«أشيروا عليَّ بمترجمٍ؛ استودعه كتابي»[1] – كارلوس باتيستا
«المترجم كاتبُ الظّل»، كتابٌ يأخذك فيه البرتغالي كارلوس باتيستا[2] من يدك، ليقودك في نزهةٍ اختار جيّدًا مسالكها، ولفّاتها، ليَهَبك، متعة تحويل التّرجمة إلى لجّة معاني غريبة وحُلوة ومُتخمة بالأمثلة، يصطفيها جيّدًا، وبذكاء، وفي سعة اطلاع ودهاء تُعينانه على استثمار معلومات بسيطة من تاريخ الفلسفة ومن الأدب وعالم الفلاحة والطّبخ، كما من معيشنا اليومي، ليجعل منها أشياء حاسمة في التعريف بالترجمة ونظرياتها، وكل ذلك على هيئة السّاحر الذي يخرج لك من قبعته الفارغة، فجأة ودون سابق إنذار فأرًا أو حمامة، مالكًا بذلك سرّ إخضاع الأمثلة لكلامه عن التّرجمة، بشكل لا تملك الأمثلة أي قدرة لإبداء أي مقاومة إزّاءه، ليُشبه في اختياراته تلك طائرًا يهبط إلى نقطة محددة من الأرض، ليلتقط شيئًا لم نلحظه، رغم أنه كان بالقرب منّا.
باتيستا ينتمي إلى تلك السّلالة الغريبة التي لا تكلّ ولا تملّ؛ تُترجم وتتحدث عن دور التّرجمة وتترافع عن الملاحم اللغوية التي يقوم بها المترجمون؛ سلالة شيشرون، والقديس جيروم والجاحظ، وشلايرماخر، وولتر بنيامين، وشتاينر، وبرمان، ومونان، وحسُن أولئك رفيقا. سلالة المترجمين التي تَعرف جيدًا أن الكثيرين لا يعرفون عن الآخر أي شيء، بمن فيهم المحسوبين على الثقافة كما حال ذاك المثقف البوسني حين وصوله إلى باريس وهو لا يعرف من الفرنسية سوى ثلاث كلمات وهي: جون، وبول، وسارتر (جون بول سارتر). فيتجشم المترجم عناء التّرجمة، ويُحمّل نفسه مسؤولية الانفتاح على الأجنبي الغريب، وبالتالي، يتولى مهمة نقل حضارة بأكملها إلى قُرّاءٍ من حضارة أخرى.
تقوم التّرجمة مقام التّضحية البشرية، التضحية الأكثر حماسة ونُبلًا، ما دام حماس المترجم قد يجعلنا نُآخي سكان كواكبَ أخرى، ونتواصل مع أهالي الكواكب والنّجوم البعيدة، وينقل معارفنا من مجرّة إلى أخرى، كما يؤكد نيتشه.
رغم أن كتاب باتيستا، هو عبارة عن شذرات منثورة هنا وهناك، غير أنها تشبه في توزيعها هذا أسنان مفتاح خاصٍ جدًّا، لفتح باب التّرجمة، فكل شذرة هي جواب عن سؤال يخصّ مسألة فقهية محددة في التّرجمة (فلترجمة فقهها)، وكل شذرة هي مشروع بحث دكتوراة في التّرجمة، وكل شذرة هي فك لسرٍّ ما، وعلاقة ما، وسؤال ما في التّرجمة، وإضاءة لجوانب مظلمة من دهاليز التّرجمة. وإلى جانب هذا فهو كتابُ فضيحة، يفضح المترجمين على رؤوس الأشهاد مرّة على لسان البغايا والقوادين، ومرّة على لسان القراصنة والفلاحين، فيرصد حِيلهم وألعاب خفّتهم، وابتكاراتهم الخارقة، وطرقهم في وضع الكمائن السّرية، وفي حبك الأحبولات المنهجية والمصطلحية في القصّ والحكي، وهم يُؤَدُّون حقوق النّصوص الأجنبية بالجملة والتقسيط، وبمستوى عالٍ من المكر والكفاءة المهنية.
على طول الـ 103 صفحة، لا يقوم الكاتب البرتغالي باتيستا إلاّ بعرض محاولاته في كشف المستور في التّجربة الإبداعية للمترجم، فيفضح وسواس المترجمين، وهواجسه النفسية، وبقية أمراضهم؛ مرضًا مرضًا، ويُفصّل القول عن لحظات نبوغهم ويكشف عن السّر فيها، ولا يفوته أن يُشهِّر بمواقف مجونه وجنونه وجنوحه، ثم يشرح ببساطةٍ مفرطةٍ كيف يحوّل المترجم النّصوص الرّديئة التي يترجمها إلى نصوص عظيمة، وكيف يمسخ الأخيرة إلى نصوصٍ بلهاء، بدون أثر ولا تأثير، وكيف يتعقب هذا العميــل السّري والمزدوج الاستعارات والكنايات وكيف يُعيد تكرارها أو كيف يعتدي عليه.
المترجم كاتب الظّل، كِتابٌ شيطانيٌّ بامتياز، إذ إن موضوعه هو التفاصيل المملة في برنامج عمل المترجم في يومه وليلته، حيث يُفصّل في آلياتِ اشتغاله وعن استراتيجيات نصْبه للفخاخ؛ الفخّ تلو الآخر، وكذا طرق إغرائه واستدراجه، لا للقارئ، بل للغات كاملة، ليترك النّصوص والأسماء والتواريخ والرُّعاة والحكام والمحاربين والقتلة المأجورين والبغايا والحيوانات يتحاورون فيما بينهم، ويناقشون بعضهم كَي يسمح كارلوس باتيستا، لسماحة القارئ الـمتخصص أو حتى لفخامة القارئ البسيط بمتابعة موضوعَة التّرجمة في سائر تحولاتها وانزياحاتها وتطوراتها، خاصة مع استعماله الجيد للنوادر، بالإضافة إلى قدرته الساخرة والخارقة التي تتملك أسلوبه، ناهيك عن معلوماته التاريخية التي لا يَعدم فيها حِسْ أن يحولها هي الأخرى إلى دعابة جميلة، مع قدرته الهائلة على حشد طوائف من الشّخصيات الممثلة لمهنٍ شتى ليتكلموا جميعًا عن التّرجمة، فيحضر العسكريون بجانب الفلاسفة، والرياضيون في مواجهة الفلاحون، والطباخون وجهًا لوجه بإزاء المومسات والشواذ، كما ويحضر طاردوا الأرواح الشريرة وناكحوا الحيوانات والسّنونوات وقطعان الجواميس والبقر، حيث يستحضر أقوالًا مهمة لها، من بينها قول بقرة: «أنا أُترجم العشب حليبًا، مووه»[3]، هذا القول السّاذج جدًا الذي ينقلب فجأة إلى أطروحة فلسفية حول التّرجمة.
التّرجمة تصير مع باتيستا ذَنَبُ بقرة بني إسرائيل، فما إن تلمس نصًّا حتى تهبه حق الاستيقاظ من نومته العميقة، ليتكلم في النّاس، فتشي بمن أجرم وتُبرّيء من لا ذنب له، وتحيّ الميت من النّصوص وتبرئ الأكمه منها، وقد تداوي الأبرص والمصاب بالثّعلبة من النّصوص. أوَ لم يكن أرسطو ليعيش ويستوطن قلب كذا شعب[4]، ويَكتَشف نفسه، ومعها رُقيّ أفكاره في كذا لغة، ويَضطهد نَحوَ (بمعنى grammaire)، كذا لُغة بمنطقه. ولولا التّرجمات التي حظيت بها نصوصه إلى اللغة السّريانية واللاتينية والعربية والألمانية، وحينما يكفّ المترجمون عن ترجمته سيكفُّ عن الحضور كما كفّت لغته الأم عن التّداول، في حين استمر هو ومتنه في التّداول والتّرحال.
يرصد لنا باتيستا هواجس المترجم ووساوسه اتجاه نفسه واتجاه المتَرجَم له، خاصة والكتب الذكية والعنيدة تستدعي أن يكون لها مترجم عنيد، يساوي أو يفوق مؤلفيها ذكاء، وإلا فستكون الكارثة، في إطار تحدٍّ غريب، لذا يفعل المترجم ما بوسعه ليتفوق على الكاتب الأصلي، في إطار لعبة لَـيّ الأيدي. فيحاول المترجم أن يُظهر كل ما لديه، كي يشارك المؤلف إبداعه، ويبُزَّه مكانته، حتى إذا ما أحس أنه تفوق عليه، وتأكد من ذلك، ربما يذهب بعيدًا إلى حدِّ أن يحذف اسم المؤلف لكي يسجل اسمه الخاص[5]، وينسب العمل لنفسه، وكأن شيئًا لم يكن، كما كان يفعل عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وغيرهما كثير، رغبة من المترجم في أن يخرج عن ظلّ الكاتب الأصلي ويستقل عنه، لذا قد يتوجب أن يوقعا الكتاب معًا، وأن يقدَّم العمل مثل أي عمل كُتب بالتعاون وباشتراك[6] .
وهنا يَطرح باتيستا السؤال: «هل المترجم كاتب أدنى، أو كاتب أعلى، أو نصف كاتب، أو مساعد كاتب أو كاتب موازٍ، أو ما بعد كاتب؟»،[7] ليجيب «لا يهم، إنه وقبل كل شيء فنان بارع»[8]. وهذا ما يصادق سيوران على قوله حينما يُبقى المترجمَ في حالاتٍ عدة أذكى ممن يترجم له فيقول: «عرفتُ من الكُتّاب البُلَداء وحتى الحمقى، أما المترجمون الذين أتيح لي أن أقابلهم فكانوا أكثر ذكاءً وإثارة للاهتمام من المؤلفين الذين كانوا يترجمونهم، وذلك لأننا نحتاج إلى التفكير عند التّرجمة أكثر مما نحتاج إليه عند الإبداع».
ليبقى كلٌّ منهما ـ أي من المترجم والكاتب ـ في محاولات التخلص من سطوة وسُلطة الآخر يتكلمان بلسان أبي الطيب المتنبي:
«ودَعْ كلَّ صوتٍ غيْرَ صَوْتِي فإنني ** أنا الطّائرُ المحكيُّ والآخَر الصّدى»[9].
وفي مرّاتٍ عديدة يحاول المترجم أن يتملّك المترجَمِ له، بأن يقضي ويُدمر كل أصول المترجم فيصير جزءا من عالم المترجم، فنحن العرب من ميلنا المفرط إلى تدمير الأعمال الأصلية، حاول من بيننا ابن رشد مثلًا، استملاك أرسطو الذي نعته بالإلهي، وحاول عرب آخرون استملاك أفلاطون، حتى سُمي ابن عربي بابن أفلاطون، ولم يسلم من هذا أفلوطين وبقية القائمة، فتمت استباحة الكثير من الأغريق وغيرهم، وإذابته بشكلٍ رهيب في نصوص عربية، وهكذا فُعِل مع أبقراط وآخرين بشكلٍ يستعيد تجربة الرّومان[10]الذين امتدح نيتشه قدرتهم الخارقة في تبيئة نصوص الآخرين وتوطينها، كما فعلوا عند توطين أنفسهم في بلاد بعيدة عن روما في جنوب المتوسط وشماله. ولذا لم يجد فريدريك شليغل خيرًا من العرب ليُمَثّل لطريقتهم الغريبة في التّرجمة من أنّ «ميلهم المفرط إلى تدمير أو رمي الأعمال الأصلية بعد ترجمتها، يميز روح فلسفتهم. ولربما كانوا لهذا السّبب أكثر ثقافة، إلا أنهم كانوا رغم ثقافتهم أكثر همجية من أوروبيي القرون الوسطى»[11]، بشكلٍ لا يتركون خلفهم مصادرهم التي ترجموا عنها، ولا يتركون أيًّا من أدوات جرائمهم، فإلى اليوم تتراوح بين هل كان ابن رشد يعرف لُغة أرسطو أم لا؟ وعلى أي التّرجمات اعتمد بالضّبط؟
وفي إطار هذا الصّراع بين قوة عارضة ِكلٍّ من المؤلف الأصلي والمترجم يقدم باتيستا العديد من الأمثلة فقد “أعاد “لوريان” كتابه رواية سربانتس بطريقة سيئة. والسّبب أن للكاتب الإسباني سذاجة بورجوازية مألوفة تنفر منها أناقة المترجم الفرنسي[12] . وفي هذا الصدد يؤكد بليز باسكال أن الأناقة الحقيقية تسخر من الأناقة، ومن هنا “كان مترجم “مدام بوفاري” الروسي يقول: «أنا فلوبير»[13]. والمترجم السّويدي أوغست ستريندبرغ (Johan August Strindberg)، كان يؤكد أنه هو بلزاك، في رغبة جموحة لأن يَخرُج المترجم من الظّل، ويستبد بالمشهد كله، ولتكون التّرجمة هي قعقعة سَيفين، يود كل من المترجم والمترجم له أن يخرج منها منتصرًا دون انكسارات، أحدهما يود طعن الآخر، ويلوي يده، ولربما عنقه، وهو ما يسميه باتيستا التّرجمة بالطعنة، هذا الوصف الذي اقتبسه من أوغيست شليجل (مترجم سرفانتس إلى الألمانية)، حيث يقول: «التّرجمة مبارزة حدّ القتل؛ حيث يموت لا محالة المترجِم أو المترجَم له».
فكل مترجم يتوق إلى تدمير النص الأصلي كي يتخلص من صاحبه إلى الأبد لصالح اللّعبة التّدنيسية للترجمة، ضمن “عملية كوماندو حيث جلد المؤلف هو شبكة التمويه”[14]، أو ما يسميه التحليل النّفسي بعقدة قتل الأب.
حتى وهو يعرض باستفاضة، لكن بما تسمح به الشّذرات الصغيرة، فإن باتيستا يُدافع بكل ما يملكه عن المترجم أمام محاولات البعض تأخير مرتبته، أو حتى تجريمه بأن يُشبَّه الفرار من عمله إلى العمل الأصل بأنه أشبه بمن يهرب من الكنيسة إلى الله[15] في ابتعادٍ تامّ عن الوساطات، وفي بحث عن الاتصال المباشر والفناء في الأصل. ليتكلم باتيستا نيابة عن الكثير من المترجمين قائلًا: «لا يمكننا أن نترجم سوى المؤلفين الرّديئين، الذين لا يمتلكون أسلوبًا. من هنا يأتي نجاح أسلوبنا»[16] .
رغم أن المؤلف الأصلي يودّ كل مرّة أن يظهر بمظهر الذي يقوم بأعمال خيرية حيث يقول متبجحًا بمكانته: «حينما نكتب، ينبغي أن نفكر في تضحية القارئ والمترجم. فبتفكيرنا في المترجم خصوصًا، يقوم الكاتب بتضحياته كي يكون واضحًا ومفهومًا»[17]، لكن سيوران يستدرك قائلًا: «المؤلف لا يحمل على الدّقة، لكن المترجم يجب أن يكون دقيقًا، وهو أيضًا مسؤول على نقائص المؤلف. إني أضع مترجمًا جيدًا فوق كاتب جيد»[18].
المترجمين هم سيزيفيون في الأصل، يحبون تكرار الأشكال بصورٍ وأحرفٍ مغايرة، دون أن يصيبهم من ذلك نصب أو وصب، فالمترجم، كما يؤكد باتيستا، إذا أراد الحصول على ألماسة منحوتة، ينبغي أن يعالج ما مقداره مئتي طن من المعدن الخام، هكذا هو عمل المترجم، فمن أجل أن يترجم جملة واحدة، عليه أن ينتزع من بين أحشاء اللغة خالص الكلمات[19]، وكأنه يقول على لسان الشوفيني: «الترجمة: لعنة أكابدها بفرح»[20] ، حتى والمترجم تتنازعه أيدي المنون، وهنا يحكي لنا مؤلف الكاتب عن ذلك المترجم الذي قبيل أيام على وفاته، يرسل «رسالة إلكترونية إلى ناشره يطلب منه أن يعوض في مقطع من ترجمته الأخيرة، كلمة “لا نهائي” بكلمة “لا ينضب”».[21]
إنه حقًا كائن محبَط وكئيب ومكتوب عليه العمل الشّاق، فعلى لسان مترجم آخر يقول باتيستا: «حينما أعجز عن التّركيز في عملي، أقضي يومًا شبيهًا بيوم الحلاق، يفتح حانوته، ينتظرْ، يتصفح المجلات، يدخن، يشرب القهوة، يُشعل سيجارة تلو أخرى، وحين يأتي المساء يلعن ذلك اليوم، لأنه لم يَحلِق لأي زبون، فهو يوم فارغ مثل صندوق نقوده».[22]
تكثر وتتكاثر الأوصاف الموجهة نحو التّرجمة في كتاب المترجم كاتب الظّل فهي مرّة العاشقة المتمردة التي ترتاد المكتبات وحانات الليل، وتحاول غواية الكاتب الأصلي، بل وتقوم بكل وقاحة بطرق باب منزله، لتلتف حوله وحول نصوصه مثل ثعبان شبق، وليلتصق المترجم بالكاتب الأصلي ليل نهار، مثل جرثومة، ولا يتركه يفلت منه. آنذاك يمكن أن يكون لديك أمل في ترجمته، حتى وإن شارف المترجم على الكآبة.[23] وهو يحاول معالجة النص الأصلي. ولا يتورع باتيستا في أن ينصح المترجم، بأن يعول على المعاجم والقواميس، وألا يروعه التعامل معها فهي الفزاعات التي تطرد طيور الشّك السوداء[24].
ثم إن على المترجم، في عمله الشاق هذا، أن يتخلى عن آدميته ويتعلم أشياء كثيرة مما تُوفرها له تجربة الوحوش من الهررة والقردة وبقية البهائم، فلكي يقتفي المترجم أثر الكلمات، يجب أن يصبح كلبًا، صاحب موهبة لا تُضاهى في الشّم. وكي يحاكي صاحب النّص الأصلي في لغة أخرى، يجب أن يصير قردًا أو حرباءً أو ببغاءً، فبقدر ما هنالك حيوانات في المترجم، فإنه سيترجم أفضل[25]. رغم أن ترجماته تبقى، مهما كانت مثاليته، عوجاء، فأي ترجمة، إنما خُلقت من ضلع النّص الأعوج[26]، مثلها مثل النساء اللائي خُلقن، بحسب الرواية المشهورة، من ضلع أعوج، لهذا فهن أيضًا، «غير قابلات للترجمة، فبقدر ما نبحث عن الإمساك بدواخلهن، فإنهن ينفلتن»[27]، ويتشَظَّيْن إلى بِلّور. خاصة والمترجم يقف مشدوها أمام الأحاجي التي تطرحها أمامه اللغات التي تجعل عمله مشوهًا، لأنه يقضي أيام عمله في حقول ملغمة، بشكل جيد، ففي لغة الهورون Hurons مثلًا، «يتغير فعل أكل مع كل مادة غذائية»[28]، الشّيء الذي يجعل مهمة المترجم عذابًا في عذاب. لكن الحمد لله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، أنْ ليست هناك لغة يتغير فيها فعل «أحبّ مع كل مغامرة حميمية؟»؛ رغم أن الفرنسيات يبذّرن كلمة أحبّك، مع كل ريح كما يؤكد باتيستا، في حين أن الإسبانيات والبرتغاليات يحتفظن بها حتى يستعملنها في أشياء أكثر حميمية[29].
لا أحد يمكنه أن ينكر أن التّرجمة هي مثال الخيانة والانفلات من ربقة أي وفاء للنص الأصلي، حسب باتيستا، وهنا ينقل لنا قول كونديرا ليصف وضع الخيانة هذا: «تُرجمت رواية “المزحة”، إلى جميع اللغات الغربية، لكن يا للمفاجأة، في فرنسا أعاد المترجم كتابة الرواية مزخرِفًا أسلوبي. وفي إنجلترا قصّ الناشر كل المقاطع التأملية، وأقصى الفصول الخاصة بالموسيقى مُغيّرًا ترتيب الأجزاء، لقد أعاد ترتيب الرواية. وفي بلدٍ آخر، التقيت بمترجميّ، وهو لا يعرف حرفًا واحدًا من اللّغة التشيكية، فسألته كيف ترجمت الرّواية؟ قال: “بقلبي”. وأَخرج لي صورتي من محفظته. كان لطيفًا جدًا حتى كدت أعتقد أنه من الممكن أن نترجم بفضل التجاوب القلبي عن بعد»[30]،
ربما لأن للإخلاص سلاسل، وللخيانة أجنحة[31]. لكن «ما الذي يمكن أن يفعله مؤلف ضد مترجم يخونه؟ سيسامحه أو، يحاول قتله».[32] لكن كيف يقتله؟ فالمترجم إذا اقترف خطيئة في ترجمته، لا يجب أن ينسب له الخطأ، ولكن ينسب إلى الذي أضله وأعماه وهو المترجم[33]، لكن أبشع أنواع الخيانة هي التي يقوم بها الحاسوب الذي يظل دون ضمير يقوده، فـ «هكذا تُرجمت بواسطة الحاسوب من الإنجليزية إلى الروسية الآية التوراتية “الروح مثابرة، لكن الجسد ضعيف”، “لدينا الكحول، لكن اللحم ملوث”».[34]، غير أن الحاسوب ليس وحده من يرتكب مثل هذه الجرائم، بل حتى بعض مترجمي الإنجيل المعاصرين تغدو عندهم النعجة الضالة خروفًا هاربًا، والعذارى غير العفيفات يصرن فتيات طائشات، والطوفان يصير فيضانًا أو تسونامي، وهكذا تنمو السطحية، والابتذال حتى إنه «لا ينقصنا سوى ترجمة التوراة لشباب الضّواحي»[35] . وهذا «أحد كبار الخائنين «traditeurs»، لتولستوي كان يقول: «في لحظة اندفاع، جعلت الصُّنوج تلعب بدل الدُّفوف في مرتفعات القوقاز، وحولت حُراس دلاء الغائط في السجن إلى سباكين منشغلين بإصلاح الأنابيب»[36]. و«هذا المترجم سأل طبيبه النفسي: “لماذا أنا دائما مكتئب؟”، فأجابه “لأنك لم تصل بعد إلى نهاية خياناتك”»[37]، لهذا فـ«منذ بابل، حسب جورج شتاينر، تسعون في المائة من التّرجمات هي خاطئة وستظل كذلك على الدّوام».[38] بشكلٍ «يجعل كل مناهج التّرجمة لا طائل من ورائها»[39].
باتيستا ليس منظّرًا للترجمة عبر هذا الكتاب وأعمال غيره، وإنما مترجم لا يشق له غبار، أختار في مشهد غريب، وعلى عكس الأغلب من المترجمين أن ينقل أعمالَ لغته الأم: البرتغالية نحو اللغة الفرنسية التي يسميها اللغة الأب، فإنّ المترجم ينطلق في الغالب من رؤى وطنية بأن ينقل غنائم الغريب نحو لغته الأم، لا أن يُقدّم غنائمه للغريب، إذ التّرجمة تبقى، في أحد مقاماتها، عملًا عَدائيًا ضدّ مصالح وطن ما، وضد مُقدّرات شعب بعينه، فأحد تعريفات التّرجمة أنها «غزو»، وإلا فإنها تبقى عملًا استخباريًا وبدور جاسوسي، من حيث هي محاولة للإحاطة بثقافة شعب، بمعرفة نقاط ضعفه ونقاط قوته، وبإخضاع رقبة نصوصه، والإمساك بخطامها، والاستفادة من مميزاتها، فـ «الكتاب الذي يفيض نباهة، ينقل منها شيئًا إلى خصومه»[40]. كما يؤكد نيتشه. ولا ننسى هنا قصّة كليلة ودمنة حينما يَبلغ إلى علم كسرى خبر هذا الكتاب النّبيه جدًّا، فيرسل طبيبه الفارسي ليسرق هذا المؤلَّف الخطير ويُحمِّله من مالِ الدولة ما يريد، لأجل الظّفر به ونقله إلى اللسان الفارسي، هذا الكتاب الذي كان متَكتّمًا عليه من الدوائر الضيقة عند حكماء وحكّام الهند، فالترجمة مدخل أساسي لأي نشاط توسعي أو استيطاني حتى أن فيلسوف التاريخ هيجل يعتبر أن «المسيحية لم تفلح في غزو الصين، لأن اليسوعيين لم يفلحوا في ترجمة التّوراة إلى اللّغة الصّينية ترجمةَ يقبلها المتأدبون».[41]. الصينيون وحينما لم يفلحوا في ذلك سموها «لغة الشيطان».
بقائمةٍ طويلة من التّرجمات تَخصَّص كاتبنا البرتغالي باتيستا في ترجمة آداب لغته الأم البرتغالية إلى الفرنسية، وكأنه لم يجد ذاته إلّا في أن يكون مترجمًا، وكأنه يستعيد حكم أحد الألمان من كون «فرنسا التي تمتعت دائمًا بمهارة رائعة في قلب أوخم التواءات روحها إلى شيء فاتن ومُغرٍ»[42]. لذا يمكن التّعويل عليها لإصلاح أخطاء لا الكتابة الألمانية ومعها مصائب من يكتبون بها، بل لإصلاح البرتغالية التي يرى باتيستا أنه لم يكن بالإمكان أن يكتب هذا الكتاب: المترجم كاتب الظّل بالبرتغالية «لأنها لغة تسبب الغموض المفرط (…) هو في غنى عنه»[43]. كما أنه كان «لديه الاعتقاد الراسخ أنه لا يمكن أن يصاغ إلا بالفرنسية»[44]، فعبقرية الفرنسية بالنسبة إليه «هي عبقرية الصيغة وغنائية الدِّقة»[45]، فالفرنسية عند باتيستا «مُشربة بالدّقة، والانتظام، وصرامة التفكير السليم الخاص بمزاج شمالي، إنها لغة هندسية، دقيقة ومضبوطة على قياس العقل. إنها دائمًا وأبدًا مبصومة بالتقاليد العملية لعصر الأنوار»[46]. «فالوضوح البلوري، الكريستالي للفرنسية يجفف الأصلي ويقحله»[47]، حتى أن باتيستا وهو يحكي عن تجربته في ترجمة أعمال الأديب البرتغالي أنطونيو لوبو آنطيس إلى الفرنسية يؤكد أنه كان يحاول الحفاظ على أنواع الغموض الذي تتملك هذا العمل غير أنه لم يستطع[48]. والسبب هو الفرنسية ذات الطبيعة الكريستالية المصقولة، ومع ذلك فباتيستا كما يكيل كثيرًا من المدح للفرنسية، فإنه يَأبى إلا أن يوازن بينها وبين لغة والديه، في فعل المدح هذا، يقول: «ربما الفرنسية أجمل من البرتغالية، لكن الصوت البرتغالي دائمًا أكثر رخامة وتأثيرًا من الصوت الفرنسي، في الفرنسية برودة أصلية»[49]. من ثم «فضيلتها الخاصة في الإيحاء باللامحدود»[50] .
وحبّه للبرتغالية يدعوه مرّةً تلو أخرى ليبتز الفرنسية ويهمز من وراء ظهرها من كونها مثلًا «لا تتحمل الإخلاص والصراحة»[51]. وأنها «تشمئز من الأحاسيس المفرطة في الجدية وفي الحقيقة»[52]، أو من كونها «لغة بمساحيق مجتمعية»[53].
باتيستا وهو يُترجم من لغته الأصل إلى الفرنسية يُعيد إنتاج تجارب لها ما يبررها، كتجربة الإيرالندي صمويل بيكيت (Samuel Beckett)، الذي كان يكتب بالفرنسية أحيانًا، كي تبقى له قدم في باريس الأدبية، مثله في ذلك مثل الإيرلندي الآخر جيمس جويس (James Joyce)، مثله الأعلى ونموذجه الأبوي، وكذلك الشأن مع ميلان كونديرا (Milan Kundera)، الذي اختار بدل اللّغة التّشيكية لُغة البلد الذي استقر فيه أي الفرنسية، فالهجرة من مدينة إلى أخرى ليست طريق الأنبياء وحدهم، بحثا منهم عن الدّعم النّفسي والمادي وكذا عمن يسندهم، وإنما طريق الأدباء والفلاسفة في ترحالهم من لُغة إلى أخرى، بحثًا عن قُرّاء وتلاميذ وأنصار جدد، وكي يرجعوا إلى مُدنهم بقوة أكبر، كما يؤكد نيتشه في شذرة دالة جدًّا بعنوان: «أخطر الهجرات»: «هناك في روسيا هجرة الذّكاء: يعبُر النّاس الحدود ليقرأوا كتبًا جَيّدة أو ليؤلفوها»[54]. لكن هناك من يُهاجر ويحتفظ على عذرية لسانه، يكتب به ويتحصّن به كما حالة الأرجنتيني خوليو كورتاثار (Julio Cortázar)، الذي احتل شطرًا صالحًا من اهتمام أوروبا دون قتال، وبسلاحٍ هو لغته الإسبانيّة التي حملها معه من الأرجنتين، وذلك بالرغم من تعلّمه للفرنسيّة على يد والديه، إلاّ أن لغته الأم أحد أسلحته السّرية[55].
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1]– باتيستا، كارلوس، المترجم كاتب الظل، تقديم وترجمة: محمد أيت لعميم، مراكش: منشورات مركز الحمراء للثقافة والفكر، 2020، ص 23.
[2]– كارلوس باتيستا: مترجم وأديب فرنسي من أصول برتغالية. وظف ثقافته المزدوجة في بناء مساره وأعماله المختَرقة بسؤال وهَمِّ التّرجمة، عَمل لسنوات مترجمًا لدار النشر: christian bourgois، حيث ترجم العديد من الأعمال الرّوائية والشّعرية لكبار الشّعراء والرّوائيين البرتغاليين من مثل: Antonio Lobo Antès وآخرين.
[3]– باتيستا، كارلوس، المترجم كاتب الظل، ص 23.
[4]– في هذا الصّدد يقول متّى بن يونس: “يونان وإن بادت مع لغتها فإن التّرجمة حفِظت الأغراض وأدّت المعاني وأخلصت الحقائق.” (أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة وهو مجموع مسامرات في فنون شتى، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، اللّيلة الثّامنة، ص. 102.).
[5]– ص 25.
[6]– ص 61.
[7]– ص 33.
[8]– ص 33.
[9]– محمد الخبّاز، صورة الآخر في شعر المتنبي: نقد ثقافي؛ يليه مرايا المتنبي، وجه شعري لكائن فلسفي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، الأردن، ط. 1، 2009، ص. 48.
[10]– يقول نيتشه: “«فيما يخص الحضارة الرّومانية القديمة ذاتها: بأية قسوة وبأية سذاجة في ذات الوقت وضعت يدها على كل ما كان ممتازًا وساميًا في الحضارة اليونانية القديمة! كم عرف الرّومان ترجمتها في الرّاهن الرّوماني! كم مسحوا طوعًا ودون تدقيق غُبار جناح اللّحظة (…) ما همّهم أن يكون المبدع المشار إليه قد عاش هذا أو ذاك وسجل علامات ذلك في قصيدته! – لكونهم شعراء، قلما كانوا مهيئين لفطنة الفكر الأركيولوجي السّابق للفكر التّاريخي؛ لكونهم شعراء فقد كانوا يهملون التفاصيل الشّخصية، الأسماء، وكل ما كان يميز حاضرة، ضفة، قرنا، باعتبارها الكساء والقناع، لكي يعوضوه براهنهم الرّوماني (…) كانوا يضيفون التّلميح إلى الرّاهن، كانوا يحذفون أوّلًا اسم الشّاعر ليكتبوا مكانه اسمهم الخاص – ليس بإحساس سرقة، لكن براحة الضّمير التّامة لـ L’imperium Romanum».” (ف. نيتشه (1900)، العِلْمُ المَرِح، الشّذرة: 83، “التّراجم”، ص. 100.).
[11] – L’absolu littéraire: Théorie de la littérature du romantisme allemand, collection poétique, textes choisis, présentés et [traduits] par Philippe Lacoue-Labarthe et Jean-Luc Nancy ; avec la collaboration d’Anne-Marie Lang , (Paris: Editions du Seuil, 1978), p.131.
نقلًا عن برمان، أنطوان (1942-1991)، التّرجمة والحرف أو مقام البعد، ترجمة وتقديم: عز الدّين الخطابي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2010، ص. 102.
[12]– ص 40.
[13]– ص 41.
[14]– ص 86.
[15]– ص 59.
[16]– ص 61.
[17]– ص 61.
[18]– ص 70.
[19]– ص 16.
[20]– ص 16..
[21]– ص 22.
[22]– ص 81.
[23]– ص 15.
[24]– ص 15.
[25]– ص 16.
[26]– ص 18.
[27]– ص 22.
[28]– ص 21..
[29]– ص 21.
[30]– ص 30.
[31]– ص 37..
[32]– ص 36.
[33]– ص 47.
[34]– ص 39.
[35]– ص 60.
[36]– ص 50.
[37]– ص 50.
[38]– ص 96.
[39]– ص 96.
[40]– ف. نيتشه (1900)، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 160. “لفائدة الخصوم”، ج. 2، ص. 62..
[41]– هيجل، غيورغ فيلهلم فريديريش (1770-1831)، علم ظهور العقل، ص. 6.
[42]– ف. نيتشه (1900)، ما ورَاء الخَير والشّر: تباشير فلسفة للمستقبل، الشّذرة: 48، ص. 82..
[43]– ص 97.
[44]– ص 97.
[45]– ص 97.
[46]– ص 100.
[47]– ص 100.
[48]– ص 99. 100.
[49]– عن هذه الطبيعة البحرية للغة البرتغالية يقول باتيستا: “البرتغالي: شهوانية لغة تعلو نبراتها الصوتية مثل الأمواج. ثم تهبط ثانية في شكل مقاطع مزبدة. تحاكي نشيش الرمل حين يتراجع عنه الماء .” ص 33.
[50]– ص 23.
[51]– ص 100.
[52]– ص 100.
[53]– ص 100.
[54]– ف. نيتشه (1900)، المُسافِر وظلُّه، ضمن إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 231. “أخطر الهجرات”، ج. 2، ص. 190.
[55]– أحد روايات هذا الأرجنتيني تحمل نفس الاسم وهو الأسلحة السّرية، ترجمة: محمد عيتاني، مؤسسة الأبحاث العربية، ط. 1، بيروت، لبنان، 1988.