بقلم: جوليان تشونغ
حسب الفلسفة الصينية، يمكنّنا الإبداع من عَيْش الحياة بطريقة فنية، سواء في حالة الحزن على وفاة أحدهم أو التواصل مع الزملاء، عندما كنتُ في الخامسة عشر من عمري، تُوفّي أحد أعز أصدقائي فجأة، بلّغتْني معلمة مادة الفيزياء هذا الخبر بعد الانتهاء من الاختبار، وقد كنتُ أتساءل طيلة هذا الوقت عن سبب عدم تواجد صديقتي، ما زلت عاجزة عن وصف شعوري وقتها؛ كان شيئًا يشابه الصدمة، الشقاء، التوهان، لم أعرف ما ينبغي أن أفكر فيه أو أفعله، قضيتُ ليالي مُسهّدة وأخرى في ذهول.
بعد مرور خمس عشرة سنة، عندما كنتُ في مرحلة الدراسات العليا، شهدتُ وفاة صديقٍ آخر، مات بَغتةً، وكان رجلًا أحببته كثيرًا، أذكر اللحظة التي تفقدتُ فيها هاتفي وعلِمتُ بالخبر، وللأسف، عبر رسالة نصية، بالرغم من أن ردة فعلي كانت مشابهة لما مضى؛ إلا أنني شعرتُ بتحسن ملموس في مشاعري بعد ذلك، كنت مدهوشة وحزينة؛ إلا أنني لم أكن ذاهلة كما كنتُ في مراهقتي، ما زلتُ قادرة على التفكير، وإنجاز الأعمال، بدا لي أنّني صرتُ أجيد التعامل مع الفقدان.
لعلّكَ تظنّ أنَّ سبب هذا الاختلاف واضح – فقد كنتُ أكبر سنًا، ولديَّ تجارِبُ أكثر في التكيف مع الموت، لكن التجارب وحدها ليست كافية؛ إنما التعلُّم من هذه التجارب هو بيت القصيد، والتعلم من التجرِبة، خاصة إن كانت صعبة كوفاة شخص عزيز، قد تنطوي على الكثير من الأمور، ومن ضمنها الإبداع.
قد يبدو هذا الزعم مفاجئًا، في النهاية، مفهوم الإبداع عادة ما يكون مرتبطًا بصورة عبقريٍّ مبدع ووحيد، شخص لا يتقن ما يفعله فحسب، وإنما يُحدث تغييرًا في العالم، علاوة على ذلك، حتى وإن لم نحصر أنفسنا على رؤى رومانسية أو بطولية حول طبيعة الإبداع وقيمته، من الشائع أن يُعتقد بأن الإبداع يهدف إلى الأصالة أو الابتكار، طريقة التفكير هذه حول الإبداع ليست أمرًا مُجمعًا، يقدّم جوانغ زي (莊子) وهو كتاب فلسفي وأدبي من الكلاسيكيّات الصينية، منظورًا مختلفًا، مَفادُ أحد تفاسير هذا الكتاب؛ أن الإبداع لا يهدف إلى الأصالة أو الابتكار، وإنما الاندماج، إنه يستعيض عن الابتكار بالسعي إلى شيءٍ يندمج مع الموقف الذي يمثل جزءًا منه.
توضح قصة صانع العجلات بيان، من أحد فصول جونغ زاي المعروف باسم تيان داو (天道)، والذي يعني “طريق الجنة” أو “الطريق إلى الجنة”، هذا المنظور حول الإبداع فيما يتعلق بالفنانين أو الحرفيين، في هذا العمل القصير، يُخبِر صانع عجلات يُدعى بيان (扁) دوقًا إنّ النصيحة الواردة في كتاب الحكماء ليست سوى فُتات، طالَب الدوق غاضبًا بتوضيح، وأجابه صانع العجلات بأنه، على الأقل فيما يخص حرفته، قادر على صناعة أعماله؛ لأنه صقَلَ موهبة لا يمكن نقلها بالكلمات، إن كانت ضربات مدقّه أخف من اللازم، سينزلِقُ إزميله ولن يثبت، وإن كان أقوى من اللازم، سيعلَقُ ولن يتزحزح، يقول “لا تكن أخفَّ من اللازم، ولا أقوى من اللازم، بوسعك أن تفهم ذلك من خلال يديك وأن تشعر به في ذهنك”.
إذن، فقد عشتُ سبعين عامًا وما زلت أنحت العجلات، عندما توفي القدماء، أخذوا معهم الأشياء التي لا يُمكن توارثها؛ لذا، ما تقرأه ليس إلا ثُمالة القدماء.
بالرغم من أنه حرفي “متواضع”، إلا أن صانع العجلات لديه شيء مهم لتعليم الدوق، كان يصنع العجلات صناعةً يدوية لسنوات عدّة، وقد صقل المهارة التي مكّنتْه من مزاولة عمله وتنفيذه بصورةٍ اندماجيّة، وليس من الممكن وصفها كليًّا من خلال قائمة إرشادات حسابية، كان يستجيب لتفاصيل دقيقة في الخشب، وأدواته، وجسده لصناعة ما يريد شيئًا لا يمكن تحقيقه عن طريق فرض خطة.
تكون النصيحة الواردة في كتاب الحكماء إذن مجرد ثمالة إذا ما فُسِّرتْ على أنها توجيهات يتعيّن على الشخص قراءتها ومن ثم تطبيقها، تتطلب الحياة الكريمة أكثر من ذلك بكثير؛ ومن ضمن ما تتطلبه، اندماج عفوي بين أنواع متناقضة – على سبيل المثال – الصلب واللين، والمتعلَّم والعفوي، والساكن والمتحرك، وحتى المنتِج وغير المنتِج, والتي يمكن تطبيقها كلها في حرفة صناعة العجلات، وفي أي موقف آخر كذلك، بصياغة أخرى، الإبداع جزءٌ من الحياة الكريمة.
لا يستهدف هذا النوع من الإبداع إلى الأصالة أو الابتكار، لم يُعدّ صانع العجلات مبدعًا لأن أعماله اتّسمتْ بالأصالة والابتكار، وإنما لمقدرته على صناعة العجلات في ظروف حساسة، وتفاعلية و- الأهم – بطريقة اندماجية؛ وهذه المهارة لا تُكتَسب عن طريق التَّكرار، وإنما عن طريق التفاعل في نشاطات عفوية، يمكننا الاستعانة بقصة بيان صانع العجلات لمعرفة كيف يكون تعلم التعامل مع الفقدان سعيًا إبداعيًّا.
بالرغم من كثرة توافر الكتب التي تقدم النصائح حول هذا الموضوع؛ فالتكيّف مع حالات الوفاة هو في جوهره تجرِبة شخصية – مثل نحت العجلات -، ولا يمكن وصفه وصفًا تامًّا من خلال مجموعة توجيهات منهجية. لا بد أن نتجاوب مع التفاصيل الخاصة لموقفنا (تلك المتعلقة بأفكارنا، ومشاعرنا وظروفنا العامة) لصنع ما نريده (مثل الشعور بالسلام أو الحصول على خاتمة)، وهذا هدف لا يمكن إتمامه من خلال فرض خطة، حتى وإن قمنا بصياغة “خطط” مرنة ومؤقتة، وإن كانت وليدة اللحظة.
بالإضافة إلى ذلك، إنَّ معالجة أفكارنا، ومشاعرنا، وظروفنا بتفاصيلها كلها، لا تختلف كثيرًا عما فعله الآخرون للتكيف مع الفقدان، على أي حال – مرة أخرى، مثل نحت العجلات – إن حالة الفقدان نشاط إبداعي؛ إذ إنها تنطوي على اندماج عفويّ بين أشكال متناقضة مثل الحزن والاحتفال، الحقد والامتنان، الشقاء والفرح.
القدرة على التكيف مع الفقدان، هي كذلك، في حالة حرِجة، والتفاعليّة والاندماجيّة لا تُكتسب عن طريق التلقين، وإنما من خلال التفاعل في نشاط مستدام، وعفوي، في الحقيقة، حتى الفيلسوف جوانغ زي بنفسه يمكن أن يُرى على أنه مستغرق في عملية إبداعية بعد وفاة زوجته في الفصل الثامن عشر في الكتاب، الجي لي (至樂)، والذي يعني “السعادة المثالية” أو “البهجة المثالية”، لهذه الطريقة في التفكير حول الإبداع إيجابيات مُحتملة عدّة، أولًا حتى وإن كان الإبداع معروفًا بأنه مُصوِّب نحو لأصالة، فإن تقليل التركيز على الأصالة قد ينتج عنه –وياللعجب!- إبداعٌ أعظم.
وذلك لأنَّ السعي إلى الأصالة قد يكون ذا نتائجَ عكسيّةٍ عندما يكون الأمر متعلّقًا بخلق نتائج جديدة؛ فإن ركّزنا على مهمة الإتيان بشيء جديد، سنستكشف نطاق الاحتمالات التي قد تُحقّق النتيجة المرغوبة فقط، ونتجاهل الكثير من الفرص التي كان من الممكن أن تكون جزءًا من عملٍ مبتكر، ولكن لنتخيَّلْ إن تعاملنا مع مفهوم الإبداع بمعزل عن الأصالة، لا يعني هذا بأن علينا أن نتخلى عن قيمة الابتكار كليًّا، وإنما نعدّه أحد النتائج المحتملة.
توسيع الخيارات بهذه الطريقة قد يسهّل العملية الإبداعية، ثانيًا، قد يُعينُنا التركيز على الاندماج في فهم المواد الإبداعية على أنها مرتبطة ببيئاتهم، وناتجة عنها، هذا سوف يوسّع من منظورنا حول الإبداع وقد يتيح لنا رؤية أن الإبداع مطلوب في نشاطات أعظم.
في نهاية الأمر، الكثير من أنشطة الحياة من العادية إلى المهمة، لا تُكتسَب من خلال التلقين، وإنما من خلال أفعال عفوية تندمج فيها جوانب متناقضة، كبداية، أمثلة أخرى قد توجد في التفاهم مع العائلة، تكوين علاقات مع الزملاء، وتنظيم الأحوال المادية.
قد يساعدنا هذا المنظور البديل عن الإبداع على رؤيته ظاهرةً يومية ننخرط فيها كل يوم، عوضًا عن موهبة استثنائية أو هِبة يستأثر بها البعض دون الآخر، وقد يتيح لنا كذلك أن نفهم فكرة العيش بإبداع؛ حياة تنطوي على الاندماج، والعفوية، إذ يمكن لجوانب الحياة كلها المتناقضة أن تنسجم لتتكامل.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.