تُطاردني صورة من الماضي البعيد، بيت قديم تضيء أركانه شموع دافئة ومعلق على جدرانه ساعات توقف عندها الزمن. داخل البيت جدّ وجدّة، عجوزان يسردان للصغار حكايات التاريخ البعيد، وعقول الصغار تسبح في غيمة من الخيال ترسم خطوط رمادية للماضي بأنفاس الحاضر. أنصت معهم إلى الحكايات كما ينصت شهريار لمحبوبته، لكن لا مجال لمراقبة الزمن هنا. يقولون أن ما تفعله الحكاية هو أنها تحكي حياة في زمن، الزمن صديق وعدو، مهرول وكسول، خائن ووفي.
دعوني أحكي لكم حكاية، ليست خيالية، بل حقيقية. يقول المخرج الأمريكي سام ميندز أن سنوات طفولته غلفتها حكايات جده العجوز “ألفريد” عن الحرب العالمية الأولى. وأن صور الحرب تطارد سام إلى الآن بلا هوادة. مازال يذكر اليوم الذي حكى فيه الجد رحلة إنقاذ كتيبة من فخ يدفعهم إلى الاشتباك مع الجيش الألماني. والمهمة هي إبلاغ قائد الكتيبة بالتراجع عن الاشتباك مع العدو في أسرع وقت. استغرقت الرحلة ساعات قطعها الجندي/ الجد سيرًا وهرولاً. ثم نجح في نهاية الأمر ووصل في الوقت المتوقع وأنقذ حياة ستة عشر آلف جندي من الموت في فخ معركة يخطط لها العدو. تطوي سطور الحكاية بين جنباتها الوقت والزمن. هذه الحكاية هي المصدر الرئيس والقصة الكاملة لفيلم 1917 الذي يتلاعب فيه سام ميندز بالزمن ويعيد سرد حكايات الجدّ بالصورة، مستحضرًا المكان والزمان. هناك حيث حكايات الحرب العالمية الأولى في الخنادق والمنخفضات الوعرة والطرق المتعرجة، لا شيء هنا سوى ذاكرة الحرب ووقع خطوات الزمن.
تموت الحكاية بالسكون وتولد بالحركة، حينها تصبح الحكاية جديرة بالحكي. ربما نتخيل الآن ما الذي تحمله لنا مئة وتسعة عشر دقيقة هم إجمالي زمن الفيلم، سأخبرك أن الفيلم يراقب الجنديان “بليك” و”سكوفيلد” في رحلتهما لتنفيذ المهمة. وأن الحركة بلا توقف هي وقود التصاعد الدرامي. وعلى غير المعتاد في أفلام الحروب فإن الزمن هو العدو الشرس الذي لا يمكن ترويضه. وبين السير في الخنادق والأراضي الوعرة، والسقوط في مجرى النهر، تقبع آثار الحرب على جانبي الشاشة، وتختزل الصورة في صمت آلاف الحكايات غير المروية، والتي احترقت قصاصاتها في غبار المعارك ودفنت هباءً في قلوب الجنود المنسيين. تحلق الكاميرا حول الجنديان السائران في فوضى الحرب في خضم رحلة طويلة صوب المجهول، تراقبهما من عليّ بعين الإله، وتنبطح معهما أرضًا عند اقتراب الخطر، حمَلَ مدير التصوير “روجر ديكينز” الكاميرا كعين حماية وعين مراقبة لا تغمض أجفانها ليستمر الحكي وتلهث الأنفاس تحت وطأة الوقت. عند مشاهدة الفيلم سيغمرك الشعور بالحصار والتقرب، كأنك تجلس أمام ساعة حائط تراقب عقاربها، والخوف يتسرب بداخلك فتتساءل “كيف سننجو من هذا الحصار؟”.
“الحرب معاناة حميمة جدًا، وهي تجربة بلا نهاية، كحياة الإنسان”.سفيتلانا أليكسييفيتش
يفتتح فيلم 1917 بلقطة أولى تكشف زرقة السماء وامتدادها الموازي للمروج الخضراء حيث يتمدد “بليك” إلى جوار صديقه “سكولفيلد” تحت شجرة تلقي بظلالها على جسديهما الملفحان بثوب الحرب. خلق الإنسان من رحم الطبيعة، يبدأ منها ويعود إلى سكونها وينشد صمتها الأبدي، لكن الحرب لا تغمض العيون، لا تعرف مفردات الحياة. بينما الحرب العالمية الأولى في أوج اشتعالها رسم “بول ناش” لوحة “نحن نصنع عالمًا جديدًا” وعبثًا يوهمنا العنوان بالأمل، انظروا لها جيدًا، ضربات الفرشاة تصرخ ألمًا في لوحة تعري الطبيعة من بهائها وتصبغها بالقتامة، الأرض مقبرة والأشجار كشواهد القبور، لا وجود لإنسان هنا، فالخلود يفسد الموت.
يتمدد الموت على جانبي الشاشة طيلة أحداث الفيلم. كما يقتفي البطلان في رحلتهما صوب المجهول آثار الموت والأمل، هل ترى الأشجار الآن؟ يستعيد الجنديان ذكرياتهما مع أشجار الكرز، يمتد عبيرها منجرفًا في حنين إلى الأرض. لكن هل هذا ما نريد معرفته في فيلم تقع أحداثه في قلب الحرب العالمية الأولى؟
يبدي الناقد الأمريكي ريتشارد برودي إنزعاجه من سيناريو الفيلم ورسم الشخصيات، يرى أن الفيلم يخلو من الخيال. لا يكشف بوضوح الرحلة الداخلية للبطلين، هل خاض “بليك” و”سكوفيلد” قتالاً من قبل؟ ما مدى خبرتهما العسكرية؟ ما هي معاناتهما الشخصية مع الحرب؟ من هما؟ من أين جاؤوا؟ ما هي معتقداتهما؟ كيف كانت حياتهما قبل الحرب؟ وإلام يطمحوا بعد العودة إلى الديار؟ يشترك برودي في الرأي مع عدد من الجمهور الذين لم ينجذبوا إلى القصة بقدر الصورة السينمائية، وأن غياب المعلومات الكافية عن الشخصيات حالت دون التعاطف معهم، وآخرون وجدوا الفيلم بعيدًا عن شراسة الحرب العالمية الأولى وأن غيابها عن محورية الأحداث يجعل الفيلم مجرد مهمة فرعية في خضم الحرب لا فائدة كبيرة من حكيها، لكن ألا يحسب الأمر لصالح الفكرة الرئيسة للفيلم التي تنتصر للإنسان يسير وحيدًا في ساحة حرب مقتفيًا آثر المخاطر، مجردًا من تاريخه الشخصي؟ يوضح سام منديز أن الحرب العالمية الأولى امتدت لأربع سنوات وخلفت آلالاف القتلى والروايات الدموية، فكيف له أن يصنع فيلمًا مكتظًا بتفاصيل الحرب ولا تخدم القصة الرئيسة التي يرويها؟ بالطبع سيفشل في الأمر.
يشبه الكاتب “بول زيفاج” القصة بنسمات الرياح التي تمر عبر شقوق الحائط، وتتسع لحركة الزمان والمكان، إذا راقبناها متخليين عن ذواتنا سنتماهى مع تجربتها الإنسانية بعيدًا عن الطرق المعتادة في القص.
في محاولة مني لفهم التقنيات التي استند إليها سيناريو الفيلم، كان لابد لي من العودة إلى أهل الحرفة. من هنا اخترت السيناريست (محمد الدباح) للحوار معه حول 1917 وما يحمله من تجديد على مستوى السرد. كان رأية صريحًا بأن هذا العمل هو الأفضل على الأطلاق! وإليكم نص الحوار:
– يدور الفيلم في فلك رحلة بطل لتنفيذ هدف معين وهو يأخذنا معه في الزمان والمكان داخل مسار الرحلة. يبدو الأمر بسيطًا في سرد القصة بأكثر الطرق كلاسيكية، أين ترى محور الصراع الدرامي الرئيس، ورحلة البطل؟
– في بداية الأمر يمكننا بسهولة تتبع أساسيات بناء القصة وتطبيقها على الفيلم، بداية من المهمة التي يبلغ بها “بليك”، ثم المحفز الذي يدفعه للموافقة على المهمة -وجود أخوه الأكبر في الفيلق المراد إنقاذه- بالإضافة إلى سمات رحلة البطل التي تتقدم بهدوء، ومع كل خطوة للأمام تتسع رقعة اللاعودة ويقترب الهدف وتحبس الأنفاس. يمكنني بأريحية أن أصف السيناريو بالذكاء الشديد، بالتحديد في اللحظة يموت فيها “بليك” وهنا يضطر “سكوفيلد” لإكمال مهمة لم يكن راغبًا فيها منذ البداية، يسير في طريق لم يختاره ليحقق هدف صديقه “بليك”. اختيار غير متوقع يضع مسار رحلة البطل في حالة ارتباك ويبدل دفة القيادة من “بليك” الذي ظنناه بطل الفيلم إلى”سكوفيلد”، الجندي غير المكترث بالمهمة ولا الميداليات الذهبية التي سيحصل عليها بعد انتهاء تلك المهمة الحربية.
– وماذا عن التصاعد الدرامي؟
– بناء الفيلم على المشهد الواحد يوهم المشاهد باتساع رقعة الملل واللاتصاعد الدرامي، لكن على العكس نجد أن سيناريو فيلم 1917 يبني بذكاء محطات وتتابعات تورط البطلين في تحديات جديدة، بداية من الخروج من المعسكر، تعرضهما لخطر الانفجار، هجوم الطائرة ومقتل “بليك”، المواجهات بين “سكوفيلد” والعدو الألماني، هذه المحطات شكّلت إيقاعات من التوتر والرفق، التشويق وإلتقاط الأنفاس، وكلها تدفع بالتصاعد الدرامي للأحداث.
يستطر السينارست قائلًا:
– دعيني أخبرك بنقطة مهمة تتعلق بكتابة السيناريو في هذا العمل؛ إن كل مشهد يتحرك عبر “فكرة” تقودنا إلى اختيار تفاصيله ومحدداته. وسأضرب لكِ مثالًا بمشهد انتقال “سكوفيلد” داخل عربة الجنود في طريقه لإستكمال المهمة بعد وفاة صديقه. في هذا المشهد يجلس “سكوفيلد” بين الجنود وحيدًا صامتًا محملاً بألم نفسي وعبء مضاعف على أكتافه، أمامه مهمة ولا مفر للرجوع، بينما الجنود يتبادلون الأحاديث والحكايات تراقب الكاميرا “سكوفيلد” في صمته بين ثرثرات المحيطين. هنا تكمن براعة السيناريو في التعبير عن حالة التيه والألم الداخلي بأقل التعبيرات، قد يرى البعض أن الأمر لم يكشف الكثير عن صراع الشخصية، لكن ذكاء السيناريو جاء في بساطة الكشف عن المشاعر، بهدوء ودون حاجة لحوارات طويلة و انفعالات زائدة أو مفتعلة. يتكرر الأمر على مدار الأحداث، كلما زادت أعباء “سكوفيلد” في طريقه للمهمة كلما تعثر في لحظات هانئة من الهدوء والمؤانسة، بعد سقوطه في النهر وقبل أن يصل في النهاية إلى الفيلق يتشبث ‘سكوفيلد” في جذع شجرة يسبح هائم في مجرى النهر ثم فجأة حاوطته الأوراق المتساقطة من شجر الكرز، هذه التفصيلة تربت على كتفه، وتهدئ من وطأة صراعه اللاهث مع العدو، ومع الزمن.
واصلت طرح الأسئلة:
– على مدار ساعتين نتتبع مهمة إنقاذ يجب ألا تتجاوز شروق شمس اليوم التالي، والزمن هنا هو العدو الأشرس الذي يطارد البطلين بظلاله القاتمة، في رأيك كيف طوّع السيناريو الزمن واختزله لخدمة عنصر التشويق؟
– تراوح الفيلم بين تكثيف الزمن تارة وتسريعه تارة أخرى. وهنا أعود لبراعة تظافر السيناريو والإخراج والموسيقى التصويرية في مجاراة هدوء الزمن وتتبع خطوات الأبطال في تروٍ، في مقابل لحظات -مثل مشهد إغماء سكوفيلد- يمر فيها الزمن سريعًا، ولسنا بحاجة لتتبعه بل لتجاوزه لاستكمال مطاردة الوقت.
يحضرني الآن مقولة لأحد النقاد يقول فيها: “الحرب جحيم، وهذا الفيلم ليس كذلك” يمكنني تفهم وجهة النظر تلك، لكن علينا أن نضع نصب أعيننا الطريقة التي اختارها سام ميندز ليظهر لنا الحرب. الفيلم تدور أحداثه على خلفية الحرب العالمية الأولى، ويكشف في تفاصيله الكثير عن فظائع الحرب، لكنه اختار البساطة في سرد القصة بأسلوب شديد الشاعرية.
***
“أردت أن أروي قصة عن هذين الرجلين، وأن أشاهد من خلال ثقب المفتاح الضيق لتلك القصة بانوراما واسعة من الدمار الذي تسببت به الحرب”. سام ميندز
أجل لكل منا حكايته الخاصة لكن ما الذي نحكيه منها؟ وكيف نحكيه؟ عشرات الأفلام تجول فيها الكاميرا في ساحات الحرب، لكن ما الذي نراه من الحرب؟ اختار سام منديز أن يراقب بطَليْه وأن يتتبع الإنساني فيهما، مثلما تسلط ناظريك على شجرة في قلب غابة نائية، لتتحدث عنها دونًا عن بقية الأشجار. يذكرني سام منديز بالكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش التي اختارت في كتابها “ليس للحرب وجه أنثوي” أن تقتفي آثار النساء الروسيات اللاتي شاركن في الحروب، لم يشغلها كيف نشبت الحرب، بقدر انشغالها بالمشاعر، بتاريخ الإنسان العادي الذي اُنتزع من حياته وأُلقي به في ساحة الحرب، كانت تفتش عن الإنسان في الحرب، عن رائحة الخوف الهائمة في أرض الموت. سجلت سفيتلانا أليكسييفيتش عشرات الشهادات، والمشترك بين أغلبها شعورٌ ظلّ لصيقًا بالجنود في الحرب: كلما جالوا بخاطرهم بعيدًا يطاردهم الحنين إلى الديار، إلى الجلوس مع الأم، يحملوا السلاح وجثث رفقاهم وعقولهم تحلم بالعودة إلى الديار.
في لمحات خاطفة تتكرر أحلام العودة إلى الديار في الفيلم، يسأل “بليك” قائده في بداية الفيلم عن الوعود التي قطعها عن قضاء احتفالات عيد الميلاد في الديار. يتلاشى الوعد ولا يتحقق شيء. وتنتهي الرحلة بعشرات الجرحى. يتمدد الجنود في المستشفى الميداني ويصرخوا في نغمات متتابعة “أريد العودة إلى البيت” “أريد العودة إلى أمي”.
ينتهي الفيلم وقد أنهى “سكوفيلد” المهمة على أكمل وجه، والتقى بشقيق “بليك” وأخبره بوصيته الأخيرة. لم يبقَ للبطل شيء بعد أن انتهت الرحلة. وبين صراخ الجنود وأصداء المعركة البعيدة تمتد الطبيعة على اتساعها في بهاء والشمس تفرد نورها معلنة عن بداية يوم جديد. يجلس “سكوفيلد” تحت شجرة هي الوحيدة هنا في ساحة الحرب الخلفية، يعود لها كما شاهدنا في المشهد الأول، العودة دائمًا إلى الطبيعة التي تحمينا بظلالها وتتحمل خيباتنا وبكائنا السري بعيدًا عن ضجيج الجموع.