
ما الذي يعنيه الملل تحديدًا؟ هو حالةٌ مُزعجة تعترينا حين لا نجد ما يلبي شعور الإثارة (arousal)، فمشاعرنا مُثارة وليستْ ساكنة، ولكن لعلّة ما نعجز عن تلبية هذه الحماسة أو توجيهها. قد يرجِعُ ذلك إما إلى أسبابٍ داخليّة -كافتقادِ الإلهام أو التركيز أو الدافع- أو لأسبابٍ خارجيّة كانعدام المُحفِّزات أو عدم تهيؤ الفرص. إذْ إننا نوّد أن نقوم بفعل أمر شيّق، ولكننا نعجز عن ذلك، وما يزيد الطين بلّة أننا نجد أنفسنا مُحبَطين بسبب وعينا بهذا العجز.
إنّ الإدراك (Awareness) أو الوعي عامِل أساسي قد يُفسِّر لِمَ لا تَمَلّ الحيوانات سريعًا مثل البشر؛ فكما قال كولن ويلسون «الحيوانات أيضًا لا تحب الشعور بالملل، لكنّ الإنسان يُعذّب به». بالنسبة للإنسان أو الحيوان فإنّ الملل ينجم ويتفاقم بسبب فقدانٍ السيطرة أو انعدام الحرية، لذلك نجده أشد عند الأطفال والمراهقين؛ فبالإضافة لكونهم تابعين، هم يفتقدون إلى العقول المُؤثثة بالموارد والخبرات والانضباط لتخفيف مللهم.
لنُلقي نظرةً عن كَثب إلى تشريحِ الملل: لِمَ من المُضجِر جدًا أن نعلق في صالة المغادرة حين تتأخر رحلتنا؟ لأن مشاعرنا مثارة؛ إذْ إننا نتوقع وصولنا الوشيك إلى بيئة جديدة ومُلهمة ويوقد ذلك الإثارة داخلنا، فبالرغم من الشاشات والمجلات والمتاجر حولنا إلا أنّنا لسنا على أدنى اهتمام بها، بل وبسبب انتباهنا المتشتت فإنّ كل هذه الأشياء تساهم في تفاقم مللنا. وما يزيد الأمر سوءًا أنّه ليس ضمن نطاق سيطرتنا، ولا يمكننا التنبؤ به -فمن المُحتمل أن تتأخر الرحلة لوقت أطول، أو حتى تُلغى- ولا مفرّ من ذلك. وكلما عاودنا التأكد من موعد الرحلة على الشاشة نعي أكثر وبدرجةٍ مزعجة بكل هذه الأمور، فها نحنُ عالقون هنا، في حالة انتظار، وتحت سطوةِ شعور إثارة عالٍ لا نستطيع تلبيته ولا إخماده.
لو افترضنا أنّ مقصدنا وراء هذه الرحلة أمرٌ بالغ الأهمية إما من أجلِ رزقنا أو حُب حياتنا، فإنّ الشعور بالملل سيخفت ويقلّ -ويحلّ محله الشعور بالقلق والانزعاج-، مقارنة بما لو كنّا ما بين أمرين: السفر أو البقاء في المنزل. إذن، الملل عملية مُناقضة للحاجة أو الضرورة. إذ إنّنا قد نشعر بالملل في جنازة قريب لا نعرفه إلا من بعيد لكن ليس في جنازة أحد الوالدين أو الأشقاء.
لكن لِمَ تكون عادةً وطأة الملل ثقيلة علينا؟ جادل الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر آرثر شوبنهاور بأنّ الحياة لو كانت تفي بمطالبنا وتستندُ على معنىً جوهري؛ لمَا وُجِدَ الملل، لكنّ انبثاق شعورنا بالملل دليل على اللامعنى، إنّه تعريةٌ لمشاعر مزعجة نحاول أن نواريها غالبًا خلف أنشطة مؤقتة أو مشاعر مُضادّة، وهذا هو أُس «الدفاعِ الهوسي»، إذ إنّه محاولة لدفعِ مشاعر اليأس والعجز بعيدًا عن الوعي إما بكبتها ومواراتها خلف أنشطةٍ هادفة أو محاولة السيطرة عليها بادعّاء مشاعر من النشوة أو أيّة مشاعر أخرى.
في رواية ألبرت كامو «السقوط» 1956، يتحدّث كلامانس لغريب:
لقد عرفتُ رجلًا أفنى عشرين عامًا من حياتِه مِن أجلِ امرأةٍ مُتَقلِّبة المزاج، حتى أدركَ ذاتَ مساء أنّه لم يُحبها قط. لقد كانَ -مثلَ مُعظم الناس- يشعر بالملل وهذا كل ما في الأمر، ضيّع نفسه في حياةٍ مليئة بالتعقيداتِ والدراما من أجل وهم. وهذا يُفسِّر مُعظم الالتزامات البشريّة، يجب أنْ يحدث شيء، يجب أن يمتلئ الفراغ، حتى لو كان بالعبودية في اللاحب، بل والحرب أو الموت.
إنّ الأشخاص الذين يعانون من الملل المزمن هم أكثر عرضة لخطر الإصابة بمشاكل نفسية مثل الإكتئاب والإفراط في تناول الطعام أو حتى الميل للكحول والمخدرات. وجدت دراسة أنه عندما يُوضع الناس وجهًا لوجه مع الملل في بيئة تجريبية، فإنّ العديد منهم يميلون إلى تعريض أنفسهم لصدمات كهربائية مزعجة ببساطة من أجل تشتيت انتباههم عن أفكارهم الخاصة، أو إزالتها.
بينما خارج البيئة التجربية في العالم الواقعي تزايد الإنفاق في العالم لمكافحة الملل، حيثُ من المتوقع أن تصل قيمة سوق الترفيه والإعلام العالمي إلى 2.6 تريليون دولار بحلولِ عام 2023، ولو نظرنا عن كثب لوجدنا الفنانين والرياضيين أكثر من يحظى بشعبية والأعلى أجورًا. لقد وضع لنا تطور التكنولوجيا بين أيدينا أنشطة ترفيهية لا نهائية، إلا أنّ ذلك زاد الأمر سوءًا وفَصَلَنا أكثر عن مكاننا الواقعي وزماننا الحالي. وصرنا بدلًا من الشعور بالرضا والاستقرار أكثر هشاشة ونرغب في المزيد من المحفزات والأحداث والحروب أكثر من أي وقتٍ مضى.
أما الجانب الحسن فإنّ الملل قد يكون ذا آثار جانبية مفيدة، فقد يكون المؤشر الذي يخبرنا بأننا لا نقضي وقتنا كما ينبغي، وأننا بحاجة لفعل شيء ذا عوائد أمتع وأنفع. من هذا المنطلق فإن الملل هو عاملٌ للتغيّر والتقدم، وحافز للطموح، يقودنا إلى مروجٍ أوسع وأكثر خضرة. فحتى لو كنا من هؤلاء القلة الذين يشعرون بالرضا والاستقرار علينا أن نزرع في أنفسنا بذرةٍ من الملل بدرجةٍ تسمح لنا بالتعمق أكثر في أغوار أنفسنا، وضبط إيقاعنا مع إيقاعاتِ الطبيعة، والبدء بأعمال نافعةٍ وجهود مُثمرة. كما قال الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه «غزو السعادة» 1930: «إن الجيل الذي لا يحتمل السأم سيكون جيلًا من المُهمَّشين، أشخاص قطعوا صِلتهم بعمليةِ الطبيعةِ المُتأنية، ببطء تذبل كل دوافعهم الحيويّة كأنها زهور مقطوعة في إناء».
في عام 1918، أمضى راسل أربعة أشهر ونصف في سجن بريكستون بسبب «الدعاية السلمية»، لكنه وجد أن أجواء العُزلة ملائمة ومُحَفِّزة للإبداع:
«وجدت السجن لا بأس به من نواحٍ عدّة، لم يكن لدي أيّة ارتباطات، ولا قرارات مصيرية لاتخاذها، ولا قلق من المتصلين، ولا شيء يُقاطع عملي. قرأت كُتبًا كثيرة بل وقد كتبت كتابي، «مقدمة في الفلسفة الرياضية» وبدأت العمل على كتاب «تحليل العقل». ذات مرة، عندما كنت أقرأ كتاب «فيكتوريون بارزون» لستراتشي، ضحكت بصوت عالٍ لدرجة أن الحارس جاء ينهرني، قائلًا إنّ علي تذكّر أن السجن عقوبة».
حتمًا، لسنا جميعًا مثل برتراند راسل. فكيف يمكننا كبشر، أن نتعامل مع الملل بطرقٍ أكثر جدوى؟ إن كان الملل -كما ذكرنا- وعيًا بالإثارة التي نعجز عن تلبيتها، فيمكننا تخفيف حِدّة الملل بأمورٍ مثل: تجنّب التفكير في الأمور التي لا نملك أدنى سيطرةٍ عليها، ومحاولة القضاء على ما يُشتتنا، وتحفيز أنفسنا، وخَفض سقف توقعاتنا، وضع الأمور في منظورها الصحيح -بتأمل وإدراك النعمة التي نرفل بها-، وهكذا.
لكن بدلاً من خوض هذه المعركةِ اللانهائية ضد الملل، من الأسهل والأجدى أن نحتضنه، فإنْ كان الملل نافذة على الواقع والحالة الطبيعية، وبالتالي، على الحالة البشريّة، فإن خوض هذه المعركة كسحب الستار على هذه النافذة، فكلما زادت حُلكة الليل اشتّد لمعان وبريق النجوم. لذلك نجد كثير من الفلسفات والتقاليد الشرقية تُشجّع الملل، حيثُ ترى أنه من الأمور التي تُعيننا على الترقّي في الوعي.
إليكم إحدى طرائف الزِن المفضلة لدي:
سأل أحد طلاب الزِن مرة كم يلزمه من الوقت ليصل إلى التنوير إذا انضم للمعبد.
أجابه حكيم الزِن «عشر سنوات»
سأل الطالب «ماذا لو عملت بجدٍ وضاعفتُ جهدي؟»
أجاب «عشرون عام».
إذن بدلًا من محاربة الملل، اِنسجم معه، واستمتع به، واِظفر بمنافعه. باختصار: كنْ أنت نفسك أقل مللًا. قال شوبنهاور إن الملل ليس إلا نقيض الافتتان؛ إذْ إنّ كلا الحالتين تعتمد على أن تكون «خارج الموقف»، لا داخله. ففي المرة القادمة التي تجد نفسك في موقف ممل، تماهى معه بدلًا مما تقوم به عادةً من محاولات الهرب منه. وإن بدَا ذلك بالغ الصعوبة، فإنّ حكيم الزِن «ثيت نات هانه» يقترح إلحاق كلمة التأمل لأي نشاط نجده مملًا، على سبيل المثال «التأمل أثناء الانتظارِ في الصف». كما يُعبّر الكاتب الإنجليزي في القرن الثامن عشر صمويل جونسون، «من خلال تأمل الأشياء الصغيرة، نحقق الفن العظيم في الحدِّ من البؤس وإرواء السعادة قدر الإمكان».