إن الحزن شعورٌ سيئٌ، ولكن لا يعني هذا بأننا سنكون أفضل حالًا دونه. قد يساعدنا التركيز على الأمور التي نقدّرها على التكيف مع الفقدان.
صرّح طبيبان نفسيان، توماس هولمس وريتشارد راهي، في عام 1967م عن تطوير مقياس لقياس مدى الضرر الذي تسببه مختلف النوائب. لقد طلب هولمس وراهي من مئات الأشخاص أن يقيّموا عدّة حوادث بناءً على مدى ما تتطلبه في رأيهم كل حادثة من إعادة الضبط لحياتهم. من بين الأحداث العشرين التي نالت على أعلى تقييم، كانت ثلاثة منها تتعلق بوفاة الآخرين: وفاة صديق مقرّب (نال على تقييم 37 في الميزان)، وفاة أحد أفراد الأسرة المقربين (63)، والحادثة التي حصلت على التقييم الأعلى، وفاة شريك الحياة (100).
تُثير هذه المكتشفات أسئلة فلسفية مهمة عن قيمة ردود فعلنا الحادّة تجاه وفاة الآخرين وعن قيمة الحزن. لا شك بأن الحزن مُرهق، وعادة ما يجلب معه مشاعر مضطربة تدوم لأسابيع، أو حتى أشهر: الأسى أو الألم الذي ينتاب قلب الحزين، ولكن غالبًا ما يصاحبه مشاعر أخرى مثل التوتر، الذنب أو السخط. ولا ريب أن الحزن لا يبدو لنا نافعًا، إلا أن الاعتقاد بأن حياتنا ستتحسن دون الحزن لهو اعتقادٌ مضلل. تفكّر في الآتي: من الشائع أن يعتقد الناس بأنه من المستحسن أخلاقيًا أن نخلّص الناس من المعاناة. سيكون من السهل أن نتفهم التردد الذي ينتابنا إزاء فكرة محاولة تبديد معاناة الآخر كليًا في حالة الحزن. إن كنت تملك حبة قادرة على إزالة الحزن من صديق أُبتليَ بالفقد، سيكون من غير المستحسن أخلاقيًا أن تقدّم لصديقك هذا النوع من “علاج الحزن”.
لا تنطبق مسؤوليتنا الأخلاقية في تخفيف معاناة الآخرين على حالة الحزن النابعة من الفقدان، وهذا يشير إلى أن المعاناة المرتبطة بالحزن تشكّل بطريقة ما قيمة لدينا. إن انعدام المعاناة على الإطلاق لهي أسوأ من المعاناة.تضمر هذه الآراء عن الحزن مجموعة من الأفكار التي تشكّل ما أُطلق عليه معضلة حزن:
- إن الحزن شعورٌ سيئٌ؛ لذا ينبغي اجتنابه أو الأسف عليه.
- إن الحزن قيّم لذا لا ينبغي علينا (وعلى الآخرين) اجتنابه كليًّا وإنما يجب أن نمتن لحزننا.
هل يمكن حلّ هذه المعضلة؟ رفض الحجة (1) سيعني رفض الحجة القائلة بأن الحزن شعورٌ سيئ، وهذا مما يصعب إنكاره. يكون إذن الطريق الواعد لحل المعضلة هو الدفاع عن الحجة (2): أن نثبت بأن الحزن قيّم ولذا لا ينبغي اجتنابه أو الأسف عليه، بصرف النظر عن المشاعر السيئة، هذه الحجة تفرض الكشف عن بعض إيجابيات الحزن. بالرغم من أن الأسئلة التي تدور حول منفعة الإنسان هي مادة الفلسفة، إلا أن الفلاسفة لم يقولوا الكثير عن الحزن بالمقارنة مع المواضيع الأخرى، وبعضٌ مما قالوه يشير إلى الحزن ويا للعجب بالعداوة! على سبيل المثال وصف أفلاطون اللحظات الأخيرة التي عاشها معلمه سقراط في حوار فايدو. بينما يتأهب سقراط لتجرع كأس السم (نبتة الشوكران)، نهى أصدقاءه وأتباعه عن النواح لموته. يقترح سقراط بأن حزنهم يعكس معتقدًا خاطئًا: وهو أن الموت سيكون بلاءً له. يؤكد لهم بأن الموت في صالحه؛ وذلك لأن روحه خالدة وموته يعدّ تجسيدًا لتحرره من “سجن” جسده.
لنضع ميتافيزيقيا سقراط جانبًا، فهو الذي أخطأ بشأن الحزن، بإمكان أصدقائه وأتباعه الاتفاق على أن موته لم يكن خسارة له، وإنما ما يحزنهم هو خسارتهم – فهم سيفقدون رفيقهم ومعلمهم. في هذا السياق، تعتبر تنحية الحزن مفهومًا بليدًا نوعًا ما لقيمة العلاقات الشخصية. أولئك التي تربطنا بهم علاقة وطيدة ليسوا بقطعٍ قابلة للتبديل، -ومثل ما يقترح سينيكا، في الرسائل الأخلاقية إلى لوسيلوس – كما يستبدل المرء ثيابه المفقودة.
إن علاقاتنا ليست قيمة للمنافع التي تجلبها وإنما هي قيمة في ذاتها؛ لكونها مشاريعَ أساسيةً أو التزامات تدور حياتنا حولها، نحن نحزن في الأساس لأن فقداننا لشخص يمثّل خسارة لنا، خسارتنا لأولئك الذين يشغلون دورًا لا يعوّض في حياتنا. ظاهرة الحزن على فقدان الأشخاص المهمين في حياتنا لهو في تقديري حجة أساسية داعمة لفكرة أن الحزن لا يجب اجتنابه أو الأسف عليه، ولحل معضلة الحزن. نحن في الواقع لا نحزن على موت الجميع، ولا يمكننا أن نفعل ذلك. نحن نحزن فقط على موت أولئك الذين تربطنا بهم علاقة أسهمت في تكوين هويتنا، علاقة أساسية في فهم أنفسنا والأشياء التي نقدّرها في حياتنا. سواء أكان وفاة شريك حياة، أم أحد الوالدين، أم نسيب، أم شخصية سياسية، أم ثقافية محبوبة، إن وفاة شخص مهم في ماضينا، ومستقبلنا سيثير بديهيًا المشاعر المؤلمة المرتبطة بالحزن على فقيد.
قد تسبب لنا أحداث الوفاة هذه نوعًا من أزمة الهوية. يُحدث موت شخص لا يعوّض في حياتنا فقدانًا لفهمنا بأنفسنا. العديد من المحزونين يصفون فقدانهم بألفاظ متعلقة بالهوية ( “فقدتُ جزءًا من ذاتي”) ويتحدثون عن شعورٍ بالتوهان، وكأنما عالمهم المألوف بات غير مفهوم. أرى أن الحزن هو الحالة الفعّالة التي ترمز إلى هذه الخسائر. هذا أحد الجوانب المهمة في الحزن. يمكن لمشاعرنا أن تخبرنا عن الأمور التي نقدرّها. يعلمنا الخوف عن الأمور التي نقدرها من خلال تنبيهنا إلى الأخطار المحتملة التي تهدد ما نقدّره مثل الغضب وذلك من خلال إخبارنا بأن شيئًا نهتم به قد تعرض لفعل مظلِم وتضرر أو تقوض عن آخره.
في حالة الحزن، ما نشعرُ به يخطرنا، بطريقة عاطفية جلية، بما نقدّره في علاقتنا مع الفقيد. يمكّننا الحزن من تقدير إسهام هذا الشخص في حياتنا اليومية، وفي تشكيل أهدافنا والتزاماتنا، وتجسيده لخصال حسنة قد اقتدينا بها (وفي بعض الأحيان، صفات أقل استحسانًا ينبغي علينا أن نتجنبها): يدفعنا الألم الذي نشعر به إلى ملاحظة وتأمل هذه التفاصيل. في حين أن نوبات الحزن لا تزيد نفعًا كلما زادت ألمًا، إلا أن الحزن الخالي من الألم لن يكون نافعًا كذلك، سيحرمنا من معلومات أساسية حول ما فقدناه؛ لذلك آلام الحزن هي أساسية لكونها أداة تخدمنا لفهم الفقدان. عندما نحزن، نكون قد وُهِبنا أداة لتجديد هويتنا ولمعرفة أنفسنا. يؤدي الحزن كذلك دورًا في التعامل مع الفقدان؛ لأن الحزن معذّب، فهو يشجعنا على البحث عن وسيلة للعيش في ظل الفقدان. هذا لا يعني بالضرورة أن ننهي علاقتنا بالفقيد. في حالات متعددة، نكون على اتصال بالمفقودين بقدر ما يظلّ تأثيرهم حاضرًا في أذواقنا وقيمنا، وعلى الأقل، تستمر علاقتنا بهم في الذاكرة، بالطبع لن تكون علاقتنا بهم كما كانت من قبل، فلا يمكننا الذهاب لصيد الأسماك مع خالٍ متوفى، أو التخطيط لقضاء إجازة مع شريك متوفى، أو أن نسترجع ذكرياتنا أيام الجامعة مع صديق متوفى، يزودنا الحزن بمعلومات وافرة عن كيفية تغيير هذه العلاقات. مجددًا، تكشف لنا مشاعرنا عن الأمور التي تهمنا. يتيح لنا الحزن والمشاعر المرتبطة به فحص هويتنا وقيمنا، ويشمل ذلك كيف نريد لحياتنا أن تكون، في المستقبل.
على سبيل المثال، في الغالب يتعين على الأرامل أن يقررن ما إن سيبقين ساكنات في المنزل نفسه الذي تشاطرنه مع أزواجهن، يتطلب قرارا كهذا توضيحًا للأشياء التي يقدّرها الشخص: إلى أي حد، على سبيل المثال، تعتمد قيمة العيش في هذا المكان على كونه مأوى قد ضمّ الشريك المتوفى؟ يتمحور هذا السؤال جوهريًا حول قضية الشريك وكيف كان منسجمًا – وقد يظل منسجمًا – في مخططات الشخص وهويته. قد يرى أرمل يساوره شعور بالذنب لاحتمالية الانتقال من المنزل الذي شاطره مع شريكته بأن المكوثَ في المنزل هو خيار يجسّد التزامًا للاستمرار في مشاركة حياته مع شريكته المتوفاة.
بالمقابل، قد يشير الشعور بالقلق للمكوث في المنزل إلى نوع آخر من الأهمية (على سبيل المثال، لعله كان مصدرًا للتوتر في العلاقة) وهذا قد يقود إلى قرار مختلف. لذا فإن ردود الفعل العاطفية قد تعين على اتخاذ قرارات عدّة نتخذها في ظل فقدان أولئك الذين نكترث لهم: والتي تتعلق بالاحتفاظ أو التخلص من ممتلكات الفقيد مثل: أي جمعية خيرية ينبغي أن تستلم موجودات الفقيد وما إن كانت ستُحذف حسابات الفقيد في منصات التواصل الاجتماعي. لا يمكن للحزن أن يتخذ القرارات المتعلقة بالعيش مع الفقدان بالنيابة عنا. ولكن مشاعر الحزن تعيننا على فهم القيم المهددة في هذه القرارات. الشعور بالحزن والفقد قد يؤكدان على خصائص الموتى وتأثيراتهم التي نود أن نتمسك بها في غيابهم.
المشاعر التي تنتابنا أثناء الحزن قد تكشف لنا الأشياء التي نقدّرها. النتيجة؟ عندما نحزن، نمتلك أداة تمكّننا من تجديد هويتنا ومعرفة أنفسنا بشكل أفضل – لاستكشاف من نكون بعد أن فقدنا شخصًا يهمنا. وكما كتب رينر ماريا ريلكه، وفاة الآخرين “تجرحنا” وفي الآن نفسه “يرتقي بنا إلى فهم أفضل لما يحدث ولأنفسنا”. ليست كل تجليات الحزن نافعة. في بعض الأحيان تكون الآلام غير مُحتملة (يا للأسف، الفُقدان هو أحد العوامل الخطرة المؤدية إلى الانتحار). إلا أن حقيقة أن الحزن يمثل فرصة لفهم الذات، بصرف النظر عن المشاعر السيئة، يظهر لنا كيف يمكن لمعضلة الحزن أن تحلّ.
لا شك بأن الحزن مجهِد. ولكن الحزن ليس حالة مُعيبة ينبغي أن نحلها في أسرع وقتٍ ممكن: إنما وسيلة قوية محتملة للتكيف مع الفقدان. ينبغي على المخلوقات الفانية أمثالنا أن تكون ممتنة للحزن.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.