كيف ساعدني ماركوس أوريليوس في مقاومة حزني وترميم حياتي
جايمي لومباردي - ترجمة: بشاير عبد الرحمن

«في طفولتي ومراهقتي، أنقذتني الكُتب من اليأس، وأدركتُ حينها أنّ الثقافة هي أعلى القيم»
_ المرأة المُحطمة، 1967 سيمون دي بوفوار
ثمّة اعتقادٌ خاطئ شائع مفاده أن مَن يروم أن يكون رواقيًّا عليه أن يصطبغ بصبغة من الصلابةِ والحزم؛ فيكبح عواطفه ولا يُظهِرها. إلا أنّ ما ينفي صحّة هذا التأويل الرواقي هو أنّ عواطفنا لا يجب أنْ تُوارى، إذ إنّ مشاعرنا وحتى أكثرها إيلامًا ليست عدوًا علينا كبحه، بل قد تكون أكثر ما يُعيننا. لعلّ قولي هذا يبدو تُرهاتٍ يتفوّه بها مَن لم يُجرّب المعاناة الحقّة. لكن الحقّ أنني اهتديتُ إلى طريقي نحو الرواقية في فترةٍ حالكة من أسوأ فترات حياتي، ومن خلال الرواقية توصلتُ إلى مُستقرٍ من الرضا والطمأنينة لم أكن أؤمن بوجوده على سطح هذه الأرض.
أُصيب زوجي في عام 2013 بمرضٍ غامض. كان من الصعب التيقن بكونه مُصابًا بمرض ما، فلم تظهر عليه أيّة أعراضٍ واضحة يُمكننا تحديدها، لقد كان فقط هزيلًا ومُشتتَ الذهن ويذوي من التعب. استغرق الأمر شهرين حتى تم تشخيصه بمرض الوهن العضلي الوبيل: وهو اضطرابٌ غير شائع في المناعة الذاتية يُصيب عادةً النساء قبل الأربعين والرجال بعد الستين -والذي بطبيعة الحال لم يكن منهم-، كانت كُل المُسببات ضئيلة وقيل لنا بأنّه سيخف بوتيرة تدريجية وطبيعية خلال خمسٍ إلى عشرِ سنوات قادمة.
فيما بعد، تبيّن أنّ هذا التكهن غير دقيق أيضًا، كما كان التكهن بتطور هذا المرض في المقام الأول. قبل يومين من عيد الشكر، بدأت قدرته الجسديّة بالتداعي. ها هو أمامي، الرجل الذي لطالما ساندني، لم يعد يقوى على رفعِ رأسه من على الوسادة. اتصلتُ بالطوارئ رغم اعتراضاته ونُقِل إلى المستشفى حيثُ انتهى به المطاف في وحدةِ العناية المُركزّة، واستمرّت حالته بالتدهور.
مَطلعَ عيد الشكر، دخلتُ بينما كُنّ الممرضات يشرعنّ في نقله وتبديل شراشف السرير. ستظلّ تلكَ اللحظة عالقة في ذاكرتي ما حييت، الرجُل الذي أحببته، والد الطفلين ذوي الخمسة أعوام والعام الواحد، اللذين ينتظراني في البيت، رحل بسببِ قُصور في الجهاز التنفسي. كُنت أقف بجانبه أثناء محاولات إسعافه بأنابيب التنفّس، حين بدأ جسده يتحوّل إلى اللون الأرجواني كما الباذنجان. ما يُقارب الشهر وهو يقاوم بالعيش تحت الأجهزة والأنابيب التي حلّت محل وظائفه الجسدية. كان يستفيق لأوقاتٍ قليلة يسيطرُ فيها الخوف، لكنّ أكثر اللحظات المرعبة كانت حين هممتُ بالتوقيع -رغم اعتراضه- على الموافقة لإجراء عملية ثقب القصبة الهوائية، حيثُ أخبروني بخطورة استمراره على هذه الحال.
ثبتَ فيما بعد أنّ عملية الثقب تلك هي ما أودت بحياته. بعد أن تخطّى المرحلة الحرِجة وعاد للوقوف مجددًا وخرج ليقضي مع أطفاله عيد الميلاد والذي كان الأخير له، اختنق أثناء نومه بإفرازات ما بعد العملية والتي سَدت مجرى التنّفس، في الوقت الذي كُنّا فيه نُخطط لبناء حياة جديدة.
عقب الجنازة استيقظتُ بإرادة وعزمٍ على النهوض من حُزني ويُخالط شعوري آثار زاناكس دواء القلق، والفودكا. استغليت أول أوقات فراغي، وتوجّهت لما أسميته طوال حياتي مكاني السعيد، مكتبة مابل سميث دوغلاس في جامعة روتجرز نيو برونزويك. وكُنت قد أقنعت نفسي بأنني سأصل للطمأنينة التي أسعى إليها ما إن أقرأ كتاب فايدو لأفلاطون وأؤمن بفكرة خلود الروح. لن أقول بأن فكرتي نجحت، لكن سأظلّ مُمتنة لأمينة المكتبة التي تَفهّمت دموعي حينَ لم أجد الكتاب حيثُ يُفترض أن يكون ثمّ دلّتني إلى الأرفف التي نُقِل إليها، إلا أنّ ما التقطته من الرفّ كان كتاب «التأملات» لماركوس أوريليوس، ومُنذ تلكَ اللحظة بدأت رحلتي في التغيير.
بدَا للوهلةٍ الأولى أنّ صفحات الكتاب لا تُقدّم سوى حِكمًا بسيطة ليست ما أحتاجه، إلا أنّ هُتاف المعركة الذي أيقظني كان وصية من أوريليوس القائلة «اسعَ لتكون الشخص الذي تُحاول الفلسفة أن تجعلكَ إياه». لا أبالغ إن قلت إنني وجدتُ في دروس أوريليوس ما أنقذني حين كاد اليأس أن يغمرني. شاء القدر أن أجد نفسي أرملة تُعيل طفلين ولم أشعر أني مُهيأة بعد لقطع رحلةِ حياة الرُشد هذه وحدي، إلّا أنّ وصايا أوريليوس كانت ترسو على أساس مفاده «لا تُرهق نفسك بما تتخيله، افعل المُستطاع الذي بين يديكَ الآن وحسب». كان يُرهقني القلق وأنا أفكّر في مستقبلِ أطفالي، تخرّجهم من المدرسة، مراحل بلوغهم، تكاليف الدّعامات، ناهيكَ عن الجامعة. فكان الكتاب كتذكير لي بأنني الآن هُنا في الحاضر وليسَ عليّ سوى التفكير في ذلك.
نبّهني أوريليوس بأنّه لا جدوى من انتزاع نفسي من الزمن الحالي، إذ إنّ الزمان مُهم بقدرِ المكان. يصعُب القول إنني بسهولة وجدت خلاصي من التفكير المُفرِط والهلع، لكنّي ما فتأت أُذكّر نفسي بما قرأته «لا تُشقي نفسك بالقلق من المستقبل، فلن يُصيبك إلا ما أنت مؤهل لمواجهته مثلما عقلك اليوم مُسلّحٌ بما يعينك على حاضرك». لقد تعلّمت استثمار ما أملكه اليوم للتعامل مع الحاضر بدلًا من استهلكاه في الهلع والتنبؤ بمستقبلٍ مجهول.
أتذكّر المقطع الذي خلّف فرقًا وظللتُ لسنوات أعود إليه، في كل ذكرى وفاة أو حدثٍ يُغرقني في المعاناة، لقد كانَ تذكيرًا بأنّ رؤيتنا السرديّة للأقدار التي تُصيبنا عائدة إلينا، فمهما حدث فالخيارُ في أيدينا باعتبارهِ هزيمة نسقط بها أو نصرًا عظيمًا ضد الظروف القاهرة. حتى لو كان هذا النصر مُجرّد تعلّمنا قدرة النهوض مُجددًا واستعادة التوازن. لا أقول إنّ وفاة زوجي في عمرِ الثالثة والثلاثين ليسَت مصيبة، ولا يُمكنني أن أعتبر فكرة عيش طفليّ دون والدهما أمرًا هيّنًا، إلا أننا كافحنا للاستمرار والتماس السلوى وهذا ما أستطيع اعتباره كنزًا ونعمة عظيمة.
إنّ جميع الناس عُرضة لفقدان الأحبة كما قال أوريليوس، لكن لا يتخطى الجميع الأمر دونَ معاناة. نأسى، ونتعذّب كلما أدركنا ما فقدناه، لكن الشيء الذي نكسبه هو فكرة أنّ «الخير في كُل ما يصيبنا نصنعه نحن». نحنُ نتشبث ببعضنا بعضًا لإدراكنا بأن الحياة عابرة وأن كل اللحظات السعيدة التي نحظى بها هي نِعم علينا تقديرها. ولعلّ أهم ما نتعلمه، هو أننا في حين لا نملكُ أدنى سيطرة على حتمية تحطّم السفينة، فنحنُ نملك خيارَ ما نُعيد بناءه وترميمه من الحُطام.