تمهيد[1]
لا ريب أن مشروع «التراث والتجديد»، لحسن حنفي (1935-2021)، هو أحد أهم مشروعات الفكر العربي المعاصر؛ فحتى حين نختلف مع أيديولوجيا صاحب المشروع، فنحن نتفق على الجهد الهائل المبذول فيه، وكونه من أشمل مشروعات القراءة المَسْحية للتراث العربي-الإسلامي، إن لم يكن أشملها، وكونه مشتملاً على عدد من أهم آليات القراءة والتأويل والنقد، كما أنه كان مؤثرًا على شريحة عريضة من التلاميذ والقرّاء في العالم الإسلامي إيجابًا أو سلبًا؛ فحتى نقده هو أحد الدلائل على أهميته. وقد صيغ المشروع ببنيته الأساسية، واستراتيجيته، ومنهجيته إبان الحرب الباردة وتداعياتها في الشرق الأوسط، وبالذات إبان المشروع القومي الاشتراكي في مصر، ثم بعد هزيمته بعد انتكاسة 1967. لذلك فهو ابن بيئته ولحظته التاريخية، ومن الصعب فهمه بمعزل عن الظرف التاريخي الذي أنجبه.
وقد انعكس كل ذلك على الخصائص المميزة له: فهو أولاً مشروع واقعي؛ فلا ينفصل فيه الفكر عن الواقع، وليس مشروعًا للاستجابة لأزمات نظرية، أو منهجية، أو مفهومية صرفة. وهو ثانيًا: مشروع وليس مذهبًا أو منهجًا؛ فهو لا يقدم رؤية نظرية أو منهجية أصيلة، بل قراءة شاملة نفعية للتراث العربي-الإسلامي الفلسفي والديني، توظف لخدمتها عددًا من المناهج والمفاهيم. وهو ثالثًا: مشروع مَسْحي؛ أي كونه يقدم لنا دراسات مسحية غزيرة المادة بهدف الإلمام شبه الكامل بأنساق علمية كاملة، كأنساق علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، والتصوف الإسلامي، والعلوم النقلية، والفلسفة الإسلامية، فلا يدور جزء أساسي من المشروع حول مفكر معين، أو مذهب بعينه. وهو رابعًا: مشروع فعل ورد فعل؛ فهو يتأثر بالأطروحات السائدة وتمثلاتها في المجتمع، ويحاول أن يؤثر فيها، كما يتبدى من نقد صاحبه لمناهج المستشرقين، ومناهج المسلمين، و«مقدمة في علم الاستغراب»، الذي هو رد فعل كذلك على سيادة التصورات الاستشراقية عن الفلسفة العربية. وهو خامسًا: يقدم استراتيجية قراءة التراث كطريق وحيد ممكن لإحداث أثر فعال في الفكر والواقع المحليين، وذلك يستبعد أطروحتين: أطروحة استيراد الأفكار، وأطروحة إبداع أفكار أصيلة، لن يستفيد منها القراء المسكونون أصلاً بالتراث القديم.
وهو مشروع من مشروعات «الفكر العربي المعاصر»؛ ولذلك ينطبق عليه ما انطبق على الفكر العربي المعاصر عمومًا من خصائص. وأولى تلك الخصائص: كونه مشروعًا للتأثير في الواقع، وليس لاكتشاف حقيقة في الوجود أو المعرفة أو القيم. وثاني تلك الخصائص: كونه متأثرًا سلبًا أو إيجابًا بالفلسفة الغربية، فهو رد فعل بشكل أو بآخر على المركزية الغربية. وثالث تلك الخصائص: كونه متفاعلًا مع التراث المحلي؛ فكل مشروعات الفكر العربي المعاصر كانت متفاعلة -على اختلاف اتجاهاتها واستراتيجياتها- مع تراثها المحلي، الذي لم يزل مستمرًا في الواقع.
ولأن صاحب المشروع لم يكترث كثيرًا بالتنظير، ووجد أن التفاعل الحي مع التراث، ومع الواقع، أجدى في مرحلته التاريخية، فقد ظل كثيرٌ من مفاهيمه، ونظرياته، ومنهجياته، واستراتيجياته، حاضرًا فقط كتطبيق، أو كتنظير جزئي، وبالتالي يتطلب التوقف عنده بنظرة نقدية، لا تضع الاختلاف الأيديولوجي حاجزًا بين فهم وفهم، أو بين الموضوع ونقده. إن الاستفادة الأكثر فاعلية من أي مشروع أو مذهب تبدأ بالضرورة من محاولة فهمه بشكل هو أقرب ما يمكن للموضوعية. وقد تعرض مشروع التراث والتجديد بالفعل إلى الكثير من الرفض الأيديولوجي من الجانبين العلماني والإسلامي طيلة عقود. والنقد المنطلق من موقع أيديولوجي سابق التجهيز متوقع المضمون، ومتوقع الاتجاه، ولن يكون في أحسن حالاته سوى مونولوج، نخاطب فيه أنفسنا، دون القدرة على تبديل رأي الطرف الآخر؛ فما دُمْنا لم نقدم قيمة الفهم أولاً، فلن يمكن لنا في هذه الحال فهم منطلقات صاحب ذلك الرأي، ولا نقدها بالتالي. ومن أهم أسباب النقد غير العقلاني للمشروع وصاحبه هو التعقيد الأصلي في المشروع، وترامي أطرافه، ما أدى تلقائيًا إلى إساءة الفهم.
أولاً: كيف فهم حسن حنفي التراث؟
قبل أن نتعرض لمفهوم حنفي عن التراث يجب علينا أولاً، عرض المفاهيم المختلفة عنه. وللتراث عدة مفاهيم؛ فهو قد يكون كل ما هو ماضٍ في شتى فروع العلم والفكر والفن والدين، كما قد يكون تراثًا جزئيًا، حين نقول مثلاً: تراث الفلسفة الإسلامية، أو تراث الإشراقيين في الفلسفة الإسلامية. وقد يتضمن حكم قيمة سلبيًا أو إيجابيًا؛ في مقابل الجديد، أو المعاصر. ولكنه عند حنفي يحمل معنًى خاصًا؛ فهو الماضي المستمر في الحاضر. وهي رؤية ظاهراتية لمعنى التراث. إن مقارنة حنفي بهيدجر في هذا المفهوم كاشفة بذاتها عن اتفاق بين الظاهراتيين، وقد كان كل منهما ظاهراتيًا. وبينما ابتغى هيدجر إعادة بناء تراثه الغربي في الأنطولوجيا في «الكينونة والزمان»، تحت عنوان «مهمة تفكيك تاريخ الأنطولوجيا» «Die Aufgabe einer Destruktion der Geschichte der Ontologie»،[2] فقد استهدف حنفي إعادة بناء تراثه العربي والإسلامي. وفي هذا السياق، سياق ظاهريات هيدجر، يرى الأخير أن التاريخ لا يعترف بالماضي المنقطِع، بل بالماضي المستمر في الحاضر.[3] في المقابل يقول حنفي: «[التراث هو] كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذن، قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطًى حاضرٍ على عدة مستويات».[4]
التراث إذن، في نظر حنفي ليس أنساقًا من النظريات، ولا هو لحظة تاريخية ماضية معزولة، ولا هو تراث جزئي لتيار أو مذهب، كما هو ليس سُلطة بما هو حقيقة. التراث عند حنفي هو المستمر في حضارة ما من الماضي إلى الحاضر عن طريق أثره النفسي بالدرجة الأولى.[5] يرى حنفي أن العامل الأساسي في استمرار التراث في حضارة من الحضارات إنما هو العامل النفسي، وليس العامل المعرفي الصرف، وليس العامل الاجتماعي. يعني هذا أن سيادة عناصر معينة في التراث العربي-الإسلامي لم تتحقق بسبب مدى قربها من الحقيقة بالألف واللام، أو اتساقها المنطقي الداخلي، أو اتساقها التجريبي أو الإمبريقي الخارجي. وقد يكون هذا بالنسبة لبعض القرّاء بدهيًا؛ فليس لمجموع الناس في أي مجتمع القدر الكافي من التخصص للحكم على عناصر التراث من النواحي المنهجية والمضمونية. ولكن استبعاد النوع الثاني من العوامل، العامل الاجتماعي، هو ما قد يكون مدهشًا حين يصدر عن مفكر عنونَ الواجهة السياسية لمشروعه باليسار الإسلامي؛ فمن أقوى مسلمات مذاهب اليسار الحديثة والمعاصرة قوة أثر العوامل الاجتماعية في تشكيل الظواهر المعرفية والقيمية. ولكن حنفي لا يجد في الواقع المعيش أن عوامل اجتماعية معينة هي التي تسببت في سيادة عناصر التراث السائد. ما وجده حنفي في واقعه هو العامل النفسي في المقام الأول؛ فالناس -في نظره- تأثرت باتجاهات دينية معينة في العقيدة والشريعة مثلاً؛ بسبب تأثرهم النفسي بها كسُلطة لا يمكن نقدها. وربما كان هذا أول وجه من أوجه النقد، التي سنضمنها في متن المقالة منعًا للتكرار. إن تعريف حنفي للتراث نفسه بما هو سُلطة قادمة من الماضي لتصوغ الحاضر بناء على قوتها النفسية يتعارض مع مقدمات حنفي اليسارية نفسها من جهة أولَى. ومن جهة ثانية فقد نتفق مع حنفي في قوة العامل النفسي، وفي حضوره المعاصر، وقد نختلف في نوع العوامل الاجتماعية المؤثرة على علاقتنا بالتراث، ولكن لا يمكن بسهولة أبدًا أن ننفي أثر العامل الاجتماعي أو ألا نقيم له أهميةً تذكر في تعريفنا للتراث، وفي تعاطينا معه. إن تبني دولة المأمون مثلاً للفكر الاعتزالي كان له كبير الأثر في سيادة هذا الفكر في القرن الثالث الهجري. وإن انقلاب المتوكل على هذا الفكر كان له أكبر الأثر في انتشار المذهب الأشعري واستمراره لفترة طويلة. ولكل من هذا التبني، وذلك الانقلاب، أنفسهما عوامل اجتماعية أدت إلى انتخاب الاعتزال مرّة، ثم استبعاده بعد ذلك مرّات. بالإضافة إلى ذلك ربما لا يكون العامل النفسي بالقوة نفسها في كل فروع العلوم، وشتى جوانب الحضارة؛ فقد يكون مهمًا مثلاً في مجال كالتصوف الإسلامي، الذي يتضمن بعدًا نفسيًا من أبعاده الأساسية، والذي يعتمد على نوع من القبول النفسي أولاً عند صاحبه، وينشغل بحالات نفسية تمثل جانبًا مهمًا من بنيانه الأساسي؛ كالمقامات والأحوال. ولكن العامل النفسي ليس بالأهمية نفسها في مجال مختلف كعلم أصول الفقه، الذي ينشغل أساسًا بمنهجية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وأثرها على الوقائع.
لكن الجانب الاجتماعي ليس مغيبًا بالكامل عند حنفي بطبيعة الحال. فبينما العامل النفسي في رأيه هو العامل الأهم، أو الوحيد، في سيادة التراث في الحاضر، فإن مجال التغيير الحقيقي هو مجال المجتمع عند صاحب المشروع. وبالمثل فالعامل المعرفي ليس مغيبًا بالكامل في مشروع التراث والتجديد. وفي الواقع فإن هذا النوع الأخير من العوامل ربما يكون الأهم من ناحية مدى الإضافة المعرفية-الفلسفية عند حسن حنفي. كما ذكرنا آنفًا لم يكترث حنفي خصوصًا بالتنظير، وهذا واضح من مسار مشروعه، والذي سنتطرق إلى أهم محطاته بعد قليل. وبالرغم من ذلك فقد وضع حنفي في مؤلفاته الأولى، في رسالته الأساسية للدكتوراة بالسربون 1966، والتي نشرها مترجمة ومنقحة -بعنوان «من النص إلى الواقع»، بين عاميّ 2003 و 2004، باللغة العربية بالقاهرة- ما يشبه نظريةً للشعور الإسلامي، ثم جدد عنوانها ليصير «نظرية الوعي الثلاثي».
ثانيًا: نظرية الوعي الثلاثي Triple Consciousness Theory
يقول حنفي: «[…] بنية العلم الثلاثية حاضرة في كشف البنية وفي حجبها على حد سواء. وهي التي تم تأويلها على أنها أبعاد الشعور الثلاثة: الشعور التاريخي (الأدلة الأربعة)، والشعور النظري (مباحث الألفاظ)، والشعور العملي (المقاصد والأحكام)».[6]
يعتقد حنفي أن وعي المسلمين على اختلافاتهم تجمعه نظرية واحدة، هي التفاعل بين ثلاثة أنواع من الوعي، كثلاثة فصوص في ثمرة واحدة. أول هذه الأنواع هو المتعلق بالتاريخ. إن وعي المسلمين كمسلمين لا ينفك عن ارتباطه بتاريخهم المبكر. إن المدرسة الروائية مثلاً في مدارس تفسير القرآن هي الممثل الأوضح لهذا الوعي في مجال التفسير. فبينما اعتمدت المدرسة اللسانية كالزمخشري وأبي حيان الأندلسي مثلاً على المنهجية اللسانية في التعامل مع النص القرآني، اعتمدت مدرسة الرواية كالطبري مثلاً، أو أهل الحديث بتعبير قديم آخر، على الرواية عن الرسول (ص)، والصحابة، والتابعين، وتابعيهم، من أجل فهم معاني القرآن. وكذلك مثل علم الحديث مصدرًا للروايات، التي اعتمدت عليها التفاسير الروائية. كما مثل مصدرًا من أهم مصادر أصول الفقه، فهو المصدر الثاني بعد الكتاب عند المسلمين في تسلسل المصادر الأربعة المعتمدة في المذاهب الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وبالتالي مثل مصدرًا في الفقه نفسه. هذا الشكل من الوعي بالتاريخ يطلق عليه حنفي «الوعي التاريخي».[7]
ولكن التفسير، وأصول الفقه، لم ينحصرا في الاعتماد على المصدر التاريخي للمعرفة، بل كذلك تضمن كل منهما جانبًا نظريًا، يتعلق بكيفية فهم تلك المصادر التاريخية، أو ربما نقدها. فمثلاً ظهر اتجاه أهل الرأي في التفسير، ومما يندرج فيه المدرسة اللسانية في تفسير القرآن، والمدرسة الرمزية، والمدرسة الموضوعاتية الحديثة (انظر، «التفسير الموضوعي»، لحنفي في الفقرات التالية). كما ظهرت أبواب القياس والاستنباط والسبر والتقسيم في أصول الفقه. وهذا النوع الثاني من الوعي يسميه حنفي «الوعي النظري».[8]، ويعني الوعي النظري في نظرية الشعور الثلاثي فهم النصوص بالدرجة الأولى؛ فهو إذن، لا يقصد الوعي النظري بالطبيعة، أو الإنسانيات مثلاً. إن ما ميز الوعي النظري عند المسلمين هو توجّه أنظارهم إلى النصوص أولاً، في مقابل ذلك توجّه الوعي النظري عند الإغريق والرومان مثلاً، نحو الطبيعة والمجتمع. ولذلك كان سؤال المسلمين الأول: مَن خلق العالم؟ في الدلالة على الذات الإلهية، بينما كان سؤال الإغريق: ممَ جاء العالم؟ في الدلالة على المادة الأولى.
ولكن هذا الوعي النظري لم يستهدف عند المسلمين مجرد المعرفة؛ فلم يكن سؤال المسلم عن الخالق، وعن النصوص المقدسة لمجرد العلم بالشيء. كان هذا الوعي يستهدف، وبالدرجة الأولى، العمل بالعلم. ومن هنا ظهر علم مسهب لدى المسلمين في الفقه، وكذلك علم منهجي يتأسس عليه الفقه هو أصول الفقه. وإذا قارنا المسلمين من هذه الزاوية بالغربيين لوجدنا فارقًا أساسيًا؛ فالمسيحية لم تتضمن علمًا للفقه وأصول الفقه. تضمنت المسيحية بطبيعة الحال أوامر ونواهٍ خُلُقية، وتضمنت المراسيم الكنسية، لكنها لم تُنتج لنا علمًا نظريًا متبلورًا كالفقه وأصوله. وهذا يراه حنفي فارقًا بنيويًا بين الإسلام والمسيحية؛ فبينما لم يكن الجانب التطبيقي التنفيذي جوهريًا عند المسيحيين، فهو جانب مركزي عند المسلمين. وهذا الجانب يطلق عليه حنفي «الوعي العملي».[9]
ولكن تشريح نظرية الوعي الثلاثي إلى مركباتها الثلاثة لا يفي بكل مضمونها؛ فما أراده حنفي أن الوعي الإسلامي يتكون من التفاعل بين المركبات الثلاثة، وأن أيًا منها لا يعمل على حال الانفراد. إن علم أصول الفقه هو في الحقيقة أهم نتاج للتفاعل الشامل بين المركبات الثلاثة لنظرية الوعي الثلاثي. بينما يمكن حصر التفسير مثلاً في التفاعل بين الوعيين التاريخي (الرواية)، والنظري (اللغة)، فإن أصول الفقه تشتمل على النصوص، وطرق التحقق منها، وتسلسلها، أي الوعي التاريخي، وكذلك على آليات فهم هذه النصوص والاستنباط منها، أي الوعي النظري، وكيفية إجراء المستنبط منها على الوقائع، والمقاصد منها، والأحكام الناتجة عنها وضعًا، وتكليفًا، وهو الوعي العملي. وكان هذا هو السبب تحديدًا في انتقاء حنفي لعلم أصول الفقه ليكون موضوعًا للدكتوراة الأساسية، وموضوع نشرتين فرنسية وإنجليزية. ولم يتمتع أي علم إسلامي آخر مما عالجه حنفي بالاهتمام نفسه، وبنشرتين بلغتين مختلفتين. وهذا التراكُب بين الأدلة، والاستدلال، والمقاصد، والأحكام، ليصنع علمًا إسلاميًا متبلورًا، أي علم أصول الفقه، هو المثال الأوضح على التمفصل بين مركبات الوعي الثلاثي في إطار هذه النظرية.
وبرغم مدى وجاهة الفكرة لأول وهلة حين نطبقها على علم أصول الفقه، فهي لا تنطبق بالقدر نفسه على علوم إسلامية أساسية أخرى. علم الحديث مثلاً لا يكاد يتضمن سوى الوعي التاريخي باصطلاحات حنفي. وعلم التفسير يكاد ينحصر في الوعي التاريخي، والوعي النظري. وعلم أصول الدين لا يكاد يتضمن سوى الوعي النظري؛ فصحيح أنه يقوم أساسًا على تفسير معين للنصوص الأساسية في الإسلام، ولكن تفسير تلك النصوص، والمصادر التاريخية لها، إنما يقع على عاتق علم التفسير، وعلم الحديث، وعلوم القرآن. بالإضافة إلى ذلك لم يحدد حنفي المقصود بالضبط بالوعي التاريخي استبقاءً واستبعادًا؛ فالوعي التاريخي ليس نوعًا واحدًا. وفي الفلسفة حين نقول «الوعي التاريخي»، دون تحديد، فإن أول معانيه المحتملة هو الوعي بالتطور التاريخي للظاهرة. وفي مجال الفلسفة الاجتماعية فإن الوعي التاريخي هو الوعي بالتطور التاريخي-الاجتماعي، أي مع مراعاة العوامل المادية، للظاهرة. فهل قصد حنفي هذه المعاني جميعًا، أم إلى أحدها أو بعضها؟ كما لم يفسر حنفي لماذا لم ينظِّر المسلمون هذا المفهوم قديمًا، مفهوم الوعي التاريخي، ولا لماذا لم ينظّروا الوعي النظري والوعي العملي. وسوى ذلك: لا تحضر جميع أشكال الوعي الثلاثة في المدارس والمذاهب الإسلامية في العلم الإسلامي الواحد بالقدر نفسه من الحضور. مثلاً يحضر الوعي التاريخي بقوة أكبر عند الروائيين من المفسرين مقارنةً باللسانيين. تعد الرواية هي المصدر الأول والأساسي للتفسير عند المدرسة الروائية في تفسير القرآن، في حين لا يكاد البعد التاريخي يحضر لدى المفسرين اللسانيين سوى في نصوص الأدب العربي القديم استدلالاً على التداول اللغوي عند العرب. فهل يمكن القول إن أبعاد هذا الوعي الثلاثة نسبية؛ تختلف من مدرسة لأخرى، ومن مذهب لآخر في العلم الواحد؟ وهو سؤال لم يتطرق له حنفي بالرغم من أنه قد يحتّم عليه النظرَ في نظريته الموصوفة.
ولكن حنفي لم يكتفِ بطبيعة الحال بمرحلة التنظير، والتي توقف عندها مفكر آخر من أصحاب القراءات المسيحية للتراث كمحمد عابد الجابري. إن الجابري مفكر يحاول فهم كيف تكون العقل العربي، وما بنيته الأساسية، حتى يمكن التعامل معه عمليًا بعد ذلك، لكنه لا يقدم بنفسه هذا التعامل العملي. وهذا هو الفارق البنيوي الأساسي بين حنفي والجابري؛ فقد خصص حنفي في المقابل غالبية مؤلفاته كأعمال تطبيقية، بينما انحصرت أعمال الجابري التطبيقية تقريبًا في علوم القرآن: «مدخل إلى القرآن الكريم»،[10] وتفسير القرآن: «فهم القرآن الحكيم».[11]
ثالثًا: أعمال حنفي الأساسية بحسب نظرية الوعي الثلاثي
يمكن تعديد أعمال حنفي الغزيرة بالترتيب الزمني لصدورها، أو بحسب مدى أهميتها. ولكن المعيار الأوفق هنا هو ما يتصل اتصالاً مباشرًا بنظريته الأساسية؛ فهو مفكر استراتيجي، ولا بد أن تتصل خطواته في اتجاه واحد لتؤتي ثمارها. إن سلسلة ضخمة من المقالات والدراسات مثل «موسوعة الدين والثورة في مصر»، أو «قضايا معاصرة: في فكرنا العربي المعاصر»، أو «دراسات فلسفية»، أو «دراسات إسلامية»، أو «حوار الأجيال»، لا تهمنا هنا سوى في بعض الأفكار المتفرقة فيها، والتي تتصل بمنهجية حنفي أو استراتيجيته.[12] وهي لا تعتبَر بالضرورة نتيجة لنظرية الوعي الثلاثي. وكان يمكن أن يختلف مشروعه، دون أن تختلف تلك الدراسات بشكل جوهري. كما أن تلك الدراسات لا تتصل في شكل نظري متكامل، وإنما هي دراسات متفرقة تم تجميعها فيما بعد.
يمكن حصر مؤلفات حنفي الأساسية بحسب نظريته الأساسية المذكورة في سبعة، تغطي فروع: علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، والتصوف الإسلامي، والعلوم النقلية وأهمها التفسير والسيرة وعلم الحديث، والفلسفة الإسلامية، والتراث الفلسفي الغربي، وتفسيره الخاص للقرآن. وكما نرى فقد شملت هذه المؤلفات أهم العلوم الإسلامية. ولكننا نرى أيضًا أنها لم تشمل كل العقل الإسلامي؛ فإن علوم البلاغة، والأدب المقارن، واللغة، والتاريخ، والعمران، والطبيعيات تمثل جانبًا مهمًا من العقلية الإسلامية، ومن التراث الإسلامي، ليس لأنها جزء منه، بل لأنها دخلت في تفاعل مؤثر مع العلوم الإسلامية الأساسية. لا يمكن مثلاً فهم التفسير اللساني للقرآن من دون مراجعة نظرية النظم، ومفهوم الحقيقة والمجاز في البلاغة، والشعر الجاهلي، وشعر صدر الإسلام، والنقد الأدبي عند العرب. كما لا يمكن دراسة التفسير الروائي دون دراسة مناهج التأريخ عند المسلمين. ولكن على أية حال فإن أداء هذه المهمة، مهمة دراسة العقلية الإسلامية أو التراث الإسلامي، بدرجة شاملة، فضلاً عن الجانب التطبيقي، الذي دعاه حنفي بالتجديد، لا يكاد يحيط به مفكر واحد ناشط على عدة جبهات.
وقد قسم حنفي نفسه مؤلفاته الأساسية في العلوم المذكورة لتغطي ثلاث جبهات: التراث الإسلامي القديم، التراث الغربي، وأخيرًا المنهاج أو تفسير القرآن، آخر مؤلفاته الأساسية. وتغطي جبهة التراث القديم كلاً من المؤلفات التالية: أولًا «من العقيدة إلى الثورة»، وهو دراسة حنفي المطولة الشاملة في مذاهب علم الكلام عند المسلمين. وكما هو واضح من عنوانها، فهي تختص بإعادة توجيه مركز التفكير عند علماء الكلام من الذات الإلهية، وصفاتها، وأفعالها، إلى المجال الإنساني، أي أن يتحول علم الكلام إلى علم ذي جانب اجتماعي. وكان هذا المؤلف هو السبب الأساسي في اتهام حنفي بالترويج لاتجاهات ثورية-إسلامية. ثانيًا: «من النص إلى الواقع- محاولة في إعادة بناء علم أصول الفقه». وهو المجال الأساسي كما سبق بيانه، الذي تتمثل فيه نظرية الوعي الثلاثي على وجهها الأكمل. وهو، مثل المؤلف السابق، يغطي جميع مذاهب أصول الفقه تقريبًا، ولكنه مع ذلك يهمل، ربما بسبب ندرة المصادر في مذاهب معينة قبل عصر التحول الرقمي، أصول الفقه الصوفي، ومؤسسه الأهم لم يكن ابن عربي برسالته في أصول الفقه الظاهري، ولا السهروردي في «التنقيحات»، اللذين اشتمل عليهما فعلاً «من النص إلى الواقع»، بل كان الحكيم الترمذي (ت 295-320 هـ)، في «إثبات العلل»، الذي غاب عن المؤلف. كما تجاهل المؤلف أصول فقه الإباضية، ولم يركز على «تقويم الأدلة»، لأبي زيد الدبُوسي (ت 430 هـ)، على ما له من أهمية في تأصيل فقه المعتزلة رغم توجهه العقدي الماتريدي. لكن أهم ما يغيب تقريبًا عن هذا المصنف هو قضية حقوق الإنسان، على ما لها من أهمية نظرية واجتماعية في الفترة المعاصرة، وعلى ما لها من ارتباط أساسي بعلم أصول الفقه.[13] ثالثًا: «من الفناء إلى البقاء- محاولة في إعادة بناء علوم التصوف». يرى حنفي أن التصوف الإسلامي لم يكن سوى مهرب من المواجهة الاجتماعية، وأنه اتجاه سلبي إزاء المجتمع، ينزع إلى الخلاص الفردي. وهنا طبق حنفي منهج التأويل الاجتماعي للظواهر من حيث النشأة والتطور، وذلك دون تنظير كافٍ، أو اعتماد واضح لهذا المنهج. مثلاً يرى هنري كوربان وألفرد سميث وغيرهما من الباحثين الظاهراتيين أن التصوف حاجة إنسانية، لا اجتماعية. ذلك بمعنى أن التصوف كامن في الطبيعة الإنسانية نفسها بقطع النظر عن الظرف الاجتماعي. ورأى ولتر تيرنس ستيس في دراساته الإمبريقية عن التصوف أن الخبرة الصوفية خبرة خُلُقية بالدرجة الأولى، قبل أن تكون دينية، وأساسها في رأيه هو الذات المتجاوِزة لذاتها Trans-subjectivity، أي الذات الإيثارية. ولم يقدم حنفي تفنيدًا لمثل تلك الآراء، رغم أن الرأي الأول صادر عن المدرسة الظاهراتية نفسها. في هذه الموسوعة عن التصوف الإسلامي يحاول حنفي تحويل مركز الشعور الصوفي من الفناء في الذات الإلهية، إلى البقاء في الذات الإنسانية. وكان هذا سببًا في استبعاد كثير من الصوفية له؛ فهو ينقض أساس اعتقادهم، وممارساتهم ضمنيًا. رابعًا: «من النقل إلى العقل»، وهو محاولة حنفي لإعادة بناء العلوم النقلية الخمسة عند المسلمين: الحديث، والتفسير، والسيرة، وعلوم القرآن، والفقه. وبرغم تضمنه للتفسير فقد كان التفسير يستحق من حنفي موسوعة خاصة به؛ فهو مجال نشاط المنهج الظاهراتي بشكل أساسي، كما كان ذلك سيكون ربما مقدمة نظرية لتفسيره، كما وضع عابد الجابري مقدمة نظرية قبل تفسيره الخاص، هي «مدخل إلى القرآن الكريم»، الذي سبقت الإشارة إليه. وخامسًا: «من النقل إلى الإبداع»، وفيه حاول حنفي إثبات أن العقلية العربية قادرة على الإبداع، ولم تكن -كما يرى كثير من المستشرقين- ترجمة لأرسطو وأفلوطين. وكانت هذه في الواقع نقطة التقائه بعابد الجابري، الذي أكّد على الحقيقة نفسها، ثم افترقا في شتى الجوانب بعدها. يرى حنفي، وكذلك الجابري، أن العقلية العربية تميزت بهضم القديم، أي التراث اليوناني، واللاتيني، والفارسي، والهندي، وأنها قدمت الجديد بعد هذا الهضم، في مادة جديدة ليست غربية قديمة سابقة في التاريخ، وليست شرقية قديمة مجاوِرة في الجغرافيا. ومن أهم جوانب نقده ظاهرة انتحال النصوص الفلسفية؛ فبعض النصوص الفلسفية العربية كتبها بعض العرب، ثم نسبوها إلى أرسطو أو أفلاطون أو غيرهما؛ أملاً في الترويج للكتاب، أو الترويج لأفكاره. يرى حنفي أن هذا الفعل فعل إبداعي بالدرجة الأولى، ولكنه إبداع غير صريح. وهو الذي أدى إلى افتراقه في هذه النقطة عن المستشرقين وتلامذتهم من العرب، الذين رأوا في الانتحال تزييفًا لا أكثر، وعدم أمانة علمية.
وتأتي بعد ذلك جبهة التراث الغربي، وأهم ما فيها «مقدمة في علم الاستغراب»، المقسم -بحسب رؤيته لمسار تطور الفلسفة الغربية- إلى: مصادر الوعي الأوروبي، بداية الوعي الأوروبي، ونهاية الوعي الأوروبي. وربما كان أكثر مؤلفات حنفي إثارةً للجدل من جانب الأكاديميين الغربيين هو هذا المصنف؛ فهو يتوجه بإعادة البناء إلى الاستشراق، أو «من الاستشراق إلى الاستغراب»، بتعبيره[14]– وبالنقد الحادّ أحيانًا، إلى الفلسفة الغربية، ورؤيته لها أنها انتهت فعلاً بالظاهريات. ومن أهم الظواهر اللافتة للانتباه فيه أنه يضع المصدر اليهودي-المسيحي على قدم المساواة مع المصدر اليوناني-الروماني كمصدرين للوعي الأوروبي عمومًا. اعتقد حنفي أن التراث الديني في الغرب لم ينقطع في التاريخ بعد عصر النهضة، وأن عصر النهضة لم يمثل قطيعة معرفية جذرية مع الدين. ويعلن حنفي أن الهدف من علم الاستغراب ليس رفض التراث الغربي، بل «تحجيمه»، في مساحته الواقعية؛ فهو ليس التراث الإنساني بالألف واللام، بل هو تراث الغرب في مرحلة معينة، وظروف تاريخية معينة.[15]
وقد توجه النقد إلى هذا المشروع من جهتين أساسيتين: أولاً: قوله بعدم وجود قطيعة جذرية مع التراث الديني في الغرب؛ فهذا ينفي أطروحة الغرب الحديث والمعاصر بإحداث قطيعة معرفية «متفردة»، في تاريخ الفكر. وهو زعم هائل يتطلب دراسة نقدية هائلة، وجهدًا هائلاً، لم يقدمه هذا المصنف بالتفصيل. أما جهة النقد الثانية: فهي القول الضمني بأن الحضارة الغربية حضارة دينية في الأساس إيجابًا في الاتجاهات الدينية، وسلبًا في الاتجاهات العلمانية، فهو زعم خطير آخَر. هل كانت الفلسفة الوضعية مثلاً رد فعل على المسيحية تحديدًا، أم على الدين عمومًا؟ وهل كانت مجرد رد فعل على الدين، أم كانت رؤية علموية للعالَم؟ (العلموية هي الفلسفة التي تزعم أن كل الظواهر بما فيها الظواهر الإنسانية والاجتماعية، قابلة لتطبيق المنهج التجريبي عليها). لكن النقد الموجه لعلم الاستغراب ككل هنا: ألم يتجاوز الغرب نفسه الاستشراقَ في سياق ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، وتأكيده على الاعتراف بالتنوع الثقافي؟ بعض المستشرقين اليوم، مثل أنكا فون كوجلجن، التي ترى أن الاستشراق «انتهى»، لا تستعمل أصلاً تعبير الاستشراق، وإنما تقتصر على تعبير «دراسة مجال معين في ثقافة معينة من خلال منهج معين».[16]
وربما كان السؤال الأوجه، والأكثر ارتباطًا بمنهج حنفي الظاهراتي: ألم تتجاوز الظاهرات فعلاً الاستشراقَ التقليديَّ كما نجد مثلاً في أعمال هنري كوربان، وألفرد سميث، وآن-مارش شيمّل، وهم الذين أكّدوا على أن الأفكار يجب أن تُدرَس بحسب تصور معتقديها عنها، لا تصورنا نحن عنها وعنهم؟ وهي أطروحة تهدم أساس المنهج التاريخي في معالجة الظواهر المعرفية الإسلامية.
أما الجبهة الثالثة والأخيرة فهي جبهة «نظرية التفسير»، أو «المنهاج»، كما دعاها صاحبها، والتي يرى حنفي أنها إبداع خالص، لا يحيل فيها المؤلف إلى تراث إسلامي، أو غربي، في الهوامش. وهي تتضمن تفسيره للقرآن: «التفسير الموضوعي»، الصادر بالقاهرة في 2018. وهو من أواخر مؤلفات حنفي، وختام مشروعه. وقد طبق فيه حنفي المنهج الظاهراتي إلى الحد الأكبر من الشمول والوضوح. يعتمد التفسير الموضوعي لحنفي على استنباط معنى النصّ من الخبرة الشعورية الحية معه، لا بحسب الروايات، أو اللسانيات، أو الرموز الباطنية. وقد طبق فيه إجرائية تحليل المضمون الكمّي، أي رصد عدد مرات ورود اللفظ في النص، كالجسم، والدم، والعظام، والجلد،.. إلخ، ليخرج بتصور مركب عن الجسد في القرآن، وهكذا. وهو بذلك أقرب إلى معجم ألفاظ مفهرس ظاهراتي للقرآن. ومشكلة هذه المنهجية المركبة أنها لا تخرج بالمفاهيم المركزية، وما تفرع عنها، ثم ما تفرع عن الفروع، في النص، فهي تدرس كل الظواهر القرآنية على مستوى أفقي واحد دون تفريع شجري. كما لا يحدد حنفي أهمية هذه المنهجية، ووجاهتها في مقابل المنهجيات الأخرى المعاصرة، التي لا يقوم بتفنيدها لفتح مساحة لحركته الخاصة. ويختفي في هذه المنهجية البعد الاجتماعي إلى حد ملحوظ. صحيح أننا نجد فيها استمرارًا لخيط غرس الجانب الاجتماعي في العلوم الإسلامية، كما ظهر جليًا في محاولتيه لإعادة بناء علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، لكنه استمرار واهٍ، ولا يشكل لب التفسير. ومن أوجه النقد كذلك العنوان؛ فهل هو تفسير موضوعي أم موضوعاتي؟ إن مفهوم «الموضوعي» objective يقابله مفهوم «الذاتي» subjective، وهذا ما لم يقصد إليه صاحب المصنف قط. أما الأدق فهو «الموضوعاتي» thematic، والذي يختلف عن «الموضوعي»؛ فهو ليس مقابلاً للذاتي، بل هو ذلك التفسير، الذي يعنَى باستخراج موضوعات القرآن الأساسية: الألوهة، الغيبيات، الجسد، الروح، البعث، التشريع،.. إلخ. وهو التفسير، الذي يمكن أن نعتبر محمد عبده (ت 1905 م)، مؤسسه الرئيس، والذي ساد في القرن العشرين، ومطلع الحادي والعشرين.[17]
وهذا المعنى الأخير هو ما يتضح لدينا في هذا المصنف. وربما كان السؤال الأهم، والأكثر جذرية: أين «علم أصول التفسير»، في جبهة «نظرية التفسير»؟ ألم يكن الأجدر بحنفي أن يضع أسسًا لهذا العلم، الذي نفتقر إليه حتى اليوم كعلم إسلامي متبلور، حين نبحث في منهجيات التفسير عند المسلمين، وهو يعنون هذه الجبهة بالـ «نظرية»؟ وقد اتبع حنفي في كل هذه المؤلفات الأساسية استراتيجيةً معلنة، ومؤصَّلةً في مفهومه عن التراث بشكل أساسي. كما اتبع أيضًا استراتيجية غير معلنة، ربما كانت أهم، وأكثر تأثيرًا، وهي التي سنتناولها من منظور نقدي.
رابعًا: الاستراتيجية: الجانب النقدي من المشروع
كثُرَ ما كُتب حول الجوانب اللا نقدية في مشروع حسن حنفي، وقد أسهب الكاتب كذلك في استقصاء تلك الجوانب في أبحاث ماضية. ولكن ربما كان الأكثر إفادة في هذه المرحلة –مرحلة ختام مشروع التراث والتجديد بوفاة صاحبه- أن نتعرض للجوانب النقدية من المشروع؛ فهي التي يمكن للباحثين التاليين الاستفادة منها، حتى مع وجود اختلافات أيديولوجية. يمكن أن نختلف أيديولوجيًا مع حنفي، ويمكن أن نرفض استراتيجية إعادة بناء العلوم الإسلامية باعتبارها تعيد بناء نماذج تاريخية، وفلسفية، وهمية، ولكننا غالبًا سنتفق في أن حنفي قد أودعَ في كتبه الغزيرة آليات مفيدة للتأويل، وقدرة متميزة على إدراك التناقضات في التراث، وعرضها في مساحات ضيقة وخطرة. ما سيبقى إذن من حنفي كما أرى هو جانبه النقدي، والتقني. والسبب ربما أن مشروع التراث والتجديد -كما سبق وقدمنا- قد صيغَ أثناء فترة الاستقطاب الحاد في الحرب الباردة، ولم تعد له تلك الفاعلية، التي استمدها أصلاً من ذلك الانقسام الأيديولوجي كما سنرى.
وربما كان الأجدى أن نتعرض أولاً للاستراتيجية العامة عند حنفي في إعادة بناء العلوم الإسلامية، تمهيدًا لفهم دورها النقدي. وقد أعلن حنفي نفسه عن جانب من هذه الاستراتيجية: منطق التغير اللغوي، مستوى التحليل الشعوري، تغيير البيئة الثقافية. ونحيل القارئَ هنا إلى »التراث والتجديد« لحنفي؛ فهو أوفى بطبيعة الحال لأفكاره. ولكنها قمة جبل الجليد؛ فالاستراتيجية غير المعلنة عند حنفي هي الأكثر فاعلية، بل هي التي تحدد مجال فاعلية ما هو معلن منها. ويمكن أن نختصر الاستراتيجية غير المعلنة في العناصر التالية: أولاً: استراتيجية رد الفعل، أو ما يمكن تسميته بالـ »معالجة الذاتية للتراث والموضوعية للمتلقي«. إن حنفي يعتمد في كتابته على توقع رد فعل القارئ، لا إقناعه. وفي الوقت نفسه فهو يرى أن التراث مجموعة من المساحات النصية الفارغة، التي يمكن للمفكر أن يقوم بتأويلها إلى ما لا نهاية، وهي معالجة ذاتية بحتة، ترى أن المعنى ملكية خاصة للقارئ. يتم التعامل هنا مع القارئ كموضوع، كمجال تأثير، لا كشريك معرفي. ثانيًا: استراتيجية الثالث الأيديولوجي؛ فحنفي يقاوم اليمين، الذي يعرف كيف يقاوم حنفي الإسلاميين، ويقاوم الإسلاميين التقليديين، وهم يعلمون كيف يقاوم هو اليمين. وهنا يتكئ المفكر على اللعب على التناقضات بين أيديولوجيتين متضادتين. وهي مغامرة أدت إلى استبعاده كثيرًا من مجالس الإسلاميين، واليساريين معًا. وثالثًا: تحويل الأنساق إلى نصوص؛ فحنفي يتعامل مع أصول الدين وأصول الفقه والتصوف لا كأنساق معرفية، لها أصول وفروع، بل كأنساق نصية، ويطبق عليها الهرمنيوطيقا الظاهراتية لإعادة فهمها. ولهذا يمكن القول بلا مبالغة إن محاولة حنفي للقراءة المسحية للتراث هي أكبر محاولة هرمنيوطيقية في مجالها في الفكر العربي المعاصر. ورابعًا: التفكيك التزامُني: فحسن حنفي لا يفرق بين الأصل والفرع، لا يركز جهوده على استبصار الأصول، ونقدها، بل يصب جهده التفكيكي بشكل متساوٍ على كل من الأصول والفروع دون اهتمام بالتتابع بينها. وقد اختلف في هذا عن تلميذه نصر أبو زيد مثلاً، الذي اعتمدت منهجيته على نقد الأصل بالدرجة الأولى، وإن كان على درجة أقل كثيرًا من الأصالة.[18] وخامسًا: اللغة التفكيكية: يمكن القول إن حنفي قد ابتكر لغة للكتابة الفلسفية، تتميز بالاعتماد الأساسي على الجمل الاسمية دون الفعلية، لإبراز الموضوع، ولمحو العنصر الدرامي، ولاتخاذ جانب الوصف قدر الإمكان. وهي لغة تعتمد على حشد المتناقضات، وتكثيف العبارات، وترك العبارة الأخيرة للمؤلف، بحيث يأتي رأي الكاتب بعد إدراك تلك التناقضات. وهي لغة تفكيكية بالدرجة الأولى بسبب رصدها للتناقضات في المادة الأصلية. وسادسًا: هيئة الصفحة؛ فحنفي حين يكتب يضع في تصوره شكل الصفحة النهائي في الكتاب؛ بحيث يتوازن فيها الهامش مع المتن في المساحة تقريبًا، وهذا من أجل بيان طبيعة جهد الكاتب مع التراث، فهو يكتب من خلاله، لا بَعده، ولا فوقه. وسابعًا: تقويس المصادر التاريخية للعلوم الدينية؛ فحنفي لا يهتم في بحثه في أصول الفقه وأصول الدين والتصوف والتفسير بمدى الدقة التاريخية للنصوص؛ فهي فاعلة، وكفَى. وبالتالي، نظرًا لفاعليتها في المجتمع، فهي مجال فاعلية المفكر الأساسية. وهي خطوة منهجية معروفة في الظاهريات، سبقه إليها مارتن هيدجر في «ظاهريات الحياة الدينية» Phänomenologie des religiösen Lebens؛ حين أفاد أن النقد التاريخي لنصوص رسائل بولس لا معنى له في إطار هذه المنهجية، التي تركز على كيف نفهم النص، لا إلى أي حد صدَقَ ناقلُه.
هذه التقنيات النقدية الخمس الأخيرة: تحويل الأنساق إلى نصوص، والتفكيك التزامني، واللغة التفكيكية، وهيئة الصفحة، وتقويس المصادر التاريخية للعلوم الدينية، هي التي يمكن أن يستفيد منها الباحثون الجدد برغم التباين الأيديولوجي، والاستراتيجي. ولكن ذلك لا ينفصل عن الجهد النقدي الكبير الذي بذله حنفي في نقد مناهج المستشرقين، فإذا كان إدوارد سعيد قد ركز جهده على نقد استراتيجية الاستشراق، فإن حنفي قد ركز على نقد منهجيته. والتركيز على المنهجية أجدى في هذه الحالة؛ لأن الاستراتيجية في كل الحالات خطة عملية، قد تتغير بتغير الظرف، أما المنهجية فهي معبرة عن طريقة تفكير. وربما كان أقوى ما وجهه حنفي من نقد للاستشراق هو ما سبقه إليه مستشرقون ظاهراتيون من عينة هنري كوربان، وألفرد سميث، وهو نقد دراسة المستشرقين للظواهر المعرفية والاجتماعية في الشرق من منظور مادي-آلي يميز المنهج التاريخي، الذي يقوم على السببية بين حدثينِ، وبالتالي فهو منهج ميكانيكي -في رأيهم- لا يصلح للظواهر الإنسانية. وينضاف إلى هذا نقده كذلك لمناهج المسلمين من الانتقاء، والتقريظ، والدفاع، والتكرار، والحدوس الفلسفية قصيرة المدى. ومما يمكن الاستفادة به كذلك من أعمال حنفي الجرأة التأويلية، وتطبيق المنهج الظاهراتي على النصوص العلمية، وعلى القرآن نفسه في «التفسير الموضوعي» مثلاً، إضافةً إلى النقد الذاتي؛ فحتى البيان لتأسيس مشروع «التراث والتجديد» لا يخلو منه، ولا يكاد يخلو منه صراحةً أو ضمنًا أي من أجزاء المشروع. وهذا الموقف يطرح علينا جميعًا سؤالاً: ماذا سيبقى منّا؟ وهل سنترك خلفنا أدوات نقدية فعّالة يستفيد بها من يأتي بعدنا برغم التباينات الأيديولوجية؟
[1] كريم الصياد، مدرس بقسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، مصر.
[2] Heidegger, Martin, Sein und Zeit, Max Niemeyer Verlag Tübingen, 19. Auflage, 2006, S. 19.
[3] Heidegger, Martin, Ontologie, Hermeneutik der Faktizität, die Gesamtausgabe, Band 63, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 1988, S. 52-53.
[4] حنفي، حسن: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط5، 2002م، ص 13.
[5] السابق، ص 14-15.
[6] -حنفي، حسن: من النص إلى الواقع، ج1 تكوين النص، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2004-2005، ص 210.
[7] حنفي، حسن: من النص إلى الواقع، ج2 بنية النص، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، 2004، ص 99-246.
[8] السابق، ص 247-482.
[9] السابق، ص 483-590.
[10] الجابري، محمد عابد: مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2006.
[11] الجابري، محمد عابد: فهم القرآن الحكيم أو التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، دار النشر المغربية، ط1، 2008.
[12] قد يكون من أهمها دراسته: “قراءة النص”، دراسات فلسفية، مكتبة الأنجلو-مصرية، القاهرة، 1987، ص 523-549. وفيها نقده للمنهج التاريخي في دراسة النص الديني في الغرب.
[13] قدم الكاتب محاولته في مناقشة هذه القضية، وتحديد موقف أصول الفقه منها في: نظرية الحق، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، 2015.
[14] حنفي، حسن: مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، القاهرة، ط1، 1991، ص 29.
[15] السابق، ص5.
[16] Vgl. z. B. Kügelgen, Anke von (Hg.), Wissenschaft, Philosophie und Religion, Religionskritische Positionen um 1900, Klaus Schwarz Verlag, 1. Auflage, 2017.
[17] Siehe: Elsaiad, Karim, Ontologie der Koranauslegung. Eine phänomenologische Annäherung an die islamischen exegetischen Methoden, Universität zu Köln, 2018. urn:nbn:de:hbz:38-84314.
[18] -راجع في هذا مقالنا “نصر أبو زيد مشروع لن يكتمل”، في: كريم الصياد: مرايا الأنا ونافذة الآخر- دراسات في الفكر العربي المعاصر، دار نيو بوك للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020.