- التقديم: في التقنية:
يتزامن اليوم السابع من فبراير مع ذكرى رحيل الفيلسوف الفرنسي البارز، جيلبر سيموندون Gilbert Simondon (1924-1989)، “فيلسوف التقنية والتفرد” كما يحلو لبعضهم تلقيبه، الذي رغم أثر فلسفته الكبير في مجموعة من الفلاسفة الذين عاصروه أو جاؤوا من بعده، ظل فكره شبه مغمور عند القراء والمهتمين بفلسفات المعلوميات والتقنية، فلاسفة أمثال جيل دولوز وبرونو لاتور B. Latour وبرنار ستيغلر B. Stiegler… وآخرين في الجانب السيكولوجي والتِقاني.. كان على العالم أن ينتظر إلى حدود العقد الأخير من القرن الماضي، سنوات قليلة بعد وفاته، لكي ينتبه بشكل أساسٍ إلى فكره الذي كان نوعًا ما متجاوزًا لعصره، خاصة في الجانب المتعلق بفلسفة التقنية وعلم النفس ونظرية المعرفة. عُرف سيموندون عمومًا بفضل أطروحتيْه المهمتيْن: “في نمط وجود الأغراض التقنية” (حاز عنها درجةَ الدكتوراة ونشرها في السنة عينها، 1958)، والتي اخترنا منها النص المترجم التالي.. وأطروحته الثانية “التمييز في ضوء مفاهيم الشكل والمعلومات” (1964). بالإضافة إلى مجموعة من محاضراته ودروسه، التي تتكون منها باقي أعماله الفكرية.
تأثر سيموندون بكلٍّ من برغسون وميرلو-بونتي وجون-ماري غويو Guyau، وغيرهم من كبار فلاسفة القرنيْن التاسع عشر والعشرين؛ مما مكنه من امتلاك تصور ذي صلة بالوعي وظاهراتي (فينومينولوجي) وإبستيمولوجي وأخلاقي حول العالم، في امتداد داخل فلسفة تهتم بالتقنية والمعلوميات. وقد ارتبط جهد سيموندون الفلسفي بتحرير الأغراض التقنية من التصور الضيق الذي انطبع لدينا عنها؛ إذ إن طبيعتها الحقيقية والعميقة تتجلى في حركة إدماجها insertion –عينها- في العالم؛ ما يجعل من فلسفة جيلبر سيموندون الأكثر أصالةً في فلسفة التقنية في القرن العشرين، التي رأت النور مع الفيلسوف الجغرافي والتكنولوجي الألماني إرنست كاب E. Kapp (1808-1896) في القرن التاسع عشر، باعتبار التقنية امتدادًا للجسد الإنساني.. ولا يمكن فصلها عن السيرورة الإنسانية ومستقبل الكائن البشري. بينما تذهب فلسفة سيموندون إلى إعادة النظر في نمط الوجود لكلٍّ من الفرد البشري والأغراض بما فيها الأغراض التقنية، التي يراها بأنها نتاجٌ لعملية الإبداع وارتباطٌ بالوسط الذي تبتغي تعديله، من حيث إن لهذه الأغراض نمطًا وجوديًّا خاصًّا، كما بيّن في كتابه/ أطروحته في تقاطع مع الدين وعلم النفس والعلم والجماليات… وفي صلب حديثه عن الشق الجمالي للغرض التقني، موضوع هذا النص المقتطف، وقبل كل شيء فإن الغرض التقني بالنسبة لفيلسوفنا يعدّ مناسبةً لتجربة جمالية حقيقية. غير أن لسيموندون طريقةً مدهشة في إيضاح الأمر، وعلى غير العادة، وعكس ما يتوقع المرء، لا يتعلق الموضوع بالجمال السطحي أو غير الجوهر، في التصميم والموضة، الذي له وظيفة تجارية؛ بل إنه جمال سريع الزوال مرتبط بجدة الشيء. وكما أنها ليست مسألة جمال مُرصّعٍ ومغطٍ للمظهر الخارجي، الذي ما هو إلا كذب كما يصفه. بالنسبة له، فهو يعدّ مثل مبنى تقني زُيِّن لتمويه المنظر الطبيعي؛ بينما الجمال الذي يتطرق إليه يراه أكثر أهميةً؛ لكونه نابعًا من التقاء الغرض التقني بالعالم، في نقط رئيسة منه.
- النص: جمالية الغرض التقني:
ليست الأغراض التقنية جميلة في ذاتها بشكل مباشر، ما لم يُبحَث عن نوع جديد من العرض والتقديم يستجيب بشكل مباشر للاهتمامات الإستتيقية esthétiques (الجمالية)؛ في هذه الحالة هناك مسافة حقيقية بين الغرض التقني والغرض الإستتيقي (الجمالي)؛ كل شيء يحدث كما لو يُوجد غرضان اثنان، غرض جمالي يُغطي ويُخفي الغرض التقني. مثلما نرى برجًا مائيًّا مبنيًّا قرب خراب إقطاعي، مُمَوّهًا عن طريق أسوار مضافة ومصبوغة باللون نفسه للحجارة القديمة. إن الغرض التقني كامن في هذا البرج الكاذب، مع خزانه الخراساني ومضخاته وأنابيبه؛ إنه خداع سخيف على أي حال. يمكن الشعور به من الوهلة الأولى؛ فالشيء التقني يظل محافظًا على تقنيته في ظل الغطاء الجمالي؛ حيث يقدم [لنا هذا] التعارض انطباعًا من الغرابة. عمومًا، فإن أي تمويه للأشياء التقنية في أشياء جمالية ينتج عن انطباع محرج بالتزوير، ويبدو أنه كذبة محسوسة (مادية).
غير أنه توجد حالات من الجمال la beauté خالص في الأغراض التقنية. يتجلى هذا الجمال حينما تُدرَج insérer هذه الأغراض في عالمٍ un monde، سواء جيوغرافي أو إنساني: الانطباع الإستتيقي -إذن- متعلق بالإدراج l’insertion؛ كأنه نوع من الإماء un geste. إن أشرعة السفينة ليست جميلة عندما تتعطل؛ بل حالما تهبُّ عليها الرياح وتميل الصواري بأكملها، حالما تكون السفينة فوق البحر، تبدو الأشرعة حينئذٍ جميلةً في الريح وعلى البحر، مثل تمثال statue على رَعْنِ الجبل.
المنارة على حافة الشعب المرجانية المطلة على البحر جميلة؛ لأنها مُدرجة inséré في نقطة رئيسة point-clef من العالم الجغرافي والإنساني. خط الأبراج الداعمة للكابلات الممتدة على طول الوادي جميلة، بينما الأبراج التي تظهر على الشاحنات التي تحملها، أو الكابلات في البكرات التي تنقلها، تعدّ محايدةً. الجرار في المرأب ليس سوى غرض تقني، غير أنه حينما يوضع في الحقل، وحينما يميل بين الأخاديد، وعندما تتقلب الأرض، يمكن له أن يبدو جميلًا.
يمكن لأي غرض تقني، متحرك أو ثابت، أن يكون له مظهر جمالي، بقدر ما يمتد في العالم ويندرج فيه. غير أنه ليس الشيء التقني هو الجميل؛ [بل] إنها النقطة المتفردة في العالم التي يصنعها الغرض التقني. وليس فقط خط الأبراج pylônes هو الجميل؛ بل إنه اقتران الخط بالصخور وبالوادي، وإنه في توتر الكابلات وانحناءاتها؛ ههنا تكمن عملية بكماء وصامتة، وممتدة في التقنية التي تنطبق في العالم. إن الغرض التقني ليس جميلًا في أي ظروف وفي أي مكان ووسط؛ بل إنه لَيغدو جميلًا حينما يلتقي بمكان (ووسط) متفرد ومتميز في العالم.
ويصير خط الجهد العالي جميلًا حينما يمتد على طول وادٍ، والسيارة [تبدو جميلة] حالما تنعطف، والقطار [يغدو جميلًا] عندما يلج أو يخرج من نفق. يكون الغرض التقني جميلًا حال مواجهته لخلفية fond تناسبه، والتي يمكن أن تكون الصورة la figure الخالصة، أي حالما يُكمل ويعبّر عن العالم.
يمكن للغرض التقني أن يصير جميلًا مقارنةً بغرض أكبر يعمل كخلفية، للكون بطريقة ما؛ إذ يُصبح هوائيُّ الرادار جميلًا عند رؤيته من سطح السفينة؛ حيث يعلو أعلى بناية فيها. وحال وضعه على الأرض لا يبدو أكثر من مخروط ضخم مثبت على محور. إنه جميل بإكماله البنيوي والوظيفي لمركبات السفينة؛ لكنه ليس جميلًا في حد ذاته دونما الرجوع إلى كون [عالم]. (…)
(…) هذا هو السبب في أن اكتشاف الأغراض التقنية لا يمكن تركه للإدراك وحده: يجب فهم وظيفة الغرض والتفكير فيه بتعبير آخر. هناك حاجة إلى تعلم تقني حتى يقدر الجمال التقني على البروز مثل إدراج التقنية في الكون، في النقط الرئيسة لهذا الكون. فكيف على سبيل المثال، بالإمكان إظهار جمال مرحل لاسلكي relais (هيرتزي) على جبل، موجهٍ نحو جبل آخر حيث قد وُضِع مرحل ثانٍ، لمن رأى فقط برجًا متوسط الارتفاع، به شبكة متقابلة مع البؤرة التي وُضع فيها ثنائي القطب الصغير؟ يجب فهم هذه البنى structures (الهياكل) المتطابقة على أنها انبعاث واستقبال لشعاع من الموجات التي تنتشر من برج إلى آخر، عبر الغيوم والضباب. فيما يتعلق بهذا النقل transmission اللامرئي واللامحسوس والحقيقي والآني actuel، فإن المجموعة l’ensemble التي تشكلها الجبال والأبراج المتقابلة تعدّ جميلةً، كون الأبراج موضوعةً في نقط رئيسة بين الجبليْن من أجل تشكيل الكابل (الخط) اللاسلكي (الهيرتزي). هذا النوع من الجمال تجريدي مثل بنية هندسية؛ لهذا يجب فهم وظيفة الغرض حتى يتم تخيّل هيكله وعلاقته بالعالم بشكل صحيح، والشعور به من الناحية الجمالية. (…)
(…) وهكذا يمكن للمرء القول إن الموضوع الجمالي ليس موضوعًا un objet بالمعنى الدقيق للكلمة؛ بل هو امتداد للعالم الطبيعي وللعالم البشري الذي يظل مندرجًا في الواقع الذي يحمله؛ إنه نقطة مدهشة في الكون univers. هذه النقطة هي نتيجة التطور والاستفادة من الخبرة الفنية؛ لكنه لا يوضع بشكل عشوائي وتعسفي في العالم؛ [لكونه] يمثل العالم ويركز قوته وصفاته الأساسية مثل وسيط ديني. وإنه يحافظ على نفسه في وضع وسيط intermédiaire بين الموضوعية والذاتية الخالصة. عندما يكون الغرض التقني جميلًا؛ فذلك لأنه يندرج في عالم إنساني طبيعي، الواقع الجمالي.
المصدر:
Du mode d’existence des objets techniques, éd. Aubier, 1958, p.-p. 184-187