ستارة شفافة مُنسدلة على نافذة في منزل في مدينة لاغوس بنيجيريا في 12 أغسطس 2018. المصدر: ياجازي إمزي لصحيفة نيويورك تايمز.
قبل ما يقرب من ألفي عام، كتب الفيلسوف الرواقي سينيكا الأصغر رسالة تعزية إلى والدته هيلفيا ليخفف عنها حزنها الناتج عن نفيه من روما. وكتب سينيكا، الذي نُفِيَ إلى كورسيكا بتهمة إقامة علاقة غرامية مع ابنة أخت الإمبراطور الروماني كلوديوس، أن “الشخص الذي يرفع رأسه من ركام الدفن ليواسي قريبًا له يحتاج إلى كلمات مختلفة لا تستمد من عزاء يومي مألوف، ولكن كل حزن متجاوز في الحجم يمحو بالضرورة قدرتنا على اختيار الكلمات، وغالبًا ما يخنق الصوت ذاته”.
وعلى الرغم من أن معظمنا لن يجد أبدًا الكلمات البلاغية “المختلفة” التي تتجاوز العزاء المألوف كما ذكر سينيكا، إلا أننا نحاول أن نعثر عندما نتعامل مع الحزن –في اللحظات أو الأشهر الأولى التابعة للفقد، أو حتى بعد عمرٍ طويل– على كلماتٍ تُعَبِّر عما نجده غير قابل للتفسير.
وكانت تراودني مشاعر متضاربة بشأن رسائل التعزية عندما كنت مراهقةً في نيجيريا، فكانت تبدو أي محاولة للعثور على الكلمات الصحيحة عديمة الجدوى، فكيف يمكن للكلمات أن تسد الفجوة التي أحدثها الفقد بين المفجوعين ومقدمي التعازي؟ عندما فقد أحد زملائي والده، بدت الكلمات المطبوعة على البطاقة التي اخترتها ساذجة، بل ومبتذلة أيضًا، وعند عودته إلى المدرسة بعد أيام من الجنازة، جلست أنا وصديقاتي معه لنقدم له خالص التعازي.
وفي النهاية، لم أستطع أن أعطيه البطاقة ونطقتُ كلمات التعزية بتردد، شعرت حينها وكأنني كنت أحتال عليه وأقابل معاناته بالتفاهات؛ إذ إن أي شيء أقل من عودة والده إلى الحياة لن يكون كافيًا، رددت على مسمعه التنبؤات بمستقبل مشرق يتفوق فيه شغفه نحو غرضٍ غير محدد بعد على الألم الذي يشعر به الآن، مكررةً حرفيًّا التنبؤات التي كنت أسمعها منذ وفاة والدي.
ومثل معظم الذين جلسوا مع صديق أو قريب أو حتى غريب يمر بألم الفقد، أردت أن أقول كلمات مفيدة تقدم العزاء، ومع ذلك، انبعث اليأس من العبارات التقليدية جميعها التي كنت أعرفها؛ فالحزن كان كالبرية عديمة المعالم وكالصحراء المليئة بالسراب، التي يستحيل فيها تقييم التقدم المُحرَز، ولكن، لم أستطع أن أكتب ذلك على البطاقة؛ إذ بدا من الأفضل التحدث عن رؤية قوس قزح بعد هطول المطر، وبالإضافة إلى ذلك، ما اعتقدت أنه أقرب إلى الحقيقة بدا وكأنه تجربة شخصية، نظرًا لعدم تحدث أيٍّ من الذين شاركوني حزني عن عمق الحزن، فربما كنت الوحيدة التي لم ترَ قوس قزح بعد، وقد لا تفيد تجربتي أحدًا.
ومرّت بضع سنوات قبل أن أقرأ السؤال الذي طرحه الكاتب سي إس لويس في مجموعة الخواطر بعنوان حزن ملحوظ (A Grief Observed): هل أدور في حلقة، أم هل أجرؤ على تمني أن أكون في متاهة؟ (وإن كنت في متاهة، هل أقترب أم أبتعد عن المخرج؟)، شعرت بالارتياح عندما قرأت أحاسيسي على الورق، وجعلني هذا أتساءل ما إذا كان يجب عليّ أن أشارك هذه المشاعر والأحاسيس مع زميلي بجانب التنبؤات الأكثر تفاؤلًا.
توابيت لم يأخذها أحد على جانب الطريق في موشين، لاغوس، نيجيريا في 12 أغسطس 2018م. المصدر: ياجازي إمزي لصحيفة نيويورك تايمز.
وفي حين أن الكثير قد تغير في العالم منذ عهد سينيكا، إلا أن الفقد وكيفية تعاملنا معه، سواء على المستوى الفردي أم المجتمعي، لا يزال يمثل جزءًا رئيسيًّا من تجربتنا الإنسانية، ويستحيل فصل الفقد عن أعلى مستويات الحب والمودة، فكل محبوبٍ سيُفجع يومًا ما، وتمامًا كما نتمنى للناس التوفيق والنجاح بينما يتخرجون أو يتزوجون أو يَصِلُون إلى محطة جديدة في حياتهم، فإننا في النهاية سنجد أنفسنا نصارع لإيجاد الطريقة المناسبة لتعزيتهم عندما يصل أحد معارفهم إلى المحطة النهائية التي لا مفر منها.
وتأتي التعازي في عدة أشكال، وزاد اهتمامي في الآونة الأخيرة بشكل معين من التعازي. تفتح العديد من العائلات “سجلًّا” للتعزية عندما يفقدون أحد أحبائهم، وفي نيجيريا، تتمثل السجلات عادةً في دفاتر صغيرة متواضعة تملؤها العائلة والأصدقاء بذكريات عزيزة عن الفقيد؛ كزميلة عمل تثني على دقته، وزميلة معه في فرقة الغناء تكتب بحماس عن أدائه الذي أبكى الجماهير، وجارة تذكر اليوم الذي ساعدها فيه في دفع فواتير المستشفى، وغالبًا ما أخاطب الفقيد مباشرة عندما أكتب في هذه الدفاتر، ولكن بالتأكيد أنا الذي أشعر أحيانًا بالتخفيف بعد أن أعبر عن امتناني له، وأكتب على أمل أن تجلب ذكرياتي الراحة للمفجوعين إذا قرؤوا السجل، فإن أفعالنا التي نقوم بها في فترة الحداد، وإن كانت تهدف إلى تكريم الموتى، تُخفف من ألم الأحياء بالدرجة الأولى.
ولعل ما يدفعنا إلى تقديم العزاء في صورة حكايات مفعمة بالأمل تتجاوز المأساة لتركز على المستقبل هو هذا الجهد الموجه لتهدئة الأحياء، وفي رسالته إلى هيلفيا (أمه)، يُذكرها سينيكا بالمآسي القديمة والحديثة، مثل وفاة والدتها في أثناء ولادتها وفقدان حفيدها ونفيه من روما، وكتب: “أنا لا أحجب عنكِ مصيبة واحدة، بل أكومها كلها وأضعها أمامك، لقد اتخذت هذا النهج الجريء لأنني عازم على التغلب على حزنكِ، وليس الحد منه، وسوف أهزمه”، وكان يحاول حينئذٍ مساعدة والدته المحطمة على إيجاد وجهة نظر جديدة من خلال تبني مبادئ الرواقية، ورغم الشكوك التي تحيط بفكرة إمكانية “التغلب” على الحزن، إلا أننا يجب أن نعترف بأهمية الإقرار الصريح بالمأساة التي حدثت بالفعل بوصفه جزءًا أساسيًّا من محاولة السيطرة على الحزن.
ومن الطبيعي أن نسعى لتهدئة المفجوعين من خلال الرد بالأمل عندما يعبرون عن اليأس، فعلى عكس ما اعتقده سينيكا، قد يكون إبعاد التركيز عن الفاجعة جزءًا ضروريًّا من العملية، ورغم عدم وجود ضمان جوي لرؤية قوس قزح بعد مرور عاصفة المطر، يجب على المفجوعين أن يتعاملوا مع واقع الأرض الرطبة والزلقة تحت أقدامهم، وأن يحاولوا المشي في الطرق الوعرة، وحتى وإن لم نتفق مع مبادئه، يُظهر لنا سينيكا في تعزيته لهيلفيا إمكانية تقديم أمل يعترف بواقع اليأس.
وإذا كانت الجنازة تُنصب لعائلة الفقيد لا للفقيد نفسه –على سبيل العبارة المقتبسة المنسوبة لتوماس مان– فإن حدث الفقد يُعد بالنسبة لمعظم العائلات حدثًا كارثيًّا ومُغيرًا للحياة، ويجب الإقرار بذلك عند تقديم التعازي؛ فمن الممكن أن يكون إظهار الاستعداد لمواجهة الواقع الجديد مع المفجوع هو العزاء بحد ذاته.
أيوبامي أديبايو روائية ومؤلفة الرواية التي تحمل عنوان Stay With Me.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة نيويورك تايمز).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.