937، تصور اللوحة معاناة الحروب ومآسيها على الإنسان. (المترجم)
(9): يُقصد بالكرسي الكهربائي هو العقوبة التي أقرّتها الولايات المتحدة الأمريكية للزوجين روزينبرغ، الإعدام بالكرسي الكهربائي. (المترجم)
(10): The Wounded Surgeon, Norton, 2005
(11): The New York Review of Books, 12 août 1971