
مقدمة:
عند الاشتغال في الفلسفة، وتحديدًا في نظرية المعرفة وما يتفرع عنها، نحتاج إلى أسسٍ سابقة للمنهج، أو لنقل: شيءٌ يُبنى عليه المنهج؛ فلا يمكن أن يكون هناك عملٌ فلسفيٌ بدونها؛ إذ ستكون هذه الأسس حينها واقفةً على أرضية هشة، وهنا تأتي الحاجة إلى منهج تناسقي قوي، ينطلق في برهنته على هذه الأسس كي تكون الفلسفة متناسقة ومتماسكة، خصوصًا عند الاشتغال في القضايا التي تخص نظريات المعرفة، فكل الحقائق التي ما قبل التجربة يمكن برهنتها، سواءً كانت من الجهة التحليلية أو التركيبية، وسبب تعذر البرهنة، هو قصور المعرفة؛ وتطورها، سيؤدي إلى زيادة المعرفة البشرية، واستحداث طرق جديدة للبرهنة، والتثبت من الحقائق الضرورية، كزيادة معرفتنا في الهندسة، وازدياد فهمنا لطبيعة الأشكال الهندسية، كالمثلثات، أو حتى الحدسيات التي لم تبرهن بعد، وبذلك يمكننا برهنة الحقائق وإسنادها لمبدأ عدم التناقض؛ وهنا تأتي حاجة الفلسفة للمنطق، فالمنطق مهم ومن دونه، لا قيمة لأي كلام في المعرفة؛ لأن الكل سوف يتكلم كما يريد بلا أي برهان على صحة كلامه. ولعل هذه الفكرة لها حضور بشكل قوي في الفلسفة المعاصرة، عند فريغه وكارناب وغيرهما؛ ولكن المنهج الذي أريده، هو عن طريق إعادة النظر في طريقة لايبنتز، وهو النظر في منهج البرهنة، وليس المنهج الرياضي نفسه؛ ولكن في آلية البرهنة، لأن البناء المعرفي سوف يكون مستندًا على منهج المنطق الرياضي، بما توصلنا من معرفة طرق البرهنة المنطقية وأساليبها.
برهنة قضايا من نظرية الأعداد -أسس علم الحساب-:
قضية حسابية مثل “2+2=4″، أنا أعلم بأن 2=1+1؛ بذلك تكون 4=2+2 فهي تحصيل حاصل؛ ولكن توجد طرق لبرهنتها، وإرجاعها لأصول منطقية، فلو قلنا أ هي 2، وب هي 2، أ وب، يتحدان مع بعضٍ وينتجان ج وهي 4. أ وب هي أ وب. وعند استبدال واو العطف برمز لدلالة على اتحاد أ وب معًا، وهو (+)، وصيغة الضمير هو/هي إلى (=) التي تدل على النتيجة أو المحصلة من الاتحاد أو الجمع. إذن: أ+ب= أ+ب. وإن كانت النتيجة من أ+ب هي ج، إذن: أ+ب= ج. فالقضية الحسابية صادقة، ويمكن بصورة أخرى أن تكون: 1+1+1+1=4، والعدد 1 مختلف عن بعضه، ولكن لها الدلالة نفسها `1+“1+“`1+““1، إذن: أ+ب+ج+د= أ+ب+ج+د. و: 4 تحمل خصائص العدد 1 كلها المجتمعة مع بعضها بعضًا؛ إذن: أ+ب+ج+د= هـ.
توجد طرق أخرى للبرهنة في نظرية الأعداد، مثل مبرهنة لايبنتز وفريغه، أو ما هو أطول كبديهيات بيانو؛ ولكن هذه الآلية تساعدنا على معرفة حقائق القضايا، من الصادقة أو الكاذبة، ويجب أن تكون هذه الحقائق إما ضرورية الصدق أو ضرورية الكذب أي المتناقضة -التي تسمى بالمستحيلة-؛ فتوضح هذه المنهجية تناسق أسس الفلسفة عند إرجاع أي قضية معرفية لأسس المنطق، لبرهنتها وإثباتها.
أ+ب= ج، يمكن أن يحملها أي عدد عند جمع طرفين، ويعطيك الناتج نفسه. أ+ب= أ+ب، مثل 3+10=3 +10، ج=13 إذن: 3+10=13.
لو قلنا إن “10×س=30 قضية صادقة”؛ فسوف نعلم بأن الناتج مساوٍ لأطرافه؛ لأن عند ضرب 10 في 3 سوف يكون الناتج 30. إذن: س=3 .
ولكن ماذا لو قلنا: “3+10=30″؛ سنرى هنا وجود تناقض؛ لأن المعادلة كاذبة، وليست صادقة. فمعرفتنا لمعنى (+)، هو الجمع بين الأطراف أو اتحادهم، وحصول التناقض عند التعامل معها بصورة الضرب (×)، وهو تكرار العدد بعدد مضروبه ثم جمعهما مع بعض 10+10+10=30، فالقضية الصحيحة هي 3+10=13.
فعند تعريف المفاهيم المستخدمة أو بمعرفة معانيها، نستطيع بذلك أن نحرر القضايا، ولا يخفى أهمية اللغة المستخدمة لبرهنة هذه القضايا.
لدينا قضية “3 عدد فردي”.
نستطيع أن نتحقق منها عن طريق تقسيمها على 2، فعندما يكون الناتج عددًا صحيحًا؛ فسوف يكون العدد الذي قُسِّم على 2 عددًا زوجيًّا، أما عندما يكون الناتج عددًا كسريًّا، فهذا لا يقبل القسمة على 2، فهو العدد الفردي.
مثال: “4 عدد زوجي” 4÷2=2، فالناتج عدد صحيح، إذًا 4 عدد زوجي.
وأما عند تقسيم 3 على 2، فسوف نتثبت من أنها عدد فردي أم لا.
3÷2=1.5، فالناتج عدد كسري، إذًا 3 عدد فردي.
رغم أن القضية صادقة، بعد التثبت منها، ولكن ما زال الأمر يحتاج إلى برهان، وهو البحث عن طريقة لبرهنة الأعداد الفردية كلها.
المبرهنة: إن كان العدد الصحيح ن زوجيًّا؛ فإذًا ن+1 فردي.
الإثبات: إن كان ن زوجيًّا، فمن التعريف ن=2م لأحد الأعداد الصحيحة م.
ن+1=2م+1=(2م+1)
إذن: ن+1 فردية استنادًا على تعريف الفردية (العدد الذي لا يقبل القسمة على اثنين، فيَنَتُج عددٌ كسريٌّ).
أسس قانون الهوية:
أ=ب، إذا وفقط إذا أ يمتلك الخصائص كلها التي تمتلكها ب، وكذلك ب تمتلك الخصائص كلها التي يمتلكها أ. (قانون لايبنتز-تارسكي)*
فلو لدينا قضية قبلية متعلقة بالهُوية، فيمكننا أن نبرهنها من خلال قانون لايبنتز، لنأخذ قضية “الرجل العزب غير متزوج”.
نبرهنها من خلال التعويض من قانون لايبنتز، “أ” إلى “الرجل العزب” و”ب” إلى “غير متزوج”، فتكون المحصلة:
الرجل العزب=غير متزوج، إذا وفقط إذا الرجل العزب يمتلك الخصائص كلها التي يمتلكها غير متزوج، وكذلك غير متزوج يمتلك الخصائص كلها التي يمتلكها الرجل العزب.
إذن: كل رجل عزب هو غير متزوج.
أسس قانون ع:
“مجموع زوايا المثلث الإقليدي 180 درجة”.
بين المثلث الإقليدي ومجموع زواياه 180 درجة، علاقة، وليست مساواة مستندة على الهوية، فهذه العلاقة يستحيل أن تنفك، فكيف نبرهنها؟
“أ ع ب” إذا وفقط إذا أ مرتبطة بخصيصة محددة وهي ب، وكذلك ب هي إحدى خصائص أ . (لنسميه قانون ع)
ومن خلال التعويض من قانون ع، “أ” إلى “المثلث الإقليدي” و”ب” إلى “مجموع زواياه 180 درجة”، فتكون المحصلة:
المثلث الإقليدي ع مجموع زواياه 180 درجة، إذا وفقط إذا المثلث الإقليدي مرتبط بخصيصة محددة وهي مجموع زواياه 180 درجة، وكذلك مجموع زواياه 180 درجة هي إحدى خصائص المثلث الإقليدي.
إذن: مجموع زوايا المثلثات الإقليدية كلها 180 درجة.
ويمكننا أن نطبقها على القضايا القبلية كلها المستندة إلى علاقة تستحيل أن تنفك، أو مستندة إلى خصيصة محددة كما في قانون ع.
قضية “4 عدد زوجي”.
نعوضها من قانون ع، “أ” إلى “4” و”ب” إلى “عدد زوجي”:
4 ع عدد زوجي، إذا وفقط إذا 4 مرتبطة بخصيصة محددة وهي عدد زوجي، وكذلك عدد زوجي هي إحدى خصائص 4.
إذن: أي 4 هي عدد زوجي.
قضايا تجريبية مع الاستعانة بجدول الصدق:
لا يتوقف منهج المنطق الرياضي على ما هو قبلي فقط؛ بل نستطيع أن نستفيد منها في القضايا التي ما بعد التجربة، عن طريق جداول الصدق في حصر احتمالات القضايا البعدية.
جدول الصدق:
(ليس أ وليس ب) أو (أ أو ب) | أ أو ب | ليس أ وليس ب | ليس ب | ليس أ | أ ب |
ص | ص | ك | ك | ك | ص ص |
ص | ص | ك | ص | ك | ص ك |
ص | ص | ك | ك | ص | ك ص |
ص | ك | ص | ص | ص | ك ك |
عن طريق جدول الصدق، فسوف نطبقها على قضية بعدية:
“ابن فضلان رحالة ونقل طقوس الفايكنج”.
تطبيق على جدول الصدق:
قضية | أ ب |
ابن فضلان رحالة ونقل طقوس الفايكنج. | ص ص |
ابن فضلان رحالة ولم ينقل طقوس الفايكنج. | ص ك |
ابن فضلان ليس برحالة ولكنه نقل طقوس الفايكنج. | ك ص |
ابن فضلان ليس برحالة ولم ينقل طقوس الفايكنج. | ك ك |
رغم أن المثال يتعلق بالقضايا الشخصية، وأوصافها المحتملة؛ ولكن نستطيع أن نستخدم الجدول في القضايا جميعها؛ لأنها تحصرها في أربعة احتمالات. أما الإشكالات المتعلقة بالقضايا الشخصية، فهي راجعة لطبيعة المعرفة الوجودية أو الخارجية، أي ما بعد التجربة، فلو ظهر وصف مختلف للقضية الشخصية، أي بعد التحقق التاريخي أو التجريبي لها، فلن يخرجها هذا من أحد الاحتمالات الأربعة؛ لذلك تعود الإشكالات للمعرفة البعدية، لا لجدول الصدق؛ لأنها مستندة إلى أسس المنطق، فعند حصول أ = ¬أ، فهذا مجرد تناقض.
فتكون القضايا منحصرة في أحد الاحتمالات الأربعة؛ فإن تحققت للقضية وكانت (ليس أ)، أي ابن فضلان ليس برحالة، فسوف تنحصر في أحد الاحتمالين وأحدهما صادق، إما (ك ص) أو (ك ك)؛ فمهما كان نوع هذا التحقق سواءً تاريخيًّا أو تجريبيًّا أو غيره؛ فسوف يكون صدقه أو كذبه محصورًا في جدول الصدق.
قضايا لم تبرهن بعد، كالحدسيات:
هي القضايا التي نتوقف في الحكم عليها إذا تعذر حصول البرهنة؛ بسبب قصور معارفنا، إذ يجب أن تكون القضايا الرياضية إما ضرورية الكذب أو ضرورية الصدق، ولا تتم معرفة أيهما إلا بالبرهنة.
قضية “يمكن التعبير عن كل عدد فردي أكبر من 7 بحاصل جمع ثلاثة أعداد أولية”
هذه حدسية جولدباخ الضعيفة، التي يجب أن تكون إما صادقة أو كاذبة؛ ولكن لا نستطيع أن نحكم عليها، إذا تعذر برهنتها؛ لذا إما التسليم الاعتباطي بصدقها أو التوقف، وبعد مدة طويلة، تم التثبت منها، وبرهنتها، وهذا يدل على أن تطور معارفنا يُسهم في فهم طبيعة القضايا الضرورية التركيبية؛ مما يؤدي إلى ظهور طرق وأساليب حديثة للبرهنة، والتثبت من المعارف الضرورية، واستنادًا إلى براهين هارالد هيلفغوت؛ فإن قضية حدسية جولدباخ الضعيفة صادقةٌ.
وماذا عن حدسية جولدباخ القوية؟:
قضية “يمكن التعبير عن كل عدد زوجي صحيح أكبر من 2 بحاصل جمع عددين أولين”.
لم تبرهن بعدُ هذه القضية؛ ولكن استنادًا إلى برهنة الحدسية الضعيفة، وتطور معارفنا، وطرق البرهنة وأساليبها؛ فالراجح أيضًا أنها سوف تُبرهن مستقبلًا؛ ولكن الآن لا يمكننا إلا أن نتوقف عن الحكم عليها بسبب تعذر البرهنة، مع علمنا بأنها يجب أن تكون إما صادقة أو كاذبة.
إشكالات وحلول في الأسس الفلسفية:
تناقض قانون فريغه الخامس:
هذا التناقض من قانون فريغه الخامس، متعلق بالعدد ومصاديقه، وببرهنة أسس علم الحساب؛ والذي سوف يسمى لاحقًا بمفارقة راسل، وله جذور قديمة، كمفارقة الكذاب.
التناقض هو في أن مفهوم العدد سوف يساوي مصداقه الخارجي، عندها يصبح المفهوم هو المصداق، وبذلك سوف يحتوي س نفسه بوصفه مفهومًا، ولن يحتوي نفسه بوصفه مفهومًا؛ بل بوصفه مصداقًا.
يصح أن يكون المصداق خارجيًّا أو ذهنيًّا.
مفهوم العدد 1 ومصداقه الخارجي قطة أو كتاب.
مفهوم العدد 0 مصداقه ذهني، لأنه لا يحتوي على شيء.
لكي نحل تناقض القانون الخامس في المفهوم والمصداق، فيجب أن نجعل بين المفهوم والمصداق علاقة لا مساواة.
مصداق الخارجي قطة ← مفهوم العدد واحد.
إذا كان المصداق الخارجي للقطة هي أنها قطة واحدة؛ إذًا فمفهومها هو العدد واحد؛
لأن للعدد واحد -بوصفه مفهومًا- علاقةً مع مصداقه الخارجي قطة واحدة؛ ولكن في طبيعة المساواة هو حصول الضرورة؛ لأن نقيضها تناقض، فيكون حلها عن طريق العلاقة الضرورية بين المفهوم ومصداقه الخارجي، لأن يستحيل أن يكون مصداقه الخارجي 3 قطط ← مفهوم العدد واحد، فهذا تناقض، لأن مفهوم العدد هو ثلاثة، ومن الممكن أن نستبدل العلاقة المادية (←)، بالرمز (ع)، لجعله أقوى أو نسنده لقانون ع، رغم أن العلاقة أعم من المساواة، وبذلك نزيل التناقض عن القانون الخامس، ولكن تبقى مشكلة أن القانون الخامس مبني على المساواة للمفاهيم الذهنية، فيجب أن نحصر المساواة فقط في المصاديق الذهنية لا الخارجية، أي أن المساواة تكون في المفهوم والمصداق الذهني فقط، فالمصداق الذهني لمفهوم العدد 1 هو معناه، أي الجزء أو الفرد، وكذلك المصداق الذهني لمفهوم العدد 2 هو 1+1.
جتا≠جا إلا عند حصول اشتراك إما في المفهوم أو المصداق.
جتا=جا إذا وفقط إذا كانت مفهوم جتا=مفهوم جا.
وكذلك جتا=جا إذا وفقط إذا كان مصداق جتا الخارجي= مصداق جا الخارجي.
ولكن جتا≠جا؛ لأنه عندما يساوي مفهوم جتا مصداقَ جا الخارجي؛ فسوف يكون جتا كمفهومٍ، ولن يكون كمفهومٍ، فيحصل التناقض.
بذلك نحصر المساواة، جتا=جا في الذهن، أي يساوي مفهوم جتا مصداق جا الذهني، فعندما يساوي مفهوم العدد 2 مصداقه الذهني 1+1، لن يحصل التناقض؛ لأن المفهوم الذهني يساوي مصداقه الذهني فقط، مثل 2=1+1، إذًا س يحتوي نفسه بوصفه مفهومًا ومصداقًا لأن المشترك ذهني.
بهذه الطريقة نتجاوز المشكلة، وينتقل النقاش حول المذهب التصوري، وهي نظرية للوجود.
مفارقات أخرى:
“القضايا كلها كاذبة”؛ فهل القضية السابقة كاذبة أم صادقة؟
إذا كانت القضية كاذبة ومضمون القضية يفيد بأنها كاذبة، فالمفترض أن تكون القضية صادقة، ولكن إذا كانت القضية صادقة؛ فمضمون القضية نفسها تقول إن القضايا كلها كاذبة.
نجد بأن الإشكال لغوي في مفهوم الصدق والكذب، فعند التفريق بينهما نستطيع أن نحرر القضية السابقة، فسوف نفرق بين صادقة1 وصادقة2، وكاذبة1 وكاذبة2،
صادقة1 مختلفة عن صادقة2، رغم أن لهما المعنى نفسه، كما هو الحال مع كاذبة1 وكاذبة2، إذًا “القضايا كلها كاذبة1“. إما أن تكون القضية السابقة صادقة2 أو كاذبة2. فعندما نتحقق من القضية، وأن بالفعل “القضايا كلها كاذبة1“؛ إذًا سوف تكون القضية السابقة صادقة2؛ ولكن عندما نتحقق من القضية بأن “ليست القضايا كلها كاذبة1“؛ إذًا سوف تكون القضية السابقة كاذبة2.
فالتحقق من القضية هو الذي يبين لنا صدقها من كذبها، ويكون التحقق هنا بالرجوع للبرهان أو الدليل، فعندما تكون “بعض القضايا صادقة1“، نعلم بأن “القضايا كلها كاذبة1” قضية كاذبة2؛ ولكن لو ثبت بأن “القضايا كلها كاذبة1“؛ إذًا فالقضية سوف تكون صادقة2.
فلا يحصل التناقض بين كاذبة1 وصادقة2، وكذلك بين كاذبة2 وصادقة1؛ بل يحصل بين كاذبة1 وصادقة1؛ لأنهما نقائض، وأيضًا بين كاذبة2 وصادقة2.
فعندما نستخدم مفهوم الكذب، فمعناها نقيض الصدق، فعندما أقول إن الرجل العزب متزوج، وهذه قضية كاذبة، فمعناها قضية متناقضة، ونقيضها صادقة، الرجل العزب غير متزوج.
“هذه القضية كاذبة” إذا كانت القضية صادقة، فالقضية تقول عن نفسها كاذبة، وهذا تناقض، وإذا كانت القضية تخبر عن نفسها بأنها كاذبة؛ إذًا فهي قضية صادقة، وهذا تناقض أيضًا.
يظهر بأنها مجرد تلاعب بالمفاهيم، “هذه القضية كاذبة1” نتحقق من صدقها أو كذبها، فإذا ثبت بدليل أن “هذه القضية كاذبة1” قضية صادقة2؛ فسوف تكون القضية السابقة صادقة2؛ لأنها أخبرت عن نفسها بأنها بالفعل كاذبة1، فهذا يُكسبها الصدقية، أي أنها صادقة2؛ ولكن إذا ثبت بالدليل “هذه القضية كاذبة1” بأنها قضية كاذبة2؛ فسوف تكون القضية السابقة كاذبة2.
يظهر بأن التحرير يشوبه شيءٌ من الغموض، خصوصًا عند استعمال مفهوم الصدق والكذب نفسه، ولكن لنستخدم مفهوم الخطأ بدلًا من كاذبة2، والصحيحة بدلًا من صادقة2؛ لكي يتضح التحرير أكثر، “هذه القضية كاذبة1“، إذا ثبت بالدليل، بأن القضية السابقة “ليست كاذبة1“؛ فسوف تكون القضية مخطئة، ولكن إذا ثبت بدليل، القضية السابقة “كاذبة1“؛ إذًا فهي قضية صحيحة.
“10+3=13 المعادلة كاذبة”.
رغم أن المعادلة صادقة؛ ولكن القضية تخبر بأن المعادلة كاذبة؛ لذلك تكمن الأهمية في التحقق من القضية نفسها لمعرفة صحتها من كذبها، بغض النظر إذا ذكرت مضمون القضية بأنها كاذبة أو صادقة، أي عندما تستخدم في مضمون قضيتها مفاهيم الصدق والكذب، فعندما أعلم بأن 3+10 تساوي بالفعل 13؛ إذًا سأعلم بأن المعادلة صادقة، والقضية كاذبة؛ لأنها متناقضة. كما لو قالت القضية إن “3+10=13 المعادلة صادقة”، يجب أن أتثبت منها إما بالبرهان أو بدليل؛ لكي أحكم على القضية، فإذا كانت المعادلة 3+10 تساوي بالفعل 13؛ فإذًا فالقضية صادقة.
لنأخذ قضية متعلقة بمبرهنة غودل:
“لا يمكن برهنة هذه القضية”
إذا بُرْهِنت فسوف تكون كاذبة؛ ولكن القضية تقول إننا لا يمكن برهنتها، فيحصل التناقض.
والصحيح، إذا بُرْهِنت القضية السابقة، فسوف تكون القضية السابقة كاذبة؛ لأننا لدينا البرهان لإثبات القضية، وبذلك تكون مبرهنة غودل إما كاذبة أو أنها لا تشمل البرهان أو الإثبات الجديد، فتحتاج مبرهنة غودل إلى التعديل لكي تشمل البرهان الجديد، كما هو الحاصل مع بديهيات بيانو؛ ولكن إذا لم نستطع أن نبرهنها، فهل ستكون الأسس الرياضية غير مكتملة أو أن مُسلماتها غير منطقية كما في نظرية المجموعات؟
سيكون الرهان كما هو الحاصل مع الحدسيات التي لم تبرهن؛ لأنه إذا بُرْهنت لاحقًا، مثل الحدسية الضعيفة، فيمكن أن نُكمل الأسس الرياضية أو نبرهنها كاملة، عند حصول التطور المعرفي، في أساليب وطرق جديدة للبرهنة، كما في ازدياد وعينا وفهمنا لطبيعة الرياضيات أكثر، والمعارف كافة.
لذلك تحتاج أسس الفلسفة إلى منهج متناسق قوي يسهم في علاج هذه الإشكالات والمفارقات، وهنا تأتي الحاجة إلى المنهج المنطقي الرياضي، وآلية البرهنة، والذي يمكن أن يتطور أيضًا مستقبلًا، فيكون أكثر تناسقًا، ويسهم في معالجة المفارقات والإشكالات المطروحة وغيرها من القضايا الفلسفية أو حتى المعرفية.
* قانون (أ=أ) و(أ=ب) يعودان لإثباتات لايبنتز حول الهوية، أما صورة الإثبات المذكور في المقالة، فهي تعود لتارسكي، والتي اشتقها من قانون (أ=أ)، يمكن مراجعة تفاصيل إثباتاته، ونقاشاته حول تطبيقاتها اللغوية والرياضية. انظر:
Alfred Tarski, Introduction to Logic and to the Methodology of Deductive Sciences. Trans: Olaf Helmer (New York: Dover Publications), p 55- 63
أما في الأدبيات المعاصرة، وتحديدًا منطق الموجهات، يوجد نزاع حول الهوية ومقولاتها؛ كالنزاع بين كريبكي وروث ماركوس من جهة، وكواين من جهة أخرى. انظر:
Ruth Barcan Marcus, Modalities: philosophical essays (New York :Oxford University Press, 1993), p.25-35
والراجح في الفلسفة التحليلية المعاصرة، هو مذهب روث باركان ماركوس وكريبكي حول الهوية. عند كريبكي (أ=ب) تعتمد على المطابقة، لأن المساواة (=) التي يستخدمها ضعيفة، وهي أضعف من المساواة، التي عند وايتهيد وراسل، في البرينسيبيا ماثماتيكا. إذًا المساواة، عند كريبكي تدل على الجوهر، أي أنها دالة على ماهية الشيء؛ أيًا كان هذا الشيء.
“الذهب= عدده الذري 79” فالذهب يطابق ماهيته. ولكنها مطابقة ضعيفة، فالقضية السابقة عنده، ضرورية ميتافيزيقيًا. أما قضية: “أرسطو= فيلسوف يوناني”. أو “أرسطو = المعلم الأول”. فهو لا يراها مطابقة لماهيتها، فلا يوجد فيها مساواة أصلًا، لذلك القضية عنده ممكنة ميتافيزيقًا. فالقضايا السابقة تدخل في مباحث “مقولات الهوية” “Identity Statements” القضية الأولى -الذهب- دائمًا صادقة، والثانية -أرسطو- فهي محتملة أو راجحة الصدق؛ إذًا الذهب يساوي ماهيته. أما “المعلم الأول” و “فيلسوف اليوناني” ليستا من هوية أرسطو، فلا تقع المطابقة؛ لأن الماهية من شرط حصول المطابقة؛ كما أنه وضع تفريق للدلالات، في قضية الذهب، سوف تكون عنده الدالة -المعيّن- صارمة، أما في قضية أرسطو، فهي دالة غير صارمة؛ وغيرها من التفاصيل. انظر:
Saul Kripke, Naming and Necessity (Malden: Blackwell Publishing, 1972, 1981), p3-21
أما عندي فالأمر يختلف، أتفق مع كريبكي وروث في مسألة المساواة الضعيفة، ولكن توجد عندي مساواة ثانية، وهي القوية، والتي أسنِدها إلى مبدأ عدم التناقض، كما أن لها تطبيقات في الواقع؛ وتفاصيل أخرى عن الهوية، واخنلافي مع كريبكي، وروث، وديفيد لويس. انظر: منطق الموجهات: دلالات معرفية مشتقة من النظام الخامس – خالد الحسن
(الكاتب)
شكرًا للأستاذة شذى عبد الله على إثارة النقاش حول هذه الجزئية (المُراجع).
المراجع:
-Ayer, A. Logical Positivism. Free Press, 1959
-Tarski, Alfred. Introduction to Logic and to the Methodology of Deductive Sciences. Dover Publications, 1995.
-Frege, Gottlob, and J. Austin. The Foundations of Arithmetic: A Logico-Mathematical Enquiry Into the Concept of Number. Northwestern University Press, 1980.