لم يعد الخطاب التخيلي العلمي في الموسم السابع من بلاك ميرور مقتصرًا على تصوير العلاقة الإشكالية بين الإنسان والآلة، بل تجاوز ذلك إلى تشريح البنى العميقة للوعي الإنساني في ظل هيمنة المنظومات الرقمية. لهذا، ومن وجهة نظري كمتابع جيد لكل المواسم، يمثل هذا الموسم منعطفًا وجوديًا في مسار المسلسل، حيث ينتقل من سرد مخاطر التكنولوجيا على الحياة الخارجية إلى الولوج في أعماق الذات الإنسانية عبر تقنيات تعديل الذاكرة. وهذا الانزياح من الخارجي إلى الداخلي، من المادي إلى الوجودي، يحمل بداخله أسئلة لافتة حول ماهية الإنسان في العصر الرقمي.
وإذا كانت المواسم السابقة قد عكست مخاوفنا من سطوة التكنولوجيا، فإن هذا الموسم يطرح قضايا أكثر تعقيدًا، حول كيف يمكن لهذه التكنولوجيا أن تتحكم في حياتنا من الداخل، وتعيد تشكيل معاني ما نعتبره حقيقة: ماذا يعني أن نتذكر شيئًا؟ هل يمكننا الثقة في ذاكرتنا الشخصية عندما تصبح قابلة للتعديل والتحكم؟ هل نحن حقًا من نحدد هويتنا، أم أن الآلات يمكنها أن تفرض علينا هويات أخرى؟ كيف يمكن للهوية أن تظل متماسكة عندما تصبح ذاكرتنا مجرد ملف رقمي قابل للتعديل؟ وما قيمة الحقيقة عندما يمكن إعادة كتابة الماضي بضغطة زر؟ غير أن ما يميز بلاك ميرور في هذا الموسم أنه لا يطرح هذه الأسئلة بصيغة صريحة، بل عبر تجارب مريرة ومواقف قاسية لها سياقها الإنساني المؤثر.
في حلقة Common People، وهي الحلقة الأكثر قتامة في هذا الموسم من وجهة نظري، نُدخَل إلى عالم يعامل فيه الإنسان بوصفه سلعة قابلة للاستهلاك. يظهر الطب هنا، بشكل يلامس واقعنا الحالي، بوصفه مؤسسة اقتصادية مجردة تحكمها الأرقام والباقات والترقيات، بشكل يثير أسئلة وجودية حول قيمة الحياة وجدواها. ويطرح المسلسل سؤالًا جوهريًا: هل تستطيع التكنولوجيا فعلًا تحسين جودة حياتنا، أم أن توظيفها ضمن إطار اقتصادي بحت يحوّلها إلى أداة للسيطرة على الفئات الضعيفة والمهمشة؟
وفي حلقة Bête Noire، يفتح المسلسل أبوابًا للتأمل الفلسفي حين يجعل الذاكرة عرضة للتغيير بلمسة زر، طارحًا تساؤلات جوهرية حول هويتنا الشخصية وقدرتنا على التحكم في ماضينا، وانعكاس ذلك على حاضرنا. تؤكد الحلقة، بما يشبه النقاشات الفلسفية الكلاسيكية حول مفهوم الذات، أن الإنسان يتشكل من خلال ذاكرته وتجارب حياته، لكن إذا أمكن تعديل هذه الذكريات بسهولة، فهل تبقى الذات ذاتها؟ يجد المشاهد نفسه أمام سؤال معقد حول معنى الهوية الشخصية، وما إذا كنا نحن فعلًا من نختار هويتنا أم أن هذه التقنيات هي التي تفرض علينا من نكون.
أما حلقة Eulogy، فتستكشف طريقة مبتكرة لإحياء الذكريات عبر التكنولوجيا الرقمية، حيث يُعاد إحياء المتوفين من خلال ملفاتهم الذهنية المحفوظة رقميًا. وتطرح الحلقة بذلك بعض المعضلات الأخلاقية حول شرعية إعادة تشكيل ذكريات شخص ما وفقًا لرغبات الآخرين. وتثير التساؤل حول ما إذا كانت الذكريات هي بالفعل ملكية خاصة للفرد، أم هي ملكية مشتركة نقتسمها مع الآخرين، وتعديلها يمثل نوعًا من الخيانة أو الانتهاك الأخلاقي.
وفي حلقة Hotel Reverie، نلمس العلاقة بين الذكريات والحب من خلال قصة براندي، الممثلة التي تُشارك في إعادة إنتاج فيلم كلاسيكي باستخدام تقنية الواقع الافتراضي. تتطور الأحداث لتُظهر كيف يمكن للتجارب الرقمية أن تُثير مشاعر حقيقية، وكيف يمكن للذكريات المُصطنعة أن تؤثر على الواقع العاطفي للفرد في هذا السياق، تركز الحلقة على التداخل بين الواقع والخيال، وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تُعيد تشكيل العلاقات الإنسانية والذكريات.
أما حلقة Plaything فتستعرض تأثير التكنولوجيا على الوعي الإنساني من خلال قصة كاميرون، الصحفي السابق الذي يندمج مع كائنات رقمية تُدعى ثرونغليتس. وتثير الحلقة تساؤلات حول حدود الوعي البشري، وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تُعيد تشكيل الإدراك والواقع.
وتناقش حلقة USS Callister: Into Infinity كيفية تأثير التكنولوجيا على الهوية والحرية الفردية، من خلال قصة طاقم سفينة فضائية رقمية يسعى للتحرر من قيود اللعبة التي يُحتجزون فيها. مع التركيز على التحديات المرتبطة بالتحكم في الواقع الرقمي، وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تُستخدم كأداة للسيطرة أو للتحرر، والعديد من التساؤلات حول حدود الحرية والهوية في العصر الرقمي.
هذه الأفكار الفلسفية تتشابك مع جل ما نعرفه عن طبيعة الحقيقة والوجود ونتعامل معه بوصفه يقينيًا. إذا كانت الذاكرة جزءًا لا يتجزأ من هويتنا، فما الذي يعنيه أن تصبح هذه الذاكرة قابلة للتعديل؟ إذا كانت الحقيقة هي ما نعيشه ونشعر به، فما الذي يحدث عندما يصبح هذا الشعور مُصطنعًا؟ في هذا الموسم يقدم لنا بلاك ميرور إجابات مفتوحة عن هذه الأسئلة، حيث لا يهم إن كانت هذه الإجابات صادمة أو مفزعة، بقدر ما يهم أن المسلسل يظل يحفر في أعماق النفس البشرية، ويحاول أن يكشف لنا عن حقائقنا المخفية.
في النهاية، يحمل هذا الموسم في طياته أكثر من مجرد تسلية أو مخاوف مستقبلية من التطورات التكنولوجية. إذ هو بمثابة إعادة إحياء للعديد من الأسئلة والقضايا التي اعتقدنا أننا تجاوزناها. ومن خلالها، ينجح المسلسل في دفعنا للتفكير فيما يعنيه أن نكون بشرًا في عالم أصبح فيه كل شيء قابلًا للتغيير، حتى ذاكرتنا وهويتنا.
…………………………………………..
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر الكاتب فقط.