ثمّة قول يُنسب إلى هيغل:”القانون رأس لا عقل له”، لا أدري مدى صحّة هذه النّسبة إلّا أنّه من المهمّ أن نقف عند حدود هذه العبارة، الّتي تصف بدقّة عالم القانون ومدى تشعّبه، وتعكس من جهة ثانية ما أسمّيه “التّلاعب اللّغويّ الحرّ”، الّذي يحكم جسد القانون. وإذا أردنا الغوص أكثر في طبيعة هذا التّلاعب الحرّ وعلّة وجوده، فسوف نجد أنّ اللّغة، وما فيها من أجزاء متمايزة، هي المركز الّذي يولّد الحريّة. وأمّا التلاعب، فهو يقع في دائرة الهرمينوطيقا، الّتي تخضع النصّ – النصّ القانونيّ أو القضائيّ، هنا – أو أيّة علامة لغويّة إلى تأويل يقف عند أصغر تفصيل لغويّ، بهدف خدمة طرف من أطراف قضيّة لسانيّة-جنائيّة ما. وهذه الحريّة هي من طبيعة اللّغة اللّامحدودة، الّتي تستطيع النّفاذ إلى أيّ مجال، يقول تشموسكي في مقاله “اللّغة والحريّة” (Language and Freedom, 1973): “اللّغة هي عمليّة إبداع حرّ، قوانينها ومبادئها ثابتة، ولكنّ الوسيلة الّتي تستعمل المبادئ بها لإنتاج اللّغة حرّة ومتميّزة، بشكل لا نهائيّ. حتى استعمال الكلمات وتأويلها يحتوي على خلق حرّ.”
هذه المقدّمة الموجزة، هي تصوّر بسيط لخطورة اللّغة حين يصبح الأمر متعلّقًا بتحقيق العدالة. يوكل إلى المحامين قضايا كثيرة يكون فيها الابتكار اللّغويّ، خاضعًا لتحكيم لسانيّ-جنائيّ؛ يتعامل المحامون مع قضايا مختلفة من السّرقة والرّشوة حتّى القتل والتّحريض، والسّرقات تتعدّى المادّة لتصل إلى العلامات التّجاريّة (Trademarks) والسّرقات الأدبيّة. من هنا كان لا بدّ من وضع قوانين تتعلّق بمسؤولية المنتج (Product liability) والعقود والوصايا وحقوق التّأليف والنّشر والتّشهير.
يبدو أنّه من الأفضل أن نقول “إنّ المحامين لا يتعاملون مع أبنية اللّغة من بناء الجملة (Syntax)، أو علم الأصوات (Phonology)، أو الدلالة (Semantics) ، أو أفعال الكلام (Speech-act)، أو تحليل الخطاب (Discourse analysis)، أو اللّهجات (Dialects)، بالطّريقة نفسها، الّتي يفكّر بها اللّسانيّون عمومًا ويستخدمونها”. ومع ذلك، توفّر إحدى تطبيقات اللّسانيّات الجنائيّة، ملاءمةً جيّدةً بين المجاليْن ألا وهي “نزاعات العلامات التّجاريّة”؛ تُظهر الجهود المستمرّة الّتي تبذلها الجمعيّة الدّولية للعلامات التّجاريّة، بوادر متفائلة بأنّ المحامين يحرزون تقدمًا ثابتًا نحو توحيد القوانين والإجراءات المتعلّقة بالعلامات التّجاريّة في جميع أنحاء العالم، ما يحفّز التّعاون بين اللّسانيّين والمحامين لحماية الحقوق والملكيّات.
يروم هذا المقال؛ عرض مفهوم العلامة التّجاريّة وأنواعها وكيف يتمّ استعمال اللّسانيّات في قضايا نزاع العلامات التّجاريّة، بالإضافة إلى عرض أبرز هذه النّزاعات.
اللّغة والعلامات التّجاريّة، الـتأطير التاريخي
تعدّ لسانيّات العلامات التّجاريّة (Trademark Linguistics)، مجالًا واسعًا للتّنظير والممارسة اللّغويّة الجنائيّة. غالبًا ما يُطلب من اللّسانيّين، في المحاكم الأمريكيّة، الإدلاء بشهادتهم حول النّزاعات المتعلّقة بالعلامات التّجاريّة. حتى الآن، على الأقلّ، يبدو أنّ المساهمات اللّغويّة في نزاعات العلامات التّجاريّة، تتركّز بشكل أساسيّ في أمريكا الشماليّة وأستراليا، على الرّغم من وجود بعض النّشاط القانونيّ في هذا المجال في اليابان أيضًا.
ولعلّ أقدم استشارة لسانيّة معروفة عن علامة تجاريّة، قد سجّلت في الولايات المتّحدة، وقد قام بها المتخصّص بعلم اللّهجات رايفين ماكدايفيد (Raven I. McDavid)، وفريديريك كاسيدي (Frederic Cassidy)، المتخصّص بالصّناعة المعجميّة وعلم اللّهجات أيضًا. وقد انضمّ إليهما في الوقت عينه، اثنان من علماء المعاجم الأمريكيّين البارزين، ألين والكر ريد (Aline Walker read) و جيس ستين (Jess Stein)، وقد شهدا على الجانب المتعارض في القضيّة ذاتها. بعد ثلاثين عامًا، شهد أحد اللّسانيين البارزين في العديد من القضايا الّتي شكّلت العمود الفقري لكتاب كامل “المواجهات اللّسانية في نزاعات العلامات التّجاريّة” (Linguistic battles in Trademark Disputes) لمؤلّفه روجيه شوي (Roger Shuy). كما نشط التّنظير حول هذا النّوع من التّطبيقات اللّسانيّة-الجنائيّة في اليابان وألمانيا.
وجدير بالذّكر، أنّ روجيه شوي، هو أحد أبرز اللّسانيّين-الجنائيّين في العالم، وقد كانت له السبق في الكشف عن مكان “ثيودور جون كازينسكي”، المعروف باسم “مفجّر الجامعات والطائرات” (The Unabomber).
ما هي العلامة التّجاريّة ؟
العلامات التّجاريّة، مثل حقوق التّأليف والنّشر، هي أجزاء من مواد لغويّة أو سيمائيّة، يمتلكها أشخاص أو شركات أو مؤسّسات، وهي غالبًا ما تكون كلمةً، أو اسمًا، أو عبارةً، أو شعارًا، أو رمزًا، أو تصميمًا، أو صورةً أو إمضاءً أو مزيجًا من هذه العناصر. إلّا أنّ هنالك بعض العناصر غير التقليديّة، الّتي يمكن أن تتكوّن منها العلامة التّجاريّة مثل الصّوت كنغمة أجهزة “نوكيا” أو الرّائحة.
وتعتبر العلامة التّجاريّة بمنزلة الهويّة الحقيقيّة لمنتجات أيّ شركة في السّوق، ومن أهم الأصول الّتي تملكها الشّركات لأنها تبني وتنقل للمستهلكين صورة تعكس جودة المنتجات وتميّز الخدمات عن نظيراتها في السّوق، كما تؤسّس العلامة التّجاريّة، علاقة بين المنتج والمستهلك؛ فبعد تجربة جيّدة مع منتج واحد، من المرجّح أن يحاول المستهلك تجربة منتج آخر، يحمل العلامة التّجاريّة نفسها. وتحقّق الشركة عدالة في العلامة التّجاريّة، عندما تستطيع أن تستهدف جمهورها ايجابيًّا؛ بعض الأمثلة على الشركات ذات العلامات التّجاريّة المعروفة والمميّزة: مايكروسوفت (Microsoft)، و آبل (Apple) و سامسونغ (Samsung)، ونيسلي (Nestle) وسلسلة مطاعم (McDonalds)، و (Starbucks) و فيكتوريا سيكريت (Secret Victoria’s)…
وتتزايد أهميّة العلامة التّجاريّة، عندما يتمّ العمل بدقّة وحرفيّة على أجزائها ومكوّناتها اللّسانيّة والسيميائيّة ومن أبرز مقوّمات العلامة التّجاريّة:
- تؤدّي إلى زيادة في المبيعات ليس فقط للمنتج المحدّد الّذي يتمّ بيعه، ولكن أيضًا للمنتجات الأخرى الّتي تقدّمها الشركة.
- ترسّخ مكانة الشركة في أذهان المستهلكين وتبني علاقة الولاء للمنتج.
- توفّر الحماية للمنتج وتمنح صاحبه الحقّ في استعمال العلامة التّجاريّة، على منتجاته الأخرى لدلالة على أنّ هذه العلامة تخصّه من حيث الإنتاج والتّسويق.
- تعزّز روح المبادرة والمنافسة في الاقتصاد والصّناعة والخدمات من خلال سعي المنتجين إلى تحسين وتطوير منتوجاتهم لاكتساب ثقة المستهلكين.
- تسهّل على المستهلك عملية التسوّق وتساعده على تحديد مصدر المنتج وعدم الخلط بين السّلع.
- إحباط جهود مزاولي المنافسة غير المشروعة مثل المقلّدين والمزوّرين، الّذين يسعون إلى تسويق منتجات رديئة وبالتّالي الإساءة إلى سمعة الشركة.
ولحماية العلامة التّجاريّة من التّقليد، يتمّ تسجيل العلامات التّجاريّة في سجّلات ومنظّمات خاصّة؛ في الولايات المتّحدة؛ يشير الرّمز ® إلى أنّ العلامة مسجّلة بشكل صحيح في مكتب الولايات المتحدة الأمريكية لبراءات الاختراع والعلامات التّجاريّة (USPTO). أمّا الرّمز “TM”، فيشير إلى ادّعاء صلاحية القانون العام لعلامة لم يتمّ تسجيلها لدى USPTO.
وتجدر الإشارة إلى أنّ العلامات التّجاريّة تختلف عن حقوق التّأليف والنّشر؛ إنّ قوانين العلامات التّجاريّة ضيّقة النطاق، فهي تحكم سيطرتها على الكيانات اللّسانيّة وشبه السيميائيّة، أي الوسيلة الّتي يستخدمها مقدمو السلع والخدمات لعرض ما يسوّقونه للجمهور. أمّا قوانين حقوق الطّبع والنّشر، فهي تحمي الكيانات اللّسانيّة والسيميائية الأوسع نطاقًا، والّتي هي في حدّ ذاتها منتجات، كما تمنح حقوقًا للأفراد في التحكّم في نتائج مشاريعهم الإبداعيّة (الروايات والقصائد والمسرحيّات والمقالات والرّسائل والمقطوعات الموسيقيّة واللّوحات وما إلى ذلك). تعتبر قضايا حقوق التّأليف والنّشر والانتحال، إحدى التّطبيقات اللّسانيّة، الّتي يتوّلاها اللّسانيوّن-الجنائيّون، بهدف تحديد هويّة المؤلّف الحقيقيّة، ومن طرق التعرّف على أصالة النّصّ، الأسلوبيّة الجنائيّة (Forensic Stylistics).
في معظم الأجهزة القضائيّة، يتعامل قانون العلامات التّجاريّة مع الاستخدام المملوك لأسماء المنتجات والخدمات والشارات (Logo) والشعارات (Slogans)، وذلك بتصنيفها فئات من أجل وصفها. وتقسم العلامات التّجاريّة إلى فئات، نذكرها ف ما يأتي:
عامة (Generic): هو مصطلح يستخدم لتصوير فئة رئيسة أو نوع من الأشياء الّتي تتفرّع منه فئات أخرى. العلامة العامّة “فنجان”، تشير إلى الشيء الّذي يسمّى “الفنجان”. ولكن عندما تستخدم شركة ما لتصنيع أدوات التّجميل، العلامة “فنجان” كعلامتها التّجاريّة، فإنّ الكلمة لم تعد تستخدم بشكل عام، ممّا يفتح الباب ليتمّ تصنيفها بأنّها علامة موحية. مثال آخر، كلمة “Soda” وهي كلمة عامّة أمّا “Pepsicola” أو “Cocacola” أو “Fanta” فهي ليست علامات تجاريّة عامّة. وقليلًا ما نرى علامات تجاريّة عامّة في الأسواق، إلّا أنّنا قد تستعمل في شركات تصنيع الأدوية، مثلُا “Paracetamol” أو “Ibuprofen”.
وصفيّة (Descriptive): تشير هذه العلامات إلى خصائص المنتج ومكوّناته أو إلى صفات الخدمة المسوّقة، مثلًا علامة الطيران الأمريكيّ (American Airlines). كما تعتبر شعارات المدح وصفيّةً، مثلًا “دقيق الميدالية الذهبيّة” (Gold Medal Flour)، لأنّها تصف شخصيّة المنتج أو جودته. إنّ ما نعنيه بعلامة وصفيّة، هو أنّ هذه العلامات تحيل إلى معلومات مباشرة دون الحاجة إلى ارتباط تعيينيّ أو تضمينيّ، قد يوحي بأيّ معنى آخر ممكن. يعتبر محامو العلامات التّجاريّة، العلامات الوصفيّة ضعيفةً ما لم تحقّق شهرة بين المستهلكين. حقّقت العديد من العلامات التّجاريّة الوصفيّة المحميّة معنى ثانويًا، ما يعني أنّ أصحاب المنتج أو الخدمة استخدموا الاسم حصريًا وكان ناجحًا لفترة طويلة أو روّجوا لمنتجاتهم أو خدماتهم بقوّة لدرجة أنّ الجمهور لم يرسّخ في ذهنه معنى العلامة الحرفيّ، وبالتّالي أصبح الرّابط محصورًا بهذا المنتج أو الخدمة فقط.
موحية (Suggestive): العلامات الموحية محميّة أكثر من العلامات الوصفيّة ولكنّها أقلّ حماية من العلامات الوهميّة أو الاعتباطيّة. يشير هذا النّوع من العلامات إلى شيء آخر بخلاف دلالة الكلمات المستخدمة كجزء من العلامة. في تاريخ فئات العلامات التّجاريّة، جاء التّصنيف الإيحائيّ متأخّرًا عن الفئات الأخرى. وفقًا لقانون العلامات التّجاريّة، تتطلّب العلامات الموحية من المستهلكين القيام بجهد عقليّ لربط المنتج أو الخدمة باسمها. على سبيل المثال، يقال إنّ اسم منظّف الغسيل “Tide” موحى. في الواقع لا يشير الاسم الشّائع “Tide” إلى المنتج “منظّف الغسيل” بل إلى “المدّ والجزر”، ولكن عندما يتمّ استخدامه كعلامة تجاريّة لمنتج واحد، فإنّ ذلك يستدعي مدلولاً أي صورة ذهنيّة لجسم مائي كبير ونشط، لنقل “المحيط”. ليس من الواضح، كيف يتسبّب تدفّق المحيطات في تخيّل العملاء، صورة لمنتج “منظّف الغسيل”، ولكن بطريقة عصبيّة ما إنّه يفعل ذلك. ربّما يكون اقتراح دوران الأمواج ثمّ ارتماؤها على الشّاطئ هو المثير (Stimilus)، الّذي يحرّك هذه الصّورة. وبغضّ النّظر عن العمليّة العقليّة الّتي تنطوي عليها هذه العلامة التّجاريّة، فإن علامات مثل “Tide”، تتطلّب من المستهلكين إعمال خيالهم لفهم علاقة العلامة بمكوّناتها اللّسانيّة والسيميائيّة. كما أنّ علامة “Burger King”، قد تقترح بعض الوصفيّة “بيع الهامبرغر والمواد الغذائية ذات الصلة”، ولكن إذا نظرت إلى شعارها وعلامتها التجارية المبكرة ، فليس من الواضح أنّ “Burger King”، هو مطعم للوجبات السريعة، فهلامته التجاريّة تقترح طعامًا لا وجبات سريعة حصرًا.
في النزاعات حول ما إذا كانت العلامة موحية، غالبًا ما يستخدم المحامون ثلاثة اختبارات: اختبار التخيّل (The Imagination Test)، واختبار استخدام المنافسين (The competitors’ use test) ، واختبار القاموس (the dictionary test). وفي هذا المجال، يقدّم اللّسانيّون-الجنائيّون المساعدة اللّازمة.
أ- اختبار التخيّل
يتمّ قياس “الجهد العقليّ” الّذي يتعيّن على المستهلكين القيام به من أجل ربط منتج أو خدمة باسمه(ها) بوساطة اختبار التخيّل. فكلّما تطلّب من المستهلك إعمال خياله أكثر لربط المنتج\ الخدمة بالاسم، كلّما كان من المحتمل الحكم على هذه العلامة بأنّها موحية. في حين أنّ الأسماء الوصفيّة تنقل مباشرة مكوّنات أو صفات أو خصائص المنتج، فإنّ العلامات الموحية تقترح بشكل غير مباشر هذه المرجعيّات أو الارتباطات، في نوع من العمليّات السّريعة المتعدّدة المراحل، مثل منظّف الغسيل “Tide” أو خدمة “Netflix” لعرض الأفلام والمسلسلات. غالبًا ما يتطرّق السّؤال إلى مدى سرعة (فوريّة) هذه العمليّة العقليّة منذ اللّحظة الأولى الّتي يرى فيها المستهلكون العلامة.
ب- اختبار “استخدام المنافسين”
يرتبط اختبار “استخدام المنافسين” باختبار “التخيّل”؛ إذ كلّما زاد الخيال المطلوب لربط العلامة بالمنتج، قلّ احتمال استخدام المنافسين لهذه العلامة في وصف منتجاتهم الخاصّة. إلّا أنّ استخدام المنافسين لعلامة منافسة، يبدو أنه يقوّي المنافسة وتاليًا المنتج، أمّا من الناحية النّظريّة يعني أن هذه العلامة المنافسة قد تكون وصفيّة بالفعل. على سبيل المثال، إذا وصفت شركة “Starbucks” منتجها بأنّه “أفضل طريقة للNescafe”، فقد يدلّ هذا على أن “Nescafe” علامة تجاريّة وصفيّة. لكنّ “Starbucks” من غير المرجّح أن تستخدم هذا الشّعار، لأنّ القيام بذلك يفيد في تسويق منتجات منافستها “Nestle”. على الرّغم من هذا الاحتمال، قد يستخدم بعض المُصنِّعين أحيانًا علامات منافسيهم في إعلاناتهم وحملاتهم التّرويجيّة لاقتراض هيبتها أو تصوير علامة المنافس على أنّها مجرد علامة وصفيّة ضعيفة. وأبرز هذه الشّركات تلك الّتي تصنّع منتجات الصّابون أو منظّفات الغسيل.
ج- اختبار “القاموس”
ينظر إلى القواميس على اعتبارها موثوقة؛ فغالبًا ما يتمّ الاستشهاد بها في نزاعات العلامات التّجاريّة. يعتمد الّلسانيون-الجنائيّون بشكل متكرّر على القواميس لتحديد معنى الكلمات المستخدمة في العلامات أو الشّعارات وكيفيّة نطقها. وعلى الرّغم من أنّ القواميس قد تقوم بعمل لا بأس به في توفير معلومات عامّة، إلّا أنّها لا تستطيع التقاط كلّ طرق استخدام الكلمة أو كيفيّة نطقها أو معانيها المحتملة أو السّياقات الّتي يمكن أن ترد فيها الكلمة. بعض القواميس أفضل من غيرها في هذا المضمار، وبعضها مضى عليها الزمن، والبعض الآخر مختزل للغاية بحيث لا يمكن الاعتماد عليه. يمكن أن يعمل الّلسانيون-الجنائيّون، المتخصّصون بعلمي الأصوات والمعاجم على تجويد القواميس، ومراقبة سير عمليّة التّحقيق، كما قد يوفّرون طرقًا شتّى للعثور على معلومات معجميّة مفيدة لا نجدها في العديد من القواميس.
وهميّة (Fanciful) واعتباطيّة (Arbitrary): هذه العلامات بعيدة عن أيّ اتّصال متخيّل بالمنتج. العلامات الوهميّة هي كلمات مصاغة (Coined Terms) ، مثلًا “Exxon” (شركة النفط)، في حين أنّ العلامات الاعتباطيّة هي كلمات موجودة، تنقل دلالة تختلف تمامًا عن اتجاه المعنى الأصلي (Sense)، مثل “Shell” (شركة بنزين وزيت). إنّ عمليّة ربط المنتجات بأسماء وهميّة أو اعتباطيّة مثل ((Exxon أو (Xerox) أو (Kodak)، تتطلّب أكثر من إعمال الخيال. يخاطر المالكون الّذين يختارون هذ النوع من العلامات، بإقصاء العلاقة بين علامتهم التّجاريّة ومنتجهم أو خدمتهم بحيث ينعكس ذلك على المستهلكين. عندما أنشأت Xerox)) و Kodak)) أسمائهما، لم يكن لدى المستهلكين طريقة سهلة لربط (Xerox) بآلات النّسخ أو (Kodak)، بمنتجات الكاميرا. ولكن وجدت هذه الشّركات المصنّعة أنّه بعد أن بدأ المستهلكون في ربط هذه الأسماء بمنتجات الشركتيْن، كانت هناك قيمة تجاريّة مضافة، بوساطة هذه العلامات. وبالفعل يمكن أن تصبح العلامات الوهميّة والاعتباطيّة أقوى بكثير من العلامات المنافسة، لذا من المهمّ حمايتها من أيّة محاولات لانتهاكها.
في الآونة الأخيرة، تمّ التّركيز على هذه الفئات، في قضايا تضعيف العلامة التّجاريّة (Trademarks Dilution)؛ توفّر هذه القضايا الّتي تستخدم فئات العلامات التّجاريّة هذه، إمكانية إخضاع العلامات للتّحليل اللّسانيّ والقياس اللّغويّ. ترتكز معظم نزاعات العلامات التّجاريّة على احتمالية ضياع المستهلك في معرفة أصل المنتج أو الخدمة وملكيتهما. لحلّ هذا السّؤال، يلجأ المحامون إلى قياس القوّة النّسبيّة للعلامات؛ العلامات القويّة، محمية من الاستخدام من قبل الآخرين لأنّها لا تربك المستهلكين وتعكس جودة المنتج أو الخدمة وطبيعتهما وهويّة مالكهما، في حين أنّ العلامات الضّعيفة غير محميّة. لكن هناك علامات، تقع بين القطبيْن وتستدعي التّقاضي. في العديد من هذه الحالات، يبحث المحامون في فئات العلامة. على عكس ذلك، ينظر اللّسانيون وعلماء الاجتماع إلى العلامات التّجاريّة باعتبارها شكلاً تقييديًّا للتّخطيط اللّغويّ-الدّعائيّ، بغرض إثارة إعجاب المستهلك في فوضى الأعمال والتّسويق والإعلان. يبحث اللّسانيون عادةً، في هويّة من يمتلك اللّغة، ومن له القدرة على استخدامها، ومن الّذي لديه السّلطة للتحكّم في الاختلاف اللّغويّ وتنوّعه. من منظور النّظام القانونيّ، إنّ الغرض الأساسيّ من قانون العلامات التّجاريّة هو حماية المستهلك، وضمان أصالة المنتجات الّتي يشترونها. في المقابل، إن الاهتمام المشترك بين اللّسانيّين، هو حول حقّ المستهلك في استخدام اللّغة بحريّة، سواء أكانت علامةً تجاريّةً أم لا. لذلك من المهمّ، أن يميّز اللّسانيّون-الجنائيّون طبيعة عملهم، لكي يتجنّبوا سقوط القضيّة وضياع الحقوق.
أسئلة نزاعات العلامات التّجاريّة
يُطلق على جرائم الاعتداء على الحقّ في ملكيّة العلامة، جرائم التّقليد. ولن أدخل في المواد القانونيّة والإجراءات القضائيّة الّتي تُتخّذ بحقّ المعتدين، لأنّها تختلف بين دولة وأخرى، إلّا أنّ معظمها يبدأ بتغريم ماليّ وصولاً إلى السّجن. ويخضع إلى هذه المحاكمة، كلّ من زوّر علامة تمّ تسجيلها طبقًا للقانون أو قلّدها بطريقة تؤدّي إلى تضليل المستهلكين، وكلّ من استعمل بسوء قصد علامةً تجاريّةً مزوّرةً أو مقلّدًة أو وضع على منتجه أو خدمته، علامةً تجاريّةً يملكها طرف آخر، وكلّ من باع أو عرض للبيع أو تتداول علامة تجاريّة مزوّرة أو مقلّدة بغير حقّ مع علمه بذلك.
من هنا وجب التّمييز بين التّزوير والتّقليد؛ فالمقصود بتزوير العلامة هو نقل العلامة المسجّلة نقلًا حرفيًّا بحيث تبدو مطابقةً تمامًا للعلامة الأصليّة . أمّا التّقليد فهو اتّخاذ علامة تشبه في أجزائها العلامة الأصليّة، ما قد يؤدّي إلى تضليل الجمهور المستهدف أو خداعه، لظنّه أنّ المنتج يحمل العلامة الأصليّة.
ومتى كانت العلامة مزوّرةً، فإنّ الحكم لا يتطلّب دراسة لسانيّة-جنائيّة معمّقة، لأنّ التّشابه بين العلامة الأصليّة والعلامة المزوّرة يكون تامًا. على خلاف التّقليد، الّذي يقتضي إجراء مقارنة بين العلامتيْن، لتحديد أوجه التّشابه.
لذا فإنّ أوّل ما يبحث به اللّسانيّ-الجنائيّ، هو مدى التّماثل (Analogy) أو المحاكاة، بين العلامات التّجاريّة المتنافسة: “هل تبدو العلامات متشابهة؟ هل تشير إلى المرجعيّة ذاتها؟ ما هو مقدار التّشابه؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى، يعتمد على القياسات العلميّة؛ يُحدّد أوّلاً طبيعة العلامة التّجاريّة، فيتمّ إخضاعها بحسب نوعها وفئتها إلى تحليل رمزيّ-صوريّ أو صوتيّ أو تركيبيّ أو دلاليّ-معجميّ أو غرافيميّ (Graphemic) أي تقسيم العلامة والعلامة المقابلة إلى وحدات خطيّة أو تصميميّة، ومن ثمّ دراسة أشكالها (Morph).
ومن المعروف أنّ علم الأصوات وعلم الدّلالة، يتداخلان مع اللّسانيّات، إلّا أنّه عندما تتعلّق القضيّة بمظهر منتج ما أو بشكل العلامة التّجاريّة، فإنّ هذه القضيّة تخضع لمعالجة سيميائيّة مثل قضايا تقليد الملابس التّجاريّة والألوان المستخدمة وطريقة التّغليف…ولكنّ دراسة الوحدات الخطيّة والرّموز وإحالات العلامة، تقع أيضًا في نطاق علم اللّغة وعلم الأسلوب، ويمكن أن يقدّما معًا إجابات مفيدة في الحكم على أصالة العلامة التّجاريّة.
وجديرٌ بالذّكر، أنّ عمل اللّسانيّ-الجنائيّ يقتصر على تقدير التّقليد والتّشابه من وجهة نظر المستهلك أي باعتبار المشابهة الإجمالية أكثر من اعتبار الفروق في الجزئيّات الموجودة بين العلامة الحقيقيّة والعلامة الجارية عليها الدعوى. فالعبرة بالصّورة العامّة للعلامة الّتي تنطبع في الذّهن أي المدلول (Significant) بالنّظر الى العلامة في مجموعها، لا إلى كلّ عنصر من العناصر الّتي تتركّب منها وما إذا كانت تشترك بجزء أو أكثر ممّا تحتويه علامة أخرى. ومع ذلك، فإنّ المحكمة قد تتخطّى المستوى التكوينيّ العام للعلامات الجاري التقاضي عليها، حيث يتمّ البحث في الجزئيّات (Distinctive features).
في علم الأصوات: يمكن لمتخصّص بعلم الأصوات، أن تكون له مساهمات فعّالة في مسألة ما إذا كانت العلامات تبدو متشابهة صوتيًّا؛ إحدى الأدوات الّتي يستخدمها علماء الأصوات ما يسمّى “التّحليل إلى مكوّنات مباشرة مميّزة” (Immediate Distinctive constituents analysis). يبدو أنّ المرّة الأولى الّتي تم فيها اعتماد هذا التّحليل في قضية علامة تجارية، كان في نزاع عام 1988 بين شركتيْن منافستيْن “Little Dolly” و “Little Debbie”، المصنّعتين لمنتجات ال”Cupcake”. في تحليل المكوّنات الصّوتيّة أي الصّوائت والصّوامت، أقرّ اللّسانيّ جيري سادوك (Jerry Sadock) أنّ هاتيْن العلامتيْن، تحتويان على عدد من السّمات المميّزة المختلفة القائمة على الصوامتيّة (consonantality)، الصوائتيّة (vocality)، اشتراك في التلفّظ الأماميّ والسّفلي عند نقطة عالية أو منخفضة من الفم، الأصوات النطعيّة أو ذات السّمات غير الحادّة، الجهر أو الهمس…أوضح سلدوك بدقّة، كيف يوفّر هذا التّحليل مقارنات كميّة مفيدة، لأربع كلمات فقط، مع كلمتيْن منها متطابقتيْن.
وثمّة قضيّة أخرى استخدم فيها علم الأصوات بطريقة إبداعيّة؛ شهد اللّسانيّ رونالد باترز (Ronald Butters) في عام 2006 في نزاع بين شركتي أدوية، “Aventis” و “Advancis”، فأوضح أنّه يمكن للمستهلكين لفظ الاسميْن إمّا على أنّهما كلمات معزولة (Isolated words) أو في سياق جمليّ تحاوريّ عاديّ (normal conversational sentences). بدأ، أوّلاً بنسخ العلامتيْن بالاعتماد على النّسخ الصّوتيّ التّقليديّ (IPA)، ثمّ قارن بين اللّفظ المنطوق ببطء مع النطق السّريع في وضعيّة المحادثة. فوجد 63 في المئة من التّشابه في الوضع المعزول و 73 في المئة من التّشابه في وضعيّة المحادثة. ثم استخدم التّحليل إلى مكوّنات مباشرة مميّزة، فوجد أنّ 84 بالمائة من السّمات الصّوتيّة في العلامتيْن، كانت متطابقة في الوضع المعزول و 89 بالمائة كانت متطابقة في وضعيّة المحادثة. وهكذا يمكن أن يكون علم الأصوات، أداةً قويّةً جدًّا لقياس التّشابه أو الاختلاف في نزاعات العلامات التّجاريّة.
في النحو وعلم التراكيب: في العام 1991 ، قدمت شركة “ConAgra” شكوى ضد جورج أ. هورميل وشركائه (Hormell)، مدعيةً أنّ استخدام علامة “Health Selections” كاسم لأحد منتجات هورميل الغذائية هي تقليد قصديّ لعلامتها التّجاريّة “Healthy Choice”، وأنّ هذا التّقليد سيؤدّي إلى إرباك المستهلك وخداعه فيما يتعلّق بمصدر منتجات “ConAgra”، وافق الطّرفان على إجراء المحاكمة أمام القاضي الأمريكيّ في أوماها.
كانت النّقطة المركزيّة في دعوى “ConAgra”، هي قوّة علامتها “Healthy Choice”. فاعتبرت أنّ علامتها موحيةً، وليس اعتباطيّةً أو وهميّةً. في المقابل، رأى هورميل بأن “Healthy Choice”، هي مجرّد علامة وصفيّة، مشيرًا إلى أنّ العلامة تبلّغ المشتري بالجودة المزعومة للمنتج وأنّ هذا الاستخدام لن يساعد المستهلك على التّمييز بين منتجات الشّركتيْن.
وهكذا تم تأطير القضيّة لسانيًّا، ولكن هل “Healthy Choice” هي علامة وصفيّة أم موحية؟ إذا قرّرت المحكمة أنّها موحية، يمكن أن تفوز “ConAgra”، ولن تكون هناك حاجة لدراسة مجالات أخرى لسانيّة. أمّا إذا قضت المحكمة بأنّ “Healthy Choice” وصفيّة، فنحن أمام قضيّة نزاع تحتاج لخبراء لسانيّين. يمكن تلخيص المواقف المتعارضة بين اللّسانيين في هذه القضيّة في أربعة إشكاليّات: هل ثمّة تشابه صوتيّ بين العلامتيْن؟ هل للعلامتيْن البنية النّحويّة نفسها؟ هل ثمّة تشابه صوريّ بين العلامتيْن ؟ هل تعنيان الشّيء نفسه؟
يمكن أن تكون الاختلافات النّحويّة بين منتج “Healthy Choice” و “Health Selections”، بالنّسبة إلى الشّخص العاديّ، اختلافات ظاهريّة؛ “Healthy Choice” جملة اسميّة تبدأ بصفة (Adjective) أمّا “Health Selections”، فهي جملة اسمية أيضًا مع اختلاف القسم الثّاني “Selections”، وهو جمع (Plural noun). ويُسأل هنا، عمّا إذا كانت الفروقات النّحويّة أي الصّامتين “y” و “s” كافيان ليستطيع الجمهور المستهدف أن يميّز بين منتجي الشّركتيْن؛ يرى اللّسانيّون أنّ هذيْن الصّامتيْن، يعكسان اختلافًا نحويًّا بارزًا .
وجد القاضي في النّهاية، أن العلامتيْن مختلفتان اختلافًا كبيرًا، لكنّهما تشيران إلى المعنى نفسه ما دعّم شهادة “ConAgra”. إلّا أنّ القاضي استبعد أن يكون الغلاف التّجاريّ والصّور المرئيّة الأخرى للمنتجيْن متشابهة بشكل مربك. بالإضافة إلى الشّهادة اللّسانيّة، قدّم الجانبان استطلاعات المستهلكين. قرّر القاضي أنّ هذه الاستطلاعات، كانت معيبةً من النّاحية الفنيّة، وبالتّالي استبعدها كعامل في القضيّة. وهذا ما جعل الشّهادة اللّسانية محور التّقاضي والحكم النّهائيّ. استأنفت “ConAgra”، هذا القرار أمام محكمة الاستئناف الأمريكيّة، إلّا أنّ الاستئناف رفض تحت ذريعة أنّ رأي محكمة المقاطعة منطقيّ. وعلى الرّغم من فوز هورميل، إلّا أنّ الشّركة أوقفت علامتها التّجاريّة “Health Selections” واستبدلتها ب “Dinty Moore”.
في علم الدلالة: يوفر النّزاع بين “ConAgra” و “Hormell” أيضًا، مثالًا عن كيفيّة استخدام علم الدلالة في المحكمة؛ اعترض هورميل على ادّعاء “ConAgra” بأنّ “Choice” و “Selections” مترادفان لفظيّان. ولو كانت شهادة “ConAgra” دقيقة، لقالت إنّ المستهلكين سيشعرون بالارتباك عندما يعتقدون أنّ “ConAgra” هي الشّركة المصنّعة لمنتج هورميل، أو العكس. ويبدو أنّ رأي القاضي لم يكن دقيقًا أيضًا، إذ ثمّة فروقات دلالية بين الاسم، “Choice”، والّذي يدلّ على اتخاذ قرار الاختيار بين شيئيْن و “Selections”، الّذي يشير إلى قرار يتمّ اتّخاذه وفقًا لمجموعة من الأشياء.
في المورفولوجيا (التّصميم): قد يظنّ أنّ دراسة الجرافيم، لا تنتمي إلى حقل اللّسانيّات، لكنّها في الواقع، جزء من اللّغة والسّيمياء معًا؛ في النّزاعات المتعلّقة بالعلامات التّجاريّة، يستخدم اللّسانيّون الجرافيم لمعالجة مسألة ما إذا كانت العلامات تبدو متشابهة. مثلًا تحديد خصائص العلامة كالهجاء وحجم الخطّ وشكله والتّصميم العام، ثم مقارنة هذه المعايير وتحديد الخلافات، فضلًا عن نسب التشابه.
ونظرًا لاشتمال اللّسانيّات على وحدات قياس أكثر تفصيلًا من تلك المألوفة لمعظم المحامين، فهناك ضرورة ملحّة للاستعانة بلسانيّ-جنائيّ في مثل هذه القضايا؛ تطرح قضيّة “Warren” و “Prestone”، مثالاً عن كيفيّة توظيف التّحليل الجرافيميّ بشكل فعّال. تنتج الشركتان منتجات مانعة للتجمّد (Antigel) للسيّارات. طرحت “Warren” منتجها تحت اسم “Longlife” أمّا “Prestone”، فأسمت منتجها “Longlife 460”. في هذا النّزاع، تمّ دمج كلمتيْن شائعتْين، “Long” و “Life”، في كلمة واحدة دون التّباعد المعتاد بينهما. في العلامتيْن، تمّ تكبير الكلمة الثّانية في منتصف الكلمة. ودلّ هذا التّصميم بمفرده، على تطابق بنسبة 73 بالمائة. صحيح أنّ “Prestone” أضافت رقم “460” إلى علامة “Longlife”، ولكن كما يوضح السّيميائيّون:”إنّ الأجزاء الأولى من الكلمات بالغة الأهميّة في تحديد هويّة المنتج وترسيخه في الذّاكرة.”
العلامات التّجاريّة في التّشريعات العربيّة
تُعدّ شبكة الإنترنت عابرةً للحدود، وصلة وصل بين عالم الأعمال والعالم الافتراضيّ، حيث تنخرط المشاريع التّجاريّة ضمن هذا الفضاء اللّانهائيّ، ما يزيد من إمكانية فقدان هويّة المنتج أو الخدمة أو ضياعهما بين فوضى التسويق والإعلانات الّتي تجتاح الإنترنت. وتزداد في هذا الفضاء، فرص التّقليد والتّزوير والسّرقة والانتحال…لذا من الأفضل تسجيل العلامات التّجاريّة بالطّرق السّليمة والصّحيحة من أجل القول بمشروعيّة استخدامها.
والعلامات المسّجّلة تتمتّع بحماية مزدوجة؛ وهي حماية مدنيّة وحماية جزائيّة. والفرق بينهما، هو أنّ العلامة المسجّلة والمستعملة هي من تتمتع بازدواجية الحماية، أمّا العلامة التّجاريّة المستعملة وغير المسجّلة، فإنّها تخضع للحماية المدنيّة دون سواها، ما يعني أنّها معرّضة للانتهاك والتعدّي في أيّة لحظة.
ولقد سبق وأشرنا إلى أهميّة العلامة التّجاريّة، الّتي تتزايد حضورًا مع انفتاح الأسواق وعولمة التّجارة، والتطوّر المذهل في وسائل الاتّصال والدّعاية، الأمر الذّي يستدعي تطوّرًا موازيًا في القضاء والتّشريع لحماية العلامات التّجاريّة. وفي هذا السياق، تمّ إبرام العديد من الاتّفاقيّات، لضمان حماية العلامات التّجاريّة ومنها المشروع الخليجيّ، الّذي نصّ وفقًا لنظام قانون العلامات الموحّد لدول مجلس التّعاون الخليجيّ، على تعريف دقيق للعلامة التّجاريّة. يتيح هذا التعريف، تسجيل الرّائحة والصّوت كعلامات تجاريّة وإن لم يشار إلى ذلك بشكل صريح، إلا أنّه يؤخذ على المشروع، قبول نصّه التّأويل، ما يعيدنا إلى مقدّمة المقال حول ما أسميناه “التلاعب اللّغويّ الحرّ”. وبالرّغم من هذه الثّغرة، يعدّ المشروع سبّاقًا مقارنةً مع التّشريعات العربيّة الأخرى.
نختم بالقول:”إنّ العلاقة بين ﺍﻟﻠّﻐﺔ ﻭﺍﻟﻘﺎنون متشعّبةٌ، ﻓﻼ يمكن بأيّ حال من الأحوال، ﺃﻥ يكون للقانون فاعليّة بغياب ﻟﻐﺔ تزيل عن نصوصه الغموض والإبهام. فضلًا عن أهميّة المتزايدة لوسائل التّواصل الاجتماعي، حيث بات ضروريًّا الاعتراف بها كدلائل جنائيّة، حين تستخدم لغير أغراضها. ولا نستبعد أنّ العالم العربيّ بعيد عن استخدام “اللّسانيّات الجنائيّة”، في القضايا الّتي تستدعي تداخل المجاليْن، وإن لم تسمّى تطبيقاتها باسمها. ولكن من النّاحية البرغماتيّة، لا يزال النشاط اللّساني-الجنائيّ ضعيفًا مقارنةً مع الانتهاكات الّتي تزداد وتيرتها خصوصًا فيما يتعلّق بالعلامات التّجاريّة والسّرقات الأدبيّة. ﻟﺫﻟﻙ فإنّه من المهمّ، أن تطّلع الأجهزة التّشريعيّة والقضائيّة على جديد ﺍﻟﻠّﻐﺔ وعلائقها بالقانون، أي تطبيقات “ﺍﻟﻠّﺴانيّات الجنائيّة”، كما على اللّسانيّين العاملين بشكل فعّال مع المحامين، الأخذ بوجهات نظر المحامين والابتعاد عن الأيديولوجيّات المتضاربة، حتى تسود العدالة فهذا هو هدف المرام من هذا العلم.
المراجع:
– Baldwin, John and Peter French, 1990. Forensic Phonetics: London: Pinter.
– Butters, R. 2008. A linguistic look at trademark dilution, Santa Clara Computer and High Technology Law, Journal, 24: 507–19.
– Butters, R. and Westerhaus, J. 2004. Linguistic change in words one owns: how trademarks become “generic”, in A. Curzan and K. Emmons (eds) Studies in the History of the English Language II, Berlin/New York: Mouton de Gruyter, 111–23.
– Dinwoodie, G.B. 2008. What linguistics can do for trademark law, in L. Bently, J. Davis and J.
– Gibbons, John, 1994. Language and the Law: London: Longman.
– Gilson, Jerome and Anne Gilson Lalonde, 1999. Trademark Protection and Practice. Cumulative Supplement. Vols. 1 and 3. New York: Matthew Bender.
– McCarthy, Thomas, 1984. Trademarks and Unfair Competition: San Francisco: Bancroft-Whitney.
– Shuy, R. 2002. Linguistic Battles in Trademark Disputes, PALGRAVE MACMILLAN, New York.
– https://mci.gov.sa/ar/Regulations/Pages/Details.aspx?lawid=fc2774c4-5cd1-4080-a4f1-a85c00b418f0
– https://uslaw.link/citation/us-law/public/109/312
– https://hexacit.com/ar/blog/12/العلامة-التجارية-ما-هي-وما-أهميتها