يتميّز هذا العصر بمفارقة واضحة. فمن جهة، ترزح المؤسسات العامة والاجتماعية الملزومة بتحقيق الاحتياجات الإنسانية تحت وطئة ركود اقتصاديّ مستمر ونظام يعطي الأولوية للأرباح على حساب الصحة العامة. ومن جهةٍ أخرى، يُشدد الخطاب الشعبي والمؤسسات الخاصّة على أهميّة «صحّة» المواطنين والموظفين. يمدّنا كتاب متلازمة الصحة لـ«كارل سيدشتروم» و«أندريه سبايسر» بفهمٍ نقديّ دقيق ومهم لهذه الظاهرة المتناقضة؛ حيث يكشف كتابهما بوضوح وإيجاز -من دون التضحية بالدقة النظرية- عن الهوس المرضي لعصرنا الحالي في «الصحة» و«والعافية» وتركيزه المفرط عليهما، وهو هوس يستهدف الأفراد استهدافًا فعالًا بواسطة خطاب السوق المتعلّق بالصحة الشخصية والمهنية، بينما يحجب -بدهاء- تناقضات عميقة في روح الرأسمالية النيوليبرالية الحديثة.
بوجه عام، إنَّ كتاب متلازمة الصحة (The Wellness Syndrome) معالجةٌ شاملة -لكنها قابلة للقراءة- عن نشوءِ هذه «المتلازمة»، إذ ينظر الكتاب في كل من قطاع «الصحة» الصناعي وافتراضات الوعي العام المتنامية التي تغذّي هذا التوجه المربح. وتجد هذه المتلازمة في أماكن متنوعة بدءًا من الشركات التقنية، كقوقل، ووصولًا إلى التجمعات المسيحية الأمريكية. حتى في الأماكن التي لم تُنفّذ فيها، تظل رغبةً بعيدة لكثير من مواطني القرن الواحد والعشرين، حلم “موازنة الحياة والعمل” -الذي لا يتوفر إلا للوجهاء القلّة- الذي قد يكون في متناول أيديهم يومًا ما.
ومع ذلك يسمو الكتاب عن كونه مجرد تقرير اجتماعي -وإن كان كذلك؛ فهذا كافٍ ووافٍ- ويبحر فيما يعنيه اعتناق «الصحة» هذا -البريء في ظاهره- لهوياتنا المعاصرة. كما يشير العنوان، يُموضع هذا الخطاب كـ«متلازمة»: مرض حديث خطير اِلتفّ على نفسه تطويعًا للأفراد وضبطًا لهم بوصفهم أفرادًا رأسمالية. كما كتبا «سيدشتروم وسبايسر»:
“إنَّ الصحة اليوم ليست مجرد شيء نختاره، بل قد أضحت واجبًا أخلاقيًا ينبغي علينا استشارته في كل مأخذ تأخذنا إليه الحياة: ولئن كنّا نرى هذه السلطة واضحةً في الإعلانات أو في مجلات أساليب العيش، فهي تُنقل أيضًا بصورة خفية؛ فلا ندري أحضرت من الخارج أم نشأت بعفوية داخل أنفسنا. هذا ما نسميه بسلطة الصحة. نريد إظهار كيفيّة عمل هذه النصائح ضدّنا، بالإضافة إلى تعريف نشوء هذه السلطة.”
هل يمكننا أن نصبح صحيّين بشكل كاف؟ هل سنجد توازنًا كافيًا؟ ما الذي يجب علي فعله لتحقيق أهدافي الحياتية والمهنية؟ هذه هي الأسئلة التي لا توجّه كثير من الناس اليوم فحسب، بل وتضبطهم ليكونوا موظفين مرنين ومنتجين مؤدبين. فإن هذه الأسئلة تُحافظ على أحلام الناس وهوياتِهم في عالم قد أخذ يقلل من تأمين الفرص لهم، عالم يزعزع الاستقرار الوظيفي على نحو متنامٍ تصعب فيه النجاة وحدها، فما بالك في أن يكون الناسُ صحيين فيه.
ينتهج كتاب متلازمة الصحة نهجًا واضحًا؛ حيث يرى المؤلفان «الصحة» (wellness) كإيديولوجيا حديثة يُنظر إليها على أنها جزء “طبيعي” وخفي -في آن- من حياتنا المعاصرة :
“لا يهمنا في هذا الكتاب الصحة من حيث هي كذلك، بل ما يهمنا هو كيفية تحوّل الصحة إلى إيديولوجيا، موفرةً كثيرًا من الأفكار والمعتقدات التي ربما يراها الناس جذابة ومرغوبة، ومع هذا، تظهر غالبًا هذه الأفكار طبيعية أو حتى ضرورية. يظهر العنصر الإيديولوجي للصحة ظهورًا واضحًا عندما يُنظر إلى سلوك الفاشلين في المحافظة على أجسامهم، حيث يتم شيطنة هؤلاء بوصفهم كسالى، أو ضعاف عزيمة. يُصورون كمنحرفين بشعين، يستمتعون بلا حياء ولا رادع في كل ما يتجنبه العقلاء.”
علاوة على هذا، يربطان هذه «النقلة الإيديولوجية» ربطًا واضحًا بتبني قيم السوق الحر، حيث يكون تحسين الصحة «تخطيطًا ضروريًا يحسّن من قيمتك الشخصية داخل السوق.» وفقا لهذا، يؤكد المؤلفان على نشوء «النفس المُدرّبة»، المرتبطة بجهد الناس المبذول ليكونوا «صحيين» من خلال اتّباع «مدرب حياة». ويزعمان أن هذه الهوية الاجتماعية تدعم النيوليبرالية، إذْ إنها تمثّل:
“ذاتًا مستعدة لتحقق احتياجات الرأسمالية المعاصرة المتناقضة: أي أن تكون -في آن واحد- منطويًا ومنبسطًا اجتماعيًا، مرنًا وقوي التركيز، متأقلمًا ومتفردًا. بعبارة أخرى: لا يسعى التدريب إلى تعزيز صحة الناس أو تعليمهم الاستمتاع بالحياة أكثر وحسب، بل إنه أسلوب يهدف إلى إعادة تشكيل الذات”.
كما يصفان -بشكل مماثل- هوس بيئة العمل المعاصرة في «الصحة»، الملحوظة في توفير بطاقات اشتراك مجانية للموظفين في النادي الرياضي لاستعمال «جهاز المشي المكتبي» و«الدراجة المكتبيّة». إن «الإنسانَ السليم» «موظفٌ سليم» إلى درجة “تحوّلت فيها صورة العامل المثالي من «ستاخانوف سوفييتي» مخلص لمهنته إلى رياضي شركة مدمن تمريناتٍ جسدية، همّه إتمام يوم عصيب من العمل الإبداعي قبلما يقود فصولَ تمرينات رياضية بكل سعادة بعد الانتهاء من عمله”.
كما يوضح الكتاب، الحاجة المرضيّة في أن تكون «صحيًا» تمتد إلى الصحة العقلية؛ فبات متوقعًا من الإنسان الحديث سلوكًا «إيجابيًا» «ومسؤولًا» ليتسنى له تحقيق إمكانياته الشخصية والمهنية. يشدد الكاتبان على أن مطلب «أن تكون سعيدًا» يُجوّز اللامساواة والفقر؛ فالفشل يُعزى إلى اِتباع سلوك «خاطئ»، والحرمان المادي ليس عقبةً تحول بينك وبين «السعادة». ويدفع سيدشتروم وسبايسر هذا النقد إلى حدود أبعد؛ رابطين فيه «السعادة» والنجاح المهني بالسلامة الروحيّة، إذْ يصير هذا الالتفاف نحو الجانب الروحي إلى شكل جديدٍ من أشكال الانضباط الذاتي في الرأسمالية ويتحول فيه العمل -أو عدمه- من ضرورة ماديّة إلى فرصة من فرص النماء الروحي. فكما دوّنا، إن هذه المنظور «ينقل المشاكل البنيوية المركبة إلى الفرد؛ فعدم حصولك على وظيفة لا علاقة له بالاقتصاد أو أي سبب خارجي، بل لأنك عاجزٌ عن تخطي عوائقك الداخلية.»
يشيد الكتاب بالذين يقاومون «متلازمة الصحة» برفضهم رفضًا واضحًا ضغوطَ أن يكونوا أصحاء بدنيًا وعقليًا وروحيًا. وبالنسبة لسيدشتروم وسبايسر، فإن متعة أن تكون «لا-صحيًّا» توفر مهربًا مؤقتًا من ثقافة «الصحة» القمعية هذه. لكنهما يحذران من أن الأفكار التي تبدو في ظاهرها مقوضة لمتلازمة الصحة مثل «تقبل الدهون»، أو «المباشرة الجنسية من دون حماية» قد تظل في متناول قبضة “الصحة” التي تطالب بأن نكون صادقين مع أنفسنا وأن نصبح على سجيتنا. ثم يختتمان بدفاع أقرب ما يكون شعريًا عن الحاجة لتجاوز هوسنا المرضي بالصحة إلى صورة أشمل للحياة وأنضج:
ما يجعل الأمور المهمة في الحياة جديرة بأهميتها هو الفشل الحتمي والألم اللذان يلازماها. غالبا ما تجعلنا الحقيقة بائسين، وقد تتضمن الأنشطة السياسية تهديدات مباشرة وخطرًا محدقًا، وغالبًا ما غمرت الكآبة ُالجمالَ. وأما الحب، فكثيرًا ما يفرقنا. قد تؤلمنا هذه الأمور .. لكنّ ألمها لن يزيد عن مقدار أهميتها.
لا عجب أن يشتهر كتاب متلازمة الصحة بين الوسطين العام والأكاديمي؛ فالنص مليءٌ بدراسات الحالة (case studies) اللافتة، بالإضافة إلى خلوه من الغموض الاصطلاحي الذي يلوث الأعمال النظرية عادةً، ويحتوي الكتاب -أيضًا- نقدًا أصيلًا ومهمًا، جاعلًا منه دراسة هامة في رأسمالية القرن الواحد والعشرين.
يشدد سيدشتروم وسبايسر على أن إغراء النيوليبرالية الخطر نجده في طول الأمل الذي تمنحه الأفراد في أن يصبحوا «صحيين» و«سعداء»، إذ يكرران -بعطف وصرامة- بأن هذا الخطاب ناشئٌ من حاجة الناس، سواءً كانوا أغنياء أم فقراء، ليستثمروا في أنفسهم داخل مجتمع تخلى عن الاستثمار فيهم. وينتج عن حديثهما صدمةً فكرية وعاطفية في نفوس القراء أشد من المطامع الصحية التي تُستخدم ضدهم بلا رحمة. وتنجلي في هذا الموضع من الكتاب تحديدًا فائدة توظيف نظرة التحليل النفسي: إذ نرى اعتناق الصحة الفردية بوصفها بادرة مُتفهمة تطمح إلى استشعار قدر من التمكين في عالمٍ لا يوفر منه سوى القليل. هو ذلك الاعتقاد المتفائل بأنك «إن كنت لا تستطيع تغيير النظام، فإنك على الأقل تستطيع التغيير من نفسك!». تكمن عبقرية متلازمة الصحة في معالجته مدى استفحال مكر هذه الرغبة واستغلالها لنا، إذ يتحول هذا التوق إلى الصحة وتجربة نوع معين من السلطة – تحت رعاية المديرين وبيئة عمل لا تتوقف- إلى شهوة الأنا العليا (superego) التي لا تشبع من العمل بجد وبمزيد من التطويع الوظيفي.
تخلق المتلازمة بفعل هذا خيالًا رأسماليًا جديدًا يستثمر الناس فيه: قد يتدهور العالم المالي أمامهم، وقد لا توجد يوتوبيات رأسمالية تلوح في الأفق، لكن ومع ذلك، يمكنك أن تعثر على سعادة شخصية وأمان وظيفيّ. فإن إمكانياتك لا حد لها؛ إن كان أسلوبك صحيحًا، وتدريبك مناسبًا، وعزيمتك قوية في التضحية بكل شيء من أجل تحقيق أحلامك. لهذا فسبب إخفاقاتك لا يُنسب للنظام، بل لك أنت. لكن لا تيأس إن لم تنجح، بل حاول، وحاول مجددًا، كما يقال.
بوضع ما ورد بعين الاعتبار، فإن الكتاب كان بإمكانه التعمق في العلاقة بين «متلازمة الصحة» وإعادة الإنتاج الهيكلية الضخمة للرأسمالية. إذ إن تفشي هذه المتلازمة مدروس ومحسوس إحساسًا لا يمكن إنكاره، إلا أن آثارها الملموسة ليست كذلك. بالإضافة إلى أن الطاقة التحريرية لهذا الخطاب لم تعطَ حق قدرها في الكتاب. إن المنظور اللاكاني في التحليل النفسي عمود قويم للنقد؛ ولكنه لا ينتبه – إلى حد ما- إلى أن هذه الرغبات الداخلية قد تعطي نتائجًا عرضية، تعيد تشكيل الإمكانيات الاجتماعية بطرق لا تتكامل بالضرورة مع مقاصد السوق. وجديرٌ بمعالجة أشمل لهذه «المتلازمة» للقراء لمحة عن كيفيّة تغيّر خطابات الصحة هذه من معالم حضورها الاجتماعي تغيّرًا ديناميًا وعلى نحو لافت وممانع.
ما ورد نقدٌ طفيف على كتابٍ ممتاز. يفضح كتاب متلازمة الصحة التفاصيل المضحكة المبكية «روح الرأسمالية الجديدة»، حيث يكون الأفراد «مسؤولين» عن مستقبلهم ورفاهيتهم كواجبٍ يَفرض عليهم العمل على «تقويم أنفسهم» باستمرار وبلا هوادة، قاهرين كل الموانع البنيوية التي تعترض طريقهم. لن ينجحوا بوجود سوق ونظام مالي جائرين وحسب، بل على الرغم منهما. وإن لم يفعلوا، عليهم محاسبة أنفسهم بقسوة، لا محاسبة الظروف الاجتماعية.
*«بيتر بلوم» محاضر في قسم الناس والمنظمات في الجامعة المفتوحة. يقوم بالأبحاث في المشكلات المتعلقة بإعادة التفكير في كلٍ من السلطة والسياسة والاقتصاد في عالمنا المعاصر، وينشرها على نحو واسع في الأوساط الأكاديمية. حيث ظهرت كتاباته حول هذه المواضيع في عدة جرائد ومجلات مهمة، منها: «واشنطن بوست».