قليلٌ هم الأكاديميون الذين انتقلوا من عالم الأكاديميا الحصري والمتخصّص إلى عالم نشر الكتب الذائع وواسع المدى انتقالًا سلسلًا على نحو ما فعل ستيفن بينكر، وأقلُّ منهم من تميّز بكتابة «الكتاب المفضل على الإطلاق» لدى بيل غيتس. بيد أنه وقبل فترة طويلة من مساهمة عالم النفس الإدراكي بجامعة هارفارد في شيوع نظريات نعوم تشومسكي حول اللغة في كتابه «الغريزة اللغوية»، و قبل نشر كتاب بالغ الأهمية عن أسلوب الكتابة في القرن الواحد والعشرين، وتحديد مئات السنوات من التقدّم البشري تحديدًا دقيقًا في كتابه «التنوير الآن»؛ درس هذا العالم مشكلات أصغر؛ «مشكلات الحياة اليومية الأكاديمية academic bread-and-butter problems» على حد تعبيره لكاتب العلوم كارل زيمر.
شكّلت هذه المشكلات -فهم الطرق التي يكتسب بها الأطفال اللغة ويستخدمون الأفعال الشاذة- الأساس لكتابه «التعلم والإدراك»، وهو في أصله دراسة أكاديمية نشرتها مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ساعدت في تمهيد الطريق لكتاب بينكر الأول للجمهور العام، كتاب «الغريزة اللغوية».
وفي مراسلة عبر البريد الإلكتروني مع MIT Press Reader، تناول بينكر مساره المتعرّج لكتابة العلوم المبسّطة، وقوّة الأفعال، وغير ذلك الكثير.
————————————————
– لقد أثار أحدث الكتب التي نشرتها، «التنوير الآن»، ردود فعلٍ حادة لدى القرّاء. أيٌ من هذه الردود فاجأك على نحوٍ أكبر من غيره؛ سواءً كان سارًّا أم غير سار؟
ستيفن بينكر: من المفاجئات غير السارة بالنسبة لي كان قراءة مراجعاتٍ ألقت باللوم -على نحوٍ غريب- على التنوير في العبودية والعنصرية والإمبريالية. وهذه الاتهامات غريبة للغاية، فالآفات قديمةٌ قِدم الحضارة البشريّة -أي شخص حضر عيد الفصح اليهودي[1] أو شاهد فيلم سبارتاكوس يعرف أن العبودية لم تُخترع في القرن التاسع عشر- ولم يحدث أن صاغ أيُّ أحدٍ مفهومًا يجعل العبودية والغزو الإمبريالي خاطئين تمامًا وبشكل قاطع إلا في عصر التنوير.
أما عن المفاجئات السارة فمنها سلسلة الدعوات التي تلقيّتها من السياسيين الوسطيين والليبراليين الذين دعوني للتشاور معهم، لا لتقديم اقتراحاتٍ حول السياسة أو الإستراتيجية، بل للتأكيد على أن قيمة الديمقراطيات الليبرالية، والأسواق المُنظّمة، ومؤسسات التعاون الدولي، تستحق الدّفاع عنها، وهناك مراسلات أخرى من أشخاص قالوا إن كتاب «التنوير الآن» خففّ عنهم شلل الاكتئاب والقلق الناجمين عن مشاهدة الأخبار. منذ أن بوركت بحصولي على مسمى «عالم نفس» وأنا أعمل على تصحيح اعتقاد الناس حولي بأني أعمل على تحسين الصحة العقلية، لكن لعلّي نلت -أخيرًا- على شهادات تبرر هذا الاعتقاد.
– قد يكون كتابك «التنوير الآن» أول كتاب لك يقرؤه بعض جمهورك. قد يتفاجأ البعض بأنّ أحد أقدم أعمالك، «التعلّم والإدراك»، كان مع مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ويتناول موضوعًا مختلفًا تمامًا: كيف يتعلم الأطفال استخدام الأفعال. هل هناك أي صلة بين هذين الموضوعين، تعلم اللغة والتقدم البشري؟ أمرٌ قد لا يكون جليًا بالنسبة للقارئ العادي؟
الإصدار الجديد من الكتاب الكلاسيكي لستيفن بينكر «التعلم والإدراك».
ستيفن بينكر: ممّا لا شك فيه أن المسار الذي قادني من اكتساب الأطفال لـ «ناول، واملأ، واسكُب» إلى تاريخ الحروب والأوبئة والمجاعات كان مسارا متعرّجًا. بدأ الأمر بتوسيع وجهة نظري للغة نفسها للسؤال عمّا تدور حوله، ما قادني إلى جدال «الغريزة اللغوية» الذي يقول إن اللغة تخصّصٌ تطوري؛ مزج بين نظريات تشومسكي وداروين. أدى ذلك إلى سؤال: إذا كانت اللغة غريزة بشرية، فما الغرائز الأخرى التي لدينا؟ وهو تساؤل حاولت الإجابة عنه في كتابي «كيف يعمل العقل». وبالحديث عن المفاجئات غير السارّة، أثار هذا الكتاب ردّ فعلٍ عنيف على فكرة أن العواطف البشرية وعمليات التفكير قد تشكّلت من خلال التطوّر، سواء كانت من اليمين السياسي أم اليسار السياسي. وهكذا، عملت على تحليل الحمولات الأخلاقية والسياسية والعاطفية لمفهوم الطبيعة البشرية في كتاب «الصفحة البيضاء: الإنكار الحديث للطبيعة البشريّة». جادلتُ في هذا الكتاب أن وجود الطبيعة البشرية بكامله، حتى مع الدوافع السيئة كالانتقام والقبلية والشهوة وخداع الذات، لم يسمح بقدريّةٍ رجعيّة reactionary fatalism، فالطبيعة البشرية معقّدة للغاية، وهي لا تتبنى دوافع هدامة وحسب، بل تتبنى أيضا قدرات بنّاءة كالتعاطف، وضبط النفس؛ وبالطبع، اللغة. أجادل كذلك بأنّ التاريخ يخبرنا أن البشر قد خفّضوا في واقع الأمر من معدّلات العنف لديهم، وأعطيت بعض الأمثلة على ذلك، مثل إلغاء الرّق وتراجع معدّلات القتل في إنجلترا منذ العصور الوسطى. عندما ذكرت هذه الملاحظات مرة أخرى عبر تدوينة منذ حوالي 12 عامًا، تلقيت مراسلات من مؤرخين وعلماء اجتماع في مجالات متنوعة يقولون فيها إنّه كان بإمكاني تقديم المزيد من الأدلة الكمّية على انخفاض معدلات العنف كلما تقدمنا زمنيًا في الخط الزمني للبشر. كانت تلك الاكتشافات غير معروفة بالنسبة لي، ولمعظم الناس كذلك، وأدركتُ أنها بحاجةٍ لأن تُصبح معروفة ومُوضّحة على نحوٍ أكبر، ما قادني إلى كتابة «الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشرية»، قادني ذلك بدوره إلى اكتشاف مجموعة بيانات تُظهر أننا لم نروض العنف فحسب، بل كذلك الفقر والمرض والجوع والأمّية والكدح؛ وعليه، أتى كتاب «التنوير الآن».
– دعنا نعود إلى كتاب «التعلم والإدراك»، حيث غمرتنا بكرمك بكتابة مقدمة جديدة للكتاب عند نشرنا لطبعة عام 2013. ذكرت في تلك المقدمة أن زميلًا لك سخر ذات مرة قائلًا: «إنهم [أي: الأفعال] أصدقاؤك الصغار حقًا». ما الذي يجعل الأفعال مذهلة في نظرك؟ ما الذي يجعلها أكثر إثارة للاهتمام لعالم الإدراك من أنواع الكلمات الأخرى؟
مجموعة صغيرة من الكتب لعالم النفس الإدراكي ستيفن بينكر.
ستيفن بينكر: يعدّ الفعل هيكل الجملة؛ إطارٌ تُثبّت فيه الأجزاء الأخرى كالفاعل والمفعول به والجُمل التابعة. وهكذا، يأخذك الفعل من المفاهيم المُجرّدة، مثل كلب وإنسان، وهي مجرد أشياء في العالم، إلى افتراضات، مثل «رجل يعضّ كلب»، والتي يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة، أو مثيرة للاهتمام أو مفاجئة. لقد كتبتُ «التعلم والإدراك» بعد أن أدركت أن الأفعال لا تعبر فحسب عن «من فعل ماذا لمن» في الجملة، بل إنّها تمثل في ذاتها تجمّعات من عناصر مفاهيمية أساسية أبعد غورًا من ذلك؛ مثل «سبب» و«فعل» و«حدث» و«تغيير»، وتقبض على تصورنا للعالم، وليس مجرد أفعالنا (actions) فيه.
لماذا يمكنك صب الماء في كوب (pour water into a glass) أو ملء كوب بالماء (fill a glass with water)، لكن لا يمكنك صبّ كوب بالماء (pour a glass with water) أو ملء الماء في كوب (fill water into the glass)؟ يرجع السبب في ذلك إلى أن صب تعني «التسبب في تغيير سائلٍ لموقعه»، في حين يعني ملء «التسبّب في تغيير حاويةٍ لحالتها»، وتحدد التصوّرات المختلفة للحدث نفسه الكلمات التي يمكن استخدامها لوصف تلك الأحداث. إذن، يكشف تشريح معاني الأفعال عن المكوّنات المفاهيمية للفكر.
– مع تفجّر كُلٍّ من الأبحاث العلمية واهتمام جمهور الناس بالذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة في السنوات الأخيرة، كيف يؤثر ذلك – في تصوّرك- على مجال علم الإدراك؟ هل سيستمر اهتمام علم الإدراك -باعتباره «مكان تجمع» متعدد التخصصات لعلماء النفس والفلاسفة واللغويين وعلماء الأعصاب وعلماء الكمبيوتر وعلماء الأنثروبولوجيا- بالعقل/الدماغ كما كان؟ كيف يؤدي التقدم في الحوسبة، وكذلك علم الأعصاب، إلى تغيير التوازن في هذا المجال؟
ستيفن بينكر: أود أن يكون الأمر كذلك. ظهر علم الإدراك في سبعينيات القرن الماضي عندما بات من الجليّ أن علم النفس التجريبي في حدّ ذاته لم يكن كافيًا لفهم العقل البشري: لقد كان بحاجة إلى إضافات من علوم الحوسبة النظرية والفلسفة، بالإضافة إلى معلومات حول ثراء اللغة من حقل اللغويات. لقد طغى علم الأعصاب على علم الإدراك نفسه في التسعينيات، وكذلك فعل الذكاء الاصطناعي في هذا العقد، لكن في رأيي أن هذه المجالات بحاجة إلى التغلب على عقمها النظري ومن ثم إعادة دمجها مع دراسة الإدراك؛ إذ إنّ كلا من الفسيولوجيا العصبية وتعلّم الآلة الطائشين قد وصلا إلى طريق مسدود فيما يتعلق بتعميق فهمنا فيما يخص الذكاء [على سبيل المثال].
– أخيرًا، دعنا نتناول المقابلة التي أجريتها مع صحيفة النيويورك تايمز عام 2011، حيث ذكرت فيها أنّك قد بدأت في دراسة علم النفس لأنك كنت مهتمًا بشدة بالطبيعة البشرية مذ كنت فتى يافعًا. الآن، وبصفتك باحثًا وكاتبًا ناجحًا للغاية، ما تقييمك الشخصي لفهمك الحالي للطبيعة البشرية؟ هل تعتقد بأن ذلك الفتى اليافع سيكون راضيًا عن التساؤلات والإجابات التي خاض رحلتها الشاب على مدار حياته؟ ما الذي يحيّرك كذلك في الطبيعة البشرية؟
ستيفن بينكر: أخالُ أن نفسي الأصغر سنًا ستكون مندهشة ومستنيرة بتوليفة علم الإدراك الحوسبي، وعلم النفس التطوري، وعلم الوراثة السلوكيّة، والنظرية اللغويّة، والتاريخ العميق، وعلوم البيانات؛ والتي حاولت نسجها في كتبي المختلفة. في الوقت نفسه، أشعر بالتواضع بسبب العديد من المعضلات المتبقية. ما الذي يجعل التوائم المتطابقة غير متطابقة؟ كيف يمكن للشبكة العصبية تمثيل معنى الجملة؟ لِمَ تحدث قفزات هائلة في تطور اللغة عند الأطفال؟ لماذا لا ترى الدول المزايا الواضحة للتعاون العالمي السلمي؟ لقد شجّعني مرشدي في الدراسات العليا -روجر براون- على دراسة لغة الأطفال، لكن مع تحذيري بأنني لن أفهم قط ما يفعله الأطفال حق الفهم، وكان عليّ تقبّل وجود هذا التقييد في كلّ ما درسته.
[1] عيد الفصح اليهودي يقام لإحياء ذكرى خروج بني إسرائيل من مصر وتحررهم من عبودية الفراعنة (المراجع).
المصدر (ضمن اتفاقية ترجمة خاصة بمنصة معنى)