لنتصوّر رجلًا – محاربَ ساموراي – يُقتل في غابة، فيُحضر المُغرمون واحدًا تلو الآخر أمام القاضي، فيتكلم الحطّاب عن الرعب الذي اعتراه عندما عَثر على الجثة، ويشهد الراهب بأنه قد رأى الرجل المُتوفّى وعاين مجرمًا محتملًا. ثم يُحضر المجرم تاجُمارو للمحاكمة، فيزعم أنه قيّد الساموراي، وأغوى زوجته أمام عينيه، ثم قتله في مبارزة بالسيف.
سيَمِيزُ بعض القراء الحبكة المذكورة. إنه فيلم راشومون (1950) تحفة المخرج أكيرا كوروساوا، الذي يمتّع مشاهديه بشكل استثنائي من خلال التفكير أثناء مشاهدته، والتفلسف من دون مجادلات منطقية أو لغة مبهمة، بل بواسطة سرد قصصي محكم، وتصوير ساحر، وسينمائيّةٍ مبدعة.
ثم يحين موعد شهادة زوجة الساموراي: وفقًا لقصتها، يغتصبها تاجُمارو الذي هَرب دون أن يقتل زوجها. ثم تفك وثاق زوجها بعدما اُغتصبت، لكن يُغمى عليها بعد ذلك، ثم تستيقظ فترى زوجها طريحًا بجانبها بعد قتلِ نفسه.
إن اللغز الفلسفي الذي يكمن في صلب فيلم كوروساوا بات واضحًا: ماذا لو كنا لا نستطيع معرفة ما يحدث الآن؟ ماذا لو كانت تفسيراتنا عن العالم عالمًا قائمًا بذاته، وكل تفسير يختلف اختلافًا مهولًا من شخصٍ لآخر، وأننا نجهل مَن هو صاحب تفسير الحقيقة بعينها؟
وإمعانًا في حيرتنا، نستمع بعد ذلك إلى قصة الساموراي الميّت نفسه بواسطة وسيلة معيّنة: يتوسل قاطع الطريق تاجُمارو الزوجةَ بالرحيل معه بعد أن نام معها، فتقنع بشرط ذبحه لزوجها. لكن تاجُمارو يصطف مع زوجها بشكل مفاجئ. تهرب المرأة بعد ذلك بحيلة ما، ويحرّر قاطعُ الطريق المحاربَ فيرحل، ثم ينتحر هذا الأخيرُ.
تعيش شخصيات كوروساوا العالم نفسه، ولكن -لأسباب إدراكية أو أخلاقية- رواياتهم عمّا رأوه تعتبر عوالم قائمة بذاتها، إذْ تستحيل معرفة كيف يبدو العالم الحقيقي فعلًا. تتمثل رسالة الفيلم الكبرى في كوننا غير قادرين -جوهريًا- على تلفّظ الحقيقة.
نسمع رواية أخرى بعد ذلك، رواية الحطّاب. لقد شهد الحدث كلّه ولكنه لم يخبر القاضي. يروي قصته بعد المحاكمة عند بوابة راشومون: يتوسل تاجُمارو السيّدة بالزواج منه بعد أن نام معها، لكنها لم تتأثر بعرضه. ثم تحرر زوجها وتتحداه أن يهزم قاطع الطريق؛ فيبارز المحاربُ تاجُمارو بالسيف ويُقتل.
كانت تلك الرواية الأخيرة، ولكننا لا نستطيع الجزم بصحتها. ولو تورط أشخاص آخرين في الحادثة، لسمِعنا شهاداتِهم، ولكانت كل شهادة تختلف عن الأخرى. لا شيء جديد فلسفيًا: من تفكيك فريدرخ نيتشه للحقيقية باسم “إرادة القوة” حتى فكرة ريتشارد رورتي في كون الحقيقة مصنوعة لا مُكتشفة، وصولًا إلى “البنائيّة الاجتماعية” لجميع الأشياء في عصرنا الحالي، فقد اِعتدنا على عالمٍ استغنى عن الحاجة في معرفة موطن الحقيقة. ما زالت أفلام كوروساوا تثير النقاشات إلى الآن في الفلسفة الغربية، حتى مع احتمال أن مضامينها مقلِقة على المستوى الإنساني.
ولكنّك قد تتساءل ما شأن مخرج أفلام بنقاشات فلسفية؟ وفقًا لتيار فكري عارضٍ -ولكنه متزايد في تأثيره- أن كوروساوا يفعل ما قد يفعله أي مخرج أفلام متمكّن: حثّ المشاهدين بتجاوز ما يرونه على الشاشة والسعي إلى الغايات الفلسفية عبر وسائل سينمائية، وإشراكهم في الأسئلة الكبرى حول الحالة الإنسانية. تم الاجماع على أن الأفلام بإمكانها أن تكون فلسفة، بدءًا من جيل دولوز وستانلي كاڤيل إلى ستيفن مولهول وروبيرت سينربرِنك. بالتأكيد لن تخدم السينما الفلسفةَ بطريقة بدائية، كأن تقدّم أمثلة توضيحية لمشكلات فلسفية في قاعات الدراسة، بل مثلما ترتئيه طريقتها الخاصة، وبنسقٍ ليس مقتصرًا على أساليب الفلسفة التقليدية فقط. من الجليّ أن ليس كل الأفلام رائدة فلسفيًا، ولكن بعضها كذلك وهذا كافٍ. كما يصغيها مولهول في كتابهِ On Film (2001): “هذه الأفلام ليست موادًا خامًا للفلسفة، ولا مصدرًا لحُليتِها؛ إنها ممارسات فلسفية، بل تجسيدٌ لها – الأفلام كتفلسف”.
الفلاسفة ليسوا فلاسفةً إن لم يجادلوا، لهذا فقد هاجموا الأطروحة الجريئة في كون الأفلام فلسفةً، إذ لا يمكن للأفلام أن تكون فلسفةً؛ لأن السينما ليست جدلية كالفلسفة، بل هي صُوَريّة، وعاطفية وما إلى ذلك. بعبارة أخرى: صنّاع الأفلام ليسوا فلاسفةً؛ لأنهم لا يصلون إلى مستوى فلسفة همّها تكوين محاججات تسمح هذه بدورها بتكوين محاججات مضادة. ولكن تبعًا لهذا التعريف، فإن عددًا غير هين من الفلاسفة ليسوا فلاسفةً أيضًا: فلا مكان لهراقليطس وديوجين، ولا حتى لكونفوشيوس ونيتشه.
بغض النظر عن مقدرة الأفلام في استيفاء شروط تعريفات اصطلاحية، فإنها قادرة على تحقيق نفس التأثير الذي تفرضه علينا الأعمال الفلسفية العظيمة الباقية: هزّنا وإيقاظنا، ونفخ نَفَسٍ جديد في عقولنا، وفتح بصيرتنا لرؤية أنفسنا والعالم المحيط. يوجد في أعمال كل من أندريه تاركوڤسكي وإنيگمار بيرگمان وكوروساوا حسّ مرهف، وعمق رؤية، وسلامة بصيرة، واضعين أنفسهم في نفس المستوى الذي تُوضع فيه عظماء الفلاسفة.
لكن -إذا أخذنا هوس الفلاسفة المضر بالعقلانية بعين الاعتبار- أهم ما يقدمه مخرجو الأفلام في تعليم الفلاسفة هو ما يعنيه أن تكون انسانًا؛ عيشنا الفوضوي، وطريقتنا المتملصة المعقدة واللاعقلانية. إن العاطفة والمشاعر تحرّكنا كما تفعله العقلانية؛ نحن نوظف مخيلتنا الأسطورية بقدر ما تعمله عقولنا الجدليّة. لربما يجب على الفلسفةِ، لمصلحتها، أن تكون كريمةً مطواعةً في تعريفاتها وعلاقاتها مع المجالات الأخرى. على سبيل المثال: يمكن للفلسفة التعلم من السينما أشياء كثيرة لا تقع في لبّ النصوص الفلسفية كالوئام الإنساني، وإغاثة الملهوف، وتقديم وسيلة تخاطب الفؤاد.
يطبّق راشومون كوروساوا هذا تمامًا. لا يجسّد الفكرة القديمة التي تقول إن الحقيقة صنعة بشرية وحسب، بل يصبّها في قالبٍ درامي ويُحكمها بطريقة لا تقدر الفلسفة وحدها على فعل ذلك. نشعر، من خلال سرده وأسلوبه السينمائي وأداء ممثليه وإطاره المسرحي، بما يعنيهِ العجز عن إدراكِ الحقيقة: رواية قصصٍ متضاربة بأسلوب الارتجاع الفني (فلاشباك)، مما يثير مسألةَ علاقة الحقيقة بالتذكر والنسيان؛ والذكرى بالذاكرة المشوّشة. إن التذكر والرواية تتم أثناء سرد منهمر: كأن جميع الأشياء في العالم بما فيه – الواقع، والحقيقة، والناس – صارت مائعة؛ إن مُحيط الذكرى مكانٌ للأسى، فوجود معبدٍ خرِبٍ تنويهٌ بأن “الله قد مات”، أو بأنه صامت على الأقل. لا نرى في المحكمةِ وجوه القضاة، بل وجوه من أُحضروا ليعطوا شهاداتهم المتنافرة: إنهم يكلموننا –فنحنُ القضاة، ويتوجب علينا سماع كل شيء- ثم تأتي لقطات للشمس، وبها نشعر بالعمى والاضطراب شعورًا دائمًا. كل هذا يعمّق انطباعنا الغامر في كون ما نشهده – نهايةً لقدرتنا على قول الحقيقة – مأساةً كونيةً. إن مراثي الراهب البوذي جديرة بالتذكر في هذا المقام:
“تمضي السنين ولم أرَ سوى الفواجع: الحروب، والزلازل، والريح، والحرائق، والمجاعات، والطواعين. يمسي علينا اللصوص كل ليلةٍ. لقد رأيتُ رجالًا قُتّلوا كالحشرات، ولكنني لم أسمع قصةً شنيعة كهذه. إنها شنيعة لدرجة أنني ربما أحيد عن إيماني بالإنسانية، فإنها أردأ من اللصوص، والطواعين، والمجاعات، والحرائق، والحروب.”
بالطبع، إن كل هذا مجرد “فيلم”. بالإضافة إلى أنه من الممتع جدًا التلاعبُ بفكرة أن الحقيقة بدعة بشرية: أن كل شيء يُقدر على بناءه وتفكيكه. ومع هذا، فمن الممكن أن يأتي وقت رد الدين أبكر مما نظن. فالحكومات تجبرنا على تصديق الأكاذيب ليس بِعَدّها أكاذيبًا بل “حقائقًا بديلةً”، ونعرف بأن هذا لا يحيل إلى رورتي أو نيتشه، بل إلى جورج أورويل في روايته 1984؛ فهي ليست خيالًا نقرأه، بل بات واقعًا نعيشه.
كان يجدر بنا أن نتوقع حدوث ذلك على الأقل، فقد حذّرنا راشومون.