يبدو أندري غورز (1923-2007) نجمًا منفردًا في سماء الفلسفة المعاصرة، بفلسفته الأكثر قربًا من الواقع ومشاكله الطبقية والبيئية، وأكثر انغماسًا وتحريكًا لمياه المجتمع الحائلة والمريبة والمهددة. فبمجرد أن نسمع اسم أندري غورز يتبادر إلى ذهننا الانسحاب الفجائي الذي صمم برفقة زوجته دورين كير على تنفيذه.. ونقصد بذلك انسحابهما بطعم الانتحار والخسارة والصدى لصوتهما الدفين: لم يعد على هذه الأرض ما يستحق الحياة! كانت زوجته ساعتها تعاني من مرض عضال وتحمل بدورها كرفيقها غورز تاريخًا ثقيلًا من الأوجاع.
لم تكن فلسفة غورز سطحية كما يدعي بعضهم ولا طوباوية كما قد يقول آخرون؛ كانت فلسفة غورز تدافع وتناضل عن مبادئ اجتماعية تحافظ على فرص العيش بنزاهة وكرامة وصحة في عالم واحد. مبادئ يمكن أن تشكل أفقًا جديدًا للتحرر؟ كان هذا هو السؤال الذي طرحته مقالة له بعنوان: “البيئة السياسية بين الخبرة والقيود الذاتية”، المؤرخة عام 1992، التي تفي بالإجابة عما يسميه أحيانًا “البيئة الاشتراكية” أو “البيئة الأركادية”. إنها مسألة تفسير لتدهور الكوكب ودنو أفوله وشهادة عن أزمة حضارية شاملة. يقول غورز: “أزمة الحياة الحضرية، تتمثل في العمران، والطب، والمدرسة، والعلوم”.
وإذن ما العمل؟ بالنسبة لأب علم البيئة السياسية ونظرية الاستقلال الذاتي؛ فإن الواقع البيئي يضع حدًّا كافيًا لسلوكنا وأفعالنا. يجب أن تدمج الاستقلالية البشرية في الإطار البيئي بوصفه مبدأً سياسيًّا، والحفاظ على الموارد الطبيعية بوصفها ضرورةً ماديةً. يكمن التحدي الديموقراطي برمته في توازن معقول ومتماسك، وهو ما يحدد عندئذ معيار الاكتفاء الذاتي. وهذا يعني، كما يقول غورز: “المعيار الذي بموجبه ينظم مستوى الجهد، بحسب الرضا المطلوب والعكس صحيح”. مع هذا الكتاب الصادر حديثًا سنتعرف على فكر أندري غورز، الذي ما زال مرجعًا أساسيًّا للعمل النقدي الذي ينعش الأفكار في الحاضر والمستقبل.
يطرح أندري غورز المفكر الفريد من نوعه، والذي تأثر بشكل خاص بجان بول سارتر، السؤالَ الأساسَ عن معنى الحياة والعمل، مع التركيز على موضوع الحرية والتحرر، فهو ينتمي بأفكاره إلى المذهب الوجودي، والماركسي، المناهض للرأسمالية، هو أيضًا واحد من أوائل مهندسي السياسة البيئية.
مع مرور الوقت، ركزت أفكاره على عزلة الإنسان المعاصر واغترابه، ومسألة العمل في عصر التقنية، وتحرير الحياة، بينما فُرِض الإلحاح البيئي وضرورة التراجع في استغلال البيئة، والحرمان والمعاناة من محدودية الأجور. يملك هذا الفيلسوف فكرًا جريئًا يرفض التوافق والاستغناء عن المواقف الثابتة لاستكشاف مجالات جديدة وإعطاء الإنسان مكانته الحقيقية.
في عام 2005، أجرى فرانسوا نودلمان مقابلة مطولة مع غورز، وبُثَّت جزئيًّا على راديو فرنسا الثقافية، وقد طغى التفكير في المستقبل على مجمل هذا الحوار الذي استعاد مسار رحلته، ومكّننا من الحصول على مقدمة تسمح لنا بالدخول إلى أعماله.
يبدو أن مقابلة نودلمان مع غورز نالت اهتمامًا متجددًا في السنوات الأخيرة، كما شهدت بذلك العديد من الأعمال الأكاديمية المكرسة له؛ نظرًا لأنه يوفر وجهة نظر شخصية لأعماله كلها، ويعدّ هذا النص حدثًا تحريريًّا فريدًا ومضمونًا مهمًّا للتعرف على مفكرٍ نادرًا ما سمَح بتسجيل حوار معه. سجلت المقابلة مع أندري غورز في عام 2005، وأثارت جوانب مهمة من حياته وفكره وكتاباته، بعد عامين من نشر آخر مقال له الذي نُشر خلال حياته في مجلة إيماترييل، وقبل سنتين من انتحاره برفقة زوجته في عام 2007.
يفتتح الكتاب بمقدمةٍ لكريستوف فوريل، الذي كرس له عدة كتب، مقدمة لتذكير القارئ ببعض العناصر الأساسية في حياة غورز وتأثيراتها الفكرية قبل تحليل أبرز مضامين المقابلة، وينتهي الكتاب بكلمة لنودلمان؛ حيث يعود إلى نقاط التشارك والفروق بين أندري غورز وجان بول سارتر.
تبدأ المقابلة، التي تشكل صلب الكتاب، بتأمل لطفولة غورز، المولود في فيينا في عام 1923.حسب هويته المتعددة الأوجه التي تحددها لغته وفضاءاتها. في سن الخامسة، في لفتة رمزية، يتخلى عن الألمانية، لغته الأم، للتخلص من أم نمساوية ذات ميول معادية للسامية. وبعد سنوات المراهقة، تعلم اللغة الإنجليزية، لغة زوجته دورين، اللغة التي مكنته من دخول الصحافة من خلال العمل في صحيفة دولية. وقد تمكن أخيرًا من اكتساب اللغة الفرنسية، اللغة التي اكتسب بها وطنًا جديدًا في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، كان من المفروض عليه أن يتخلى عن اسم ولادته، جيرارد هورست، الذي يبدو اسمًا ألمانيًّا للغاية بالنسبة لصحفي يعيش في فرنسا في ذلك الوقت. نعلم أنه اختار غورز، الاسم المستوحى من علامة مناظير الجيش النمساوي الهنغاري، غورز.
تقتفي المقابلة بدايات المفكر أندري غورز، فيستحضر فرانسوا نودلمان أهمية جان بول سارتر في هذه الرحلة. عندما وضع سارتر مقدمة لعمله الأول: (الخائن)، الذي نُشر في عام 1958. وكان غورز أيضًا استجابةً لكتاب سارتر (الكائن والعدم) بدأ غورز بكتابته في عام 1949 كـ”أسس للأخلاق “، علاوة على ذلك، يقول غورز إنه “تعلم كل شيء” من خلال كتابة هذا الكتاب، وقضى بقية حياته “لصياغته وتجاوزه” (ص 44). يضع غورز في كتابه أخلاق الحرية على أساس البنيات الأنطولوجية المختلفة في الماضي والحاضر والمستقبل. بدءًا من هذا المنطلق الفلسفي للحرية، وينتقل إلى المواضيع السياسية الرئيسة التي تغلغل في عمله: الاغتراب والتحرر. ونشر في عام 1964إستراتيجية العمال والرأسمالية الجديدة، وهو الكتاب الذي حقق بعض النجاح في ألمانيا وجعله على اتصال مع المجتمع النقابي الفرنسي. ويحدد هذا الكتاب أهمية نقد الاغتراب فيما يتعلق بالاستغلال من أجل التفكير في التغلب على الرأسمالية. في الواقع، يمثل العمل المستغل ورأس المال وجهين للآليات نفسها التي تركز على الترويج وتقييم العالم بدلًا مما يصنع ثراءه: الحب والتضامن ورعاية الطبيعة، إلخ…
يؤكد فرانسوا نودلمان، في هذه اللحظة من المقابلة، على النقلة التي عمل عليها غورز في سبعينيات القرن الماضي، منتقلًا من مذهب ماركسي تقليدي إلى نقد خطاب البروليتاريا. بالنسبة إلى غورز، يمثل نشر كتابه (الوداع للبروليتاريا) المنشور في عام 1980 نقطةَ تحولٍ. لا يمكن أن يأتي تجاوز الرأسمالية من الطبقة البروليتارية التي قد تتولى السيطرة على وسائل الإنتاج؛ لأن وسائل الإنتاج نفسها، تقنية صناعية، وهي في حد ذاتها وسيلة للهيمنة والاغتراب على طبقة عاملة غارقة في أيديولوجية القيم. يخبرنا غورز: “أولئك الذين يستطيعون تدمير الرأسمالية، هم العمال الذين لم يعودوا تحت سيطرة رأس المال […] الذين لم يعودوا يرغبون في بيع قوتهم العمالية؛ ولكنهم يريدون التخلص منها لخلق الثروة الاجتماعية” (ص. 57). تبدأ المناقشة بعد ذلك بنقد العمل، وهو موضوع رئيسٌ آخر في فكر غورز. ويميز هذا الأخير العمل غير المتكافئ الأجر الذي يميل حتمًا إلى أن يصبح نادرًا، ويخلق البحث الدائم عنه خيبة أمل دائم واغترابًا جديدًا، ومن جهة أخرى، فإن النشاط المستقل يمنح حرية؛ لكنها تتحدد وفقَ الاحتياجات الجماعية.
وكما يشير نودلمان، فإن الأفق الذي يرسمه غورز هو الاستقلال الذاتي للأفراد الذي يمر عبر الاكتفاء الذاتي المحلي والديموقراطية والتعاونيات؛ ومع ذلك، يدافع غورز عن التراجع وانسحاب المجتمع. لا يتوافق هذا الاكتفاء الذاتي مع الاستقلال الذاتي فقط؛ ولكن يجب أن يكون مصحوبًا بتطوير تقنية معلوماتية تحرّرية قادرة على تحسين الإنتاج وتقليل وقت العمل، بالإضافة إلى السماح بإقامة شبكات عالمية للاقتصادات المحلية. باختصار، يتعلق الأمر بإعادة تشكيل المجتمع بصرف النظر عن الرأسمالية.
ولكي يتحقق ذلك يجب التغلب على الفردانية، وتحرير الخيال من الوهم وإعداده ذهنيًّا لهذا “الخروج” (ص. 79)؛ دعا غورز التجارب الاجتماعية، “الثورات الجزيئية”، لإعادة استخدام تعبير فليكس غاتاري؛ للربط بينها بوساطة مشروع مشترك واقتراح سياسي لا نزال نفتقر إليه. يعد غورز عالِم الكمبيوتر المتسلل/الهاكرز الشخصيةَ الأولية لليوتوبيا الملموسة: باعتباره محركًا للرأسمالية المعاصرة، فإنه مع ذلك يستخدم الزيادة الإنتاجية التي يحصل عليها من خلال عمله لترتيب الوقت المحرر المكرس لتحقيق ازدهاره الذاتي وخلق الثروة الاجتماعية خارج المجال الرأسمالي.
يحتوي الجزء الأخير من المقابلة على تطور في فكر غروز خصوصًا حول الأطروحة التي يدافع عنها في (اللامادية)، ويؤكد على التشابه بين المؤسسة التي يقودها العلم وتلك التي تقودها الرأسمالية لتكريس العالم وتصنيعه، وتجاهل الحياة العزيزة المنال على الوجودية. عندما تحول العالم إلى جبر، وبالتالي ينفلت عن الفهم الإنساني، ويصبح غريبًا على الإنسان. الرحم الاصطناعي هو الرمز النهائي لهذا المشروع؛ لأن -وفقًا لغورز- حرمان الإنسان من العلاقة بين الأم والطفل هو حرمانه من الجوهر الأصلي لعلاقته بالعالم. ويعبر فرانسوا نودلمان عن اندهاشه من التناقض الواضح بين فكرة سارتر عن الجسد باعتباره طارئًا. وهو ما دافع عنه غورز في كتاباته الأولى؛ لكن الفكرة تطورت في نهاية حياته من جسد أنثوي إلى جسد الأمومة، وأن الجسم الحي يجب أن يعطى مكانته في هذا العالم الميكانيكي.
في نهاية المقابلة يذكر غورز مقولة إنجليزية رومانسية، تقول: “لا توجد ثروة أخرى غير الحياة” (89). ويختتم الكتاب بكلمة ختامية لفرانسوا نودلمان، تتعقب الروابط الإنسانية والفكرية والسياسية والمهنية التي جمعت بين غورز وسارتر.
يقدم هذا الكتاب القصير المؤلف من مائة وثمانية وعشرين صفحة لعشاق غورز الفرصةَ لخوض تجربة التعرف عن كثب على فيلسوف لم يحظ بالانتشار الواسع، من خلال حياته وأعماله، فضلًا عن المتعة الفكرية التي يحققها الكتاب للمهتمين بالفكر الفلسفي الأوروبي المعاصر. ويوفر الكتاب أيضًا جانبًا بيداغوجيًا يتجلى في منهجيته الدقيقة، فالتصميم مفيدٌ جدًّا لكل مَن يرغب في صناعة كتاب حوارات مماثلة. والمقابلة مفيدة أيضًا لاكتشاف هذا المفكر الفريد في وقته وفي الأوقات القادمة. بالنسبة لكريستوف فوريل فإن هذا النص “بوابة فكرية ممتازة، لاكتشاف هذا الفكر الخصيب” (ص 21- 22).
ومع ذلك، يمكننا أن نأسف من غياب التوسع لفكره البيئي، والتي ورد ذكرها بسرعة كبيرة، كما أن شكل المقابلة الشفوية قد أزاح الوضوح النموذجي في كتابات غورز. وإذا كان هذا الكتاب بمثابة بوابة إلى عالم غورز؛ فيمكننا أن ننصح القارئ الذي يريد أن “يفكر في المستقبل” أن يبحث عن مادة للتفكير في أعماله جميعها، والتي تعد غنية بالأفكار الحارقة بأسئلتها الراهنية؛ كي نرسم حدود عالم الفيلسوف اللامحدود.
***
حياته أندري غورز في سطور:
1923: ولد في فيينا (النمسا).
1949: الإقامة في باريس والزواج من دورين كير.
1954: حصوله على الجنسية الفرنسية تحت اسم جيرار هورست.
1959: أخلاق التاريخ (سوي).
1967: الاشتراكية الصعبة (سوي).
1975: علم البيئة والسياسة (غاليلي).
1980: وداعًا للبروليتاريا (غاليلي).
1988: تحولات العمل (غاليلي).
1997: بؤس الحاضر، ثراء ممكن (غاليلي).
2003: اللامادي (غاليلي).
1997: بؤس الحاضر، ثراء ممكن (غاليلي).
2003: الملموس (غاليلي).
2006: رسالة إلى د. قصة حب (غاليليو)، تكريمًا لزوجته.
2007: أصبحت دورين، مريضة جدًّا، فقررا معًا الانسحاب من الحياة في منزلهما في فيرنون (أوب). على مقربة من جمعية السيماد لمساعدة اللاجئين والأجانب التيمنحاها ميراثهما كله.
- AndréGorz, Penser l’avenir. Entretien avec François Noudelmann, Paris, La Découverte, coll. « Cahiers libres », 2019, 128 p., préf. Christophe Fourel,