في سبعينيات القرن العشرين، بدأت شركة حلوى أمريكية حملةً إعلانية للترويج لأكواب زبدة الفول السوداني؛ وفي الإعلان التلفزيوني، يسير شخص على رصيف مزدحم بالمدينة بينما يتناول قطعة من الشوكولاتة، ويسير شخص آخر باتجاهه بينما يتناول زبدة الفول السوداني من جرة زجاجية. وعندما يصطدما ببعضهما، يختلط الطعام في أيديهما، فيتذمر أحدهما قائلًا للأخر «لقد أوقعت زبدة الفول السوداني على الشوكولاتة التي في يدي!» بينما يشتكي الآخر قائلًا «لقد أوقعت الشوكولاتة في زبدة الفول السوداني التي في يدي!» كما لو كان أحد هذين الأمرين صحيحًا والآخر خاطئًا.
وينتهي الأمر بأن يجد كلاهما أن مزيج النكهة الجديد لذيذ جدًا. ثمة شيء مشابه جدًا لحادثة اختلاط الحلوى هذه يحدث داخل دماغك عندما تصطدم دورة «الفعل والإدراك الحسي» (action and perception) الخاصة بك بدورة (الفعل والإدراك الحسي) لشخص آخر، فعندما تكون أحد الأشياء في المحيط الخارجي جزءًا من إدراكك وإدراك شخص آخر، فإن الإدراكين يندمجان.
هذا المقال مقتبس من كتاب مايكل سبيفي «ماهيتك: علم الترابط»
على سبيل المثال، قد تشير أنت وصديقك إلى خريطة، وتتحدثان عنها معًا، أو ربما تشاهدان برنامجًا تلفزيونيًا معًا وتتبادلان الملاحظات حوله، وقد تتذكر الاسم الأول لأحد المشاهير بينما لا تتذكر اسم عائلته، فتذكّرك به زوجتك؛ فهل هذا الشيء (أو الحدث) الموجود في البيئة الخارجية ينتمي إلى إدراكك أم إلى إدراك الشخص الآخر؟
وكثيرًا ما يكون هذا التبادل السلس للمعلومات بينك وبين الآخرين كثيفًا لدرجة أنه قد يصعُب التعامل معك ومع الآخرين كأنظمة إدراكية منفصلة؛ فإذا كانت الأداة التي تعزز قدراتك قد تصبح امتدادًا لـ«ماهيتك»، فماذا عن شخص آخر يعزز قدراتك؟ إنّ المعلومات التي تصنع ماهيتك لا تقتصر على المعلومات التي تحملها داخل دماغك وجسمك والأشياء القريبة منك؛ بل تشمل أيضًا المعلومات التي يحملها الأشخاص من حولك.
بل إن الآخرين يشاطروننا العديد من تجاربنا الأكثر تأثيرًا -مثل مشاريع الفِرق والفعاليات المجتمعية والوجبات الجماعية في العطلات- ويشكلونها معنا جزئيًا. وسواء كنت تُجري محادثة مع شخص ما، أو تحضر محاضرة، أو تُنسق مشروع في العمل، أو تشاهد التلفاز، أو حتى تقرأ كتابًا؛ فإن أي من هذه الأنشطة ينطوي عادةً على تبادل معلومات بين شخصين أو أكثر، وهناك مثل إسباني قديم يقول «قل لي مع من تتحدث، وسأخبرك من أنت» (Dime con quien andas y te diré quien eres).
وقد أثبتت مجموعة متزايدة من أبحاث علم الإدراك أنه عندما يتعاون شخصان في مهمة مشتركة، فإن أفعالهما كأفراد تتناسق بطريقة تُشبه كثيرًا كيفية التنسيق بين أطراف الشخص الواحد حينما يؤدي مهمة فردية. انظر على سبيل المثال إلى المهمة الفردية المتمثلة في تحريك سبابتيك لأسفل ثم لأعلى بحركة متعاكسة. جربها، فهي مهمة سهلة. إن ما يحدث هنا ليس هو التزامن التام (Perfect Synchrony) حيث تقوم السبابتان بعمل نفس الأمر في نفس الوقت، بل هو شكل من أشكال التناغم الزمني المختزل (Syncopation) حيث تفعل السبابتان أمرين متعاكستين في نفس الوقت.
لقد وجد سكوت كيلسو -الباحث في الأنظمة الديناميكية- أن الناس قادرون على القيام بالمهمة المذكورة أعلاه بسرعة نسبية والحفاظ على نمط الحركة المتعاكسة لفترة من الزمن (حيث يتحرك كل إصبع عكس الآخر)؛ إلا أنهم عندما يُسرعون الحركة بحيث تصل فعلًا إلى وتيرة اهتزاز الإصبع السريعة، فإنهم عادة ما يقعون بطريق الخطأ في نمط الحركة المتوافقة؛ حيث تنتقل السبابتان بدون قصد إلى نمط من الحركة حيث يتحركان فيه كلاهما لأعلى في نفس الوقت ثم يتحركان كلاهما لأسفل في نفس الوقت. وبيّن كيلسو أن هذا الميل العرضي نحو توافق حركة السبابتين، حتى عندما يحاول المرء القيام بحركات متعاكسة، يتفق جدًا مع نموذج رياضي يصف كيف يمكن لنظامين فرعيين مختلفين التصرف في كثير من الأحيان وكأنهما نظام واحد.
في حالتنا هذه، نجد أن أحد هذين النظامين الفرعيين هو القشرة الحركية لنصف الدماغ الأيسر التي تحاول القيام بحركة معينة (رفع سبابتك اليمنى) والنظام الفرعي الآخر هو القشرة الحركية لنصف الدماغ الأيمن التي تحاول القيام بالحركة العكسية (خفض سبابتك اليسرى) في نفس الوقت، ثم يقوم النظامين بعكس هذا النمط من الحركات بشكل متكرر. وتحتوي هاتان المنطقتان في الدماغ على عدة روابط عصبية بينهما، وهذه الروابط هي التي تجعل من الصعب الحفاظ على نمط الحركة المتعاكسة عندما تحاول زيادة سرعة الحركات؛ فتتحول إلى حركات متزامنة، حتى عندما تحاول أنت جعلها غير متزامنة. ولكن قد يسأل سائل هنا: ماذا عن نقل المعلومات إلى أشخاص آخرين؟
قام عالم النفس ريتشارد شميدت بتوسيع تجربة كيلسو مطبقًا التجربة على الساق اليسرى لشخص يجلس على سطح طاولة والساق اليمنى لشخص آخر يجلس إلى جانبه على سطح الطاولة، بحيث تتأرجح رجليهما في نفس الوقت في اتجاهين متعاكسين، باتجاه الطاولة وعكس اتجاه الطاولة، بنفس الطريقة التي كانت السبابتان تتحركان فيها في تجربة كيلسو، إذ يقوم أحدهما بتحريك ساقه للأمام (بعيدًا عن الطاولة) بينما يقوم الآخر بتحريك ساقه للخلف (تحت الطاولة). وكانت النتيجة مثل ما حدث في تجربة كيلسو، فمع تسارع الحركة غالبًا ما تتحول حركات الرجلين المتعاكسة إلى حركات متزامنة في نفس الاتجاه.
ومن الواضح أن ما حدث ليس بسبب الجسم الثفني -الذي يربط القشرة الحركية اليسرى والقشرة الحركية اليمنى ببعضهما- فلا يوجد ما يربط القشرة الحركية لأحد الشخصين والقشرة الحركية للشخص الآخر. وهكذا يتبين أن الروابط العصبية ليست هي الشيء الوحيد الذي يُتيح مشاركة المعلومات التي تنسق عمل نظامين فرعيين مختلفين؛ إذ يمكن لدورة «الفعل والإدراك الحسي» الخاصة بك أن تتبادل المعلومات مع دورة «الفعل والإدراك الحسي» الخاصة بشخص آخر بطريقة تجعلكما تنسقان حركتكما بشكل متزامن وتتصرفان -جزئيًا- وكأنكما نظام واحد.
وجدت عالمة النفس التجريبية آنا كوهلن وزملاؤها أن تنسيق النشاط العصبي بين الأفراد يرتبط مباشرةً بالمعلومات التي تُنقل شفهيًا. المصدر: Frontiers in Human Neuroscience
ويأتي أحد الأمثلة المثيرة على مشاركة المعلومات هذه عبر عقلين من تجربة مبتكرة أجرتها عالمة النفس التجريبية آنا كوهلن، حيث سجلت كوهلن النشاط الدماغي (باستخدام جهاز «مخطط كهربية الدماغ» EEG) لامرأة تحكي قصة، وسجلت فيديو للمرأة في الوقت ذاته. وكررت نفس الأمر مع رجل يروي قصة مختلفة، ثم قامت بتركيب مقطعي الفيديو على بعضهما، بحيث تظهر صورة شبحية نوعًا ما لكلا رأسيهما وهما يتحدثان ويتراكب التسجيل الصوتي من كلتا القصتين. وعندما تشاهد هذا الفيديو وتستمع إليه، فقد تشعر بالتشتت بعض الشيء، ولكن إذا قررت تركيز انتباهك على أحد المتحدثين في الفيديو المركب وتجاهلت الآخر؛ فإنك تستطيع فعل ذلك. وهذا هو بالضبط ما طلبته كوهلن من المجموعة التالية من المشاركين في التجربة، وقد كانت تسجل نشاطهم الدماغي وهم يفعلون ذلك.
وهكذا توفر لديها عدة دقائق من النشاط الدماغي للمتحدثة الأنثى، ومن النشاط الدماغي للمتحدث الذكر، ومن النشاط الدماغي للمستمعين الذين طُلب منهم التركيز على المتحدثة الأنثى، ومن النشاط الدماغي للمستمعين الذين طُلب منهم التركيز على المتحدث الذكر. وجاءت النتيجة كما توقعت كوهلن، حيث أنتج المستمعون الذين ركزوا على صوت المتحدثة الأنثى نشاطًا دماغيًا يرتبط إحصائيًا بنشاط دماغ المتحدثة الأنثى (وأقل ارتباطًا بنشاط دماغ المتحدث الذكر)، وحدث عكس ذلك بالنسبة للمستمعين الذين ركزوا على صوت المتحدث الذكر. ومن ثم فإن الاستماع إلى شخص يحكي لك قصة يجعل عقلك يقوم جزئيًا بنفس ما كان يقوم به دماغ المتحدث.
ولكنك لست مضطرًا لتسجيل نشاط الدماغ لكي ترى ظهور هذه الارتباطات بين المتحدث والمستمع. ذلك لأنه إذا كان هناك دماغان مترابطين بشكل كبير، فمن المحتمل جدًا أن حركات الجسمين اللذين يحملان هذين الدماغين مترابطةٌ هي كذلك.
وفي بيان ذلك، قام اثنان من تلاميذي، هما دانيال ريتشاردسون وريك ديل، بتسجيل حركات عين إحدى المتحدثات أثناء نظرها إلى إطار سداسي يضم ست صور لممثلي المسلسل التلفزيوني «فريندز Friends» بينما تحكي قصة غير مكتوبة عن حلقتها المفضلة من المسلسل. وتم لاحقًا تشغيل التسجيل الصوتي لتلك القصة عبر سماعات الرأس لمستمعين كانوا ينظرون أيضًا إلى ذلك الإطار الذي يضم الصور الست. وقام الباحثان بتسجيل حركات العين الخاصة بالمستمعين، الذين لم يروا المتحدثة، بل سمعوا صوتها فقط. وعلى مدار الدقائق القليلة التي استغرقها سماع القصة، وجد الباحثان أن هناك ارتباطًا ملحوظًا بين حركات عين المتحدثة وحركات عين المستمعين، ولكن مع فارق زمني حيث يتأخر المستمعين بحوالي 1.5 ثانية.
مقطع قصير – مأخوذ من دراسة دانيال ريتشاردسون وريك ديل – يُظهر حركات عين المتحدث (الشعيرات المتقاطعة) وحركات عين المستمع (النقطة)، وتبدو حركات عين المستمع تابعة لحركات عين المتحدث.
قد نفسر الأمر بما يلي: ستنظر المتحدثة إلى وجه الممثل، وبعد نصف ثانية تقول اسم الشخصية التي يؤديها في المسلسل. بعد ذلك، سيستغرق دماغ المستمع نصف ثانية لمعالجة سماع الاسم ثم نصف ثانية أخرى ليوجه عينيه إلى وجه الممثل. وهكذا تتأخر حركة عين المستمع بفارق يبلغ 1.5 ثانية. ومن المثير للاهتمام هنا أن المستمعين الذين كانت حركات أعينهم مرتبطة بدرجة أكبر بحركة عين المتحدثة قد أجابوا أيضًا بشكل أسرع على أسئلة الفهم والاستيعاب التي طرحها عليهم الباحثان في نهاية التجربة، ومن ثم فقد وجد الباحثان أن المستمعين الذين كانت حركات أعينهم أكثر تزامنًا مع حركات عين المتحدثة قد استوعبوا المعلومات من القصة على نحو أكثر كفاءة.
كل هذا يعني أنه عند معالجة اللغة، غالبًا ما يبدي المستمع (أو القارئ) نشاطًا دماغيًا وحركات عين تشبه نشاط الدماغ وحركات العين التي تحدث لدى المتحدث (أو الكاتب). نعم، وهذا صحيح؛ فأثناء قراءتك لهذه الفقرة، من المحتمل أن يكون نشاط دماغك وحركات عينيك مرتبطين إلى حد ما بنشاط الدماغ وحركات العين التي حدثت لي أثناء تدقيق هذه الفقرة. وبغض النظر عمن تكون، وبغض النظر أيضًا عن الوقت الذي تقرأ فيه هذه الفقرة، فإن ثمة شريحة زمنية منك وشريحة زمنية مني تكونان متوافقتين لفترة وجيزة، بالمعنى الحرفي والمجازي، وعلى الصعيدين الجسدي والميتافيزيقي.
ويكون هذا التنسيق الجسدي والعقلي أكثر تأثيرًا عندما يكون الشخصان حاضرين مع بعضهما في نفس الوقت، ويسهمان بشكل متساوٍ في المحادثة. وقد قام ريتشاردسون وديل، بمساعدة من ناتاشا كيركهام، بتوسيع تجربتهما في تتبع حركة العين بحيث يطبقوها على شخصين يدخلان في حوار ارتجالي، فوضعوا جهازين لتتبع حركة العين في غرفتين منفصلتين، وكان في كل غرفة شخص، بحيث يشاهد الشخصان نفس اللوحة أثناء التحدث مع بعضهما عبر سماعات الرأس.
تخيل نفسك في هذه التجربة: أنت وحدك في غرفة تنظر إلى صورة، لكن يمكنك عبر سماعة الرأس أن تتحدث إلى شخص آخر موجود في غرفة أخرى وينظر إلى نفس الصورة التي تنظر إليها أنت. الأمر هنا يشبه إلى حد ما الاتصال بصديق على الهاتف بينما تشاهدان معًا مباراة رياضية تُبث على التلفاز مباشرةً (مثلما نفعل أنا وصديقي ستيف). لقد كان الشخصان المشاركان في التجربة يتحدثان عن اللوحة التي كانا ينظران إليها، بينما يقوم الجهازان بتسجيل حركات أعينهما، وعندما تقوم بتحليل نص المحادثة، تجد أنهما يقاطعان بعضهما، ويكملان جمل بعضهما عدة مرات، ذلك لأن جزءًا مهمًا من كيفية فهمنا لما يقوله الشخص الآخر هو توقعنا لما سوف يقوله.
الأمر المهم هنا هو أنه نظرًا لأن الشخصين في المحادثة كانا يتوقعان كلمات وأفكار بعضهما عن كثب، فقد اختفى هذا الفارق البالغ 1.5 ثانية في العلاقة بين حركات العين. كان الشخصان ينظران إلى ذات الأجزاء من ذات الصورة في ذات الوقت، وكانت حركات أعينهما قد دخلت في حالة من التزامن الحقيقي، على عكس ما حدث في تجربة حركة السبابتين التي أجراها كيلسو، وتجربة الرِجلين المتأرجحتين التي أجراها شميدت.
وعندما يرتبط دماغان بمحادثة مشتركة، فإن التنسيق في السلوك لا يقتصر على الدماغين والعيون فحسب، بل يمتد إلى الأيدي والرأسين والعمودين الفقريين أيضًا، إذ يحدث التنسيق بين الجسدين بطرق لم يكن يحدث بها قبل بدء المحادثة.
على سبيل المثال، جاء الباحث في الحركة البشرية كيفين شوكلي بشخصين يتحدثان مع بعضهما حول أحجية مشتركة بينما كانا يقفان على لوحات قياس القوة التي تُسجل تأثير تغير وضعية الجسم، إذ إنه حتى عندما تعتقد أنك ساكن في مكانك، فإن مركز كتلة جسمك يظل يتغير بمقدار بضعة ملليمترات. وعندما كان المشاركان في تجربة شوكلي يتحدثان مع بعضهما حول هذا الأحجية، كانت وضعيات جسميهما تتغير بصورة توضح ارتباطًا بينهما. وعندما تحدث المشاركان مع أشخاص آخرين حول الأحجية، زال الارتباط بين تغير وضعيات جسميهما. وربما يكون بعض هذا التنسيق بين تغير وضعيات الجسم نتج عن إشارات الأيدي التي قاما بها معًا أو إيماءات الرأس التي قاما بها لبعضهما أثناء تبادلهما الحديث.
وعندما ركز عالم الإدراك ماكس لوويرس على الحركات والإيماءات الصادرة عن الشخصين أثناء محادثتهما حول الأحجية المشتركة، وجد أن ضروبًا معينة من الحركات أظهرت ارتباطات بينهما ولكن بفوارق زمنية مختلفة، فعلى سبيل المثال يحدث التناسق بين إيماءات الرأس بفارق زمني يبلغ حوالي ثانية واحدة بين الشخصين، وما يحدث هنا هو أن أحدهما يفترض شيئًا ما ثم يهز رأسه كشكل من أشكال طلب التوكيد من الشخص الآخر، ثم يومئ الشخص الآخر برأسه للتعبير عن ذلك التوكيد.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المحاكاة الاجتماعية تحدث في مقياس زمني يختلف عن هذا، إذ غالبًا ما يقوم الناس بتقليد بعضهم بعضًا دون أن يدركوا ذلك، كأن تضع ساقًا فوق الأخرى أثناء أحد الاجتماعات بعد أن يفعل شخص آخر ذلك، أو أن تُشبك أصابع يديك وتسندها على مؤخرة رأسك بعد أن يفعل شخص آخر ذلك، أو أن تفرك ذقنك بيدك بعد أن يفعل شخص آخر ذلك. وقد وجد لوويرس في تجربته أنه عندما يلمس أحد المتحدثين وجهه، فإنه من المرجح إحصائيًا أن يلمس المتحدث الآخر وجهه، ولكن الفارق الزمني بين الشخصين هنا لا يكون ثانية واحدة مثل إيماءات الرأس بل يكون على الأرجح من 20 إلى 30 ثانية. وهذا التناسق العرضي بين الحركات من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من التعاطف والألفة بين الشخصين المعنيين، فهذه المحادثة المشتركة لا تحسّن معالجة المخرجات الحركية المشتركة فحسب، بل يمكن أيضًا أن تُحسن معالجة المدخلات الإدراكية الحسية المشتركة بينهما. هل تتساءل الآن كيف لشخصين أن «يتشاركان المدخلات الإدراكية الحسية؟» حسنًا، هذا سؤال وجيه.
لقد فحص عالم الإدراك ريكاردو فوسارولي نصوص محادثة بين شخصين يقومان بمهمة إدراكية حسية مشتركة عبر إجراء حوالي مئة محاولة في التجربة. في كل محاولة، كان كل منهما يقوم بمهمة تمييز بصري صعبة ثم يناقشان معًا استجاباتهما الفردية للوصول إلى إجماع بينهما على استجابة مشتركة للمحفز البصري، وأحيانًا كانت استجاباتهما الفردية تتباين، ومن ثم كانت الاستجابة المشتركة تتطلب أن يغير أحدهما إجابته.
تخيل مثلًا أن تقوم بالتجربة الآتية مع صديق مقرب: ترى وميضًا خاطفًا للعديد من المحفزات البصرية، وعليك أن تُقرر أي من المحفزات كان شاذًا عن البقية، وتعبر عن تخمينك بالضغط على زر، ثم قد تكتشف أن استجابة صديقك كانت مختلفة، فيتعين عليكما عندئذ أن تقررا معًا أيكما كان على حق. لقد وجد فوسارولي أن بعض نصوص المحادثة لم تُظهر ارتباطًا كبيرًا في استخدام الشخصين لتعبيرات اليقين (فقد يستخدم أحدهما عبارات مثل «واثق» أو «غير متأكد إلى حد ما» أو «ملتبس تمامًا» بينما يستخدم الآخر عبارات مثل «لا أعرف» و «ربما»).
ففي هذه الفرق المكونة من شخصين، غالبًا لا تمثل الاستجابة المشتركة أي تحسن [في الإدراك الحسي] مقارنةً بإجابة الشخص الأفضل في الثنائي؛ ففي بعض الأحيان مثلًا يمكن للشخص شديد الدقة في الثنائي أن يتنازل لصالح الشخص الأقل دقة، وهكذا قد تكون إجابتهما المشتركة أسوأ من أداء الشخص شديد الدقة. ولكن فوسارولي وجد أنه عندما يبدي الثنائي تنسيقًا قويًا بينهما في تعبيراتهما عن اليقين، باستخدام نفس العبارات، فإن إجاباتهما المشتركة تتفوق على إجابة الشخص الأفضل فيهما.
ولب ما يقع في هذه التجارب هو أن الثنائي يطوران لغتهما المصغرة التي تسمح لهما بمعايرة دقيقة لمستوى ثقة بعضهما في إدراكهما الحسي لمحفز بصري معين. وهذا التنسيق اللغوي هو ما يجعل عقليهما يعملان كما لو كانا نظامًا واحدًا، ولكن بأداء أفضل من أداء أي من الدماغين منفردًا. يبدو أن عقلين أفضل من عقل واحد حقًا، خاصةً عندما يكونان متفقين على كيفية التحدث عما يرونه.
إن وجود هذه الارتباطات بين شخصين يعني أنك إذا كنت تعرف الإيماءات، وموجات الدماغ، وحركات العين، واختيارات الكلمات التي يقوم بها أحد المتحدثين في محادثة، فإنه يكون باستطاعتك أن تقدّر تقديرًا حسنًا معقولًا الإيماءات، وموجات الدماغ، وحركات العين، واختيارات الكلمات التي سيقوم بها المتحدث الآخر. ذلك لأن تلك المجموعة من الموجات الدماغية والسلوكيات (الصادرة عن الشخصين) تصير نظامًا واحدًا.
لذلك عندما تلتقي بأصدقائك وعائلتك مرة أخرى -أو ربما عندما تحادثهم عبر تطبيق زووم في ظل الوباء الحالي- تذكر أن المحادثة الحسنة ليست عبارة عن أفراد يتناوبون في إرسال رسائل كاملة لبعضهم بعضًا -فليس دور الأفراد أن يضيفوا الرسائل تباعًا إلى الحوار؛ فبئس المحادثة تلك- بل إن المحادثة الحسنة هي التي تضم أشخاصًا يشاركون آنيًا في إبداع مونولوج مشترك، أي كما لو كان تنسيقًا متبادلًا بين الأدمغة.
مايكل سبيفي أستاذ علم الإدراك في جامعة كاليفورنيا، ومؤلف كتاب «اتصالية العقل» (The Continuity of Mind) وكتاب «ماهيتك» (Who You Are)، الذي تم اقتباس هذه المقالة منه.
المصدر (ضمن اتفاقية ترجمة خاصة بمنصة معنى)