
لتحميل الحوار : العالم ليس ما تراه – حوار معنى مع برناردو كاسترب
1– أشكرك جزيل الشكر دكتور كاسترب على قبول دعوتنا. لنبدأ مع رحلتك الفلسفية: كيف دخلت مجال علم الحاسب؟ ولمَ غيّرت مسارك إلى الفلسفة؟
أعتقد أنني ولدتُ فيلسوفًا، بمعنى أنني دائمًا ما تفكرت –عفويًا– في الأسئلة العميقة؛ مثل طبيعة الحياة، والواقع، وما مغزى الوجود برمته. ولكن في طفولتي عرفني والدي على الأجهزة الإلكترونية، وقد كان مولعًا بها. شهدتُ نشأة ثورة الحاسوب المنزلي في آواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، وفتنتني تلك الأجهزة، التي كان في مقدورها القيام بأمور مذهلة. حلمت أن أصمم حاسوبي الخاص؛ وبناء عليه، سجلت في كلية هندسة الحاسوب لما بلغت سبع عشرة سنة.
وقد أفضى ذلك بي إلى العمل في مجال الذكاء الاصطناعي، وتساءلت: ما المطلوب لجعل هذه الحواسيب الذكية واعيةً؟ ولكن بعد فترة من الزمن تصارعت فيها مع هذا السؤال، أدركتُ أنني مهما حققت بتصميمي؛ فلن يُحدث ذلك أثرًا إلا في البنية والوظيفة، وليس في التجربة الداخلية. أدركتُ حينها أنني أواجه تناقضًا داخليًا في تفكيري حول الوعي، وكان ينبغي علي تعقّب خطوات تفكيري لأجد انعطافتي الخاطئة، وخلصتُ إلى أن انعطافتي الخاطئة كانت افتراضي الذي مفاده أن الوعي شيء يمكن تكوينه من بنى مادية، وهذا ما أفضى بي إلى تناقضات ومسائل يتعذّر حلّها. وقد أفضتْ بي مراجعة ذلك الافتراض مراجعةً مترابطة منطقيًا ومقنعة من الناحية التجريبية إلى «المثالية التحليلية» وحياتي فيلسوفًا منذ ذلك الحين.
2- قلتَ في كتابك «المعنى في اللامعقول» إنّ «أكثر الاكتشافات المؤثرة تستلزم دائمًا فقدان معتقدات سابقة». ما المعتقدات السابقة التي فقدتها؟
أن المادة أولية أو هي الأساس، وأن المنطق الأرسطي صحيح بديهيًا، وأن الوعي –مع جميع مشاكلنا ومعاناتنا– سينتهي بموتنا، وأن الطبيعة نفسها هي العالم الذي نراه حولنا، وأن الحياة ليست إلا ما يتعلّق بالنجاح والرفاهية والسيطرة، وأن المعاناة مذمومة دائمًا، وأن الأديان سخيفة؛ وغيرها من المعتقدات.
3- أصبحتَ في السنوات الأخيرة من أبرز المناصرين الرائدين للمثالية، وهي الفكرة التي مفادها أن العالم ذهني في جوهره. أودّ مناقشة المثالية (وخصمها: المادية) معك بشيء من التفصيل في الأسئلة التالية. أولًا، قدّمتَ صياغة محددة للمثالية سمّيتها «المثالية التحليلية». ما المثالية التحليلية؟ وما «التحليلي» فيها؟ وأما ما يخص خصومك، هل تميّز بين الفيزيائية (physicalism)، والطبيعانية (naturalism)، والمادية (materialism)؟
تشير «التحليلية» في «المثالية التحليلية» إلى الوضوح المفهومي، والتفكير المنطقي المتماسك والصريح، والكفاءة التجريبية (empirical adequacy). وما هذه إلا القيم المفتاحية لما يسمى المدرسة «التحليلية» في الفلسفة التي انطلقت في مستهل القرن العشرين باعتبارها مقاربةً للفلسفة مختلفة عن المدرسة الكلاسيكية، أو ما يسمى «القارية».
«الفيزيائية» ليست إلا مصطلح تخصصي لما يسمى في حديثنا اليومي «مادية». ما لم تكن فيلسوفًا أكاديميًا منشغلًا بتفاصيل التفاصيل؛ فإنّ المصطلحين متطابقان. ولكن لا ريب أن الطبيعانية مختلفة. تدور جدالات كثيرة في المجال الأكاديمي حول المعنى الحقيقي للطبيعانية، ولكن في نظري تعني الرؤية التي مفادها أن الطبيعة تتكشف تلقائيًا حسب سلوك منتظم أصبحنا نسميه «قوانين الفيزياء». فأنا طبيعاني من هذا الوجه، بالإضافة إلى كوني مثاليًا. أعتقد أن الطبيعة تتكشف تلقائيًا وبانتظام، وليس حسب أي خطة مفصّلة معدّة سلفًا، أو حسب تدخلات مزاجية لفاعل خارجي ليس هو نفسه جزء من الطبيعة. كما أنني اختزالي، بمعنى أنني أعتقد أننا قادرون على تفسير الأمور المعقدة تفسيرًا مُرضيًا على ضوء أشياء أبسط منها. وأنا كذلك عقلاني، بمعنى أنني أعتقد أن العقل البشري –رغم محدوديته البالغة والمتأصلة– ما زال هو أكثر الأدوات التي يسعنا الاعتماد عليها لإيجاد فهم مشترك جماعي للحياة والطبيعة.
4- قلتَ إنّ المادية «هراء». لمَ هي هراء؟ وما أقوى حججك في الاعتراض عليها؟ وما الذي تقدر أن تُجيب عليه المثالية، وتعجز عنه المادية؟
أوًلا، المادية تناقض ذاتها: فبعد تعريف «المادة» باعتباره شيئًا غير قابل للقياس بالكلية مع خواص التجربة، تحاول – وتنبؤيًا لا تصل لمبتغاها – تفسير التجربة على ضوء المادة. ثانيًا، المادية تخلط بين الخريطة والمنطقة نفسها: رغم أن الكميات المادية –مثل الوزن بالكيلوغرام، والطول بالمتر، والزمن بالثواني؛ إلخ- هي مجرد توصيفات عن العالم الذي نراه حولنا؛ إلا أن الماديين يقولون إن التوصيفات سابقة على العالم، وبوجه ما تُكوّن العالم. كأنهم يقولون إنّ خريطة السعودية سبقت وجود السعودية، وإنّ السعودية بوجه ما تكوّنت من خريطة السعودية. ثالثًا، تفتقر المادية إلى القوة التفسيرية: رغم أن التجربة هي كل ما في يدينا في نهاية المطاف -فهي المُسلّمة الوحيدة ما قبل النظرية التي قدمتها الطبيعة، وما عداها تجريدات نظرية- تعجز المادية عن تفسير أي تجربة محددة؛ وعليه، هي بوجه ما لا تفسر شيئًا. رابعًا، المادية مترعة بالمسلمات النظرية، منتهكةً بذلك مبدأ التقتير النظري المعروف باسم «نصل أوكام»؛ فهي تسلّم -بواسطة التجريد النظري- دون وجود داعٍ لذلك بشيء ممتاز عن التجربة ومستقل عنها؛ رغم أن هذه المسلمة النظرية لن تفسّر الطبيعة بالضرورة. وأخيرًا، خامسًا، هي معيوبة من ناحية تجريبية: فهي تفترض مسبقًا أن الكيانات الفيزيائية –مثل الجسيمات الأولية ما دون الذرية- موجودة بمعزل عن المِقياس أو الملاحظة؛ إذْ يُفترض أنها المستوى الأساسي للواقع، ولكن كما بينت التجارب المخبرية الممتدة لأربعة عقود ونالت على إثرها نوبل الفيزياء عام 2022 (بعيدًا عن الخيالات النظرية الشاطحة مثل «الأكوان المتعددة» و«الحتمية الفائقة») تنشأ جميع الكيانات الفيزيائية من المِقياس. وهذا يُبين أن مستوى الواقع الأساسي -الشيء الذي يُقاس- ليس فيزيائيًا؛ وعليه، يفند المادية.
5- إذا كانت المادية باطلة بلا ريب – كما تقول – فلمَ يتبنى أغلب الأكاديميين والعلماء هذه الرؤية الميتافيزيقية؟ هل السبب هو مجرّد افتقار العلماء للتأمل الفلسفي؟
لعدّة أسباب تاريخية ونفسية. لقد قُدّمتْ المادية أول مرة إبان حقبة التنوير الأوروبي باعتبارها أداةً سياسية تقتطع بها مساحة خاصة للعلم لا تصل إليها يد الكنيسة. مؤسسو التنوير – مثل دنيس ديدرو – اعترفوا أن المادية رؤية معيوبة، ولكن كانت ضرورة لمحاربة السلطات الدينية.
ولكن، في منتصف القرن التاسع عشر إبان ثورة البرجوازية التي قادها تشارلز داروين إلى أقصاها، بدأتْ النخب المثقفة تعتقد بصحة المادية. ولم يضعهم ذلك فوق السلطات الدينية في المشهد الثقافي فحسب؛ بل وقد محتْ أعظم خوف عرفته البشرية على امتداد تاريخها: خوف ما سنعيشه بعد الموت. سمحت لنا المادية أن نضمن أن المعاناة كلها سيوضع لها حد لحظة الموت، مهما كان سوء الحياة، أو المشاكل التي يواجهها المرء، أو مدى معاناته؛ إذْ لن يوجد وعي يخبر أي شيء بعد الموت. هذا هو أعظم المنافع النفسية للاعتقاد بالمادية التي نأخذها اليوم مأخذ التسليم.
وما زالت المادية حاضرة في ثقافة اليوم بسبب شكل من أشكال التنسيق غير المباشر بين أفراد الثقافة؛ إذْ نلاحظ بناءً على سلوك المحيطين بنا ومكانتهم أن كونك ماديًا أمرٌ مستحسن لمكانتك الاجتماعية -حيث يصوّرك ذلك على أنك شخص شجاع فكريًا حدَّ أنك ستسلم بالحقيقة الكئيبة، ولكن «العقلانية»، التي مفادها أن الكون شيء ميت، لا معنى له ولا مغزى– كما أن الاعتقاد بذلك سيحسّن فرصك الوظيفية. بدأ يتغيّر هذا المسار –العقل والدليل دائمًا سينتصران على الوهم والهوى في آخر المطاف– ولكن وضوح أثره سيستغرق فترة من الزمن.
6- باستثناء شوبنهاور، يبدو أنك لا تعقد صلات صريحة مع الأشكال التاريخية السابقة للمثالية. هل تفعل ذلك عمدًا؟ ما السبب؟
نعم، أفعل ذلك عمدًا. أحاول تجنّب التعليق على أمور أجهلها أو لا أفهمها فهمًا كافيًا يخولني الحديث عنها بثقة كبيرة؛ إذْ لا أود أن أسيء تمثيل أي شخص أو أي نظرية. كما أنني لا أريد الاستيلاء على المكانة الثقافية لغيري من الناس، أو المؤسسات، أو الأفكار واستغلالها لصالح موقفي الفلسفي. لهذا أتجنب ربط المثالية التحليلية بالأشكال التاريخية الأخرى للمثالية؛ إلا إذا عرفتُ معرفة دقيقة مفصلة ما أتحدث عنه. لا أود أن أتهم باستغلال أي شيء، وقطعًا لا أود أن أتهم باستغلال أديان العالم الكبرى.
رغم ما قلت، أعي وعيًا تامًا أنني لا أقدم شيئًا جديدًا كليًا، وسرعان ما أسلم بذلك. أغلب الظن أن المثالية بدأت في حضارة وادي السند قبل ما يربو على 3500 عام، وهي مضمنة اليوم رمزيًا في عديد من الأديان والمقاربات التقليدية في الفلسفة. أدرك تمامًا أن الميزة الوحيدة التي قد أمتلكها هي أنني صغتها بلغة حديثة، مستخدمًا تشبيهات قياسية حديثة، مناشدًا القيم الفكرية الحديثة، ولكن ما قدمته ليس إبداعًا خالصًا.
7- سيقول بعض المعارضين أن المثالية خطوة للخلف في الفلسفة والعلم؛ إذْ كانت المثالية شائعة في النخبة المثقفة في بعض مناطق العالم في السابق (المثالية الألمانية في أوروبا مثال بارز)، والمادية كانت ردة فعل على هذه السردية المضللة عن الواقع التي لم تحقق أي تقدم. ويبدو فيما مضى أن غموض فلاسفة مثل هيجل ووايتهد سببٌ في تهميش المثالية في الفلسفة التحليلية، وأنت نفسك اعترفت أنك لا تفهم هيجل ولا وايتهد.
لمَ في ظنك واجهتْ المثالية معارضة من المجتمعين الفلسفي والعلمي (على وجه الخصوص بعد الحرب العالمية الثانية)؟ وما ردك على الاعتراض الذي مفاده أن المثالية لم تحقق أي تقدم؟
المثالية لها عدّة صياغات، بعضها متماسك منطقيًا، وبعضها غير كذلك؛ بل يتعذر الدفاع عنها. مثالية باركلي على سبيل المثال يتعذر الدفاع عنها. كما يوجد كم هائل من إساءة الفهم للمثالية؛ حتى في الأكاديميا (بل خصوصًا فيها). اليوم مثلًا مَن يُفترض أنّه أعلى مرجعية أكاديمية في مثالية شوبنهاور –الرجل الذي يحرر الترجمات الجديدة لكتابات شوبنهاور- لا يفقه مبادئ ميتافيزيقا شوبنهاور. هذا عار.
إذا هيمنتْ ميتافيزيقا معينة -مثل المادية- على الثقافة؛ صَعُبَ على أغلب الناس فهم الاقتراحات الميتافيزيقية الأخرى فهمًا صحيحًا؛ لأنهم يرون كل شيء عبر «منظار» مادي، إنْ جاز التعبير. وحتى صياغتي للمثالية -المثالية التحليلية- عادةً ما يُسيء الأكاديميون فهمها. مثلًا، يعتقد عديد من الأكاديمين أن المثالية ترفض مفهوم واقع خارجي موضوعي يتجاوز ذهن كل واحد منا، ويعتقدون بذلك لأنهم يفترضون حدسيًا أن الذهن مقصورٌ على النظام العصبي للكائنات الحية، ولكنّ هذا الاعتقاد افتراضٌ من افتراضات المادية، وهو محل النزاع! لا يصح نقض المثالية بافتراض المادية، ولكن عديد من الأكاديميين يفعلون ذلك.
إنّ المثالية التحليلية لا تعارض الحقيقة البينة التي مفادها وجود عالم خارجي يتجاوز ذهن كل واحد منا؛ بل تقر أنّ العالم موجود حتى إذا لم يوجد أحدٌ يتحدث عنه؛ فهي تقر أن العالم خارج ذهنيننا نحن الاثنين، مثلما أن أفكاري خارج ذهنك أنت. رغم ذلك -حسب المثالية التحليلية- العالم الخارجي ذهني، وإنْ كانت عملياتنا الذهنية لا تشكله، مثلما أن أفكاري ذهنية، رغم أنها توجد خارج عملياتك الذهنية وباستقلال عنها.
أفكاري خارجة عنك وموضوعية من وجهة نظرك. وعلى نفس المنوال، العمليات الذهنية التي تشكل «الطبيعة في كليتها» خارجية وموضوعية من وجهة نظرينا، تقدّم نفسها لنا -عبر حواسنا الخمس- على هيئة نسميها في حديثنا المتداول «مادة»، ولكنّ أغلب الناس، وحتى الأكاديميين، عاجزون عن تصور الذهن بوصفه أساسًا مستقلًا عن الأنظمة العصبية للكائنات الحية -وهذا تحيّز مادي- ففي نظرهم، المثالية مساوية للذاتوية (solipsism)، والذاتوية أطروحة يتعذّر الدفاع عنها. ومآل عجزهم في التصور عجزٌ في تقييم المثالية تقييمًا منصفًا، دون تحيز مؤداه تكوين مغالطة رجل القش؛ لهذا يصعبُ اليوم أن تُسمع رسالتك، ولهذا يعتقدُ عديد من الناس أنهم يعارضون المثالية بينما هم في واقع الأمر يعارضون سوء فهمهم الذي كوّنوه عن المثالية.
إنّ المثالية -إنْ صيغتْ صياغة صحيحة وفهمت على وجهها- أكثرُ الافتراضات الميتافيزيقية معقوليةً المطروحة على طاولة النقاش اليوم -بل سأقول إنها الوحيدة التي يمكن الدفاع عنها- بصرف النظر عن جميع إساءات الفهم. المشكلة التي جعلت أعلام الفلسفة التحليلية الأوائل -مثل راسل وفيتغنشتاين- يرفضون المثالية الألمانية هي أن فلاسفتها استخدموا لغةً مضطربة في حجاجهم، يعوزها الوضوح المفهومي وتفتقر إلى الدقة. ولهم وجه حق. فشوبنهاور -مثلًا- يغيّر تغييرات دقيقة المعاني التي ينسبها لمصطلحات معينة في عدّة فقرات لحجته؛ مما يفتح عليه أبواب النقد من ناحية كونه متعارضًا أو متناقضًا. ولكن عجز الفلاسفة المثاليين السابقين عن الكتابة كتابةً واضحة متماسكة لا يلزم عنه أن المثالية نفسها -إنْ صيغتْ صياغة صحيحة- خاطئة. هي ليست كذلك.
8- كيف تتعامل مع البيانات الطافحة حول وجود علاقة ارتباطية بين نشاط الدماغ والعمليات الذهنية؟ ألا ينبغي أن نعدُّ هذه البيانات على أنها تقدم تأييدًا قويًا للمادية؟
لا. حسب المثالية التحليلية، ما نشير إليه في حديثنا اليومي بوصفه «مادة» -أي، محتويات الإدراك الحسي: ما نراه، ونسمعه، ونلمسه، ونشمه، ونتذوقه- هي ما تبدو عليه العمليات الذهنية المنفصلة عنا عندما نلاحظها من حد انفصالي (dissociative boundary). بعبارة أوضح: الدماغ المادي هو ما تبدو عليه حياة المرء الواعية الداخلية عندما تتم ملاحظتها من الخارج؛ إذْ هي الصورة الخارجية، أو مظهر حياة المرء الواعية الداخلية. المادة –المادة كلّها، وليس فحسب تلك التي تكوّن الدماغ- هي ما تبدو عليه العمليات الذهنية عندما تتم ملاحظتها من منظور خارجي. إذن، لا ريب أن توجد علاقة ارتباطية بين الأنماط المتكررة لنشاط الدماغ مع التجربة الداخلية؛ لأنها ما تبدو عليه التجربة الداخلية عندما تتم ملاحظتها من الخارج.
9- هبْ أن المثالية قد تقبلتها الثقافة وأصبحتْ ضمن نسيجها الفكري كما هو حال المادية اليوم. ما الآثار المترتبة على ذلك؟ هل ستوجد تغييرات تتوقع حدوثها في حياة الناس؟ هل سيحسّن ذلك من فهمنا العلمي ويفضي بنا إلى اكتشافات علمية ما كانت لتكون في ظل المادية؟
لا يفحص العلم عديدًا من الأمور فحصًا جادًا اليوم؛ لأنها -حسب افتراضات الميتافيزيقا المادية- لا بد أن تكون مستحيلة. التخاطر مثال: مستويات متدينة من التخاطر يعيشها أغلب الناس في عديد من فترات حياتهم؛ ورغم ذلك، لم ينل العلماء منحة علمية معتبرة لمحاولة فهم الظاهرة وصياغتها في نموذج علمي حتى يتسنى لهم -ربما- الاستفادة منها، مع ما لتخاطر من تطبيقات عملية واضحة.
كما أن فهمنا للصحة قائم على تحيزات مادية تصوّر الجسد على أنه أشبه ما يكون بآلية ميكانيكية؛ وعليه، يُدرّس الأطباء اليوم وكأنهم ميكانيكيو سيارات، وما فقدناه نتيجة ذلك هو القدرة على التداوي بالحضور الشخصي للطبيب -«سلوكياتهم عند سرير المريض» إنْ جاز التعبير- التي كانت أعظم قوى الطبيب حتى آواخر القرن التاسع عشر. كما أننا تجاهلنا تجاهلًا متعمدًا استعمال ما يسمى «تأثير الدواء الوهمي – البلاسيبو»، واختزلناه إلى محض أمرٍ لافت للنظر. آخر هذه التحيزات في مجال الصحة هو تجاهلنا تطبيق جلسات العلاج النفسي في تناول الأمراض الجسدية مثل السكريّ، والسرطان، وحتى البثور الجلدية؛ رغم -وأقر بذلك- الأدلة المحدودة، ولكنها أدلة موضوعية لها نجاعتها. سيظهر أفق جديد تمامًا للطب في ظل المنظور المثالي؛ إذْ سيفهم الأطباء أن جميع الأمراض -بما فيها تلك البثور التي تسببها الفايروسات- مظاهر خارجية لديناميكيات نفسية داخلية؛ شخصية ووراء شخصية (trans-personal).
إذا نظرنا إلى المسألة من منظور عام؛ سنجد أن المادية تقول لنا إنّ الطبيعة ميتة في جوهرها، وميكانيكية، ولا معنى لها ولا غاية. أما في ظل المثالية، الطبيعة الفيزيائية مجرد مظهر سطحي لواقع ذهني حي وعميق. العالم كتابٌ يُقرأ ويُفسّر، وما الأشياء المادية إلا إشارات تشير إلى شيء يتجاوزها. كما ستكتسب الحياة غاية ومعنى؛ فإذا كانت الكائنات الحية مجرد تركيبات معقدة مفصولة عن ذهن كوني؛ فالموت حينها ليس إلا نهاية هذا الانفصال. جميع التجارب والأفكار المتبصرة التي اُكتسِبتْ في الحياة ستطلق -في لحظة الموت- إلى سياق إدراكي أوسع: ذهن الطبيعة نفسها. جميع تلك الأفكار المتبصرة والدروس التي كُسبتْ بشق الأنفس سيكون لها غاية عظمى، ولن تذهب هباءً، كما يريد المادييون منا أن نعتقد. إنّ الرابطة بين البشر أعمق بكثير مما ستقر به المادية؛ إذْ إنّ الناس المختلفين ليسوا إلا تركيبات منفصلة مختلفة لنفس الذهن الواحد، وكما علمتنا الأديان لمئات وألوف السنين، نحن أخوة؛ بل إننا نحن الآخر. فهم ذلك على أنه الواقع ليس رومانسية دينية مريحة؛ بل قد يغيّر العالم.
10- لننتقل الآن إلى مواضيع مختلفة، ولكن لها صلة بما تحدثنا عنه. مفهومك عن اللاواعي يستلزم أننا لا نكون في حالة اللاواعي ظاهراتيًا أبدًا؛ حتى في عملية التخدير الكامل والنوم الذي لا أحلام فيه. كيف ذلك؟ وما تعريفك لهذه المصطلحات التي لها صلة بهذه المسألة: الوعي، واللاواعي، والوعي المفارق (meta-consciousness)؟
أنتَ واعٍ ظاهراتيًا عندما تعيش تجربة، وأنت واعٍ وعيًا مفارقًا عندما -بالإضافة إلى كونك تعيش تجربة- تعرف أنّك تعيش تجربة، وهذه المعرفة الإضافة ليست تلقائية. فمثلًا تعيش أغلب وقتك تجربة التنفس، ولكنك غالبًا لستَ واعيًا أنّك تتنفس. التنفس دائمًا فعلٌ واعٍ، ولكنه ليس وعيًا مفارقًا دائمًا، كما توجد تجارب أخرى لا نعيها وعيًا مفارقًا أبدًا، كما سيقول لك عديدٌ من المعالجين النفسيين. زِدْ على ذلك أن بعض التجارب قد تنفصل عن الأنا المنفّذة؛ إذْ يخبرها جزءٌ من أذهاننا ليس هو الجزء القادر على اللغة؛ وعليه، نعجز عن ذكر هذه التجارب المنفصلة حتى لأنفسنا؛ إذْ نعجز عن أن نقول لأنفسنا -في أفكارنا- أننا نعيش هذه التجارب وإنْ كنا نعيشها. الصدمات النفسية -إذا كُبِتَتْ- عادة ما تتكشف على هذا النحو.
ما أشار له فرويد ويونغ على أنه «اللاواعي» هو جزء من الذهن واعٍ ظاهراتيًا –استخدما مصطلح «نفساني – psychic» إشارةً إليه- ولكنه ليس وعيًا مفارقًا، وليس منفصلًا عن الأنا المُنفّذة. تعضد الأبحاث الحالية في علم الأعصاب، مثل أبحاث النموذج الإرشادي المعرفي «عدم الإبلاغ – no report».
كشفتْ أبحاثٌ قريبة عهد -مثلًا- أن النائمين يخبرون أشياءً حتى لو لم يروا أحلامًا؛ إذْ يخبرون أفكارًا مجردة، وإدراكات حسية لاشعورية؛ بل حتى حالات «لا أنا فيها» لا تستلزم صور الأحلام الغامرة. والمراهقون حول العالم اكتشفوا أنّ الإغماء نتيجة اختناق جزئيء يجعلك تخبر تجارب مدهشة في الفترة التي لا تستجيب فيها، وتشابه هذه التجارب نشوات الحبوب المهلوسة، وقد حفّزوا هذه التجارب باللعبة الخطيرة «لعبة الخنق» التي لا أنصح بها بلا شك. بعبارة أخرى، حتى إذا أُغمي علينا فإننا لا نعيش حالة لاوعي ظاهراتيًا. والأمر ذاته ينطبق على التخدير، فخبراء التخدير يعرفون أن المرضى المخدرين أثناء التخدير -وإنْ كانوا لا يخبرون العملية الجراحية نفسها ولا الألم المصاحب له- قد يخبرون أنماطًا أخرى من التجارب الداخلية، وكل ما في الأمر أنهم لا يتذكرونها بعد الاستفقاقة من التخدير؛ لأن خليط المخدر يحتوي على مادة مخدرة تسد مسارات الذاكرة العصبية. وهذا غيض من فيض. الطيارون الذين يغمى عليهم أثناء «القوة جي» (انحراف الطائرة بشدة عن الاتجاه المستقيم، تعرف أيضًا باسم «جي-لوك») يبلّغون عن «أحلام لا تنسى» بعد استفاقتهم. والأشخاص الذين يدرّبون أنفسهم على فرط التنفس إلى حدَّ الإغماء يبلّغون كذلك عن تجارب تحولية؛ إلخ. يبدو أننا لا نصل مرحلة اللاوعي الظاهراتي مطلقًا، وكل ما في الأمر أننا نعجز عن تذكر أو التبليغ عن التجارب السابقة.
11- على ذكر كارل يونغ، يبدو أنه قد أثّر عليك تأثيرًا كبيرًا. ما قصتك مع يونغ؟ هل أثر عليك يونغ تأثيرًا أنتَ واعٍ به ويسعك تحديده؟
تعرفتُ على يونغ أول مرة في لما بلغت أربع عشرة سنة حينما عثرتُ على كتاب غريبة اسمه «أيجينغ» (كتاب التغييرات) حيث كتب يونغ مقدمة ذلك الكتاب. ولولا ما وضّحه في المقدمة؛ لعددتُ الكتاب مجرد أحجية سخيفة؛ إذْ كشف يونغ عن خيط عقلاني منح مصداقية للكتاب الذي لن أنساه، والتي كشفتْ عن عديد من الآفاق الجديدة والمجالات التي تنصاع للبحث العقلاني في نظري. يَصعبُ علي قياس مقدار أثر يونغ علي ما عدا القول إنّه كان أثرًا هائلًا. كثيرٌ مما أفكر به اليوم -وكيفية رؤيتي للعالم- أغلب الظن أنه كان له يد فيه منذ فترة مبكرة حتى أنا لن أعرفها. إنّ يونغ بالنسبة لي كان الرابطة بيني وبين شوبنهاور؛ فقد أبقى الرابطة متماسكة أثناء العصور المظلمة للوضعية المنطقية والسلوكية في القرن العشرين، ويا له من إنجاز بحد ذاته.
12- أكرر شكري لك دكتور كاسترب على وقتك وكرمك في إجابة الأسئلة. أود أن أختم حوارنا بسؤالك عن مشاريعك الحالية: ما الذي تعمل عليه الآن وقد نراه في المستقبل المنظور؟
أكتب كتابين حاليًا، أولهما تلخيص شامل عن المثالية التحليلية موجهة لعموم القراء، أما الثاني ففيه تأملات شخصية حول الفلسفة الغربية وقيمها؛ إلا أن أولى أولوياتي هي إدارة «مؤسسة إسينشيا» (www.essentiafoundation.org) التي أسعى فيها إلى تجسير هوة في الإعلام بطرح حجج علمية وتحليلية تدعم المثالية.