تمهيـــــد:
سنسلط الضوء في هذه المساهمة عن انتقال تراث المدرسة الإسكندرية إلى الفلسفة العربية الإسلامية، من خلال رواية الفارابي وابن أبي أصيبعة والمسعودي لكي نبين حضور الفكر الإسكندراني في الفلسفة العربية الإسلامية، الذي حضر بشكل بارز من خلال تعليم الفلاسفة والعلماء المسلمين على يد أساتذة إسكندرانين، وهذا ما تقر به جميع الروايات التي سنذكرها في قادم هذا المقال، ولاسيما رواية الفارابي، حيث صرح بتعليمه على يد يوحنا ابن حيلان، المتأثر بالفكر الإسكندراني. وهذا هو ما سنقف عليه بالدراسة وبالتحليل في هذه المساهمة.
1- الروايات العربية عن انتقال مدرسة الإسكندرية إلى الفلسفة العربية الإسلامية:
- رواية الفارابي:
يقول الفارابي: “انتقل التعليم [بعد ظهور الإسلام] من الإسكندرية إلى أنطاكية وبقي بها زمنا طويلا، إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حرّان [تقع في العراق الأعلى بين الدجلة والفرات]، والأخر من أهل مرو [كانت عاصمة خرسان]. فأما الذي من أهل مرو، فتعلم منه رجلان: أحدهما إبراهيم المروزي، والأخر يوحنا بن حيلان، وتعلم من الحرّاني إسرائيل الأسقف، والقويري، وسارا إلى بغداد، فتشاغل إسرائيل بالدين، وأخد القويري في التعليم، وأما يوحنا بن حيلان فتشاغل أيضا بدينه، وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد، وتعلم من المروزي متى بن يونان، وكان الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى آخر الأشكال الوجودية، وقال كذلك أبو نصر الفارابي عن نفسه إنه تعلم من يوحنا بن حيلان إلى أخر كتاب البرهان، وكان يسمى ما بعد الأشكال الوجودية الجزء الذي لا يقرأ، إلى أن قرئ ذلك، وصار الرسم بعد ذلك حيث صار إلى المعلمين المسلمين أن يقرأ من الأشكال الوجودية إلى حيث قدر الإنسان أن يقرأ، فقال أبو نصر أنه قرأ إلى آخر كتاب البرهان”[1].
- رواية ابن أبي اصيبعة:
يقول ابن أبي أصيبعة “وحدثني عمي رشيد الدين أبو الحسن علي بن خليفة [هو عم ابن أبي أصيبعة، طبيب ماهر من دمشق توفي سنة 612ه = 1219 م] رحمه الله، إن الفارابي توفي عند سيف الدولة ابن حمدان [أبو الحسن علي، أول أمير حمداني في حلب من سنة 333ه=935م إلى سنة 356ه= سنة 967 م] في رجب سنة 339ه، وكان أخذ الصناعة عن يوحنا بن حيلان ببغداد في أيام المقتدر [الخليفة الثامن عشر، كانت خلافته من سنة 295ه= 908م] وكان في زمانه أبو البشر متى بن يونان وكان أسن من أبي نصر، وأبو نصر أحد ذهنا، وأعذب كلاما، وتعلم أبو البشر متى من إبراهيم المروزي، وتوفي ابو البشر في خلافة الراضي [الخليفة العباسي العشرون، كانت خلافته من سنة 322 ه=934 م إلى سنة 329ه= 940م] فيما بين سنة 323 إلى سنة 329. وكان يوحنا بن حيلان وإبراهيم المروزي قد تعلما من رجل من أهل مرو”[2].
- رواية المسعودي:
وسنورد هنا رواية ثانية ذكرها معاصر للفارابي هو المسعودي، وهي تؤيد الرواية الأولى وتكملها، وهذه الرواية ترجمها كرادي فو، يقول هذا المؤرخ الجغرافي الكبير في موضع كتابه “التنبيه والإشراف” تلخيصا لما قاله في كتاب من كتبه العديدة المفقودة:
“قد ذكرنا في كتاب “الفنون المعارف وما جرى في الدهور السوالف” الفلسفة وصدورها والأخبار عن كمية أجزائها وكيف انتقل مجلس التعليم من أثينة إلى الإسكندرية من بلاد مصر، وجعل أغسطس الملك، لما قتل قاوبطرة الملكة، التعليم بمكانين: الإسكندرية ورومية. ونقل تيودسيوس الملك – الذي ظهر في أيامه أصحاب الكهف- التعليم من رومية إلى حرّان في أيام المتوكل، وانتهى ذالك في أيام المعتضد [الخليفة العباسي السادس عشر، كانت خلافته من سنة 279 هـ / 832 م، إلى289 هـ / 902 م] إلى القويري، ويوحنا بن حيلان وكانت وفاته بمدينة السلام في أيام المقتدر؛ وإبراهيم المروزي، ثم إلى أبي محمد بن كرنيب، وأبي البشر بن يونس التلميذي إبراهيم المروزي، وعلى شرح متى لكتب أرسطاطاليس المنطقية يعوّل الناس في وقتنا هذا، وكانت وفاته ببغداد خلافة الراضي، ثم إلى أبي نصر ابن محمد الفارابي تلميذ يوحنا بن حيلان وكانت وفاته بدمشق في رجب سنة 232 هـ، ولا أعلم في هذا الوقت أحدا يرجع إليه في ذلك إلا رجلا واحدا من النصارى يعرف بأبي زكريا ابن عدي، وكان مبدأ أمره ورأيه وطريقته في الدرس طريقة محمد بن زكريا الرازي، وهو رأي الفوتاغوريين في الفلسفة الأولى على ما قدمناه”.[3]
ففي هذه الرواية الثانية يشعر المرء بأنها ترجع إلى نفس المصدر الذي اقتبست منه الرواية الأولى إلا أن هذه الرواية الثانية تمتاز بتحديدها للتواريخ، وإضافتها لعلم جديد: ابن كرنيب الفيلسوف الإسلامي المتقدم، الذي كان أستاذا في المنطق.
كما أيد أيضا ابن أبي أصيبعة هذه الرواية في ذكره لتاريخ حياة طبيب في العصر الأموي. قال ابن أبي أصيبعة: “عبد الملك بن أبجر الكناني، كان طبيبا عالما ماهرا وكان في أول أمره مقيما في الإسكندرية لأنه كان المتولي في التدريس بها من بعد الاسكندرانين- جاسيوس، وتادوسيوس، واكيلاوس، وانقيلاؤس، ويحيى النحوي – الذين تقدم ذكرهم، وذلك عندما كانت البلاد في ذلك الوقت لملوك النصارى، ثم أن المسلمين لما استولوا على البلاد وملكوا الإسكندرية، أسلم ابن ابجر على يد عمر بن عبد العزيز، وكان حينئذ أميرا قبل أن تصل إليه الخلافة وصحبه. فلما أفضت الخلافة إلى عمر، وذلك في صفر سنة 99 هـ، نقل التدريس إلى أنطاكية وحرّان وتفرق في البلاد، وكان عمر بن عبد العزيز سيطلب ابن ابجر، ويعتمد عليه في صناعة الطب، وبعد هذا يذكر ابن أبي أصيبعة، أقوالا لابن ابجر.”[4]
من خلال الروايات التي سلف ذكرها، يظهر جليا حضور الفكر الإسكندراني في الفلسفة العربية الإسلامية، وذلك من خلال تعلم الفلاسفة والعلماء المسلمين على يد أساتذة إسكندرانين، وهذا ما تقر به جميع الروايات ولاسيما رواية الفارابي، حيث صرح بتعليمه على يد يوحنا ابن حيلان، المتأثر بالفكر الإسكندراني.
وعلى كل حال، إذا كانت الروايات السالفة تسلم بالانتقال وحضور الفكر الإسكندراني في الفلسفة العربية الإسلامية، فأين يتجلى حضور أفلوطين في الفلسفة العربية الإسلامية؟ وكيف عرفت هذه الأخيرة هذا الفيلسوف الإسكندراني؟
2- أفلوطين عند العرب:
لم يعرفه العرب باسمه الصريح” أفلوطين أو أفلوطينوس”[5] بل عرفوه “بكنية الشيخ اليوناني= أفلوطين”[6]، وكان أول من تنبه لهذا الاسم هو “هاربريكر”[7] في تعليقاته لترجمته الألمانية لكتاب “الملل والنحل” لشهرستاني، وأيده في هذا الرأي كذلك “رينان”[8]، مع شيء من التحفظ، وزكى هذا الطرح ” ديتريصي”[9] بغير تردد، وأخيرا “روزنتال”[10]، في مقالات له في مجلة أورينتاليا.
أما المؤرخون العرب فقد ذكروه بهذا الاسم الوصفي “الشيخ اليوناني”[11]، ونخص بالذكر “أبو سليمان السجستاني في كتابه صوان الحكمة”[12]، و” الشهرستاني يلقبه بالشيخ اليوناني”[13]، في كتابه الملل والنحل، ثم مسكويه في كتابه “جويدان خرد” على حد قوله “إن كتب الشيخ اليوناني موجودة ومن شاء فليطالعها”[14].
ويذكر كذلك “ابن النديم اسمه ضمن مفسري كتب الفليسوف أرسطو في المنطق وغيرها من الفلسفة، وهو آخر فيلسوف في هذه القائمة، ودعاه فلوطينوس”[15]. ويذكر كذلك ابن القفطي أفلوطين بقوله “شرح كتب أرسطوطاليس وأن المترجمين قد ذكروه من شراح أرسطو وأن تصانيفه نقلت من اليونانية إلى السريالية، ولكن لم ينقل منها شيء إلى اللغة العربية”[16].
ومن ناحية أخرى لم يعرفوا له كتاب فيذكروه، فكتابه ” التاسوعات” قد لُخص – مع تغيير في الترتيب وتوسع في النص ابتغاء إيضاح – منه أجزاء من التاسوعات الرابعة والخامسة والسادسة، وتألف عن هذه الخلاصات الممزوجة كتاب أطلق عليه اسم ” أثولوجيا أرسطاطاليس” الذي نقله إلى العربية ” عبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي، وأصلحه أحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي”،[17] والذي نسب إلى أرسطوطاليس، لا إلى صاحبه الحقيقي أفلوطين، كما انتزعت منه فصول أخرى أصبحت تعرف باسم “رسالة في العلم الإلهي[18]، نسب إلى الفارابي، مع أنه في الواقع مستخلص من التاسوع الخامس من تاسوعات أفلوطين.
كل هذا ساهم في إخفاء اسم أفلوطين، مع أن أثره في الفكر الإسلامي لا يقل أبدا عن أثر أرسطو، بل يزيد عليه في تشعبه “إذ شمل الفلسفة والمذاهب الدينية ذوات النزعات الروحية الغنوصية، وتغلغل في ضمائر المسلمين بطريقة لا شعورية كانت أعمق نفوذا من ذلك المذهب المنطقي الجاف الظاهري الذي كان لأرسطوطاليس”[19].
ولكن الباحثين الأوربيين مند النصف الثاني من القرن الماضي قد تولوا هذه النواحي الغامضة في أفلوطين عند العرب بالإيضاح. فكان من بينهم هابريكر الذي قال بأن “الشيخ اليوناني الوارد ذكره، ونبذة عن مذهبه في (الملل والنحل) للشهرستاني هو بعينه أفلوطين، مؤسس الأفلاطونية المحدثة، وكان ذلك سنة1850 – 1851”.[20]
في سنة 1852 جاء فاشرو Vacherot، “فقرر أن أفلوطين لابد أن يكون قد ترجم إلى اللغة العربية”[21]، بيد أن رينان شك في هذا الأمر بعض الشك قائلا “إن لدينا أدق المعلومات عن المؤلفين اليونانيين الذين ترجموا إلى هذه اللغة [العربية]، وليس من بينهم أفلوطين. وهاربريكر يظن أن المؤلف الذي يسميه الشهرستاني بالإسم [الشيخ اليوناني] ليس شخصا آخر غير أفلوطين، ولكن أيا كان صاحب هذا الاسم، فمما لا شك فيه أن الشهرستاني لم يعرفه إلا عن طريق مقتطفات ناقصة جدا”.[22]
ثم جاء “منك” في دراسته التي نشرت بباريس سنة 1807، بعنوان “أمشاج من الفلسفة اليهودية والعربية”، فتناول كتاب أثولوجيا في شيء من التفصيل لأول مرة، وبنظرة نافدة أثارت المشاكل التي ينطوي عليها، ولهذا سنورد جزءا مما قاله في هذا الصدد “حفظ لنا التراث العربي أثرا وردت فيه فلسفة الإسكندرية، وخصوصا فلسفة أفلوطين. بتفصيلات عديدة، ونجد أحيانا فقرات أخذت بنصها من “التساعات” وهذا الأثر هو الكتاب المشهور(أثولوجيا) المنسوب إلى أرسطوطاليس، وقد طبع لأول مرة في مستهل القرن السادس عشر في ترجمة لاتينية قامت على ترجمة عربية. وها نحن نورد هنا فقرات من هذا الكتاب وفقا للترجمة اللاتينية والنص العربي معا، وهذا النص العربي مخطوط في مكتبة الإمبراطورية (مكتبة الأهلية في باريس في ما بعد)، وهذا النص يختلف اختلافا بينا عن النص العربي الذي على أساسه قامت الترجمة اللاتينية”[23].
إذن من الملاحظ أن “منك” قد تنبه إلى أن كتاب “أثولوجيا أرسطاطاليس” يتضمن فقرت بنصها من تاسوعات أفلوطين. كما تنبه إلى وجود خلاف محسوس جدا على حد تعبيره بين النص العربي الوارد في المخطوط مكتبة الأهلية بباريس، وبين النص العربي الذي قامت عليه الترجمة اللاتينية.
وعلى كل حال، فإذا كان حضور أفلوطين في الفلسفة العربية الإسلامية حضورا بارزا، سواء كان باسمه الصريح أو بكنية الشيخ اليوناني أو من خلال تاسوعاته، كما بينا سالفا، فإن هذا يدل على حضور الفكر الافلوطيني في الفلسفة العربية الإسلامية.
والحال هو كيف نتحدث عن حضور الفكر الأفلوطيني في سياق الفلسفة العربية الإسلامية دون علاقة “تأثر وتأثير”، فهذه العلاقة هي التي ساهمت في استمرارية الفكر الفلسفي مند انبثاقه وبزوغه إلى يومنا هذا.
الهوامش:
[1] ماكس مايرهوف، من الإسكندرية إلى بغداد، التراث اليوناني للحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، ترجمة عبد الرحمان بدوي، مكتبة النهضة المصرية 1990، الصفحة: 61 و 62.
[2] نفس المرجع، الصفحة 62 و 63.
[3] نفس المرجع، الصفحة 63 و 64.
[4] نفس المرجع، الصفحة 64 و 65.
[5] عبد الرحمان بدوي، أفلوطين عند العرب، وكالة المطبوعات شارع فهد سالم، الكويت، طبعة 1977، الصفحة: 1.
[6] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[7] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[8] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[9] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[10] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[11] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[12] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[13] حربي عباس عطيتو، ملامح الفكر الفلسفي والديني بمدرسة الإسكندرية القديمة وتياراتها العلمية والفنية، دار العلوم العربية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1413 هـ/ 1992 م، الصفحة: 191.
[14] نفس المرجع، الصفحة: 143.
[15] نفس المرجع، الصفحة: 143.
[16] القفطي، أخبار العلماء بأخبار الحكماء، مطبعة السعادة، 1326هـ، الصفحة: 180.
[17] عبد الرحمان بدوي، أفلوطين عند العرب، وكالة المطبوعات، شارع فهد سالم، الكويت، الطبعة 1977، الصفحة: 1.
[18] نفس المرجع، الصفحة: 2.
[19] نفس المرجع، الصفحة: 2.
[20] نفس المرجع، من الصفحة: 2 إلى 3.
[21] نفس المرجع، الصفحة: 3.
[22] نفس المرجع الصفحة: 3.
[23] نفس المرجع، من الصفحة: 3 إلى 4.
لائحة المراجع والمصادر:
- ماكس مايرهوف، من الإسكندرية إلى بغداد، التراث اليوناني للحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، ترجمة عبد الرحمان بدوي، مكتبة النهضة المصرية 1990.
- القفطي، أخبار العلماء بأخبار الحكماء، مطبعة السعادة، 1326هـ.
- عبد الرحمان بدوي، أفلوطين عند العرب، وكالة المطبوعات، شارع فهد سالم، الكويت، الطبعة 1977.
- حربي عباس عطيتو، ملامح الفكر الفلسفي والديني بمدرسة الإسكندرية القديمة وتياراتها العلمية والفنية، دار العلوم العربية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1413 هـ/ 1992 م.