ترجمة: شوق العنزي – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
فانيسا وفيرجينيا مقربتان فنيًّا، خصومة في حالة حبّ. هل يمكن تجاوز الحسد البدائيّ بين الإخوة؟
أنظر إلى الصورة وأرى أختين اشتهرتا منذ سنيّ الطفولة. امتازت صورهن بجودة التصوير الفوتوغرافي المعروفة في القرن التاسع عشر. تبدو إحداهن حزينة ذات ملامح جادة لها شعر داكن مثل عينيها. أمّا في الجانب الآخر تنظر الأخرى إلى أعلى نحو الضوء، يحيط محياها هالة كما زهرة اللبلاب. وكما يظهر تبدو الفتاة الأولى رافضةً للتصوير، بينما الأخرى هادئة، واثقة، متقبلة للأمر. تعود الصورة لفانيسا وفيرجينيا ستيفن، والصور موجودة في السيرة الذاتية المزدوجة لوالدتهن، بعنوان: (فيرجينيا وولف وفانيسا بيل: مؤامرة سِريّة جدًا)، لمؤلفتها: جين دان، 1990. Jane dunn.
على الرغم من اختلافاتهما المذهلة، فإنهما تظهران كصور معكوسة على جوانب صفحات متقابلة، حيث تنطوي الصورة لتتقابل وجناتهما عندما أُغلق الكتاب. جنبًا إلى جنب، انعكاس، تشابه. غالبًا ما ترتبط هذه الكلمات برابطة الأخوة. في مواجهة شقيقك، تكون قريبًا من نفسك أكثر من أيّ وقت آخر. لم يفصل بينهن سوى بضع سنوات فقط، مع الميراث العائلي نفسه، جمعتهن أطول علاقة في حياتهن. تتمتع الأخوات بالقدرة على لمس عصب حسي في بعضهن بعضًا، من أجل المتعة بقدر ما هو من أجل الألم: «الأخوات هن من ينسجن أكثر الشبكات تعقيدًا من الحبّ والولاء، والضغينة والأذى»، كما كتبت والدتي في مقدمة كتاب: (دافني دو مورييه وأخواتها) (2013). إذ بصفتها الأكبر من بين سِت أخوات، أحبَّت الكتابة عن العلاقات الأخويَّة.
مثل المغناطيس، تقترب الأخوات تارة وتتنافر تارة. لكن لماذا هذا الشعور ذو الوجهين؟ لا بد أن يكون هذا مختلفًا في مواجهة التشابه الصارخ. وماذا عن التنافس النسائي؟ ما مدى ارتباط الحبّ بالحسد والغيرة؟ لعلَّ تسليط الضوء على العلاقة الأخويَّة الاستثنائية بين الرسامة فانيسا بيل، وشقيقتها الصغرى المؤلفة فيرجينيا وولف؛ لِفَهْم تقاربهم، بالإضافة إلى استراتيجياتهما للحفاظ على العزلة والفردانية.
كانت فانيسا، البالغة من العُمر ثلاث سنوات، قد عاشت الحياة دون شقيقتها، بينما رأت فيرجينيا الحياة مع فانيسا إلى جانبها. استشعرت الأخت الكبرى التغيرات التي طرأت مع قدوم فيرجينيا، لعلَّ أبرزها ظهور المقارنة بين الأطفال لدى البالغين. فقد كتبت في يومياتها المبكرة عن مدى سهولة الحياة لو أنها بقيت طفلة وحيدة.
لا أحد يقول أبدًا كم هي لطيفة فيرجينيا أو كم هي جميلة فانيسا، لكن فيرجينيا دائمًا أجمل من فانيسا وفانيسا أجمل من فيرجينيا. إنه أمر لا مفر منه، والمقارنات هي أسهل أشكال النقد، ولا شك، بيد أنها تخلق شِقاقًا قد يستمر إلى الأبد.
وفانيسا مُحقة؛ هذه هي البذرة التي شكَّلت ملامح طفولتهن.
كانت فيرجينيا على قدرٍ من الجمال والذكاء، فُتن بها الكبار. وفانيسا أيضًا كانت مفتونة بأختها، لذا رأت بوضوح كم كانت تسلب الألباب. بيد أنه وبخضّم تألق أختها الصغرى، لم تزدهر فانيسا، واستشعرت خروجها من دائرة اهتمام البالغين. ومن ثمّ سرعان ما تعلَّمت الانسحاب من العوالم اللفظية والفكرية، حيث حكمت فيرجينيا. لم تقحم ذاتها بمنافسة غير متكافئة، وبدلاً من ذلك، طورت العناصر العملية، وما ورثته عن والدتها في شخصيتها، وتعلَّمت حماية فنّها سِراً. أحبَّت فيرجينيا هذه الصفات في أختها الكبرى، كان إعجابها بفانيسا يقترب من الشغف وفي بعض الأحيان الهوس. منذ وقت مبكر، كانت الرابطة الأخويَّة مثبطة وملهمة في الوقت ذاته.
تقبّلت فيرجينيا شغفها بأختها الكبرى، وأصبحت أكثر حدة بعد وفاة والدتهما في صغرهما، تلا ذلك وفاة أختهما غير الشقيقة التي كانت قد تبنَّت دور الأم. أحبَّت فيرجينيا تذكير أختها الكبرى بأنها «المولود الأول» لفانيسا دائمًا.
كان على الشقيقتين معًا الدفاع عن نفسيهما لدى أبٍ من العصر الفيكتوري، يعتقد أنّ دور المرأة معززًا ومكملًا لدور الأبّ ثم الزوج؛ كما توجب عليهما إخفاء ذكاء المرأة وقوة حجتها. فبعد حرمانهما من المدرسة، كان من المتوقع أن يتعلّما الموسيقى والرقص وكيفية إدارة طاولة الشاي. كان إدراك فيرجينيا للأدب ذاتيًا تمامًا، فقد أمضت أيامها بحرية في مكتبة والدها، لكن كان عليها انتظار عودة شقيقها جوليان (المعروف باسم توبي) من المدرسة، ثم الجامعة، لاستخلاص ما في وسعها من تعلّمه للكلاسيكيات، فقد شغفت بها. كانت هذه اللمحة عمّا يقدمه التعليم الرسمي لأبناء الطبقات الوسطى والعليا، بداية بغضبٍ استمر مدى الحياة، مما حُرمت منه بنات جنسها. كتبت فيرجينيا في كتابها المعروف: (غرفة تخصّ المرء وحده)، عام 1929: «لقد خدمت النساء كل هذه القرون فقط لتعكس شخصية الرجل بضعف حجمها الطبيعي، وتسبغ عليه صفات القوة والذكاء».
كان لدى كل منهن المال الذي يحول دون الزواج، لذا حقَّقن (غرفة تخصّ المرء وحده).
الشقيقتان كانتا تحرسان مصالحهن واستقلالهن بشدة، وشكَّلتا معًا نواة خاصة بهما: «كان لدينا تحالف متماسك جدًا للحد الذي جعلنا نرى من نفس الزاوية، كتبت فيرجينيا: “واتخذت شكلها من وجهة نظرنا الخاصة”. عندما ظهرن إلى العالم، غشاهن الجمال الفيكتوري لذوي الطبقة العليا، وغالبًا ما كان يُنظر إليهن ككيان واحد. بالنسبة للجمهور الذي يغلب عليه الذكور من “أصدقاء أشقائهما في كامبريدج”، اعتبرن جميلات وهادئات فيما يبقين مسافة بينهن وبين الذكور. و”لم تزدهن رابطة الأخوة الداعمة للعزلة سوى قوة محفوفة بالمخاطر، حيث تمّ تهميشها حسب العرف الاجتماعي لكونها؛ لـ”جنسٍ آخر”، وهي حالة مشكوك فيها، اكتشفتها سيمون دي بوفوار لاحقًا في كتابها: (الجنس الآخر)، عام 1949».
بيد أنهن حظين بفترةٍ قصيرة من الحرية الكاملة بعد وفاة والدهما، عندما انتقلت الأختان وشقيقاهما الأعزبان، معًا إلى ميدان جوردون، وهو منزل جورجي مستقل، متجدد الهواء في بلومزبري، بالقرب من المتحف البريطاني في لندن. حينها تسنَّى لهن أن يكن على طبيعتهن أخيرًا، بعيدًا عن اللياقة الفيكتورية وأعين الأقارب. كان لدى كل منهما ما يكفي من المال للبقاء دون زواج، وقد أنشأت كل منهن في الواقع «غرفة تخصّ المرء وحده»: فانيسا للرسم، وفرجينيا للكتابة. وعلى الفور، أصبح منزلهن مركزًا لأصدقاء كامبريدج، الذين اجتمعوا لمناقشة الأدب والفن. كان انتقالهن نقطة تحول؛ الأمر الذي جعلهن القلب النابض لمجموعة بلومزبري.
لقد وجد الرجال المهمّون في حياة الأخوات قابلية للتبديل بشكلٍ غريب؛ عندما التقى كلايف بيل لأول مرة بفيرجينيا وفانيسا، انجذب إليهما، وعلى الرغم من أنه وجد فيرجينيا أكثر جاذبية، إلا أنه تزوج من فانيسا. أما ليونارد، الذي كان سيتزوج من فيرجينيا، فقد كتب في مذكراته عندما رأى الشقيقتين لأول مرة: «كان من المستحيل تقريبًا ألا يقع الرجل في حبّهما، وأعتقد أنني فعلت ذلك في الحال». انجذب لأول مرة إلى فانيسا، ولكن عندما قبلت الزواج من كلايف، حوّل ليونارد انتباهه إلى فيرجينيا. وحتى ليتون ستراشي المثليّ بشكلٍ لا لَبس فيه تخيّل نفسه متزوجًا من كليهما.
ومع ذلك، رأت الأخوات أنفسهن في بعضهن البعض أيضًا. عاشت كل منهما بشكلٍ غير مباشر من خلال الأخرى. لذا وفي ضوء ذلك، يُقرأ وصف فرجينيا لعلاقة إليزابيث باريت براوننج بكلبها فلاش، كاستعارة لرابطة الأخوات، كان هناك تشابه بينهما. بينما كُنَّ يحدِّقْنَ في بعضهن البعض، قلن لذواتهن: «ها أنا ذا»، ثمّ شعرت كل منهن: «لكن كم هو مختلف، مكسور، لكنه مصنوع بنفس القالب»، هل يمكن أن تكمل كل منهما ما كان خامدًا في الأخرى؟
بيد أن صور المرآة يمكن أن تشوّه. حيث شعرت فرجينيا بالغيرة عندما كسرت فانيسا الرابطة المقدَّسة للأخوة بالزواج فجأة، ازدهرت فانيسا ككائن جنسي، وبدا أنها تعيش في عالمٍ لا يمكن الوصول إليه. في البداية، قاومت فانيسا جميع مقترحات كلايف، لكن الموت المفاجئ لأخيهم المحبوب توبي بداء التيفود، عام 1906؛ دفعها إلى أحضان كلايف. بالنسبة لفيرجينيا، كانت الخسارة ثلاثة أضعاف، شقيقٌ، ثمّ شقيقة، وكلايف أيضًا، أحد الأصدقاء المقربين؛ لذا كتبت بشكلٍ مؤثر إلى صهرها: «لدى فانيسا كل ما أرغب بالحصول عليه».
أعرف هذه التبعية الأخويَّة، وكيف تعكس النسوة القريبات منَّا ذواتنا، وكيف يؤدي التماهي معهن إلى المقارنة. بعد أن نشأت على يد والدتي، مع كتيبة من أخواتها، كنت مستعدة للأخوة، لكن لم أحظ بأخت، لذا انطلقت أبحث عنها، وهناك وجدت (أسترا) في عامنا الثالث في الجامعة. علاقة فاجأتني بمدى سرعة تحوّلها من الإعجاب إلى التنافس، فقد حرّفتها عن مسارها الصحيح لعنة الحسد.
في ظاهر الأمر، كنَّا مختلفتين تمامًا: كانت من يورك، أول امرأة في عائلتها تذهب إلى الجامعة. كانت جميلة جدًا، ولديها ما يميزها عن الآخرين، كانت أسنانها الأمامية مزيفة فقد تعرضت في طفولتها لحادثٍ في حمّام سباحة. كان شعرها الداكن قصيرًا وفوضويًا، على النقيض مني. كانت صريحة فيما كنت هادئة. ومع ذلك، كان لدينا وعي مشترك، تحدثنا اللغة ذاتها، وفي غياب الأخت، شعرت بقوة ما يربطني بها.
أثار إحساسنا بالوحدة إعجابي. مثل فيرجينيا وفانيسا، أكملنا بعضنا البعض، كنت أزداد إعجاباً بها في كل لقاء. فقد كانت مثالًا للشابة التي أردت أن أكونها ذات يوم.
بدا أنّ بريقها يمنعني من إثبات نفسي، كما لو لم يكن هناك مساحة كافية لنا على حدٍِ سواء.
أدرك المحلل النفسي والفيلسوف جاك لاكان أن مرحلة المرآة أساسية للتنمية البشرية، إنها تلك اللحظة التي تتعرّف فيها الطفلة، في حوالي ستة أشهر، على نفسها في تفكيرها وتدرك أنها فرد وليست مجرد كتلة عائمة من الغريزة والرغبة، ما يزال وعيها مغمورًا في تيار والدتها. ترى نفسها ككائن من بين أشياء أخرى: الألعاب على الأرض، والزجاجة، والسرير. ووفقًا لجاك، طوال حياة الشخص، يمكن أن يكون هذا التجسيد تغرّبًا عن الذات، مما يخلق مشاعر مختلطة تتأرجح بين الحبّ والحسد، بين الرغبة في أن تكون تلك الصورة، والخوف من أنها بعيدة المنال. ويزداد الأمر تعقيدًا بسبب الانعكاس في الخلف. في مواجهة نفسها في المرآة، ترى المرأة لا بعينيها فحسب، بل بعيون العالم أيضًا. إذا أردنا الوقوف إلى جانب أطروحة سيمون دي بوفوار، فإن تجربة المرأة ثقافيًا عن ذاتها مشوّهة من خلال منظور الذكور، أو ما تعتقد النساء أنه رغبة ذكوريَّة. كما تذكرنا: «المرء لا يُولد، بل يُصبح امرأة».
بادئ ذي بدء، كانت أسترا نجمتي القطبية، ولكن مع الإعجاب ظهر الحسد؛ بسبب الصفات التي تمنيت أن أجدها في نفسي. يمكنني التعايش مع هذا الشعور اللئيم إذا رحت أذكر ذاتي بما كنت أطمح إليه من خلالها. لكن الغيرة هي الخوف من فقدان شيء لديك. إنها كليشيهات مخيبة للآمال، والرجال هم من جعلوني أدرك ذلك. عندما التقينا بشابين، زملاء قدامى كانوا يتشاركون شقة بريكستون، وبدأنا في مواعدتهم، في تلك اللحظة تبلورت الرغبة في التنافس. وجّهت تركيزي نحو جمالها، والطريقة التي ترتدي بها الكتَّان الأبيض النظيف الذي يظهر سمرتها، واللمعان في خديها، كيف تألَّقت، كيف ارتقت إلى مستوى اسمها. كل مَن يقابلها يعلّق على جمالها. ظللت أكرر لنفسي مرارًا وتكرارًا، أردت أن أكون سعيدةً من أجلها. إنها صديقتي وبمثابة شقيقتي. لكن في كل مرة يتراءى لي أنّ بريقها يمنعني من إثبات نفسي.
إذا كنت أحبك، كما اعتقدت، فمن المؤكد أن الجميع سيحبونك أيضًا، مما أدى إلى قناعة مؤلمة بأن صديقي رأى ما رأيته، وأنه أيضًا كان يحبها. وإذا أفسد حسدي حبّي وإعجابي، فإن خوفي من فقدان شريكي أثار غيرتي. ما زلت أخجل من الاعتراف بكل هذا، لأن أسترا لم تفعل شيئًا يستفز تلك المشاعر بل أنا من فعلت. شعرت بعجزي على المنافسة، لكن على عكس فانيسا بيل لم أجد مجالاً أتميز به. بدلاً من ذلك، أصبحت ظلًا لذاتي السابقة، غير قادرة على الوقوف جنبًا إلى جنب مع الشخص الذي أردت أن أتحالف معه، نحن ضد العالم.
ساهم الموضوع ذاته في إشعال نار الغيرة بين فانيسا وفيرجينيا. فعلى الرغم من إثارة اكتشاف نفسها في الجنس والزواج والأمومة، مرَّت فانيسا بلحظاتٍ من اليأس العميق. لم يعد لديها الحرية، والوقت للرسم، وافتقدت أختها. كانت بالفعل وحيدة في دورها الجديد عندما قام كل من فيرجينيا وكلايف بمغازلةٍ فكريَّة. أهمّ شخصين في حياتها كانا في تحالفٍ استبعدها. كانت هذه الخيانة أكثر إيلامًا لفانيسا، لأنها أعجبت بفيرجينيا بقدر إعجابها بكلايف. كانت رسائلها في هذا الوقت مليئة بحاجتها إلى عاطفة فيرجينيا وطمأنتها. في منتصف العمر، تذكرت نقاشًا مع الفنانة دنكان جرانت، عندما اقترحت أن شدة العاطفة تتعلّق مباشرة بتقييم المرء للشخص الذي يثير غيرته. كانت فيرجينيا مثالًا لشخصٍ كانت تشعر بالغيرة منه، لكن في الوقت ذاته، أعجبت بها أكثر من أيّ امرأة تعرفها.
وماذا عن (كلايف)؟ مثل الكثير من الرجال، غمرته مطالب طفله الجديد مع فانيسا. لكن ماذا لو كانت مغازلته لفيرجينيا هي أيضًا طريقته في كسر رابطة الأخوة؟ «ما أفضل حلّ لإضعاف تضامنهم، من استمالة كليهما وإقامة منافسة جنسية، وإن كانت سِريَّة، أخت واحدة ضد الأخرى؟»، كما تقول والدتي. مع اكتشاف فانيسا لعاطفة الأمومة، عانت فيرجينيا وكلايف من الشعور بالنفي منها. انزعجت فيرجينيا من كونها لم تعد «المولود الأول» لفانيسا، ولكن بدلاً من الاعتراف بظروفهم المتغيرة، خانت فيرجينيا الشخص الذي أحبته أكثر. لطالما تمحورت المغازلة عن فانيسا، لم تكن أبدًا عن كلايف. فمن خلال اتصالهم، كانت فيرجينيا تأمل في الوصول ولمس فانيسا مرة أخرى.
بالنظر إلى صداقتي مع أسترا، أتذكر أنني كنت أتساءل لماذا لم نتمكن من التألّق معًا: لماذا تقلل قوة إحدى النساء من قوة الأخرى؟ لماذا عندما دخل الرجال إلى الإطار، تحوّل قربنا إلى منافسة؟ إنه شعور مبتذل الآن (العلاقة المثلثة) ثمَّة رجل في المركز. لكن تقليديًّا، الرجل هو الذي يمنح المرأة تقديرها لذاتها. هل كنت أعيش هذا الإرث؟ هل كانت غيرتي مرتبطة بإعجابي بصديقي، خوف من أعماق اللاوعي من أن فقدان حبّه كان أيضًا فقدانًا لسبب العيش؟
ربما نحتاج إلى العودة للعصور القديمة من أجل المنظور. القصة اليهودية عن ليا وأختها، هي قصة رمزيَّة مبكرة لهذا الثالوث الديناميكي. فليست أخوّة ليا وراحيل فحسب، بل كلتاهما متزوجتان من الرجل نفسه، يعقوب، ويعتقدان أن قيمتهما الروحية وتقدمهما نحو الربّ، يعتمدان على عدد الأبناء الذين يمكنهما إنجابهما له. من المهم في قصة الكتاب المقدس أن تختلف الأخوات: «ليا كانت حنونة، لكن راحيل كانت جميلة ومفضَّلة جدًا». لطالما أحبَّ يعقوب راحيل أكثر من ليا؛ في الأصل، كان يريد الزواج منها، لكن والد الأخوات خدعه للزواج من ليا أولاً، لأنها كانت الأكبر. لم تكن ليا سعيدة بالزواج، لأنها كانت تعلم أنها لن تقصي راحيل أبدًا باعتبارها المفضَّلة لدى يعقوب. أشفق الربّ عليها لكونها غير محبوبة، وباركها بالخصوبة. أنجبت سبعة أطفال ليعقوب، ستة أبناء وابنة واحدة، بينما اكتشفت راحيل أنها عقيم ولا تستطيع الإنجاب. بعد سنوات عديدة فقط، أشفق الله على راحيل (التي لعن رحمها لمعاقبة يعقوب)، و «سمح لها» بإنجاب ولدين. اختلفت الأمور حينئذ، فطغى الحسد على راحيل. على الرغم من كونها الزوجة الجميلة المختارة، غير أن الربّ لم يسمح لها بالحصول على كل شيء.
نصفان من الكلّ، السيدة العذراء والعاهرة، تُرى هويّاتهما من منظورٍ ذكوريّ فقط.
في حُلم دانتي الثالث والأخير في بورغاتوريو، والذي يحدث مثل الآخرين قبل الفجر بقليل (الوقت الأكثر يقظة للواقع الأساسي في شكلٍ رمزي)، حلم دانتي بهؤلاء الأخوات التوراتية. في حلمه، ليا هي الأكثر نشاطًا بين الاثنين، «تفعل» دائمًا، تجمع الزهور، وتشارك في الفنون العملية، وتنسج إكليلًا، وفي الوقت نفسه، تمثّل راحيل «الرؤية» الأكثر تأملاً. يجادل الباحث في دانتي أندرو فريزاردي بأن هؤلاء الأخوات معًا هن الرؤية المثالية للحياة النشطة والتأملية اللازمة لاستعادة الجنة.
في حلم دانتي، يمكن اعتبار راحيل وليا مجتمعتين شخصيات للإتقان الفني، حيث تشكّل الشخصيتان الأنثويتان دورة مستمرة بين التأمل والعمل والمعرفة والصنع. توضح لنا القصة أن هذه الصفات ليست كافية في حد ذاتها، ولكنها مجتمعة يمكنها تحقيق أيّ شيء. من خلال مقارنة أنفسهم مع بعضهم البعض، سلَّطت راحيل وليا الضوء فقط على ما يفتقر إليه الآخر، مما أثار الرغبة فيما يمتلكه الآخر، الشيء نفسه الذي من شأنه أن يجعلهم مكتملين، طبيعة راحيل التأملية مع إبداع ليا النشط.
أتذكر هنا سيلفيا بلاث وآسيا ويفيل، ليس الأخوات، ولا حتى الأصدقاء، ولكن في علاقة كانت خانقة ومدمرة منذ البداية، عندما ركزت عين آسيا الحاسدة بحدة على سيلفيا كمنافسة كانت تتوق إلى موهبتها الشِّعرية وشهرتها. بدأ الدافع الاستحواذي لآسيا بلا مبالاة، مع تفاخر لزملائها بأنها ستغوي زوج سيلفيا، الشاعر تيد هيوز. في ذلك الوقت، كانت آسيا وزوجها يستأجران شقة هيوز لندن في بريمروز هيل. لم يمض وقت طويل قبل أن تفي آسيا بوعدها. عندما اكتشفت سيلفيا علاقة تيد مع آسيا في يوليو 1962، خرجت، وأخذت طفليهما الصغيرين معها، واستأجرت شقة في المدينة، حيث كتبت نوعًا من الغضب المجنون على الأقل 26 قصيدة، نُشرت بعد وفاتها عام (1965). ظلَّت ترزح تحت وطأة الاكتئاب المستمر، رغم مواصلتها كتابة روايتها الوحيدة، بيد أن لا الفن ولا الطب تمكّن من إنقاذها من ذاتها، إذ وبعد شهر من نشر روايتها: (الناقوس الزجاجي)، انتحرت في يناير عام 1963
بعد وفاة سيلفيا، واصلت آسيا علاقتها المتأرجحة مع الشاعر الحزين، حيث عاشت معه في شقة سيلفيا، التي أطلقت عليها اسم «بيت الأشباح»، ونامت في سريرها واعتنت بأطفالها. لم تستطع الهروب مما فعلته، تحوّلت إلى ظل امرأة، أخذت حياتها وروحها أبعادًا قُدسيَّة بعد وفاتها. وفي نوع من التماثل الرهيب، ماتت أيضًا منتحرة، بالطريقة ذاتها؛ إذ سمَّمت نفسها بإمدادات الغاز المنزلية. ولكن على عكس سيلفيا، أخذت آسيا شورى، ابنتها، وتيد البالغة من العمر أربع سنوات، معها. ربما، كما هو الحال مع تعدي فيرجينيا على زواج أختها، كان حسد آسيا يتعلّق بسيلفيا أكثر من تيد. كانت آسيا كاتبة، بعد كل شيء، لكنها كاتبة إعلانات ذات طموحات أدبية. لم تستطع التنافس مع سيلفيا في هذا العالَم المخلخل؛ لذا حاولت سلب سيلفيا ما لديها.
عندما تتكشف هذه المأساة، تصوّرها الصحافة على أنها المأساة المثالية، علاقة الحبّ المثلثة، امرأتان في حالة حبّ قاتلة مع رجل واحد، والمجاز القديم للغيرة الأنثوية وأولوية الذكر. تضاءلت الصور النمطية التي هرولت إليها كلٌّ من النساء، الأم وربَّة المنزل العصابية (كانت عبقرية سيلفيا بلاث الشِّعرية مصدر إزعاج لهذا الخيال)، فقد أسقطتها امرأة أخرى مُغرية ومكروهة. نصفان من الكل، السيدة العذراء والعاهرة، شوهدت هويّاتهم وفق منظور ذكوريّ فقط.
الحسد والغيرة مشاعر معقدة، وهما جزء من قلب الإنسان. كتب المحلل النفسي ألفريد أدلر: «كلما زاد الشعور بالدونية؛ زادت قوة الرغبة في الإخضاع، وكان التحريض العاطفي أكثر عنفًا». جميعنا مدفوعون بالحاجة إلى الشعور بالتفوق، بغض النظر عن نجاحنا أو مكانتنا. إن الشعور بهذه المشاعر شيء، والتصرف بها شيء آخر. في معظم الأوقات، تمثّل رابطة الأخوة الرغبات المعكوسة لكل أخت بسهولة وراحة داخل ذاتها: كان الاعتماد المتبادل والاكتفاء الذاتي بين فيرجينيا وفانيسا قويًا، لدرجة أنه أزعج أولئك المقربين منهم. وبالمثل، عندما كانت الأمور جيدة بيني وبين أسترا، لم نكن نرغب في شيء أكثر من ذلك. فقط عندما يختل التوازن يشتعل الحسد والتنافس. على الأقل، كانت فانيسا بيل وفيرجينيا وولف غريزيتين بما يكفي لتقسيم العالم بينهما: الفن والأدب، الحسي والمثقف. قالت فيرجينيا لفانيسا كدعابة ساخرة: «لديك أطفال، أمَّا الشُهرة – من خلال الحقوق – فهي ملك لي».
إن لازمة «إنها تشعر بالغيرة فقط»، والتي غالبًا ما تُستخدم لوصف السلوك الحاقد أو القاسي بين الفتيات أو النساء، وغالبًا ما يَكُنَّ صديقات، قد أكل الدهر عليها وشرب. إنها مأساة نسويَّة من المتوقع أن تنحرف علاقات المرأة بالحسد والمنافسة، مما يقوض التضامن القوي والداعم الذي تقدّره معظم النساء.
كنت وأسترا محظوظتين، فبعد المرحلة الأولية من انعدام الأمن التي وصفتها، تجاوزنا الألم، وتمكنت من التفكير فيما دفعني إلى مثل هذه الأفكار المدمرة. في أوائل العشرينات من عمري، شعرت بأنني مضطرة لأن أكون أفضل شخص يمكن أن أصل إليه، وكانت أسترا مرآتي، النسخة ذات الشعر الداكن، والعينان الزرقاوان كزرقة البحر، النسخة البرَّاقة مني، في هذا الوقت، شعرت بذاتي وبقدرتي على التصرف على طبيعتي. مهما كانت هذه المرحلة مؤلمة، فقد جعلتني على اتصالٍ بذاتي. نعم، كنت أخشى فقدان صديقتي، لكن الأهم من ذلك أنني كنت أخشى فقدان أسترا أو ما تمثّله لي. نسخة أفضل من نفسي، غير متأثرة بالمعايير والضغوطات المجتمعية، شخص تتأتى قوته من الداخل. اليوم نمزح حول هذا الموضوع، الذي أصبح أسهل من خلال اعترافها أنه يؤلمها أن تكون محور مشاعري الصغيرة واللئيمة. شعرت بالألم لفقدان ثقتها.
إذن، ماذا لو اعتبرنا الحسد ليس مخزيًا وسلبيًا، وليس صغيرًا ولئيمًا، ولكنه واسع النطاق، مثل الغيرة، عاطفة تساعدنا على الاتصال برغباتنا؟ فقط عندما يتم دفنه تحت الأرض في خجلٍ يمكن أن يسبب الحسد مثل هذا الخراب.
يأتي الحبّ قبل الحسد، بعبارةٍ أخرى، يأتي مع الحبّ الامتنان.
تدرس المحللة النفسية ميلاني كلاين في مقالها: «الحسد والامتنان» (1957)، تأثير الحسد على تطوير قدرتنا على الامتنان والسعادة. وفقًا لها، ينبع الحسد من المرحلة ما قبل اللفظية من تطورنا، الرابطة الأولى مع الأم، وقلقنا من فقدانها. تربطه بشكلٍ وثيق بالثدي الذي يعاني منه الطفل على أنه جيد وسيء. جيد، من حيث إنه يجعل نفسه متاحًا لاحتياجات الطفل، سيئ عندما يؤخذ بعيدًا. مثل الجنة المفقودة، يدرك الطفل بشكلٍ مؤلم أن الثدي يعود للأم، التي تتصرّف به وفق رغبتها.
الحسد في المرحلة ما قبل اللفظية يتعلّق أيضًا بالبقاء على قيد الحياة. الثدي أو الزجاجة هو المصدر الأول للتغذية، سواء الراحة أو الطعام، ومن ثم كتبت ميلاني كلاين «للحياة نفسها». يمكن أن يبدو خطر أخذه بعيدًا، بالنسبة للطفل، وكأنه خطر الموت. في الحرمان الشديد، إنها مسألة حياة أو موت. ثم تصبح المتعة مليئة بالقلق. لتلخيصها بمصطلحاتٍ خاصة بها، يحسد الطفل الثدي، لكن ما يحسده حقًا هو قوته.
وفقًا للمحللة، فإن قدرتنا على الحبّ في أقوى حالاتها في تلك اللحظة من الاندماج مع والدتنا، ويأتي ذلك قبل أن ندرك أنه يمكن أخذ الثدي بعيدًا. بعبارةٍ أخرى، يأتي الحبّ قبل الحسد، ويأتي مع الحبّ الامتنان. إذا تمكنَّا من إعادة اكتشاف نقاء هذا الحبّ المبكر مع أم «جيدة بما فيه الكفاية»؛ فيمكننا احتضان قوة الأخت أو الصديق المقرب كمعزز لذواتنا.
في منتصف العمر، عندما كانت فانيسا في حالة ذهول من وفاة ابنها المحبوب جوليان في الحرب الأهلية الإسبانية، تركت فيرجينيا كل شيء واندفعت لتقف إلى جانبها. كانت فرصتها لمداواة جروح خيانتها السابقة، وتولي دور الرعاية الذي كان دائمًا دور فانيسا. قرأت والدتي مقتطفًا من كتابها لي: «كانت فيرجينا حاضرة مع أختها في معظم الأيام، وفي الأيام التي لم تكن معها، كتبت سلسلة من الرسائل الحنونة للغاية. لقد أدت هذه المأساة إلى تحييد الاستياء والتنافس بينهما، واستدعت قوة حبّ دام أكثر من نصف قرن».
تهدج صوت والدتي ولمعت الدموع بعينيها، شعرت لحظتها كيف لمست الكلمات العصب الذي جعلها مرتبطة بأخواتها طيلة هذه السنوات، وتابعت: «تذكرت فيرجينيا أيام حضانة شقيقتها لها، واستخدمت مرة أخرى لقب (فانيسا)، الذي كانت تستخدمه عندما كانوا يحيكون مؤامرة سِريَّة ضد العالم، كتبت فيرجينيا من منزلها: “بعد ذلك كنت دائمًا أحبّها منذ أن كنت طفلة ذات عيون خضراء تحت طاولة الحضانة، وسأظل أحبّها حتى سِن الشيخوخة”».
لأنّ الآباء يموتون، وقد يأتي الأزواج والعشَّاق ويذهبون، لكن الأخوات يستمرون إلى الأبد.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.