لا تَكْبَحْ حماسَك
بقلم: آرثر بروكس
يتمتّع أحدُ أصدقائي بقدرةٍ رائعة، تَفُوقُ قدرةَ أيِّ شخصٍ آخرَ أعرفه، على إسعادِ الأشخاص مِن حَوْلِه. وهو لا يفعل ذلك من خلال تقديم المشروبات أو الإطراءات، ولكنه يُحقِّق ذلك ببساطةٍ من خلال قوة شخصيته. إنه شخصٌ منفتحٌ، واعٍ، ويتمتّع بقبولِ الشخصية، وكل هذه سِماتٌ يتوقع علماءُ النفس أنها ستجذِب الكثيرَ من الأصدقاء.
ولكنْ لديه سِمةٌ شخصيةٌ واحدةٌ أجدُها سِمَتَه الرابحة: شَغَفُه، حيث إنه دائمًا ما يُظْهِرُ الحماسَ لِعَمَلِه والإعجاب بعملي. يتحدث بحماسٍ عن عائلته، ولكن أيضًا عن الاقتصاد والسياسة، لذا هوَ، على حدّ تعبير فيلسوف القرن التاسع عشر William James: “يتمتّع بشغفٍ تجاه الأشياء المشتركة في الحياه”.
يتّسمُ صديقي أيضًا بشخصيةٍ سعيدةٍ على نحوٍ غير عادي، وهو ما اعْتَقَدْتُ دائمًا أنه يفسّر حماسه، ولكنَّ اعتقادي كان خاطئًا. في الحقيقة الحماس من السِمات الشخصية التي يبدو أنها تُحَفِّزُ السعادةَ أكثر من غيرها، ولكي نصبحَ أكثرَ سعادة، يمكن لكلِّ واحدٍ منّا أن يَزيدَ من حماسِهِ تجاهَ الأشياءِ المشتركةِ في حياتِنا، وليس من الصعبِ القيامُ بكل هذا.
تَرجعُ الأبحاث ُالمتعلِّقةُ بالشخصيةِ إلى آلاف السنين في عصر اليونان القديمة. افْتَرَضَ أَبُقراطْ في القرن الرابع قبلَ الميلاد أنّ شخصياتنا تتكوَّنُ من أربعةِ أمْزِجَة: السريع الغضب، الكئيب، المتفائل، والبارد. فيما افترض أنّ هذه ترجع إلى غلبة أحد الأخلاط أو السوائل الأربعة في جسم المرء: الصفراء، السوداوية، الدم، والبلغم.
على الرغم من أنّ المعرفةَ الطبيةَ قد تجاوزتْ هذا النهجَ -على سبيل المثال، ليس هناك إثبات على وجود السوداوية-، فقد تنبَّأ أبُقراطْ بقدرٍ كبير من تفكيرنا الحديث حول الشخصية. خلال القرن العشرين، طوَّر العلماءُ تصنيفًا للشخصية، لانَزَالُ نستخدمه حتى اليوم. في عام ألْفٍ وتسعمائة وواحد وعشرين، ميّزَ Carl Jung بين الانطوائيين والمنفتحين، وفي عام ألْفٍ وتسعمائة وتسعة وأربعين، توسّع عالِم النفس دونالد فيسك في هذا العمل عندما حدَّد خمسةَ عواملَ شخصيةٍ رئيسة. قامت الأبحاث اللاحقة بتحسينِ خصائصِ هذه السِماتِ وأطلَقَتْ عليها اسم: الانفتاحْ، الضميرْ، الانبساطية، القبولْ، والعُصابيةْ.
على مدار السبعين عامًا الماضية، تمّ استخدام السِمات الخمس للتحقيق في العديد من الظواهر الاجتماعية وتفسيرها. على سبيل المثال، كما كتبتُ سابقًا، يميلُ الأشخاصُ المنفتحون إلى تكوين صداقاتٍ بسهولة، لكنَّ الأشخاصَ الانطوائيين يميلون إلى تكوينِ روابطَ أعمق. عندما يكسِبُ الأشخاصُ الذين يعانون من درجةٍ عالية من العُصابية المزيدَ من المال، فإن الكثيرَ منهم يستمتعُ به بشكلٍ أقلَّ من أولئك الأقلِّ عُصابية. يميل الأشخاصُ الأكثرُ انفتاحًا وَوَعْيًا نحو التَّحَفُّظْ، في حينِ أنّ أولئك الذين هُم أكثرُ انفتاحًا على التجاربِ الجديدةِ، يعتنقون عادةً وجهاتِ نظرٍ أكثرَ ليبرالية.
يبدو أنّ لِسِمَتيْنِ من السِّمَاتِ الخمسِ أهميَّةً خاصةً لتحقيقِ السعادة: أكَّدَ علماءُ النفس عام ألْفَيْن وثمانية عشر أنّ الشخصيةَ المنبسطة بنحوٍ عالٍ والشخصيةَ ذاتَ العُصابيةِ المنخفضةِ، هُما على ما يبدو صفاتٌ تقودُ للسعادة. وبشكلٍ أكثرَ تحديدًا، تعلَّقت الارتباطاتُ على جانبٍ واحد من الانبساطِ وجانبٍ واحد من العُصابية، وهُما: الحماس والانسحاب.. على التوالي.
يمكن القول إنّ الحماس والانسحاب يُشَكّلان قُطْبَيْ طيفٍ من السلوك. يتمّ تعريف الشخص المتحلِّي بالحماس على أنه وَدُودٌ واجتماعي – أي “يميل إلى الحياة”. ويشير سلوك الانسحاب إلى سهولة الإحباط والإرهاق؛ ما يؤدي بالشخص إلى “الاتكاء” على المواقف الاجتماعية والانطواء على نفسه. وتشير البيانات إلى أنه إذا تمكَّنّا من أن نصبح أكثر حماسًا، وأصبحنا انسحابيين بشكلٍ أقلّ، فسوف نصبح أكثرَ سعادة، وقد نصبح أكثرَ نجاحًا أيضًا. كتب Ralph Waldo Emerson في مقالةٍ له بعنوان: “الدوائر” (Circles)، عام ألْفٍ وثمانمائة وواحد وأربعين، يقول: “لم يَتَحقَّقْ أيُّ شيء عظيم من دون الحماس. إنّ طريقة الحياة رائعة: إنّها عن طريق الهَجْر”.
وربما يمكننا تصوّرُ الشخصيةِ المثالية لتحقيقِ أسعدِ حياةٍ، وبالطبع، قد يكون هذا مفيدًا فقط إذا كان بإمكانك تغييرُ ما يناسبُك بشكلٍ أفضل. وهذا غير مُرجَّحٍ، نظرًا لأنّ التغيّراتِ الكبيرةَ في الشخصيةِ ترتبطُ بشكلٍ عام بإصاباتِ الدماغِ المُؤْلِمة. ومع ذلك، وكما كَتَبَتْ زميلتي أولغا خازان: “بالإمكان تحقيقُ التحوّلاتِ بشكلٍ أقلّ”. وفي إحدى الدراسات التي أُجْرِيَتْ عام ألفين وعشرين، طلب العلماءُ من الناس تسجيلَ أنشطتِهم العادية، وتذكيرَهم عبر رسالة نصيَّة بالتصرّف بطرقٍ معينة، مثل أن يكونوا أكثر وعيًا أو انفتاحًا عن العادة، وقد حقَّق الأمر نجاحًا: لقد تغيّر سلوكُهم، على الأقلّ طوال الفترة التي خضعوا فيها للدراسة.
إذا كنتَ تريدُ أن تميلَ إلى الحياةِ بحماسةٍ أكبر، يمكنك تجربة شيء مماثل عن طريق إعداد نظام للتنبيهات. على سبيل المثال، يمكنك جدولةُ تَنْبِيهٍ على هاتفك، أو إرسالُ بريدٍ إلكتروني لنفسك كلَّ يومٍ يقول: “افتح قلبك أمام كل الأشخاص والأشياء التي تراها اليوم!”، ولكنْ هناك تدخلاتٌ أخرى أعمق تستحق المحاولةََ أيضًا.
1. استخدم “مبدأ كما لو”
في نصّه الرائع الذي صدر عام 1890، بعنوان: “مبادئ علم النفس” (The Principles of Psychology)، أَوْجَزَ William James -أستاذ بجامعة هارفارد ومساهم في ذا أتلانتيك- فلسفةً جذريةً لتغيير السلوك: التظاهر. وأشار إلى أنّه “لا يُمْكِنُنا التحكمُ في عواطفنا، لكنَّ إرادتَنا يمكن أن تقودَنا تدريجيًا إلى نفس النتائج بطريقةٍ بسيطة جدًا: لا نحتاج إلاّ إلى التصرف بدمٍ بارد كما لو كان الشيء المعنِيُّ حقيقيًّا، والاستمرار في التصرّف كما لو كان حقيقيًّا، وسوف ينتهي حتمًا بالنموِّ إلى مثل هذا الارتباط بحياتنا بحيث يُصْبِح حقيقيًّا”.
وكما يقول عالم النفس ريتشارد وايزمان في كتابه “مبدأ كما لو”، إن النهج الذي اتبعه جيمس فعَّالٌ بشكلٍ مدهش. ويؤكد البحث الأكاديمي الذي أجراه عالِمَا النفس سيث مارجوليس وسونيا ليوبوميرسكي هذا الأمر، حيث يُظهِر أنه إذا تصرّف الناس بشكلٍ أكثر انفتاحًا بشكلٍ عام؛ فإنهم في الواقع ينجحون ويصبحون أكثر سعادة.
إنّ التظاهر بالحماس أمرٌ واضح ومباشر إلى حدٍّ ما. عندما ترغب في الانسحاب من الأنشطة الاجتماعية (ربما تشعر بالإرهاق أو الملل)، تصرَّف كما لو كنت متحمسًا بدلاً من ذلك، وقل لنفسك: “سأقوم بالخوض في هذا الأمر الآن”. ويشير البحث إلى أن هذا سيؤدي إلى إنشاء عادات معرفية جديدة تصبح تدريجيًا أكثر تلقائية.
لكن، يمكن أن يأخذ ذلك منحى سلبيًّا. أنا لا أقترح عليك أن توظف حماسك لشيء خطير أو تستخدمه للهرب من مشاكلك. (“اليوم، سأتصرف بحماسةٍ كما لو أنني لم أضطر إلى دفع ضرائبي!”) بدلاً من ذلك، استخدم المبدأ لدفع نفسك نحو تغيّرات إيجابية.
2. أعد صياغة التحديات كَفُرَصْ.
أحدُ أشهر كتّاب تحسين الذات في القرن العشرين، الذي باع ملايين الكتب عن التفكير الإيجابي، كان القسّ البروتستانتي Norman Vincent Peale. شارك في أحد مؤلفاته “الحماس يصنع الفرق” (Enthusiasm Makes the Difference)، نصيحةً من صديقٍ حكيم، يقول: “افرحوا دائمًا عندما يكون هناك اضطرابٌ على الأرض؛ لأنّه يعني أن هناك حركةً في السماء؛ وهذا يشير إلى أنّ أشياءَ عظيمةً على وشك الحدوث”.
من السهل رفضُ هذا التفكير باعتباره تفكيرًا متفائلاً لدرجةٍ ساذجة وغيرِ عِلمية، لكنه مثالٌ جيد لإعادةِ صياغةِ المشكلة باعتبارها فرصة. وهذه استراتيجيةٌ شائعةٌ في الإبداع والابتكار، وأسلوبٌ ناجحٌ في قيادة الأعمال. يستخدم روّادُ الأعمال بشكلٍ روتيني إعادةَ الصياغة بعد النَّكَسات من خلال طرح أسئلة مثل: “ماذا تعلّمتُ من هذا؟”. يمكنك زيادة حماسك للأشياء التي عادةً ما تنسحب منها، من خلال قول: “هذا صعبٌ بالنسبة لي، ولهذا السببِ أفعل ذلك”، أو ما شابهَ ذلك من أفكار.
3. قم باختيار أصدقائك بعناية.
إحدى أفضل الطرق لتصبحَ أكثرَ حماسًا هي الوجود مع الأشخاص المتحمّسين مثل صديقي. (لن أعطيك رقمه، عليك أن تجد صديقك الخاص!). ومن خلال القيام بذلك، سوف تستفيد مما يسميه علماء النفس “العدوى العاطفية”؛ حيث يتبنَّى الناسُ مشاعرَ ومواقفَ مَن حولَهم. إذا كنتَ تميل إلى الانسحاب، فقد يكون من السهل أن تنجذب نحو الأشخاص الذين يفعلون الشيءَ نفسه. لكنَّ القيامَ بالعكس بِوَعيٍ يمكن أن يساعدك على استعارة سِمةٍ شخصيةٍ أفضل ممن حولك. ابحث عن الرفاق الذين يميلون إلى الحياة بحماسة، وعلى الرغم من أنّ الأمر قد يبدو عملاً روتينيًا في البداية، إلا أنّ من المرجح “اِلْتقاطَك” لهذه الروح لتصبح مُتحمِّسًا للصداقات.
إنّ محاربةَ ميلك للانسحاب لا يعني أنه لا يمكنك أن تكون وحيدًا أبدًا. هناك فرق بين الانسحاب العصابي من الحياة وبين العزلة المتعمدة، لأن عدم القدرة على البقاء دون صحبة وتحفيز ليس بالضرورة علامةً على الصحة الجيدة أيضَا. ما يهم هو دافعُك: ما إذا كنت تبتعد عن الآخرين أو تتجه نحو الوحدة (أو، على العكس من ذلك، ما إذا كنت تتجه نحو الآخرين أو تبتعد عن أفكارك الخاصة).
لم يكتب هنري ديفيد ثورو كتابَ “وَالْدِنْ” كتمرينٍ على الانسحاب؛ بل ليصبح داعمًا متحمسًا لإيجاد الذات بصحبة الأفكار. يُعَدُّ وصفُه للاستيقاظ بمفرده -في مقصورةٍ بواسطة “وَالْدِنْ بوند”- صورةً مثالية للحماس: “كلَّ صباحٍ كان بمثابة دعوةً مبهجةً لجَعْلِ حياتي متساويةً في البساطة، ويمكنني القول في البراءة أيضًا، مع الطبيعة نفسها”.
حتَّى لو لم يكن محيطُك رائعًا مثل “وَالْدِنْ”، يمكنك اختيار التعامل مع كلِّ صباح، كلِّ لقاء، وكلِّ نكسةٍ كدعوةٍ مبهجة. يمكنك أن تحوّل ذهنك إلى مقصورةٍ مريحة خاصة بك؛ لتجعل الحياةَ بداخلها أكثرَ إشراقًا.
آرثر بروكس، كاتب مساهم في مجلة The Atlantic، ومُضيف بودكاست: كيف تبني حياةً سعيدة؟ (How to Build a Happy Life).