لنتوقف بدءاً عند كلمة مشاغَبة. مقابلها الفرنسي هنا هو indiscipline وهي نفي لـ disciplineالتي تحيل في أصلها اللاتيني إلى التّربية كما هو معلوم، أي إلى الامتثال والخضوع لقواعد، بما يفترضه الخضوع من انضباط وضبط للنفس، وتحكّم في الأهواء. في مسرحية تارتوف لموليير Tartuffe,III,2 تَرِدُ العبارة : Laurent, serrez ma haire avec ma discipline : أيا لوران، اضغط على قميصي مع لباسي الضيّق.
يحيل لفظ discipline في هذه المسرحية إلى اللباس الضيّق الذي يرمز إلى التّضييق على الجسد والضّغط عليه بهدف كبح الجِماح وضبط الأهواء.
بهذا المعنى، ستغدو L’indiscipline مشاغبةً ترمي إلى التّخفيف من الضغوط، وتسعى إلى التحرّر من القواعد ومراوغتها، بهدف فكّ الحصار الذي يُضرب على الأجساد والأرواح. لا يذهب الأمر هنا حتى التطرّف والتمرّد على القواعد، وإنّما يكتفي بنوع من المراوغة، وما يهمّنا هنا هو المشاغَبة الفكرية التي تقوم ضد صرامة العقل وحدوده أوّلا، ثم ضدّ أشكال «اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة»، ذلك اللافكر الذي «يجعل البلاهة bêtise تحتكر التفكير وتستحوذ عليه» على حدّ تعبير م. كونديرا.
فهل يعني القيام ضد صرامة العقل وحدوده رفضَ المنطق؟ وبلغة ديكارت، هل يتعلق الأمر بعدم اتّباع القواعد التي يُمليها العقل السليم ورفض الخضوع لها؟ هل يتعلق الأمر بعدم اتّباع المنهج؟ أليس في عدم اتّباع المنهج خروجا، ليس عن قواعد بعينها، وإنّما عن حدود المعقول؟ وفي هذه الحال، ألا تؤول الفلسفة بهذا المعنى إلى قوْلِ لا للديكارتية، على غرار ما فعل باشلار وتلامذتُه بمختلف توجّهاتهم، وفي مختلف الميادين التي طرقوها؟
في حوار مع مؤرخ العلوم م. سير M. Serres يثير الفيلسوف الفرنسي مسألة المنهج هذه فيقول:
«صحيح أنه من المهمّ بالنسبة للتّكوين أن نتعلّم ونتذكّر. لكن، كلّما أطلتَ في التّكوين، بقيتَ في إطار المعلومات لا تحيد عنه. أما التّفكير، فيتطلب، على العكس من ذلك، التحرّر منه. كنتَ تُحدِّثني منذ قليل عن المنهج. أنتَ تعلم أن اللفظ “منهج” الفرنسي مشتقّ من اليونانية “ميتودوس” التي تعني “الطريق”. والحال أنك إن تابعت طريقك نحو لاندورْنو، فإنك ستصل إلى لاندورنو. وعلى النّحو نفسه فإن الطريق السيّار أ6 يؤدي دوما إلى طريق باريس الدائري. الأمر نفسه بالنسبة لوصفة الطبخ، إذا تابعت بعناية وصفة الفطيرة تاتان، فإنّك ستصنع فطيرة تاتان. لكن من حقّنا أن نتوقّف لحظة ونتساءل كيف عملت الأختان تاتان كي تبدعا هذه الفطيرة العجيبة. إنهما ارتكبتا خطأً: أوقعتا الفطيرة التي سقطت مقلوبة. أعتقد أنّ التفكير الحقّ يتمّ على هذا النحو: إنّه يتمّ عن طريق الحَيَد عن الطريق والزّيغ عنها، وذلك بفعل الحظّ والصّدفة. فنحن نعثر على ما لم نكن نبحث عنه On trouve ce qu’on ne cherchait pas. التقدّم يتحقّق بفعل الخطأ».
قيل عن الفكر المعاصر إنّه ينفصل عن «فيلسوف البداهة والوضوح» شتى أشكال الانفصال. فهو ينفصل عنه، أوّلا، عندما يؤكد على فكرتي اللامباشرة والانفصال. تتجلى هاته الخاصية أوّل ما تتجلّى في الميدانين العلمي والإبستيمولوجي. العلم الذي نعاصره اليوم مختلف عن علم ديكارت فلسفةً وشكلا ومضمونا، وإبستمولوجيته هي، كما قيل، إبستيمولوجيا لاديكارتية. صحيح أن هذه الإبستيمولوجيا لا تذهب حتى نفي الوضوح، لكنها تجعله غايةً وليس منطلقا. وضوحها وضوح استدلالي وليس حدسيا. إنها تضع الوضوح في التراكيب المعرفية، وليس في تأمّل منعزل لموضوعات مركّبة. وهي تؤمن بالوضوح الإجرائي محلّ الوضوح في ذاته، بالوضوح المبنيّ عوض الوضوح المعطى، وبالحدس النّتيجة بدل الحدس المنطلق.
هذه الروح الاستدلالية، وهذه اللامباشرة تتجاوز اليوم الميدان العلمي لتطال الكائن ذاته. إن كانت هناك خاصية عامّة تميّز الفكر المعاصر فهي، في نظرنا، هاته اللامباشرة. لا أشير هنا فحسب إلى ما أصبح يسمى الطابع الإيديولوجي للأفكار، أو البعد اللاشعوري للحياة البشرية، وإنما بصفة أعمّ، إلى سمة اللف والدوران والتحجّب التي تطبع الفكر المعاصر. فهذا الفكر هو فكر اللامباشرة لأنه يجعل التستّر «صفة» الكائن، واللاانكشاف علامة على الحقيقة (أليتيا هايدغر). الوجود المعاصر وجود متستّر، والفكر المعاصر يضع الكلمات والأشياء في لعبة التستّر وجدلية الظهور والاختفاء. بل إنّه يجعل ما وراء السّتار مجرد نتيجة «ومفعول للوهم الذي يبعثه فينا الستار عندما يمنعنا أن ننظر إليه كستار» على حدّ تعبير نيتشه. فالطبيعة والحقيقة والوجود «امرأة» لا تفصح عن جمالها وطبيعتها وحقيقتها إلا «بالتستر وراء اللّغز وعدم اليقين».
نقطة أساسية تتمخض عن هذه اللامباشرة، وتجعل الفكر المعاصر لاديكارتيا تتلخص في أنّ هذا الفكر لا يقبل، أو لا يكتفي بأن يقبل، بأن تؤول مسألة المعرفة إلى «قضية منهج». معروف أن «أبا المنهجية الحديثة» صاحب المقال والقواعد لتوجيه العقل، قد جعل غايته بناء منهج سليم يجعلنا ندرك الحقيقة في العلوم، ويبعدنا عن كل التأويلات الخرافية، ويمكّننا من أن نكون «سادة على الطبيعة متملكين لها». أوضح الفكر المعاصر أن قضية المنهج هاته ليست بالأولوية التي يعطيه إيّاها ديكارت، وأن مسألة المعرفة ليست مسألة منهجية، وإنما هي قضية أخلاقية سياسية. قضية المعرفة لا تكمن في البحث عن خطاب الحقيقة وتحديد منهج الوصول إليه، وإنّما في تقصّي ما يتولّد عن الخطابات من «مفعولات الحقيقة» Effets، تلك المفعولات التي يعمل مجتمع الفرجة على مسرحتها كي يجعلنا نتشرّب أشكال اللافكر التي نتغذى عليها، فيعمل على تكريسها في أدمغتنا، وترسيخها في تصرفاتنا.
ما أبعدنا إذن عن السياق الديكارتي. إذ إن الأمر لا يتعلق اليوم بتخطِيء البلاهة وحملها على التفكير الصائب. فمسألة البلاهة، وقضية الفلسفة، ليست مسألة صواب وخطأ، كما أنها لم تعد قضية جهل ومعرفة. صحيح أنها تتعلق بـاللافكر الذي يحسب نفسه فكرا، غير أن هذا اللافكر لم يعد هو الخطأ الذي يكفي لمقاومته أن يعبِّد الفكرُ الطريقَ ويضعَ «المنهج»، ويسنَّ «قواعد لتوجيه العقل»، وربما لم يعد أيضا حتى ما وُسِم بالرأي الأيديولوجي والوعي المغلوط الذي يكفي فضحه وتفنيده.
يقتضي هذا الشّكل الجديد لـ«اللافكر» من الفلسفة بلورة فكر-مضاد يحدث شروخا في عالم ينحو نحو التنميط و«التبلّه». إنه يتطلب تعقّب أشكال البلاهة التي تتغلغل في يوميِّنا، ساعيةً لأن تُقنعنا بأنها فكر وكل الفكر، فتجعلنا نحيا طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها، «تجعلنا أكثر محافظة من كل المحافظين».
لا محيد للفكر، والحالة هذه، من أن يلجأ إلى المراوغة، واللفّ والدوران، بله إلى المشاغبة، أو حتى تخطي المعايير، فلا عجب أن تغدو المعيارية la normalité هي الإقامة في حدود المعايير à la frontière des normes . لا يعني ذلك تطرّفا، فليست الإقامة في حدود المعايير هي الغلوّ، وإنما هي، على حدّ قول ميشيل هار، «تخطّي الحدود. وعندما يُتَخطّى كل معيار، فإثباتا للذات كمقياس خاص، وحيد، فريد من نوعه».
مفهوم التخطّي هذا يقع على طرفي نقيض مع ما يمكن أن ننعته بالثقافة التقليدية. لذلك، فعندما كتب بليز باسكال في خواطره: «الخروج عن الوسط خروج عن الإنسانية»، فإنه كان يُجمل محدّدات معيار المعقولية في الثقافة التقليدية بكاملها. نلمس ذلك بوضوح عند الثقافة الإغريقية، فالإغريق، كما يشير ألبير كامو «احتموا بفكرة الحدود واقتصروا عليها، فلم يذهبوا بعيدا لا بالسرّ ولا بالعقل».
نظر الإغريق إلى العقل أساسا على أنه قدرة على الحدّ، ورسم الخطوط التي عندها يبتدئ الغلوّ والمبالغة وتجاوز الحدود، والسقوط فيما كانوا يدعونه الهيبريس hubris. نقرأ عند أفلاطون: «عندما تنحو بنا رغبةٌ نحو الملذات بكيفية لامعقولة وتتحكم فينا، فهذا التحكّم، هو ما يُطلَق عليه لفظ هيبريس». لقد كان الإغريق يرْمون بكل ما «يتخطى المقاييس» Démesure ضمن الأهواء والغواية والخروج عن حدود المعقول. على هذا النحو كان الرواقيون يعرّفون الأهواء على أنّها دوافع «تتخطّى المقاييس»، دوافع لامعقولة alogos تعاكس طبيعة الأمور. وهذه هي الدوافع التي ميّزت بطل الملحمة والتراجيديا الإغريقيتين.
على عكس هذا الموقف «التقليدي»، فإنّ ما يطبع الثقافة الحديثة هو هجومها على العقل كحدود، ذلك الهجوم الذي يجمله كل من هوركايمر وآدورنو في «جدل العقل» حيث ينعتان العقل بكونه «أكثر توتاليتارية من أيّ منظومة أخرى. فعنده يتحدّد كلّ شيء منذ البدء: وبذلك فهو كذّاب». لعل ذلك ما جعل حنة آرندت تبدي تخوفا من خطورة غياب المقاييس في عالمنا الحديث، وهي ترى أن هيبريس العالم الحديث يرجع بالضبط إلى تطبيق مفهوم الصيرورة على جميع الفعاليات البشرية. وهذا الأمر له، في نظرها، دلالة أنثولوجية وليس تاريخية فحسب، «لأن العصر الحديث يضع مكان مفهوم الوجود مفهوم الصيرورة». إذا كان ما يميّز الكائن L’être هو التئام أطرافه وقوامه وثبات حدوده، فإن ما يميّز ما يصير Le devenir هو التخلّي عن كل معيار خارج سريان انسيابه. هذه الصيرورة المتدفّقة هي ما يعنيه جيل دولوز بمفهوم Déterritorialisation، ما يُنقل إلى اللغة العربية بـ«حركة اللاتوطّن» التي يعرّفها دولوز بأنها «صيرورة خالصة لا تخضع لمعيار، صيرورة حمقاء لا تعرف التوقّف».
ولكن، قبل المضيّ في استخلاص نتائج التّسليم بهذه الصيرورة المتدفّقة، لنعد من جديد إلى ما دعوناه ثقافة تقليدية، وبالضبط إلى يونان، فربما لا ينبغي أن نرى عندهم وجها واحدا ووحيدا يرفض كل شكل من أشكال تجاوز الحدود. ولنتساءل: ألم يمجّد بعضهم هذه الصيرورة التي تتحدث عنها آرندت؟ ألم يتّخذ التمرّد على المعايير في بعض الأحيان عندهم، وكما تدلّ على ذلك أسطورة بروميتيوس، رغبة في تحقيق إنسانية الإنسان، ومن ثمة إبرازَ قيمةٍ ايجابية لنوع من «تخطي المقاييس»؟
ربما يتعيّن علينا في هذا الصّدد أن نعيد النظر في المقابلة التقليدية التي تقام فيما يخصّ الثقافة الإغريقية بين أبولون وديونيزوس، بين الميتريون والهيبريس. لقد نُظر إلى هذه المقابلة، في أغلب الأحيان، على أنها مقابلة تضادّ بين مراعاة المقاييس من جهة، وبين تخطّيها من جهة أخرى، اعتباراً بأن أبولون يجسّد النظام والمعيار والعقل، وأن ديونيزوس يوضَع جهة الانتشاء وتخطّي المقاييس، فماذا لو كانا يتساكنان جنبا إلى جنب؟
هذه هي قراءة نيتشه لهذا التقابل التقليدي، فقد كتب: «تعبّر كلمة ديونيزوسي عن الحاجة إلى التوحيد بين طرفين، والرغبة في تجاوز الذات لنفسها، الرغبة في تجاوز تفاهات الحياة اليومية وما يطبع المجتمع والواقع من ابتذال، محاولةً لتجاوز هوة العابر الزائل. إنّها تعبّر عن ميل نفس مولعة فيّاضة نحو أحوال شعور أكثر تمازجا وامتلاء وخفّة، وهي كذلك رضا وجداني يمكّن الحياة من أن تظلّ هي نفسها وراء كل تقلباتها، في درجة القوة والنّشوة نفسها. الديونيزوسي هو أيضا تحالف الفرحة والألم الذي يقول نعم حتى لأكثر ما يبعث من خصائص الحياة على الرّعب والخيبة، وهو الإرادة الدّائمة للنّشأة والخصوبة والعود، إنه الشّعور بالوحدة التي تجمع فيما بين ضرورة الخلق والإبداع، وضرورة التّقويض والإفْناء».
الديونوزيسية هي «ما يجعل القدرات الرمزية للإنسان تبلغ حدّتها». لو أردنا أن نعبّر عن موقف نيتشه هذا بلغة عصرنا لقلنا إن نيتشه يرى في الديونوزيسية، ليس ما يقابل الأبولونية، وإنما ما يفكّك الثنائي ديونيزوس/أبولون».
لا يلجأ ألبير كامو إلى المقابلة بين هذين الإلهين الإغريقيين، كما يفعل نيتشه، وإنما يوظّف الثنائي mesure/démesure الذي يُتَرجَم عنده بأنحاء مختلفة: وسط الظهيرة/وسط الليل، الوجه/القفا، المنفى/المملكة. بينما يقتصر الثنائي discipline /indiscipline على المعنى الأخلاقي-السياسي، يذهب الثنائي metrion /hubris حتى المستوى الأنطلوجي. على هذا الأساس، يمكننا أن نستنتج: ليست المقابلة قائمة أساسا بين الانضباط وبين المشاغبة، وإنما بين مراعاة المعايير من جهة، وبين تخطّيها من جهة أخرى. ذلك أن «تخطّي المقاييس» هو السبيل إلى الارتقاء نحو معرفة تتولّد عن الغلوّ، حيث «نعثر على ما لم نكن نبحث عنه»، شأن ما يتمّ في الإبداع الفنيّ، وربّما في كلّ إبداع واكتشاف، حيث تمكّن تجربة الحدود من ولوج عالم الخلق والابتكار.
لا بدّ للفلسفة إذن، وهي تسعى لأن تقف في وجه البلاهة، من أن تصدر عن تخطٍّ أصليّ للمعايير، فوحده القيام في حدود المعيارية à la frontière des normes من شأنه أن يحرّر العقل، ويفتح الفكر على آفاق مغايرة، ويولّد الأطر التي لا تفتأ تفجّرها رغبة جامحة جديدة … «تخطّي المقاييس» هو السبيل إلى التحرّر من البلاهة، والقيام ضد اللافكر، والتمرُّد على المعايير المبتذلة نُشدانا لمقياس خاص: ولعل ذلك هو ما كان نداءَ صاحب كتاب «الإنسان المتمرد» عندما كتب:«ينبغي لتخطّي المقاييس أن يُبدع مقياسه الخاص».