من المسائل التي تشكّل أساس الأسئلة الفلسفيّة المرتبطة بالأنطولوجيا وفلسفة اللّغة والمنطق الرّمزيّ هي مشكلة «الكائنات غير الموجودة» (Nonexistent beings)، تلك الكائنات التي قد أفكّر فيها أو أتصوَّرها أو أتخيّلها من دون وجودها في الواقع، فلا يمكن التّحقّق منها. لكنْ، طالما أستطيع أنْ أفكّر فيها ألا يُفترض أنْ تكون موجودةً على الرَّغم من عدم وجودها، أي أنْ تكون موجودةً بطريقةٍ معيّنةٍ؟ إذا استطعت أنْ أتصوّرَ حصانًا مجنّحًا، أو جبلَ ذهبٍ، أو مخلوقًا حديديًّا ذا خمسينَ قدمًا، أو حتّى عددًا، فأليس من المفترض أنْ تمتلك هذه الأشياء خصائصَ أصيلةً ومميّزةً قائمةً بذاتها؟ كيف يمكنني التّفكير بوجودها طالما أنّها غير موجودةٍ؟ وكيف يمكنني أنْ أعطيَها قيمةً صدقيّةً طالما أنّني عاجزٌ عن التّحقّق من عناصرها في الواقع؟ أمام هذه المشكلة الضّاربة في ميادين الفلسفة واللّسانيّات تبرز نظريّة «ألكسيوس ماينونغ» (Alexius Meinong) في الأشياء (Theory of objects) لتقدّم حلاًّ متكاملاً لها. ويمكن أنْ نلخّص النّظريّة تقريبيًّا بالعبارة الآتية: «ليس موجودًا ولكنّه ينوجدُ» (it does not exist but nevertheless it subsists). فقد ميّز ماينونغ بين (Existenz) أي الوجود (existence)، وبين (Bestand) أي الانوجاد[1] (subsistence). وقد يبدو هذا الطّرح في ظاهره متناقضًا وضربًا من التّنظير السّخيف، وهذا ما بدا عليه لدى «راسل» (B. Russell) و«فريغه» (G. Frege)، وخصوصًا لدى راسل الذي ردّ عليها «بنظريّة الأوصاف» (theory of descriptions). ولمْ تسلَمْ هذه النّظريّة الماينونغيّة من التّفنيد والنّقد اللاّذع، لدرجة أنّ اسمَ صاحبها بات مرادفًا للمغالطة (fallacy)، فلم ينلِ المكانة التي يستحقّها عند الفلاسفة التّحليليّين، والذين بمعظمهم تابعوا التّقليد الذي وضعه راسل في مهاجمة ومعارضة أيّ نظريّةٍ تنطلق من أسسٍ ماينونغيّةٍ. لذا لا بُدَّ لي من عرض أفكار ماينونغ بوضوحٍ بعيدًا عن الصّورة الكاريكاتوريّة التي رُسِمَتْ له. لكنّني لا أُخفي على القارئ أنّ نظريّة الأشياء، على الرّغم من أهمّيّتها، هي نظريّةٌ بالغةٌ في التّعقيد، وقد تدخل أحيانًا في أغوار الغموض ما يفتحها على أوجهٍ متعدّدةٍ من التّأويلات، لذا سأقوم بتبسيطها قدر الإمكان في صفحات المقال.
الكائنات غير الموجودة
تكمن الصّعوبة للإجابة على الأسئلة المطروحة في طبيعة الموضوع نفسه، وتحديدًا في التّناقض الظّاهر فيه. وأوّل الفلاسفة الذين أشاروا إلى التّناقض القائم في فكرة «اللاّموجودات» (Nonexistents) كان «ديفيد هيوم» (D. Hume). ففي «مقالٌ في الطّبيعة البشريّة» (A treatise of Human nature) يرفض هيوم التّمييز بين الشّيء المُتصَوَّر والشّيء الموجود، إذ عنده أنّ الوجود يُعادل التّصوّر، ويقول في الجزء الثّاني (القسم 6) من الكتاب الأوّل:
“The idea of existence, then, is the very same with the idea of what we conceive to be existent. To reflect on any thing simply, and to reflect on it as existent, are nothing different from each other. That idea, when conjoin’d with the idea of any object, makes no addition to it. Whatever we conceive, we conceive to be existent. Any idea we please to form is the idea of a being; and the idea of a being is any idea we please to form.”
«إذن، إنّ فكرة الوجود تساوي فكرة ما نتصوّره أنْ يكونَ موجودًا. إذ ليس التّفكّر في شيءٍ أو التّفكّر فيه كموجودٍ أمرينِ مغايرينِ عن بعضهما. تلك الفكرة، حينما تضمّ إلى فكرة أيّ شيءٍ، فهي لا تضيف إليها شيئًا. أيُّما نتصوّرُه، نحن نتصوّره موجودًا. وأيّةُ فكرةٍ نرجو تشكيلها تكون فكرةً عن كينونةٍ؛ وتكون الفكرةُ عن كينونةٍ أيّةَ فكرةٍ نرجو تشكيلها.»
لذا يعني التّفكير في شيءٍ والتّفكير في أنّ هذا الشّيء موجودٌ هما الأمر نفسه، وتاليًا بحسب هيوم «لا بُدّ لكلّ شيءٍ مطروحٍ أنْ يكونَ بالضّرورة موجودًا.» ولأنّ مفهوم «الشّيء» يضمّ مفهوم «الوجود» بحكم الضّرورة، فعلى فكرة «الأشياء غير الموجودة» (Nonexistent objects) أنْ تكون متناقضةً في ذاتها. هنا تبرز نظريّة ماينونغ كمحاولةٍ لحلّ هذه المشكلة عبر الالتفاف حولها إذا ما جاز التّعبير.
نظريّة ماينونغ في المعنى
سنة 1904 نشر عالم النّفس والفيلسوف النّمساويّ ألكسيوس ماينونغ مقالاً تحت عنوان «نظريّة الأشياء» (Über Gegenstandstheorie)، ولقد أثار جدالاً واسعًا في الأوساط الأكاديميّة، واستدعى ردودًا ونقاشاتٍ شكّلت فيما بعد أساس فلسفةٍ سُمّيت بالفلسفة التّحليليّة. هكذا، ومن دون علمه، مهّد مقال ماينونغ إلى «الانعطاف اللّغويّ» (linguistic shift) في الفلسفة، وساهم في ولادة فلسفة اللّغة.
والمقال الثّورويّ لمْ يكن سوى حصيلة تأويل ماينونغ لفلسفة أستاذه «فرانز برنتانو» (F. Brentano). لذا كي نتعمّقَ في فهمنا لموقف ماينونغ من «الأشياء غير الموجودة» علينا أنْ نتفحّصَ الأسس الفلسفيّة التي اعتمد عليها وانطلق منها لصياغة نظريّته، وتحديدًا لا بدّ من توضيح «مبدأ القصديّة» (Intentionality) الذي نادى به برنتانو ليشكّلَ لاحقًا منطلق النّظريّة الماينونغيّة.
- مبدأ القصديّة
أسّس فرانز برنتانو في محاضراته في ثمانينات القرن التّاسع عشر تيّار «النّفسيّة الظّاهراتيّة» (Phenomenological psychology). وتبعًا لتعريف أحد تلاميذ برنتانو المشهورينَ، وهو «إدموند هوسّرل» (E. Husserl)، يقوم هذا المذهب على دراسة الوعي القصديّ بطريقةٍ غير اختزاليّةٍ، أي بطريقةٍ تأخذ الخصوصيّات بعين الاعتبار. ولكنْ ما يهمّنا من فلسفة برنتانو هو مبدأ القصديّة، فإلى ماذا يشير هذا المفهوم؟
لدى الوعي خاصيّة التوجّه، فلا يمكن أنْ يكون الوعي قائمًا لذاته، إذ أنْ نعيَ يعني أنْ نعيَ شيئًا، وهذا التوجّه الذي يمتاز به الوعي هو ما سمّاه برنتانو «الوجود-في القصديّ» (intentionale Inexistenz) أو ما يُعرف الآن بالقصديّة. فالوعي لا ينغلق على ذاته بل يتعالى عليها ويتّجه نحو شيءٍ مغايرٍ تمامًا عن طبيعته، أي عندما أفكّر يدور تفكيري حول شيءٍ، وعندما أخاف فإنّي أخاف من شيءٍ، وعندما أتخيّل فإنّي أتخيّل شيئًا وهكذا دواليك.
فرانز برنتانو (1838-1917)
فالشّيء هو محور أيّ فعلٍ ذهنيّ، أي إنّ الأشياء هي موضوعاتٌ باستطاعة المرء التّفكير فيها، وإنّ دراسة القصديّة تمكّننا من فهم العلاقة القائمة بين الذّات المُدرِكة والشّيء الموجود زمكانيًّا في العالم. لذا إنّ كلّ تجربةٍ قصديّةٍ (إدراك، تخيّل، تذكّر، رغبة…) هي موجّهةٌ لشيءٍ خارجٍ عنها، وليس بالضّرورة أنْ يكون هذا الشّيء موجودًا في الواقع، بل إنّ وجوده، بحسب برنتانو، قائمٌ في الظّاهرة الذّهنيّة نفسها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ برنتانو لم يذهب بعيدًا في مسألة الأشياء غير الموجودة، واكتفى بالإشارة إلى التّضمين الدّلالي الإضافيّ الذي نفرضه على الأشياء غير الموجودة حينما نقول بأنّها «تكون».
لكنّ ماينونغ سرعان ما انفصل عن فلسفة أستاذه، حتّى أنّه لجأ في بعض الأحيان إلى التّخلّي عن بعض المصطلحات التي استعملها برنتانو، ومنها مصطلح «الوجود-في القصديّ» الاسكولائيّ (Scholastic)، وذلك لبعض الفروقات الهامّة بين قصديّة برنتانو وقصديّة ماينونغ، وتحديدًا في ما يخصّ الأشياء غير الموجودة في الفعل الذّهنيّ.
يتّفق الاثنان على وجود علاقةٍ علائقيّةٍ بين الشّيء من جهةٍ والنّشاط الذّهنيّ من جهةٍ أخرى، أي عندما يفكّر المرء، فهو ذاتٌ مُفكّرةٌ موجّهةٌ نحو شيءٍ أو أشياءَ.[2] لكنّهما يختلفان في مسألة اعتبار التوجّه نحو «شيءٍ» غير موجودٍ شيئًا. إذ يرفض برنتانو توصيف هذا الشّيء الوهميّ بأنّه شيءٌ، في حين أنّ ماينونغ يسلّم به ولو أنّه لا يملك «كينونةً»، إذ إنّ الشّيء عنده معطى مسبقًا للذّهن. يقول ماينونغ:
“Es gibt Gegenstände, von denen gilt, daß es dergleichen Gegenstände nicht gibt.”
«ثمّة أشياءُ من الصّدق القول فيها أنّه ليس ثمّة من أشياء.»
وتبعًا لمبدأ القصديّة الماينونغيّ لا بدّ من أنْ يحملَ الشّيء غير الموجود محتوى معيّنٍ، وإنّ عدم وجوده في الواقع لا يعني أنّه عدمٌ، لذلك نرى ماينونغ يطرح تمييزًا بين الوجود والانوجاد.
- التّمييز بين الوجود والانوجاد
قد قُسّمَتْ الأشياء تِبعًا لِـ«مقامها الأنطولوجيّ» (ontological status)، إذ ثمّة «أشياء واقعيّةٌ» (wirklich) أي حقيقيّةٌ (real) قائمةٌ في مكانٍ وزمانٍ محدّدَينِ، وثمّة «أشياء مثاليّةٌ» (ideal objects) لا نعثر عليها في هذا العالم، وتمتاز بخاصيّة «اللاّزمان» (timeless).
الأشياء الواقعيّة قائمةٌ في العالم الحسّيّ (رجلٌ، كتابٌ، طاولةٌ…)، وتشكّل موضوعات الدّراسات العلميّة التّجريبيّة (الفيزياء، الكيمياء). بينما تُعدُّ الأشياء المثاليّة من اللاّموجودات التي نعثر عليها «مجسّدةً» (إذا ما جاز التّعبير) في الواقع، إنّها الأعداد، والأشكال الهندسيّة، والأفكار المجرّدة… التي لا توجدُ (exists) زمكانيًّا لكنّها تنوجدُ (subsists)، وهي تشكّل موضوعات الدّراسات العلميّة النّظريّة (علم النّفس، الرّياضيّات).
لذا لا يمكن التّكلّم عن الوجود خارج الإطار الزّمانيّ، أي الوجود في العالم الواقعيّ، في حين أنّ الانوجاد يتخطّى هذا الإطار، ويرتبط بالكينونة (Sein). ومن هنا نلاحظ «واقعيّة» (Realism) ألكسيوس ماينونغ.
لكنّ ماينونغ لم يضَعْ اللاّموجودات كلّها في الإطار الأشياء المنوجدة (خلافًا لما يعتقد به الكثير من الفلاسفة التّحليليّينَ). إذ ثمّة أشياء لا توجد ولا تنوجد، ومنها الأشياء المتخيّلة (جبل الذّهب)، الأشياء المتناقضة أو المستحيلة (الأعزب المُتزوّج، المربّع المستدير، الحديد الخشبيّ)، والأشياء النّاقصة أو غير المكتملة (سآتي على ذكرها في سياق شرحي للمنطق الماينونغيّ).
تلك الأشياء الأخرى سمّاها ماينونغ (Gegebenheit) أي «المُعطى»، وأطلق أحد الباحثين عليها اسم (absistence) الذي عرّبته بلفظة «التَّشيُّؤ»[3]. ويشير تَشيُّؤ الأشياء إلى كونها أشياء من دون امتلاكها كينونةً، أيْ الاكتفاء بها كأشياء من دون انوجادها ووجودها. لهذا السّبب يمكن الجزم أنّ الأشياء جميعها تَتَشيَّأُ، ومعظمها ينوجد، وبعضها يوجد. وتاليًا يمكن تصحيح جملة «ليس موجودًا ولكنّه يَنوجدُ» بـ«ليس موجودًا، وقد ينوجد، ولكنّه حتمًا يتشيّأ». ولهذا السّبب لا يمكن التّكلّم عن السَّلب في التّشيّؤ.
ولدى كلّ شيءٍ من تلك الأشياء كينونةٌ خاصّةٌ به مرتبطةٌ بفعلٍ ذهنيّ معيّنٍ.
- أنواع الكينونة
ثمّة نوعانِ أساسيّانِ من الكينونة في هذه النّظريّة: الكينونة (Sein) واللاّكينونة (Nichtsein).
ففي ما يخصّ الأشياء ذات الكينونة (Being) نرى ماينونغ يميّز بين أنواعٍ عدّةٍ منها، ويمكن تقسيمها من حيث الخاصّيّة إلى قسمينِ:
- «الأشياء ذات الكينونة الموجودة والمنوجدة» (objects with being that exists and subsists)، أي التي نعثر عليها في العالم الواقعيّ، من ضمن الإطار «الزّمكانيّ» (Spatiotemporal)، نحو: حصانٌ، امرأةٌ، رجلٌ…
- «الأشياء ذات الكينونة المنوجدة» (objects with being that subsists)، أي التي نتصوّرها ولا نعثر على «تمظهراتها» في العالم الواقعيّ، والتي ليس لها حضورٌ في الآن، نحو: القيمة، الهويّة، 2+2=4، وغيرها…
أمّا في ما يتعلّق باللاّكينونة (non-being)، فهي الأشياء التي لا تنوجد ولا توجد، لكنّها لا تزال قائمةً أو موجودةً، أي إنّها تكون (تتشيّأ). لهذا السّبب لا يمكن وضعها في «العالَم الأنطولوجيّ» (Ontological realm) نفسه مع الأشياء المنوجدة. خذ جملة «المربّع المستدير غيرُ موجودٍ» مثالاً، إذ يشير الحكم على الشّيء (المربّع المستدير) في هذه الجملة إلى امتلاك فكرةٍ عن الشّيء نفسه، وتاليًا من المفترض أنْ يكون هذا الشّيء قائمًا بطريقةٍ ما. هكذا إنّ كينونته قائمةٌ في نفيه، ما يستدعي وضعه في اللاّكينونة.
ولا بدّ لي من الإشارة أيضًا إلى أنّ مفهوم «الأشياء» لا ينحصر فقط بـ«الأفراد» (individuals) أو «الكيانات» (Entities) غير الموجودة (سندباد، جبل الذّهب…)، والتي يسمّيها ماينونغ «الشّيئاء» (Objecta)[4]، بل ثمّة أنواعٌ أخرى من الأشياء ذات الكينونة المنوجدة، منها ما يرتبط بالمشاعر، ومنها ما يتعلّق بالرّغبات، وأخرى مرتبطةٌ بالتّفكير….
النّوع | تعريفه | المَثَل |
الشّيئاء (Objecta) | مرتبطةٌ بالتّمثيلات | هذا تمثالٌ |
الشّيئيّات (Objectives) | مرتبطةٌ بالأفكار (بمعنى آخر إنّها القضايا) | هذا تمثالٌ ملوّنٌ |
التّقديريّات (Dignitatives) | مرتبطةٌ بالمشاعر (أي أحكام قيمة) | جمال هذا التّمثال |
الرَّغْبِيَّات (Desideratives) | مرتبطةٌ بالرّغبات (أي أحكام معياريّة) | بمحبّةٍ يجب الاهتمام بهذا التّمثال |
وقد كان الهدف الرّئيس لنظرّيّة الأشياء هو وضع نظريّةٍ شاملةٍ للميتافيزيقا تشرح موضوعات المعرفة كلّها، أي الأشياء التي يمكن تصوُّرها أو تخيّلها على الرَّغم من أنّها ليست قائمةً في العالم الواقعيّ (أي بقطع النّظر عن «مقامها الأنطولوجيّ»: الأشياء النّاقصة، الأشياء الخياليّة، الأشياء المستحيلة التي لا يمكن أنْ توجدَ بحكم الضّرورة الميتافيزيقيّة). لكنّني في هذا المقال سأكتفي بالتطرّق إلى الشّيئاء المرتبطة بالتّمثيلات، وهي التي تشكّل أساس اللاّموجودات اللاّحقة بحسب ماينونغ.
ثمّة نوعٌ آخرٌ من الكينونة قد يُعدُّ «شبه كينونةٍ» (Quasi-being)، وهو «الخارج عن الكينونة» (Außersein)، أي الكينونة الجزئيّة التي نجدها في الأشياء كلّها قبل تحديد نوعها (أي قبل اعتبارها أشياء ذات كينونةٍ أم لاكينونةٍ؟). إذ لكي يعيَ المرء الشّيء، يُفترض منه امتلاك فكرةٍ عن كينونة هذا الشّيء. وقد الْتَبَسَ الأمر عند راسل الذي خلط اللاّكينونة بالخارج عن الكينونة، واعتبرهما نوعًا واحدًا. ولا بدَّ من الإشارة بأنّنا هنا نتكلّم عن «الشّيء الخالص» (pure object)، أي الشّيء ذي المقام الأنطولوجيّ «اللاّمباليّ» (indifferent) للكينونة، أو الذي يتخطّى الكينونة واللاّكينونة.
وهكذا نصل إلى النّوع الرّابع من الكينونة، وهو «الهاكينونة» (Sosein)، ويمكن تعريفه بأنّه الشّيء على ما هو عليه، أي الكيف (من هنا كان المولّد الهاكينونة من لفظة كينونة مع اللاّحق «ها» الذي يفيد التّنبيه ويُستعمل مع ذا للإشارة غير المختصّة بالبعيد، ويمكن ربطه دلاليًّا سياقيًّا مع «so» الألمانيّة ليشير إلى حال/هيئة الشّيءأو كيف يكون).
إنّ الهاكينونة جوهريّةٌ للأشياء، وهي منفصلةٌ عن كينونتها وعن الخارج عن كينونتها، واللّذان هما ظرفيّانِ لها، وهو ما يُعرف عند ماينونغ «بمبدأ الاستقلال» (principle of independence). إذ عندما نَعي الشّيء، فما نعيه أوّلاً وقبل أيّ شيءٍ هو كيفيّة هذا الشّيء، وذلك قبل إدراكنا أنّه يكون (موجودًا أو منوجدًا) أو لا يكون (ليس لديه كينونة).
ولكنْ، إذا كان ثمّة من «كائناتٍ غير موجودةٍ ومنوجدةٍ» ولكنّها تتشيّأ فأين سنجدها؟ ولتبسيط السّؤال: في أيّ عالمٍ سنعثر عليها؟
هنا لا يُعطي ماينونغ جوابًا واضحًا في نظريّته على هذا السّؤال، فالأشياء الموجودة (شجرةٌ، طاولةٌ، الرّئيس الحاليّ للولايات المتّحدة…) نعثر عليها في هذا العالم المرئيّ الحسّيّ، والأشياء المنوجدة (4=2+2، الجمال، المساواة…) نعثر عليها في «سماءٍ أفلاطونيّةٍ».
بينما لدى الأشياء المُتشيّئة (السّندباد البحريّ، الأعزب المُتزوّج، الغول…) عالمٌ آخر، وقد دعاها ماينونغ أشياء «متشرّدة» (heimatlose) (Homeless)، أي لا تحتلّ أيّ عالَمٍ أنطولوجيّ، ومع ذلك نجدها قائمةً كأشياء.
وقد سخرَ الفلاسفة من هذا الطَّرح، فظهر مصطلح «أدغال ماينونغ» (Meinong’s Jungle) للإشارة بتهكُّمٍ إلى هذه الأشياء المتشرّدة.
لكنّ ماينونغ وضع أساسًا منطقيًّا لنظريّته، خرج به عن القواعد الكلاسيكيّة (أو من الأنسب القول أنّه أعاد تأويل هذه القواعد، وتحديدًا قانونَيْ عدم التّناقض والثّالث المرفوع).
المنطق الماينونغيّ واللاّموجودات
في المنطق الكلاسيكيّ نعثر على نظريّة الصّدق، أي تكون القضيّة صادقةً حينما ترتبط بواقعةٍ في الواقع، مثلاً: «الطّاولةُ مصنوعةٌ من الخشب». لكنّ بعض الجمل أو القضايا أمثال: «أبو الفتح الإسكندريّ رجلٌ مخادعٌ»[5]، «الأعزب المتزوّج غير موجودٍ» … لا يمكن تحميلها أيّة قيمةٍ صدقيّةٍ، وإنْ بدت صادقةً فعلامَ سيقوم صدقُها؟
ومن الجدير بالذّكر أنّ ماينونغ لم يكن تلميذَ منطقٍ، فهو لم يتخصّصْ في المنطق في جامعة فيينا، كما لم يخطَّ أيّة أوراقٍ أو صفحاتٍ في هذا المجال، لكنّه على الرَّغم من ذلك يُعدُّ من أهمّ المساهمينَ في تطوّر «المنطق غير الكلاسيكيّ» (Non-classical logic). وهذا ما ذهب إليه «بيتر سيمونز» (P. Simons) في مقاله «المنطق في مدرسة برنتانو» (Logic in the Brentano school): «إنّها إحدى التّهكّمات الصّغيرة للفلسفة النّمساويّة أنّ تأثير ماينونغ على تطوّر المنطق كان أكبر من تأثير أهمّ عالم منطقٍ عرفته النّمسا وهو برنارد بولزانو (Bernard Bolzano).»
يتعامل المنطق الماينونغيّ مع الكائنات غير الموجودة على أنّ لديها خصائص، فيعتبر أنّ الوجود، كاللّون والوزن، ليس سوى خاصّيّةٍ للشّيء. وهذا هو جوهر «مبدأ الاستقلال» الذي ذكرناه في سياق حديثنا عن الهاكينونة، حيث تمتلك الأشياء خصائص بغضّ النّظر عن مقامها الوجوديّ، نحو:
«المربّع المستدير»
إذ بغضّ النّظر عن عدم وجوده في الواقع فهو يملك خاصّيَّتَيْنِ: الأولى أنّه مربّعٌ، والثّانية أنّه مستديرٌ.
ويتّخذ ماينونغ من «التّدرُّج الميغاريّ» (Megaric gradation)، أي المنسوب للمدرسة الميغاريّة[6]، أساسًا. وذلك عوضًا عن المنطق الأرسطوطاليسيّ القائم على: الضّروريّ (Necessary)، المُتوافق (Contingent)، والمستحيل (Impossible)، ولكنّه في الوقت نفسه يبدّل في المصطلحات:
المصطلحات الميغاريّة | المصطلحات الماينونغيّة |
صادق (True) | وقائعيّ (Factual) |
ممكن (Possible) | دون الوقائعيّ (Subfactual) |
كاذب (False) | لاوقائعيّ (Unfactual) |
ويحلّل ماينونغ القضايا تبعًا لدرجة وقائعيّتها (degree of factuality) التي تبدأ من 0 إلى 1 على «خطّ الوقائعيّة» (factuality line).
0 هو «اللّاوقائعيّة المكتملة» (complete unfactuality)، أمّا 1 فهو «الوقائعيّة المكتملة» (complete factuality)، وما بينهما هو «دون الوقائعيّة» (subfactuality)، أي ليس وقائعيًّا مكتملاً أو لاوقائعيًّا مكتملاً. هكذا يتخلّص ماينونغ من انتهاك «قانون عدم التّناقض» (law of non-contradiction)، أي ألاّ تكونَ القضيّة صادقةً وكاذبةً في الوقت نفسه، وذلك عبر رفضه هذا المبدأ وعدم تقيّده بالمنطق الكلاسيكيّ.
إذن ما علاقة هذا المنطق الماينونغيّ بالكائنات غير الموجودة؟
ينطلق منطق ماينونغ من صلب نظريّته في الأشياء (النّاقصة، المستحيلة أو المتناقضة). إذ بطبيعة الحال إنّ درجة «الوقائعيّة» 0<وقا<1 تشير إلى خاصيّة القضايا أو «الشّيئيّات» (objectives) النّاقصة، نحو:
«الماء الذي شربته يتراوح بين 1 ليتر و0,5 ليتر».
في حين أنّ اللاّوقائعيّة خاصيّة «الشّيئيّات» التي لا تملك كينونةً، وتؤدّي إلى أحكامٍ كاذبةٍ يُمكن تسميتها «باللاّواقائع» (unfacts)، من هنا نستطيع الجزم بأنّ أسُسَ المنطق الماينونغيّ كلاسيكيّةٌ.
أمّا بعض الجمل أمثال «الأعزب المتزوّج»، «الحديد الخشبيّ»، «الطّويل القصير» … والتي تُتَّهم بانتهاك قانون عدم التّناقض، يردّ ماينونغ على الاتّهام بتأكيده أنّ هذا القانون ينطبق على الأشياء الواقعيّة والممكنة لا على الأشياء المستحيلة كالجمل السّابقة. وإنّ حصر أيّة نظريّةٍ في المعنى بالأشياء الواقعيّة يفقدها قيمتها لأنّها تسقط الأشياء الأخرى التي تشكّل جزءًا مهمًّا من موضوعات تفكيرنا.
ولكنّني لنْ أتوسَّعَ في المنطق الماينونغيّ، لأنّ فكرة وجود منطقٍ ماينونغيّ هي بذاتها إشكاليّةٌ وموضعَ جدالٍ بين الأكاديميّينَ، وقد حاول بعض الباحثين، ومنهم «دايل جاكيت» (D. Jacquette)، وضع نظامٍ منطقيّ متماسكٍ للنّظريّة. لكنّ النّظريّة نفسها حَوَتْ على عددٍ من «الثّغرات» أو «التّناقضات» بحسب نقّادها، وأوّلهم برتراند راسل.
موقف راسل ومكانة ماينونغ بين الفلاسفة التّحليليّين
شكّل مقال راسل «عن الإحالة» (On Denoting) القطيعة الفلسفيّة مع ألكسيوس ماينونغ، كما شكّل أيضًا نقطة انطلاق فلسفته الخاصّة، ومسار الفلسفة الانكليزيّة عمومًا. ففي «مبادئ الرّياضيّات» (the principles of mathematics) عبّر راسل عن اعتقاده بنظريّة الأشياء (التي حصرها بين المنوجدة وبين الموجودة والمنوجدة)، لكنّ شكوكه كانت أكبر من التّسليم بها. لذا برهن بمقاله سنة 1905 أنّ تنوّع الكينونة ليس ضروريًّا من النّاحية المنطقيّة. ولعلّ تلك المنطقيّة التي امتازت بها فلسفة راسل كانت الباعث لنقده النّظريّة الماينونغيّة، ومنعته في الوقت نفسه من القراءة المتمعّنة لبعض التّفاصيل الهامّة في النّظريّة، وتحديدًا مسألة التّمييز بين الوجود والكينونة.
وربّما هذه المفارقة الظّاهرة في نظريّة ماينونغ هي التي أثارت حفيظة راسل، أي مسألة امتلاك أشياء ليست موجودةً في الواقع الفيزيائيّ «قيمةً أنطولوجيّةً» (ontological value). فقد تطرَّق راسل في «مبادئ الرّياضيّات» لمسألة الأشياء غير الموجودة وغير المنوجدة (Nichtsein)، وعنده أنّ مثل هذه القضايا تخرق القوانين المنطقيّة الكلاسيكيّة، والتي تقوم بمعظمها على الافتراض الأنطولوجيّ. يقول راسل في «عن الإحالة»:
«الجُمَل أمثال جُملة «ملك فرنسا الحاليّ»، والتي لا تحيل إلى فردٍ حقيقيّ (real individual)، فهي على الرَّغم من ذلك تحيل إلى فردٍ، ولكنّه غيرُ حقيقيّ (unreal). هذه هي نظريّة ماينونغ بشكلٍ أساسٍ، والتي رأينا سابقًا السّبب المصيب في رفضها وهو لأنّها تتعارض مع قانون عدم التّناقض.»
خذ مثلا جملة «ملك مصر الحالي أسمرُ اللّونِ».
في النّظريّة المرجعيّة المباشرة يكفي الاطّلاع على الخريطة السّياسيّة لتبيين أنّ هذه الجملة كاذبةٌ، إلاَّ إذا تغيّر النّظام السّياسيّ المصريّ من الجمهوريّة إلى الملكيّة وهذا أمرٌ آخر.
ولكنْ، طالما أستطيع الآن أنْ أتصوّرَ جُمَلاً مثل هذه الجملة، وأسند إليها محمولاً (أسمر اللّون)، وأفكّر فيها، إذن لا بُدَّ لها أنْ تكون موجودةً بطريقةٍ ما.
في النّظريّة الماينونغيّة، هذه الجملة تُحيل/ترجع إلى شيءٍ، ولكنّ هذا الشّيء ليس موجودًا، إذن نكون نحن أمام «انوجادٍ»، تبعًا لقراءة راسل لنظريّة الأشياء، لا أمام وجودٍ.
يتدخّل راسل فيغيّر قواعد اللّعبة بدلاً من محاولة الفوز عبر قوانينها، فيعتبر أنّ الجمل أمثال «ملك مصر الحالي» هي صفاتٌ وليست أسماء علم، لذا نحن لسنا بحاجةٍ للبحث عن مرجعها، لأنّ «قيمتها الدّلاليّة» (Semantic value) لا ترتبط بالأشياء التي تحيل إليها. وعبر تفصيل هذه القضيّة إلى قضايا جزئيّةٍ، يُثبت راسل صدقها أو كذبها بصدق أو كذب أجزائها كلّها، وذلك بالاستعانة بالمكمّمات (Quantifiers) (بعض، كلّ، معظم…) في تحليله لها، نحو:
- ثمّة شخصٌ على الأقلّ هو ملك مصرَ.
- ثمّة شخصٌ على الأكثر هو ملك مصرَ (أي شخص واحد ينفرد بهذه الصّفة).
- أيّ شخص يكون ملك مصر سيكون أصلع.
وهنا يتعامل راسل مع مكوّنات الجملة على أنّها ليست أسماء علم، وتاليًا ليست موضوعًا بل إنّها محمولات (predicates)، أي «ملك مصرَ» / كا ، و«أصلع» / حا ، هما محمولان للموضوع «شخصٌ ما» / (س):
لبعض (س)، 1. (س) هو ملك مصر
و2. لكلّ (ص)، إذا (ص) ملك مصر، (ص) يساوي (س)
و3. (س) هو أصلع
العنصر 1. يعني أ)، والعنصر 2. يعني ب)، أمّا العنصر الثّالث 3. فيعني ت)، أي بعد تأكيد وتثبيت أنّ شخصًا واحدًا ينفرد بكونه ملك مصر، هذا الشّخص نفسه هو أصلع.
ونكون نحن أمام الصّورة المنطقيّة الآتية:
E(س) [كا(س) ^ حا(س)) ^ “(ص) (كا(ص) ¬ س = ص]
إذن بالنّسبة لراسل إنّ المنطق الرّياضيّ هو المُكلَّف بتوضيح الافتراض الأنطولوجيّ لأنّ أساس الافتراض الأنطولوجيّ هو أساسٌ منطقيٌّ. من هنا نستطيع تلمّس أهمّيّة نظريّة الأوصاف والغاية الكبرى من وضعها، إذ إنّها محاولةٌ اختزاليّةٌ جريئةٌ تنطلق من اعتقادٍ علمويّ وروحٍ تنويريّةٍ، فتتجنّب الطّرح الماينونغيّ عبر رفض أسماء العلم واعتبارها أوصافًا محدّدةً، وتحليل الجمل انطلاقًا من أنّها مجموعةٌ من المكمّمات والمحمولات.
وبحسب راسل لا يستطيع المرء أنْ يقدّمَ قضايا صادقةً حول الأشياء غير الموجودة وغير المنوجدة (أي الأشياء غير الموجدة في العالم الفيزيائيّ). وتبعًا لهذه القاعدة نلاحظ ثنائيّةً اختزاليّةً عند قراءة راسل لنظريّة ماينونغ:
- الأشياء ذات الكينونة الموجودة. (وهي الجزئيّات، مثلاً اللّون الأسود في الحبر)
- الأشياء ذات الكينونة الموجودة-المنوجدة. (وهي الكلّيّات، مثلاً السّواد)
وكلّ ما يخرج عن هذين الصّنفين ليس له وجودٌ، وتاليًا لا يملك كينونةً.
ويشير «ألفرد جولز آير» (A. J. Ayer) في مقدّمة كتابه «اللّغة، الصّدق والمنطق» (Language, Truth and Logic) إلى أهمّيّة نظريّة الأوصاف التي جنّبت السّقوط في مغالطة ماينونغ:
«من خلال إبرازها أنّ الجُمَلَ أمثال جملة «ملك فرنسا الحاليّ» لا تعمل كأسماء علمٍ، تكشف النّظريّة عن تلك المغالطة التي قادت الفلاسفة إلى الاعتقاد بـ«الكيانات المنوجدة» (Subsistent entities).»
لكنّ الاستهزاء بنظريّة الأشياء لم يقتصر على المناطقة الذّرّيّينَ بل نعثر عليه عند فلاسفة اللّغة العاديّة، وتحديدًا عند «غيلبرت رايل» (G. Ryle) الذي نعى النّظريّة في إحدى مقالاته. وهذا ما يدفعنا إلى طرح السّؤال الآتي: هل تحمل نظريّة ماينونغ مغالطاتٍ كبرى كي يتمّ الاستخفاف بطروحاتها؟
للإجابة لا بُدَّ لي من توضيح بعض المسائل، وتحديدًا مسألة الانوجاد، وذلك عبر تقييمٍ لهذه النّظريّة المميّزة في فلسفة اللّغة.
نحو توضيحٍ عامّ لنظريّة الأشياء
إذن ماذا قَصَدَ ماينونغ بأنّ الكائنات المتخيّلة «تكون» بغضّ النّظر عن التّأويلات والأحكام المسبقة الموجّهة لنظريّته؟
طبعًا هو لم يقصد أنّ للسّندباد أو للحصان المجنّح كينونةً أو «كينونةً زائفةً» (Pseudo-being)، بل اعتبر أنّ هذه الأشياء موضوعات معرفةٍ، أي ترتبط بها الوقائع، على سبيل المثال جبل الذّهب، إذ نحن نعلم أنّ:
(1) لجبل الذّهب شكلاً
(2) وأنّه ليس موجودًا.
(3) وأنّ باستطاعتنا التّفكير فيه.
وتاليًا يملك جبل الذّهب خصائصَ خاصّةً به ككيانٍ غير موجودٍ وغير منوجدٍ، بمعنى أنّ جبل الذّهب مكوّنٌ من الذّهب لأنّ توصيفه وصل إلينا كذلك (أي أنّ الذّهب هو أحد خصائصه). لكنّ المأخذ الوحيد على هذه النّظريّة هو أنّها لم تستنِدْ إلى منطقٍ رياضيّ واضحٍ لدعم طروحاتها، ما جعلها ضعيفةً في الدّفاع أمام «هجوم» راسل عليها. وربّما كان هذا السّبب في فقدان الزَّخم الاهتمام الأكاديميّ بها.
ومن الغلوّ القول أنّ ماينونغ كان «واقعيًّا شكليًّا» (Modal realist)، أي أنّه اعتبر الكائنات غير الموجودة قائمةً فعليًّا في عالمٍ آخر، كما فعل «سول كريبكي» (S. Kripke) باستعماله طرح «العوالم الممكنة» (Possible worlds). ومن الخطأ القول أيضًا أنّه اعتبرها قائمةً في أذهاننا، أي مجرّدةً، كما ذهبت «الفِعليّة الشّكليّة» (Modal actualism).
وتشير طروحات نظريّة الأشياء إلى أنّ واقعيّته قامت على اعتبار اللاّموجود خاصّيّةً قائمةً بذاتها، أي لم يَعُد الوجود الزّمكانيّ شرطًا لامتلاك الشّيء خصائصَ، بل يكفي أنْ يكون الشّيء موضوع معرفةٍ لاتّجاه تفكيرنا كي يملك خصائصَ خاصّةً به.
خاتمة
لقد نجت نظريّة الأشياء من الدّعاية السّيّئة التي تعرّضت لها على أيادي الفلاسفة التّحليليّين بفضل أفكارها المتميّزة وطروحاتها المبتكرة. إذ إنّ ماينونغ، وقبل انتشار أفكاره، ترأّس مدرسةً فلسفيّةً في «جامعة غراتس» (Graz Universität)، وساهم تلاميذه في نشر وتأويل معظم طروحاته. لكنّما الجزء الأكبر من شهرة ماينونغ في الأزمنة الحديثة يعود للدّراسات الاكاديميّة المهمّة التي كتبها ونشرها فلاسفةٌ أكاديميّون أمثال «ريتشارد راوتلي» (R. Routley)، «تيرانس بارسونز» (T. Parsons)، «دايل جاكيت» … وغيرهم من الذين أعادوا الاهتمام وتسليط الضّوء على بعض المسائل الأساسيّة في نظريّة الأشياء، وخصوصًا مبدأ الاستقلال، والتّمييز بين الوجود والانوجاد، والتّأويل الذي وضعه ماينونغ لقانونَي المنطق الكلاسيكيّ….
وبفضل هذه الدّراسات أُعيدت المكانة المحترمة لألكسيوس ماينونغ بين نظرائه، وبسببها أيضًا أمكننا تتبّع التّأثير الذي خلّفته الماينونغيّة في فلسفة اللّغة، وتحديدًا في «الماينونغيّة الجديدة» (Neo-Meinongianism)، وملاحظة الأثر الضّمنيّ الذي تركته عند بعض أعلام الفلاسفة من القرنين العشرين والواحد والعشرين، ومن هؤلاء نذكر «ديفيد لويس» (David Lewis).
References
– Ayer, Alfred Jules, Language Truth and Logic, Dover publications: New York, 2014.
– Group of authors, the Routledge handbook of Franz Brentano and the Brentano School, Routledge Editions: New York and London, 1st edition, 2017.
– Group of authors, the School of Alexius Meinong, Routledge Editions: New York and London, 1st edition, 2001.
– Group of authors, the School of Franz Brentano, Springer: 1st edition, 1996.
– Hume, David, a treatise of Human nature vol.1 the Clarendon edition of the works of David Hume, Oxford University press: New York, 1st edition, 2007.
– Jacquette, Dale, Alexius Meinong: the shepherd of non-being, Springer International Publishing: Switzerland, 1st edition, 2015.
– Miller, Alexander, Philosophy of Language, Routledge Editions: New York and London, 2nd edition, 2008.
– Prebram-Day, Ivory: Meinong’s multifarious Being and Russell’s Ontological variable: Being in two object theories across traditions at the turn of the 20th century, in Open Philosophy, Poland: De Gruyter, 2018, Vol. 1, issue 1, p. 310 – 326.
– Russell, Bertrand, Logic and Knowledge, essays 1905 – 1950, Spokesman: England, 2007.
– Smith, Janet Farrell: The Russell-Meinong debate, in Philosophy and Phenomenological Research, United States: International Phenomenological Society, 1985, Vol. 45, No. 3, p. 305 – 350.
– Swanson, Carolyn, Reburials of nonexistent: Reconsidering the Minong-Russell debate, Radopi: New York, 1st edition, 2011.
– Zahavi, Dan, Phenomenology the basics, Routledge Editions: New York and London, 1st edition, 2019.
[1] عرّبت مصطلح (Bestand) الألمانيّ بلفظة انوجاد، وهي مصدر مزيد الفعل المجرّد الثّلاثيّ «وَجَدَ» على وزن انفعل (انفعال). وتفيد دلالة الزّيادة إلى مطاوعة المفعول لفعل الفاعل، فيقرب المعنى الصّرفيّ من معنى اللّفظة الأصليّ، وهو الوجود غير المستقلّ في الواقع، أي ليس وجودًا قائمًا بذاته وبقطع النّظر عن الذّات. وعلى الرَّغم من عثوري على هذا المصطلح في أحد المراجع العربيّة معرّبًا بلفظة «كيان»، ارتأيت أنّ هذا التّعريب لا يجوز لأنّ الكلمة قد تلتبس مع لفظة (Entity) أو كينونةً (Being).
[2] يرى برنتانو أنّ المرء يستطيع أنْ يتوجّه قصديًّا إلى شيءٍ واحدٍ بطرقٍ مختلفةٍ، في حين أنّ ماينونغ قال بتعدّد الأشياء تبعًا للرّغبة، والحكم، والشّعور، والتّمثيل، أي بحسب الفعل الذّهنيّ.
[3] مصدر مزيد الفعل المجرّد الثّلاثيّ «شيء» على وزن تَفَعَّلَ (تَفَعُّل)، ويدلّ على الاتّخاذ: تَشَيّأَ الشّيءُ أي اتّخذ شيئًا، وتحديدًا كان له شيئًا.
[4] يستعمل ماينونغ لفظة (Gegenstand) الألمانيّة للإشارة إلى الأشياء بمعنى عامّ (أي الأنواع الأربعة كلّها)، في حين أنّه يستعمل لفظة (Objekt)، وهي من الأصل اللاّتينيّ، للإشارة إلى الأشياء بمعنى خاصّ (أي إلى نوعٍ معيّنٍ من الأشياء)، ويترجمها البعض إلى الانكليزيّة بمصطلح (Objectum / Objecta) ويبقي لفظة (Object) للمعنى العامّ. لذا فضّلت استخدام لفظة «شيئاء» العربيّة – وهي أصل كلمة أشياء على وزن فعلاء قبل قَلْبِها إلى وزن لفعاء (أي قبل أنْ تصبح أشياء) – للإشارة إلى هذا النّوع المحدّد من الأشياء، أي (Objekt / Objekta) المرتبط بتمثيل الأفراد والكائنات غير الموجودة.
[5] أبو الفتح الإسكندريّ بطل المقامات، وهو الشّخصيّة الرّئيسة في قصص بديع الزّمان الهمذاني، وقد عُرِفَت هذه الشّخصيّة بمكرها، وخداعها، وفكاهيّتها.
[6] أسّس هذه المدرسة «أقليدس الميغاريّ» (Euclides of Megara) وهو أحد تلاميذ سقراط. لعبت هذه المدرسة دورًا هامًّا في تطوّر المنطق، ومن أبرز أعلامها «أوبوليدس الملطيّ» (Euboulides of Miletus) صاحب «مفارقة الكومة».