مقالات

«Saudade»: كلمة حضور الغياب التي لا تُترجم

مايكل أموروسو – ترجمة : عبير حمّاد

أخبرني «برونو»: «أُصلِّي لأصدقائي الذين فقدتهم، لعائلتي… كعمي الذي توفي». كنّا نتحادث في صحن كنيسة «سانتا كروز» (سولز أوف ذا هانجد) وهي كنيسة كاثوليكية صغيرة في وسط «ساو باولو»؛ مبنية بالقرب من مصاطب الإعدام في المدينة القديمة ويذهب لها الزوار المواظبون؛ ليصلوا لأجل أمواتهم، قال لي: «حين أكون هنا أشعر بأنني بخير، أشعر بأن من على الجانب الآخر بخير أيضًا». كما أخبرني «برونو» أن شيئًا ما يجعل هذا المكان مميزًا، شيئًا يجعله مفعمًا بـ«الأحاسيس»؛ إذ قال لي: «حقيقة أنك تتذكر وتستدعي ذكرى شخصٍ فعَل الخير لأجلك تجعلك أكثر اشتياقًا وحنينًا (1)».

 “Saudadeهي كلمة شعورية أساسية لمتحدثي البرتغالية، وبالرغم من كون معناها مقاربًا للحنين أو الشوق فليس للمصطلح أي مرادف مباشر في الإنجليزية. كما غنى الموسيقار البرازيلي «غيلبيرتو غيل» في أغنيته “ Toda saudade، وهو بمعنى حضور الغياب «لشخص أو لمكان ما أو لشيء ما». يمكن أن يشعر المرءُ بــ “Saudade(المفرد منها والجمع صياغة واحدة) للأشخاص أو الأماكن، وكذلك الأصوات، والروائح، وحتى الطعام. بل يمكن أن يشعر المرء بالحنين لنفسه “Saudade؛ ولذلك من الجيد أن يشعر المرء بالحنين -كما يقول المثل(2) – إذ إن هناك ضربًا من ضروب المتعة في هذا الشعور، بالرغم من أنه مؤلم؛ إلا أن لدغة الحنين تذكيرٌ بخيرٍ مضى.

وصف الشاعر البرتغالي «تِكسيرا دي باسكوايس» في كتاباته سنة 1912 «حنين المُلَوع » بأنه: «الرغبة المؤلمة بمحبوبٍ ما لغيابه»، وهو شعورٌ شديد حاد؛ يوصف -عادةً- بأنه يعتمل في القلب. كما تُعد لغة «حنين المُلَوع» لغةً مثيرة ومحفزة للذكريات، إذ يشتكي متحدثو البرتغالية من «موت الحنين المُلَوع» أو الرغبة بـ«القضاء على الحنين الملوع» وذاك بإشباع الحنين بتحقيق الرغبة باستعادة المفقود. ورغم اتسامها بالغلو، فإن شاعرية الكلمة المرَضية تسلط الضوء على كيفية تَشكُّل الارتباطات الوجدانية لحياةٍ بشرية ذات معنى.

تربط الثقافة الشعبية «الحنين الملوع» بالشعورِ بالبُعد والفَقْد الذي تعاني منه أُسَر الرجال الذين يغيبون في البحر، في زمن الرحلات الاستكشافية البرتغالية، وبينما يشير هذا التراث الشعبي إلى ازدواجية المصطلح الشعرية، فإن جذوره وأصوله غير واضحة، فالتصريف المهجور من الكلمة “soidadeظهر في أبياتٍ لشاعرٍ متجول من القرن الثالث عشر يسرد فيها مرثيات الأحبة المتباعدين. ويقترح معظم العلماء بأن هذه الصياغة مشتقة من الكلمة اللاتينية “ solitate“، والتي تعني «العزلة»؛ ومن الممكن أن تكون قد تأثرت -لاحقًا- بالكلمة البرتغالية “saudar” التي تعني «الترحيب» قبل أن تصل إلى صياغتها الحالية، لكن بعض العلماء قدّموا أصولًا بديلة للمصطلح؛ أحدها هو تتبُّع أصل الكلمة وصولًا إلى الكلمة العربية سوداء، والتي تعني مزاج سوداوي أو كئيب. وهذا الجدال ما هو إلا مجازفة خطرة: فالكلمة جزء لا يتجزأ من فهم البرتغاليين لذواتهم، وإثارة السؤال حول أصل الكلمة وجذورها يجسد قلقًا عميقًا حول هوية البرتغاليين وعِرقهم.

ظهرت حركة  Saudosismoالأدبية في بدايات القرن العشرين والتي أخذت على عاتقها إرساء كلمة “saudade كعلامةٍ بارزة للهوية البرتغالية. تأسست الحركة بعد سنتين من الثورية الجمهورية التي اندلعت سنة 1910، وأنهت حكم الناظم الملكي الذي امتد لقرون، ووعدت الحركة بالتجديد الثقافي في زمن الشك. كتب الأنثروبولوجي البرتغالي «جاو ليال» في كتابه (The Making of Saudade) الصادر سنة 2000 «بأن أعضاء الحركة حاولوا استعادة «الرونق المفقود» للحياة الثقافية البرتغالية، مستبدلين التأثير الأجنبي المسؤول عن انهيار البلاد في عصر الرحلات الاستكشافية بطقس (لشيءٍ برتغالي)»، شيءٍ يعكس «الروح البرتغالية»، مشيدين بالكلمة كتعبيرٍ أصيل عن «الروح اللوزيتانية»، واختارت الحركة هذا الشعور بوصفهِ مركزًا للجماعة.

يتفاخر متحدثو البرتغالية -عادةً- بأن الكلمة لا تترجم، رغم ادِّعاء قديم -أكّد فيه ملك البرتغال «دوريت» (الذي حكم في السنوات 14331438) أن تفرّد الكلمة قديمٌ ومبكر من القرنِ الخامس عشر- فإن أتباع الحركة هم المسؤولون عن وجود وانتشار الكلمة اليوم. كرر «باسوكويس» في بيان الحركة الادِّعاء القائل بأن الكلمة لا تترجم، وشدد على: «وحدهم البرتغاليون هم من يشعرون بالكلمة»، رابطًا هذا الإحساس بالسلالة البرتغالية، وقد جادل بأن الكلمة تتضمن اتحادًا رفيعًا بين الرغبة، والألم الذي يعكس «التوليفة المثالية» للدم الآرياني السامي الذي يملكه البرتغاليون؛ بالرغم من إشارة المعاصرين إلى عددٍ من المترادفات المقاربة للكلمة في لغات أخرى إلا أنَّ اعتناق «باسوكويس» الوطني للكلمة ناشد فيه النخبة الثقافية محاولًا فسح المجال لهذه الوطنية.

هل هناك مشاعر محددة بثقافة معينة؟ فموضع الخلاف هو إذا ما كانت المشاعر التي تدل عليها كلمات -كمثل كلمتنا هنا- نادرة ومحددة بثقافات معينة، أو إذا ما كان البشر في كل ناحية من العالم يحسون بنفس هذه الأحاسيس، لكنهم يعاملونها ويركزون عليها بشكلٍ مختلف بناءً على توافر بعض الأفكار الثقافية المعينة عن المشاعر. يقترح علماء النفس «يو نيّيا، فويب إلّسورث، ساسوما بامغاشي» أن: «المشاعر التي تُسميها لغةٌ ما يمُكن أن تكون مجتذبةً، مستقطبةً للتجارب الشعورية، جاذبةً بذلك، صوب المفاهيم المعروفة، مشاعر غير محددة وغير معروفة. مما يعني -أيضًا- أن الكلمات التي تعبر عن المشاعر، كالحنين أو حنين الملوع، تحمل معانٍ عاطفية مختلفة في أماكن وعصور زمنية مختلفة.

لطالما فرّق المثقفون البرازيليون بين كلمتهم «حنين الملوع» وبين كلمة البرتغاليين، ففي سنة 1940 وصف الكاتب البرازيلي «أوسفادو أريكو» الكلمة البرازيلية بأنها: «أقرب للفرحِ من الحزن، خيالٌ أوسع أكثر من كونه ألمًا.. الشاعر بالحنين الملوع الذي لا يبكي، بل يغني». إذ عكس فَهْم «أريكو» للحنين السعيد المفهوم البرازيلي “brasilidade ” للبهجة والتفاؤل الذي ظهر خلال السنوات المبكرة من حكم نظام «غيتوليو فيرغاس» في السنوات (45-1930). لكن كلمة «حنين الملوع» يمكن أن تكون حانقةً وحاسمة. كتب عالم الدراسات الثقافية (في جامعة ميسوري) في دراسته عن «حنين الملوع» في السينما البرازيلية بأن مخرجي منتصف القرن من أمثال «خميرتو مورو» قد نشر الكلمةَ كأنها من الحياة الشعبية لسكان القرى، كطريقةٍ للتعليق عن التطور والتنمية والهجرة من الريف إلى المدينة. واليوم في المناخ السياسي المنقسم لا يتوانى بعض المحافظين عن التعبير بصراحة عن حنينهم للحكم الدكتاتوري العسكري البرازيلي الذي يتصورونه الترياق للفساد المستشري والعنف والاضطراب الاقتصادي.

لكن هل يمكننا حقًا أن نَحِنّ ونلتاع شوقًا للدكتاتورية أو الإمبراطورية أو أي نظام حكمٍ آخر؟ أم أن الكلمة عزيزة جدًا وقوية ومنتشرة ليسهل استخدامها لمآرب سياسية؟ كلاهما -على الأرجح-؛ لأنه إذا كان ما يقوله المصلون كـ«برونو» في كنيسة «سولز» يشير إلى أمر ما؛ فذلك سيكون أن الحنين الملوع هو دومًا متعة وحُلم. إنه شعورٌ قادر على المنح؛ بالرغم من كونه مواجهةً مع ما فُقد؛ هو بمثابة كَشْف: فنحنُ نقع في قبضة الحنين واللوعة فنعرف ما الأمور التي نُثمنها أكثر من غيرها؛ والتي تجعلنا نحن ببساطة.

 

 


ملاحظات المترجمة:

(1):الكلمة المذكورة نصًا هي  saudadeوهي كلمة برتغالية سيشرحها الكاتب لاحقًا.

(2): é bom ter saudades.

 

المصدر

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى