ترجمة: مروان الرشيد – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
الوصول إلى لوحة الشطرنج يشبه الدخول إلى حفلةٍ مُنتَظرة بفارغ الصبر. كل أصدقائي القدامى موجودون هناك: الزوجان الـمَلَكيّان وأتباعهما، والخطوط المستقيمة المطَمئِنة للمشاة النبلاء؛ أعَدِّلها، وأتأكّد من أنها تقف على النحو الأمثل في وسط مُربّعات البداية، وأتململ في مقعدي وأنا أتحسّسها. إنني أعرف هذه القطع، وأهتمّ بها؛ إنها مسؤوليتي. وأنا مُمتَنٌّ لخصمي لإجباري على معاملتها معاملةً حسنةً خوفًا عليها من الموت.
من نواحٍ كثيرة، أنا مدين للشطرنج بكل شيء؛ فمنذ سِنِّ الخامسة، كانت اللعبة مصدرًا للصداقة والنموّ وملاذًا لي. كما أني «أستاذ شطرنج كبير» منذ عشرين عامًا؛ وهو اللقب الأعلى الذي يُمنَح مدى الحياة للاعبيّ الشطرنج، ويستند إلى تحقيق ثلاثة معايير تأهيلية في الأحداث الدولية -التي غالبًا ما تكون ذروة الأداء في لعبة الشطرنج- جنبًا إلى جنب مع تحقيق تصنيف دوليّ يعكس مستوًى عاليًا من اللعب، ويتم التحقُّق من صحة جميع هذه الأشياء من قِبَل اتحاد الشطرنج العالمي (FIDE). ويوجد نحو 15,000 «أستاذ شطرنج كبير» في العالم. في ذروتي، كنت على حافة تصنيف أفضل 100 شخص في العالم، ويُخالجني ندم خفيف لعدم التسلُّق إلى أعلى، لكني كنت أعرف أن هناك حدودًا. حتى مع انعدام الخطة (أ) لحياتي، لطالما شعرتُ أن لعبة الشطرنج هي الخطة (ب)؛ لأنني لم أستطع تخيُّل تسليم نفسي إلى الطموح التنافسي. لم أتدرَّب أو ألعب بقصدٍ احترافيٍّ جادٍّ لأكثر من عقد؛ وفي حين أن ذهني مفتون باللعبة، فإن روحي خاوية منها.
في السنوات الأخيرة عملتُ في سياق السياسات الأكاديمية والعامة، محاولًا دمج فهمنا للتحديات المجتمعية المعقَّدة مع فهم حياتنا الداخلية، وفي الوقت نفسه الاعتناء أيضًا بطفليَّ. أفتقدُ الكثير من الأشياء بوصفي لاعبًا غير نشط؛ أفتقد الشعور بالقوة والقدرة والكرامة الذي يُصاحِب اتخاذ قرارات جيدة تحت الضغط، وأفتقد وضوح الهدف في كل لحظة من اللعبة، والفرار من الهزيمة وتشويق مطاردة النصر. ولكن الأهمّ من ذلك كلّه افتقادي لتجربة التركيز.
لا يزال بإمكاني التركيز بالطبع، ولكن ليس بنفس الموثوقية والحدّة التي توفرها حياة الشطرنج الاحترافية. في الواقع -إن نظرتُ إلى الأمر عن كَثَبٍ- يبدو لي أن الشطرنج ذريعة مسموح بها اجتماعيًّا للتركيز لعدة ساعات بلا انقطاع. يؤلِّف أومبرتو إيكو، في روايته «جزيرة اليوم السابق» (1994)، رسالة حبّ تتضمن هذه العبارة: «في سجنك، لا غير، يتمتَّع [قلبي] بأسمى الحُريَّات»؛ وهذا يمكن أن يُقال عن الشطرنج أيضًا، وعن تجربة التركيز التي تجعل لعبة الشطرنج مُمكنةً. أعتقد أن التركيز من السِّمات المُميِّزة لحياةٍ مُرضِية، وهو عادة ذهنية ضرورية لحضارةٍ قابلة للحياة؛ والشطرنج يمكن أنْ يُعلِّمنا الكثير عمَّا يعنيه التركيز حقًّا.
كل مسعى يتطلَّب مهارة يستلزم التركيز، ولكن الشطرنج غير مألوف من حيث إنه يتطلَّب منا التركيز ليس لبضع دقائق وإنما لعدة ساعاتٍ ولأيامٍ وضمن مسيرة كاملة ولسنوات؛ فالتركيز هو شرط لا غنى عنه في الشطرنج.
في لعبة الشطرنج، يتجلَّى التركيز عادةً في تتابعٍ سريعٍ من خلال الإدراك والرغبة والبحث. ولكنها عملية تكرارية، لذلك غالبًا ما أجد شيئًا لم أتوقَّعه بطريقة تقودني إلى رؤية موقفي بشكلٍ مختلف، وتجعلني أريد شيئًا آخر منه. لقد تشكَّل تصوُّري مسبقًا بسنوات من الخبرة، لذلك لا أرى مربعًا أو قطعة واحدة على حِدَةٍ؛ وإنما أرى الموقف بِرُمَّته على أنه وضع يُظهِر سياقاتٍ استراتيجيةً مألوفةً بين القِطَع: ملكٌ مُحصَّنٌ، فيلٌ في وضعية فيانشيتو، فارسٌ في غير محلّه، بيدق معزول. إنه نوع من النحو المفاهيمي. إن معنى الموقف مضمَّن في تلك الأنماط، مكشوف جزئيًّا ومخفي جزئيًّا، وبحثي عن الحركة الصحيحة يبدو بحثًا جَمَاليًّا في المقام الأول.
يمكنني وصف الشعور بأنه نوع من الصَّيد التقييمي؛ ليس لهدفٍ مُعَيَّن، ولكن لمسارات الأفكار التي تبدو صحيحة، وأشعر بأنها صحيحة. وأنا منجذب نحو بعض عمليات تغيير الأنماط التي تجعلني أبدو أعمق، ولكن الآخرين يصدُّونني عنها. إن التحرُّكات الجيدة تتَّصِف بالحقيقة والجمال. إنها اكتشافات لكيفية سير الأمور، وما ينبغي أنْ تكون عليه.
ومع ذلك، فإن لعبة الشطرنج تدعوني إلى تعميق تركيزي على مسافة بضع سنتيمترات من كائنٍ آخر يحاول التركيز أيضًا؛ شخص أستطيع أنْ أشمّه، وأشعر بحركته، وأسمع تنفّسه. وغالبًا ما أعرف هؤلاء الأشخاص ويعجبونني، لكن انطباعي تجاههم غير شخصي نسبيًّا؛ إذ توجد طاقة مألوفة، ولكن ليس بوصفهم أصدقاء. أفكر أحيانًا في خصوم الشطرنج على أنهم رفقاء مسكن مضطربين نفسيًّا يجب أنْ أشاركهم المنزل. إنهم يَبْدُون مسالمين، لكنني أعلم أننا وقَّعنا على نفس العقد الذي ينصُّ على أنهم يجب أنْ يحاولوا اقتحام غرفتي وسرقة ممتلكاتي ومطاردتي وقتلي؛ وبطبيعة الحال، أنا مضطر إلى فعل الشيء نفسه معهم. ومعًا نخلق قصة تُختَزَل وتُجسَّد فيها المحاور السَّردية -مثل الهجوم والدفاع- في حركاتٍ مخصوصة، بقطعٍ مخصوصة، في مربعاتٍ مُعيَّنة؛ ونسجِّلها -مثل كُتَّاب الاختزال- بلغةٍ جبريَّة غامضة تخُصُّنا. فقد تكون ذروة القصة «هجوم مضاد وحشي!»، ولكن السِّجلَّ لا يعكس إلا القوة المنطقية لسلسةٍ قصيرة من الحركات، على سبيل المثال: «…34. Bf3 Nh3+ 35.Kh1 Qg4!! انسحاب».
دائمًا ما تكون القُوَى الموجودة على اللوحة متورِّطة، لكن التركيز مهم بشكلٍ خاصّ عندما لا تعود القِطَع على مسافة استراتيجية من بعضها بعضًا، وتغدو في تماسٍّ تكتيكيٍّ مُباشر؛ فاكتشافُ التفاصيل الخفيَّة -في مثل هذه اللحظات- يمكن أنْ يضمن النصر، في حين أن تفويتها قد يؤدي إلى هزيمة لا مردَّ لها. وعادة ما تكون مثل هذه التفاصيل على بعد خطوات قليلة من أيّ موقع أمامي، لذلك يجب أنْ أبحث عنها؛ وفي حين أن الكثير من التفكير في لعبة الشطرنج له خاصية سردية، فإن هذا السعي يتطلَّب حِسبةً منطقيةً لا هوادة فيها. والأمر يتعلق بتتبُّع توازن القوى المادية، أثناء محاولتها القضاء على بعضها بعضًا، في معركة من أجل السيادة. وهذه العملية شاقّة، بل مؤلمة، لكنَّ تعلُّمَ تقدير جمال الكشف عن الحقيقة كان أمرًا حاسمًا في ترقيتي إلى أعلى المراتب في لعبة الشطرنج.
كان أحد أبرز ملامح مسيرتي في الشطرنج هو الفوز على الأستاذ الروسي المولِد أليكس يرمولينسكي، في بطولة العالم المفتوحة في فيلادلفيا عام 2002، لأنها كانت تجربة ملموسة في التفوق على الذَّات. وقد كان «يرمو» بطل الولايات المتحدة مرتَيْنِ. وعلى الورق، كان هو الطرف المُفضَّل؛ لكنني كنت أتدرَّب مؤخرًا بحلّ تمارين الشطرنج، وإعداد مواقف مفحوصة بعنايةٍ وتحديد ما سألعبه، ثمّ مقارنة أفكاري بإجابة الكتاب. قدَّم يرمولينسكي أحد بيادقه طُعمًا، وكدت لا التقم الطُّعم؛ لأن القيام بذلك سيسمح له بلعب سلسلة من الحركات القسريَّة، بما في ذلك الهجوم المضادُّ الأنيق الذي بدا حاسمًا. ولكن عندما أمعنتُ النظر، اكتشفتُ تفاصيل مُفاجئةً في نهاية الخطِّ، حيث يُمكن لفارسي أنْ يتراجع إلى مربعه الأصلي، حالًّا جميع مشاكلي الدفاعية وتاركًا لي أفضليةً حاسمة. راجعت الخيارات لمرّةٍ واحدة فقط -وهذه هي الحكمة المُتأتية من العُصاب- ولعبنا بخفّة على طوال الخطّ. وأصدرت الساعة طقطقة خفيفة مع كل حركة. لعب “يرمو” التكتيك المثير للإعجاب الذي توقَّعه كلانا كما لو كان حاسمًا، ثمّ نفذتُ التفصيل الإضافي الذي ظهر لي أنا فقط، فانسحبَ فورًا؛ وشعرتُ بالقوة.
التركيز ليس مجزيًا دائمًا: إنه يأتي ويذهب، يتشكَّل وينهار، ينبني ثمّ يتهاوى؛ لأن هناك حدًّا أعلى لما يُمكن للاعبين الاحتفاظ به في رؤوسهم في أيّ وقت. أجدني أتحرك نحو الحدِّ الأعلى ثمّ أبتعد عنه بشكلٍ متكرر. وبالنظر إلى الوضع الذي يتكشَّف، يبدو الأمر كما لو أنني أُقاد تلقائيًّا إلى حدٍّ ما؛ حتى تومِضَ أمامي إمكانيات جديدة -كالدرَّاجات التي تخرج من الشوارع الجانبية- وتعيدني إلى التحدي المتمثِّل في توجيه الوعي. وفي مثل هذه اللحظات، من المُرجَّح أنْ يتداعى صَرْحُ الفكر الذي بنيتُه. وإذا لم أكن حذرًا، فقد أقضي دقائق كثيرة في هذه الحالة من انعدام القرار والبحث عن إجابة لما يحدث من دون العثور عليها؛ لأن الموقف ينطوي على قدرٍ كبير من المعنى الذي يصعُب على العقل معالجته. وهذا التحدي، المُتمثِّل في تعلُّم كيفية وضع التعقيد في الاعتبار والاستمرار في اتِّخاذ قرارات جيدة، لا يقتصر على الشطرنج ولكنه ينطبق على الحياة بعمومها.
بصفتي خبيرًا في لعبة الشطرنج، أجد الأمر الداعي إلى «التركيز!» ينطوي على بعض السذاجة. فالتركيز ليس مثل مصباحٍ يمكننا تشغيله وإيقافه بضغطة زرّ؛ لأننا لسنا مُجرَّد مصباح؛ إذ إننا أيضًا الزِّرّ والشخص الذي يضغط الزِّرِّ. فالبشر يُشبِهون منظِّمات الحرارة التي تستقبل الإشارات وتُرسلها، طلبًا لـ«درجة الحرارة العقلية» المُثلى، مع تغيُّر الظروف المحيطة داخليًّا وخارجيًّا، وغالبًا ما يجري التعديل فجأة رغمًا عنَّا. ننجح في التركيز عندما نتمكَّن من جمع الترتيبات التي تهمّ المهمة المنظور فيها -على سبيل المثال: وعينا واهتمامنا وإدراكنا وقوة إرادتنا- وهذا ممكن فقط إذا تضافرت العواطف الصحيحة معًا.
لذلك من الأفضل فهم التركيز على أنه نوع من التلاحُم. قد يكون الهدف النهائي من الانتباه فرديًّا، لكن عملية التركيز تشبه إلى حدٍّ كبير طريقة احتواء وتنسيق أجزاء نفسيتنا. أفضل مثال على هذه الفكرة هو الأشكال التقليدية لليوغا، التي تُمارَس من خلال وضعيّات معقدة ظاهريًّا -كالوقوف على رأسك- وأشكال التنفُّس التي تَضُخُّ فيها الهواء الفاسد من رئتيك عبر أنفك في نوع من الشخير الروحي. مثل هذه الممارسات لها قيمة مشروطة، ولكنّ هدفها النهائيَّ هو تجربة التحقُّق التي يستقرُّ بها نظامنا العصبيُّ من خلال التدريب؛ بحيث يمكننا أنْ نجلس بسكون، لثوانٍ معدودة، من دون استثارة عقلية.
عند النظر إلى التركيز بهذه الطريقة، من المهم التمييز بين التركيز وظواهر ماثلة أو ذات صلة، التي توفر ما تسمّيه المُنظِّرة الأمريكية بونيتا روي «وجهات نظر ما وراء إدراكية» مختلفة؛ أيّْ سياقات معنى ونشاطات ذات قيمة؛ لأنها تسمح للعقل بأنْ يُصبح مُدرِكًا لذاته. يوفِّر تفكير الشطرنجي سياقًا ما وراء إدراكيٍّ غنيٍّ يقودني إلى الاعتقاد بأننا يجب أنْ نفصل ثلاثة مفاهيم ولكن غالبًا ما تكون مُتداخِلَة: الانتباه، والتدفُّق، والتركيز. يرتكز الانتباه بشكلٍ أساسي على الإدراك (الحضور الذهني)، ويستند التدفُّق بشكلٍ أساسي على التجربة (الشعور)، ويقوم التركيز على التطبيق العملي (التلاحم الهادف).
ونحن نطلب الكثير من الانتباه، ونُهمِل التركيز. إنّ التركيز الثقافي الأخير، على الانتباه، ينطوي على خطر التغاضي عن الكثير من مُتغيِّرات التجربة البشرية، كما لو كان من الممكن الحفاظ عليه ثابتة؛ إذ علينا أنْ نولي اهتمامًا للجسد والإرادة والمكان والمزاج والذاكرة واللحظة والعلاقات وإمكانيات الفعل التي يُمثِّل الهاتف الذكي إحداها. كل هذه المتغيِّرات مُضمَّنة في قدرتنا على الانتباه، ولكن لها فاعليَّتها الخاصة أيضًا؛ إذ تتفاعل مع بعضها بعضًا بطرقٍ غير متوقعة. وتشمل الخصائص الناشئة الصادرة عن النفس، التي تتفاعل مع نفسها في العالم، الدهشة والانجذاب والتنافر والإلهاء؛ وهذه ليست مجرَّد عوائق، وإنما هي أشبه ما تكون بنوع من البيانات التي يجب فهمها ودمجها قبل أنْ نتمكن من ممارسة الفاعلية التي تخُصُّنا فعلًا. ونحن بحاجة إلى الالتحام من أجل التركيز، وبحاجةٍ إلى التركيز لأجل أنْ نلتحم.
وإذا لم نتمكَّن من التركيز، فلن نكون قادرين على الاستمتاع بحالة الوعي -تُسمَّى تدفُّقًا- التي تُعَدُّ جزءًا من تجربة الشطرنج. لقد تصوَّر عالم النفس المجري الأمريكي ميهالي تشيكسينتميهالي (Mihaly Csikszentmihalyi) فكرة التدفُّق وروَّج لها، وهي حالة عقلية تتميَّز بالاستغراق الشديد وفقدان الوعي بالذات والعالَم وإحساس مُتبدِّل بالزمن. تُعَدُّ تجربة التدفُّق مجزيةً للغاية، وتنشأ عندما يتطابَق مستوى مهارتنا مع مستوى التحدي؛ فالتحدي الضئيل يُصيبنا بالملل، والتحدي الضخم يصيبنا بالقلق. والشطرنج طريقة جيدة للوصول إلى التدفُّق، ومع ذلك فإن التدفُّق -بوصفه نجمًا هاديًا للعيش- يتَّصف بالقصور؛ إذ إنه في الغالب يصف نوعية الوعي، لا طريقة الوصول إليه. وفي نهاية المطاف، التدفُّق ليس فضيلةً بل شكلًا من أشكال المتعة. ومع أن التدفُّق حالة ذهنية مرغوب فيها، إلا أن الترويج لها قد لا يقود إلى صفاتٍ شخصية مرغوبة؛ إذ قد تؤدي إلى خَلْقِ مجتمعٍ مُفتَّت من اللذويين الذين يُعانون من إدمان الألعاب ودُوَار الواقع الافتراضي.
وعلى عكس الانتباه أو التدفُّق، فإن التركيز يستحثُّ وعيًا بالمزاج، وأيضًا التزمًا بالمعنى وتقديرًا للطريقة. بصفتي لاعبًا شابًّا اعتمدتُ على طُرُق شتَّى لتعميق التركيز، بما في ذلك المشي لمسافات طويلة قبل الألعاب والاستماع إلى المقطوعات الموسيقية المفضلة. ولقد آتت هذه الطرق أُكُلها، في الغالب؛ لأن هدف التركيز لم يكن أبدًا موضعَ شكٍّ. ومع ذلك، في أوائل ديسمبر 2008، في غرفة فندق في بالما-مايوركا، أتذكَّر بوضوح أنني كنت أحاول التحضير للعبة بينما كنت أشعر بأنني بعيد عن نفسي على نحوٍ غير معتاد. وعلى حدِّ تعبير أجيال من مدربيّ كرة القدم الأمريكيين: «إن الرغبة في الفوز ليست مهمةً بقدر الاستعداد للفوز»، ولاحظتُ أنني فقدتُ ذلك. لقد شعرتُ وكأنما الحافز الأساسي للتركيز قد انهار؛ ولأن الرغبة في تعميق انتباهي من أجل الشطرنج كانت تحتضر، كان جزء من نفسي يحتضر أيضًا. لقد تلاشت الرغبة في الحفاظ على الهُويَّة التي غذَّت رغبتي في الفوز، وعرفتُ أن الوقت قد حان للتركيز على ما ترمُزُ إليه اللعبة بدلًا من اللعبة نفسها.
فلعبة الشطرنج هي ميدانٌ يلتقي فيه النظام بالروح، ويحتاج العالَم إلى طريقة لفهم طبيعة تلك المواجهة بشكلٍ أفضل اليوم. فللقيام بحركات شطرنج جيدة تحتاج إلى رؤية الموقف بالكامل؛ بكل انعكاساته وأصدائه. لكنّك تحتاج أيضًا إلى رؤية عقلك، ومعرفة قوَّته وحدوده؛ فالشخصيّ هو السياسيّ بالفعل، والعكس بالعكس. والموقف الذي نواجهه -في أوائل القرن الحادي والعشرين- يتضمّن أزمات بيئية متتالية (عندما يظلُّ النموّ الاقتصادي المعتمِد على الموادّ هو الأولوية السائدة في العالم)، وتحدّيًا متمثِّلًا في منع البطالة الجماعية في عصرٍ يتزايد فيه الذكاء الاصطناعي، وحماية الحقيقة عندما تكون الكذبة أسهل، والسَّفر المتَّصف بالسرعة والإثارة، وتعزيز الحكم التعاوني في زمن المصالِح الخاصة والاغتراب الروحي والسياسي.
في الرواية الطوباوية الجزيرة (1962)، يصوّر ألدوس هكسلي «طيور تذكير»، تُسمَّى المينات، تطير بانتظام قائلةً: «انتبه!»، و«هُنا والآن!»؛ لمساعدة السُّكان في الثواب إلى أنفسهم وإلى اللحظة القائمة. ومع ذلك، إنْ أطلقنا المينات في لندن أو نيويورك أو دلهي أو بكين اليوم، فليس من الجليِّ ما الذي سيُطلب منا الاهتمام به أو من أجله. المينات، اليوم، هي إشعارات الهواتف الذكية؛ التي تُغرينا بضعفنا تجاه ما هو جديد وبخوفنا من التفويت، في حين أن المعلِنين في كل مكان -بعونٍ من المحلِّلين النفسيِّين- يحاولون نيل انتباهنا بوصفه سلعةً. مشكلتُنا اليوم ليست أننا لا ننتبه أو لا نستطيع أنْ ننتبه، وإنما أن نُظُم المجتمع وهياكله تُلزمنا أنْ ننتبه على نحوٍ متكرِّر وعابر؛ بحيث لا يُمكننا أنْ نركِّز فعلًا. ونظرًا لافتقارنا إلى القدرة على التركيز، من الصعب بناء شعور متماسِك ومستقلٍّ بالذات والحفاظ عليه؛ وهذا يتركُنا نَهْبًا لمُحرِّكي الدُّمى مِن سياسييّن وشركات تقنية وتجارية. ودون تركيز، لسنا أحرارًا.
إني سعيد أن الانتباه يتزايد في الأهمية بوصفه مفهومًا سياسيًّا يُثري فهمنا للحرية، ويصف التفاعل بين الذات والعالم. ومع ذلك -بصفتي خبيرًا في لعبة الشطرنج- أشعر أن الأمر قد أُسيء فهمه؛ فالتحدي الذي نواجهه اليوم لا يتمثَّل في أننا جميعًا يجب أنْ ننتبه، ولكن أنْ يكون لدينا انتباه داخلي، وهذا يعني أنه يتعيَّن علينا أنْ نتعلَّم التركيز.
لا يمكن فهم معظم المشاكل المعقَّدة أو تجربتها بشكلٍ صحيح ما لم نتمكّن من النظر في العديد من الأفكار وطرق التفكير معًا في الوقت آنه. ومع ذلك، إذا كان كل ما يمكننا فعله هو مجرد الاحتفاظ بالأفكار، فلن نتمكن من التفكير معها أو التفكير فيها؛ إذ سنكون تلك الأفكار، لكننا لن نمتلكها حقًّا. لذلك فإن تطوير التركيز يستلزم تطوير القدرة على الاحتفاظ بالتوتُّر العاطفي الناتج عن التعقيد العقلي؛ وعلينا أنْ نُدرِّب أنفسنا على مقاومة إغراء الاستسلام، أو التبسيط المفرِط، أو الإسقاط على خصومنا المُتخيَّلين. في الكتاب الكلاسيكي للفيزيائي والفيلسوف الأمريكي ديفيد بوم، الفكر بوصفه نظامًا (1992)، وضع التحدي على النحو التالي:
«الافتراض الضمني العامّ عن التفكير هو أنّ التفكير يُخبِرك بالطريقة التي تسير بها الأشياء لا غير؛ وأنك «أنت»، في الداخل، تُقرِّر ما يجب فعله بالمعلومات. ولكني أريد أنْ أقول: إنك لا تُقرِّر ما يجب فعله بالمعلومات؛ بل إنها تُسيطِر، وتستحوذ عليك. إن الفِكرَ هو من يُديرك. ومع ذلك، فإن الفكر يُوحي إليك بفكرةٍ خاطئة مفادها هو أنك من يُديره، وأنك من يُسيطر عليه؛ في حين أن الفكر، في الواقع، هو الذي يتحكّم في كل واحد منَّا».
ما يُلمِح إليه “بوم” هو حاجتنا إلى إيجاد وجهة نظر خارج أيّ نظام للحقائق والعلائق وقوالب اللغة التي تُشكِّل تصوّرنا عمَّا يحدث؛ وهذا النوع من وجهة النظر المضيئة هو ما يعنيه تحقيق التركيز عندما نفهمه على النحو الصحيح، وليس هناك طريقة سريعة للوصول إلى هناك. إنّ جوهر تحدي تفكيرنا اليوم هو أن العالم يواجه أنواعًا مُختلفة من المشاكل المترابطة ترابُطًا عميقًا: مشاكل عاطفية وبيئية، ونفسية وسياسية، وروحية ومنهجية. ومع ذلك فطرقنا في المعرفة والتصرُّف تظل جزئية ومُجزَّأة.
وما لم نتمكَّن من تعلُّم التركيز بشكلٍ أفضل، فليس لدينا فرصة للإدراك والتفكير والتحدُّث واتخاذ القرار بالطرق المطلوبة منا في القرن الحادي والعشرين. وإذا انطلقنا من وجهة نظر ترى أن كل مشكلة على أنها مُشكلة مُنفصلة، تُشفَّر في صومعة خبير لتُحلَّل من خلال تخصص مُميَّز، فلا أملَ لنا. لقد كان ألبرت أينشتاين مُحِقًّا عندما قال إنه لا يمكننا حلّ مشكلاتنا بنفس التفكير الذي تسبَّب في حدوثها؛ ولكن التفكير الجديد في العالم -كما هو الآن- يتطلب إعادة تقييم للتركيز.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.