في السَّحَر ظهر قمرٌ نزل من فلكه واختطفني كما يفعل الصقر ويطير بها حيث شاء…
جلال الدين الرومي
حين يطّلع الواحد منا على الشعر الجاهلي لا يجد أثرًا لغير الجواد والناقة باعتبارهما رفقة خاصة تفوق بكثير الناقل والحامل والعابر البسيط، لكي تغدو بشكل خاص رفيقًا وجوديًا. الجواد كما الناقة مطيّة، أغدق عليها الشاعر الجاهلي (والكل كان شاعرًا في الجاهلية) ما جعلها وسيلة لسبر أغوار الآفاق البعيدة. وليس من قبيل الصدفة أن يكون معجم الفرَس ومعجم الناقة أغنى بكثير من معجم الجسم البشري. فهذا الاهتمام لم يكن فقط عاطفيًا، إذ أن الرجل منهم كان يحس بوطأة الصحراء وشساعتها بحيث إنه من غير مطية لا يكون فقط مُعرَّضًا فحسب لأهوالها ومخاطرها وإنما لتلك الرفقة التي تجعله يجذِّر وجوده في الواقع. بل ليس من قبيل الأسطورة أن بعضهم كان يدفن معه ناقته أو هو يوصي بذلك في الجاهلية كي تكون مطية له لاختراق آفاق الغيب كي تبلغ به إلى سماء أخرى تجد فيها روحه سكينتها الأبدية.
إن هذا المتخيل بالضبط هو ما سوف يتبلور في السيرة النبوية بشكل يتخذ صبغة خارقة تربط بين الأرضي والسماوي وبين البطحاء والتسامي. فالإسراء والمعراج النبوي يتم على حصان مجنّح، لا لأن الجناحين فقط رمز للصعود والتسامي ومعانقة سعة السماء، ولكن أيضًا لأن الحصان ذا الأجنحة كان معروفًا في الثقافات المجاورة لبلاد الإسلام في بداياته. ولا أدلّ على ذلك من الحديث الذي ترويه عائشة عن أن النبي (صلى الله عليه وسلّم) دخل عليها يومًا فوجد بالبيت قماشًا به خيول مجنحّة جعلت منه ستارًا. فعمد إلى تمزيقه. فصنعت منه نمرقتين (وسادتين). وختمت عائشة الحديث بكونها رأته يتوسّدهما ويتكئ عليهما.
ولعلّ الاهتمام بالصقر جاء أيضًا للموازنة الاجتماعية والمتخيلة بين الأرضي والسماوي وبين الأفقي والعمودي، كما بين التعالي والعمق.
تحديدات ورمزيات…
جاء في حياة الحيوان الكبرى للدميري في تعريف الصقر، بأنه: “ﺍﻟﻄﺎﺋﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳُﺼﺎﺩ ﺑﻪ، قاله الجواهري. ﻭﻗﺎﻝ ﺍﺑﻦ سيده: ﺍﻟﺼﻘﺮ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻳﺼﻴﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺰﺍﺓ ﻭﺍﻟﺸﻮاهين، ﻭالجمﻊ ﺃﺻﻘُﺮ ﻭﺻﻘﻮﺭ ﻭﺻﻘﻮﺭﺓ ﻭﺻﻘﺎﺭ ﻭﺻﻘﺎﺭﺓ… ﻭﺍﻷﻧﺜﻰ ﺻﻘﺮﺓ ﻭﺍﻟﺼﻘﺮ هو ﺍﻷﺟﺪﻝ، ﻭﻳﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﻘﻄﺎﻣﻲ، ﻭﻛﻨﻴﺘﻪ ﺃﺑﻮ ﺷﺠﺎﻉ ﻭﺃﺑﻮ ﺍﻹﺻﺒﻊ ﻭﺃﺑﻮ الحمراء ﻭﺃﺑﻮ ﻋﻤﺮﻭ ﻭﺃﺑﻮ ﻋﻮﺍﻥ. ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻨﻮﻭﻱ ﰲ ﺷﺮﺡ ﺍﳌﻬﺬﺏ: ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﺍﻷﻧﺼﺎﺭﻱ ﺍﳌﺮﻭﺯﻱ : ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻠﺒﺰﺍﺓ ﻭﺍﻟﺸﻮﺍهين وغيرها ممّا ﻳﺼﻴﺪ ﺻﻘﻮﺭ.. ﻭﺍﻟﺼﻘﺮ ﺃﺣﺪ ﺃﻧﻮﺍﻉ الجوارح ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ: ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺼﻘﺮ ﻭﺍﻟﺸﺎﻫﲔ ﻭﺍﻟﻌﻘﺎﺏ ﻭﺍﻟﺒﺎﺯﻱ، ﻭﺗﻨﻌﺖ ﺃﻳﻀًﺎ ﺑﺎﻟﺴﺒﺎﻉ ﻭﺍﻟﻀﻮﺍﺭﻱ ﻭﺍﻟﻜﻮﺍﺳﺮ، ﻭﺍﻟﺼﻘﺮ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻧﻮﺍﻉ : ﺻﻘﺮ ﻭﻛﻮﻧﺞ ﻭﻳﺆﻳﺆ، ﻭﺍﻟﻌﺮﺏ ﺗﺴﻤﻰ ﻛﻞ ﻃﺎﺋﺮ ﻳﺼﻴﺪ ﺻﻘﺮًﺍ، ﻣﺎ ﺧﻼ ﺍﻟﻨﺴﺮ ﻭﺍﻟﻌﻘﺎﺏ، ﻭﺗﺴﻤﻴﻪ ﺍﻷﻛﺪﺭ ﻭﺍﻷﺟﺪﻝ ﻭﺍﻷﺧﻴﻞ…”. وربما لهذا السبب تعتبر العرب، حسب ما جاء به الجاحظ في كتاب الحيوان، الصقر عربيًا والشاهين والبازي أجنبيًا. وقد قال الجاحظ: ” ﻭﻟﻴﺲ ﺗﺮﻯ ﺷﺮﻳﻔًﺎ ﻳﺴﺘﺤِﺴﻦُ حمل ﺍﻟﺒﺎﺯﻱ ﻷﻥﹼ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ ﺍﻟﺒﺎﺯﻳﺎﺭ، ﻭﻳﺴﺘﻬﺠﻦ حمل ﺍﻟﺼﱡﻘﻮﺭ ﻭﺍﻟﺸﻮﺍهين وغيرها ﻣﻦ الجوارح، ﻭﻣﺎ ﺃﺩ ﺭﻱ ﻋﻠّﺔ ﺫﻟﻚ ﺇﻻ ﺃﻥﹼ ﺍﻟﺒﺎﺯ ﻋﻨﺪهم أﻋﺠﻤﻲّ ﻭﺍﻟﺼﱠﻘﺮ ﻋربي “. والحقيقة أن اسم الشاهين أجنبي، وهو جنس يميزه العرب عن العقاب والنسر. إن هذا التوضيح اللغوي مهم جدًا ويؤكد حديث العرب منذ القديم عن الصقر باعتباره اسم جنس يتضمن أنواعًا كثيرة، وهو الأمر الذي توارثناه لحد اليوم مشرقًا ومغربًا، في الحديث عن الصقر والصقّارين أو البيازرة، وفي هذا الاهتمام التليد الذي لا يزال تقليدًا لدى القبائل العربية في المشرق والمغرب. بيد الاسم المشترك الآخر وهو أقرب إلى المجاز هو أنه يسمى شرقًا وغربًا في البلاد العربية بالطير الحرّ.
وإذا كان الصقر قد وجد في الشعر العربي موطنه، لا من باب التشبيه فحسب وإنما أيضًا باعتباره طائرًا كانت له مكانة خاصة في البلاطات العربية الإسلامية، ومن ثم في الحياة العامة، فإن هذه المكانة تعود أيضًا لموقعه الكبير في المتخيّل العربي كما في العالمي. فهو رمز التعالي والتسامي والقوة والدقة والشجاعة وغيرها من الفضائل التي جعلت ابن سيرين يخصص له فصلًا له في تفسيره للأحلام. وفي أغلبها يكون الصقر له علاقة بالقوة والسلطة والنفوذ والمجد. ولهذه المدلولات، اتخذه في ما قبل التاريخ الإله المصري حورس رديفا لسلطته وقوته وحصافته وتبصره. ونحن لا نزال نرى أثر ذلك في العلم المصري الذي يمثل الدولة المصرية الحديثة في شكل صقر فاردٍ جناحيه. وفي الديانات الاسكندنافية القديمة تتخذ الكثير من الآلهة لهيئتها رأس صقر تعبيرًا عن قوتها وسلطتها.
نحن نعرف اليوم أن الصقر حيوان جارح ذو قدرة خارقة على القبض على طريدته من علو شاهق، بدقة ومهارة تثير الدهشة والإعجاب، ويُعلمنا علم الطيور والإحيائيات أن الصقر بمختلف أنواعه (وهي متنوعة الحجم والاسم) طائر مشترك بين كافة أنواع المعمور إلا القطبان الشمالي والجنوبي، أي أنه تراث حيواني مملوك للبشرية كافة. وهو أمر يدفعنا إلى استنطاق التاريخ لا ليؤكد لنا ذلك فقط ولكن ليُفصح لنا عن أبعاد أخرى غير الطابع الرمزي والمتخيل الذي تحدثنا عنه. فبالرغم من أنه حيوان جارح إلا أن تربيته جعلت منه منذ القديم مجالًا للتباهي والفخر (مثله مثل الجواد والناقة) ولممارسة رياضة القنص التي كانت خاصية الأمراء والأعيان سواء في أوروبا أم بلاد العرب.
ويُحكى أن أولّ من صاد بالصقر أن في فجر الإسلام كان هو حمزة بن عبد المطلب (عم النبي (صلى الله عليه وسلّم))، الذي أسلم وهو عائد من رحلة صيد، وعلى يده صقر. وقد كان حمزة هذا معروفًا بولعه بالقنص والصيد، وعندما أشهر إسلامه، جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) سائلًا إياه عن الصيد بالصقور إن حلال أم حرام، فنزل قوله تعالى: « يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (سورة المائدة الآية21)، وجاء في تفسير ابن كثير لآية «وما علمتم من الجوارح مكلّبين» : أي أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها، والطيبات من الرزق وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح المدربة على الصيد؛ وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك. وعن هناد حدثه ابن عيسى بن يونس عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) عن صيد البازي فقال: «ما أمسك عليك فكل» (صحيح البخاري «كتاب الذبائح والصيد»).
بيد أن حكاية البداية من باب الأسطورة أكثر منها من باب الواقع، بل هي تؤشر إلى شيوع هذه الممارسة قبل الإسلام بكثير، سواء في الجزيرة العربية أو في بلاد فارس، ولدى الإغريق والرومان. فالشاهين (أي أحد أنواع الصقور)، حسب ما يحكي الدميري، قد كان هواية معروفة لدا الإمبراطور قسطنطين الأكبر (القرن الرابع الميلادي) كما جاء ذلك لدى الدميري: ” ﻗيل ﺇﻥ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺻﺎﺩ ﺑﻪ قسطنطين، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺸﻮاهين ﺭُﻳﻀﺖ ﻟﻪ، ﻭﻋُﻠِّﻤﺖ ﺃﻥ تحوم ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ ﺇﺫﺍ ﺭﻛﺐ ﻓﺘُﻈﻠُّﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺤﺪﺭ ﻣﺮﺓ ﻭﺗﺮﺗﻔﻊ ﺃﺧﺮﻯ، ﻓﺈﺫﺍ ﺭﻛﺐ ﻭﻗﻔﺖ ﺣﻮﻟﻪ؛ إلى ﺃﻥ ﺭﻛﺐ ﻳﻮﻣًﺎ، ﻓﺜﺎﺭ ﻃﺎﺋﺮٌ ﻣﻦ ﺍﻷﺭﺽ، ﻓﺎﻧﻘﺾّ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺸﻮاهين، ﻓﺄﺧﺬﻩ ﻓﺄﻋﺠﺒﻪ ﺫﻟﻚ ﻭﺿﺮّﺍﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﻴﺪ”. كما أن العرب كانت تتحدث عن الكواسر والجوارح، وتستعملها بالتأكيد في الصيد. ونحن نجد لدى امرئ القيس بعض الحديث عن هذه الممارسة في كلامه عن أيام الصيد.
البيْزَرة ممارسة تاريخية
البيزرة كلمة من أصل فارسي مشتقة من البازي. ومع أن العرب كانت تستعملها في أصلها الفارسي (البزدرة، كما نجد ذلك لدى الدّميري وغيره)، إلا أن الشائع اليوم هو اصطلاح البيزرة، والبيزيار. أما في الغرب الإسلامي فالشائع هو استعمال مصطلحي البازية والبياز.
انتقل الصيد بالطير من ممارسات فردية ومتفرقة تندرج في يومي الإنسان العربي، إلى ممارسة تدخل في العوائد السياسية للخلفاء. فكان يزيد بن معاوية (680-683م) من أوائل من منحه موقعًا شريفًا ذكرته كتب التاريخ والأخبار. فقد أبان عن حماس كبير له. وقد حظيت هذه الممارسة من الأعيان والخلفاء بأهمية خاصة فصارت مؤسسة كاملة بذاتها، يسهر عليها شخص ذو مكانة مميزة، يسمى “أمير الصيد”، وفي ما بعد “أمير الصِّقار”.
وفي بلاد المغرب والأندلس سوف يتعمق هذا الولع بالبيزرة، بحيث إن العامل على إفريقية الأغلبي (864-875)، ومن كثرة ولعه بالصيد بالصقور، كان يسمى “أبا الغرانيق”، بحيث حسب ما يحكي المؤرخون، قد أنهك بيت مال الدولة من كثرة المصاريف التي أغدقها على هوايته هذه. وفي ما بعد، سوف يبين الأمراء الحفصيون عن ولع كبير بهذه الرياضة، فقد كان المنتصر (1249-1277)، يتعامل معها كأمير ساساني، بحيث كان يمارسها بمتعة فائقة في “مصيده” قرب مدينة بيزرت كما جاء ذلك لدى ابن خلدون في كتاب العِبر. وفي القرن الخامس عشر، سوف يخصص خلفه عثمان (1435-1488) لها عدة أيام في الأسبوع.
وفي بلاط قرطبة الأموي كان “صاحب البيازرة” شخصًا ذا مرتبة رفيعة لدى السلطان. وهو ما يؤكد أن هذه المؤسسة كانت تحتل موقعًا هامًا وتشغل أناسًا كثيرين، لأن ممارستها لم تكن تقتصر على الفئات المحظوظة من المجتمع كما كان الأمر في بلاد المسيحيين. فلقد ظل البدو والرحّل يتوارثونها حتى بداية القرن العشرين.
الصقر والسلطة والدبلوماسية
كانت مُهاداة الصقور علامة على السلم بين الدول المتجاورة منذ القديم. فعلاوة على تقديم النفيس والرفيع والغريب من منتجات وحيوانات ووحوش، كانت البلاطات في القديم تتبادل الصقور وجوارح الصيد. ويحكي الدميري أن أحد ملوك الفرس سمع عن الصيد بالصقر، فطلب من ملك مملكة مجاورة له أن يبعث له بالصقور المدربة وبالبيازرة. إن حكايات من هذا القبيل تبرز العلاقة الأولية والعميقة التي كانت بين ممارسة الصيد بالصقور وبين العلاقات الدبلوماسية. وقد تركت لنا كتب التاريخ القديم آثارًا كثيرة لهذه المهاداة، فتحدثت عن ولع زيد بن معاوية وهشام بن عبد الملك وأبي دلافة والرشيد والمعتصم بتدريب الصقور. بل إن بعض الخلفاء في المشرق العربي قد جعلوا من الصقّارين أطرًا من أطر الدولة ومنصبًا لا يمكن لبلاط الخليفة الاستغناء عنه. كما ذكرت المصادر أن عظيم الروم البيزنطيين ميخائيل أهدى للخليفة المهدي كتابا في البيزرة.
وقد كان ملوك المغرب والأندلس يتبادلون الهدايا بالصقور، تعبيرًا عن مشاعر الود وأحاسيس الامتنان. فقد كان ملك غرناطة، أبو الحجاج يوسف الأول، يبعث سفراءه إلى المناطق النائية من بلاد الروم ليحص على تشكيلة من الصقور من أجل إهدائها إلى ملك المغرب السلطان أبي عنان المريني، تعبيرًا عن التقدير الذي يكنّه له، هو الذي عوده الوقوف إلى جانب الأندلس كلما كانت مهددة في استقرارها.
وفي التقرير الذي رفعه العقيد بيير دو بيتون لملك فرنسا، فرانسوا الأول، وكان قد بعثه لدى السلطان المغربي الوطاسي لإقامة علاقات السلم والتعاون بين البلدين، يذكر أن من جملة هدايا الملك الفرنسي للسلطان المغربي، ثمة 24 قفازًا يضعها الصقارون على يسراهم اتقاء لمخالب الطائر، واثني عشر برقعًا، وبعض هذه الهدايا مرصعٌ باللؤلؤ ومطرّز بالديباج والحرير. كما لم يفُت المبعوث الفرنسي كيل الثناء الكبير على صقور المغرب. وقد كان ذلك وراء اقتناء الصقور لحملها لفرنسا التي كانت تعرف في ذلك الوقت هذه الهواية وتتداولها. وفي أوائل القرن السادس عشر، أرسل أمير “أورانج” للسلطان المغربي هدايا من نوع الصقور الهولندية. ويثبت د. عبد الهادي التازي (المتخصص في التاريخ الدبلوماسي المغربي) هذه العلاقة بقوله:
“وذات يوم، كانت الصلات بين المغرب وجيرانه على الضفة الأخرى للمتوسط، على وشك أن تضببها سحب الخلاف، ولم يكن هناك من بسير يحمل طلائع حسن النية، ويعيد الماء إلى مجاريها إلا وصول جملة من الصقور الأصيلة… وذات يوم، كانت إنجلترا على شك أن تقذف بأسطولها نحو المياه الإقليمية للمملكة المغربية، بسبب حادث قرصنة كاد يعكّر صفو العلاقات، ويهدد الملاحة في البحر… ولم يكن هناك من بشير سوى هذه الطيور الحرة التي نسميها بالصقور، والتي بعث بها المغرب هديةً أو اعتذارا إلى الملك شارل الأول ملك إنجلترا”.
وقد كان الأمر كذلك مع ملوك فرنسا وهولندا وإسبانيا والبرتغال في العصور الوسطى؛ إذ أن إهداء الصقور كان مرتبطًا بالدلالات التي يحملها. فهو تعبير عن القوة والسلطة، وفي الآن نفسه إعلان عن المودة والرغبة في السلام. كما أنه من ناحية أخرى يشكل هدية متكاملة، بعدتها وبيّازيها وبكل حمولتها الثقافية. إن رياضة الصيد بالصقور لدى العرب في ذلك الوقت كانت ذات معاني حضارية عميقة يمكننا اليوم أن ننعتها بالهوية الثقافية، مثلها مثل ثقافة الفروسية التي لا تزال إلى اليوم منتشرة، والتي تشكل استعراضات تحاكي بشكل ما الفروسية الحربية القديمة وتستدعي ذاكرتها العتيقة.
اصطياد الصقر
لكي يتمكن المرء من ممارسة هواية البزازة، عليه أولا أن يصطاد الصياد (الصقر). وصائد الصقر يُضرَب به المثل في الذكاء والصبر والأناة؛ إذ أن عملية اصطياد هذا الطائر الجارح تتم بطريقتين. فحين يتأكد الصياد من وجود الصقر في مكان ما، يحفر لنفسه خندقًا يتوارى فيه ويطلق حمامة مربوطة بخيط متين رفيع. وحين ينقضّ عليها الصقر يحركها نحوه بقوة. ويعود الصقر إليها حين يطمئن إلى خلاء المكان. ثم إن الصياد يحرك تدريجًيا الحمامة في اتجاهه حتى يتمكن من إلقاء القبض على الصقر، فيربط قدميه، ويضعه في قطعة قماش (المهاد)، ثم يبرقعه. ويقدمه للصقار لتدريبه.
وهناك طريقة مشرقية أخرى، معروفة أيضًا لدى صيادي بلاد المغرب، تتمثل في وضع حمامة في شبكة وترك قدميها بارزتيْن، وإطلاقها في الهواء. وحين يبدأ الصقر في نهشها تبدأ بوابة الشبكة في الانغلاق حتى تمسك به في داخلها.
تسخير الصقر
كيف يتمكن الإنسان من تسخير الصقر؟ يتعلق الأمر بالتأكيد بعملية صبورة تتطلب من الصقار أو البياز أو البيازر أن يغدو مربيًا بكل معاني الكلمة؛ حتى إنه ليُقال: “عرِّفْني على بيازك أعرفك على صقرك”. من ثم فإن الاهتمام بمزايا الصقار هي الضامن الأول لحسن الصقر. فالمطلوب فيه ليس الاهتمام فقط بصحة الصقور ومعرفة طبائعها وإنما أيضًا درجات يقظتها. ولا بد لذلك أن يكون شخصًا ذكيًا، خفيف الحركة، جسورًا غير ثقيل النوم، ولا أكولًا ولا عربيدًا ولا حادّ الطبع ولا سريع الغضب… وعليه علاوة على ذلك أن يكون عارفًا بعالم الطيور…
الصقار إذن يعتبر مرجعًا بشريا للصقر، برائحته ونوعية طيبه والثقة التي يكتسبها لديه. فهو المُطعم له، والمنادي عليه بأصوات مختلفة، تعني الانطلاق أو الأكل أو النهْر.
وقد تمتد فترة التضْرية أو التدريب أربعين يومًا، يكون فيها الصقر مبرقعًا حتى يركز على صوت مدربه. وحتى يتعود الصقر على محيطه البشري ويتآلف معه يمر أمامه ويمنحه قطعة لحم حتى يتأقلم. ثم يتم تدريبه على الصيد في مسافات قصيرة.
وفي مرحلة التدريب هذه قد يتوه الصقر، وعلى صاحبه ألا يكل من النداء عليه، وألا يجعله يغامر بتهور في صيد الحبارى لأنها أخطر الطيور عليه. وقد جاء ذلك من قديم لدى الجاحظ في كتاب الحيوان: “ﻭﻟﻠﺤﺒاﺭﻯ ﺧِﺰﺍﻧﺔ بين دﺑﺮﻩ ﻭﺃﻣﻌﺎﺋﻪ ﻟﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﺑﺪًﺍ ﺳَﻠﺢٌ ﺭﻗﻴﻖ ﻟﺰﺝ. ﻓمتى ألحّ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﺼﻘﺮ ﻭﻗﺪ ﻋﻠﻤﺖ ﺃﻥ ﺳُﻼﺣﻬﺎ ﺃﺟﻮﺩ ﻣﻦ سِلاحه ﻭﺃﻧﻬﺎ ﺇﺫﺍ ﺫﺭﻗْﺘُﻪ ﺑﻘﻲ ﻛالمكتوف ﺃﻭ المدبَّق المقيَّد، ﻓﻌﻨﺪ ﺫﻟﻚ تجتمع الحباريات ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﻘﺮ ﻓﻴﻨﺘﻔﻦ ﺭﻳَﺸﻪ ﻛﻠﱠﻪ ﻃﺎﻗﺔ ﻃﺎﻗﺔ ﻭﰲ ﺫﻟﻚ هلاﻙ ﺍﻟﺼﻘﺮ”. ومن هنا جاء القول المأثور: “سُلاحه أفضل من سِلاحه”.
جهاز الصقر وعُدّته
حين نتحدث عن الصيد بالصقر، نعتقد أن هذا الطير الحر لا يحتاج إلى عتاد وتجهيزات. والحال أن الأدوات المستعملة في هذه الرياضة كثيرة، وتنبئ عن حذق ومهارة وعن مدلولات حضارية تجعل من توارثها خاضعا للإلمام بها. وهي كثيرة نذكر منها:
البُرقع: وهو غطاء يوضع برفق على رأس الصقر بهدف حجب الرؤية عنه، ضمانا لهدوئه وسكينته. وهو يكون مثل الطاقية، ويكون عادة مصنوعًا من الجلد أو الوبر. غير أن التفنّن في صناعته يعبر عن الموقع الاجتماعي لصاحبه، بحيث قد يكون مطرّزًا وقد يتمّ تجميله بشوشة. ويعود للمشارقة فضل ابتكاره باعتراف الإمبراطور الألماني فريديك الثاني (توفي عام 1250). الذي تحدث بإعجاب عنه بمناسبة زيارته للقدس وأشاد أيضًا بتربية العرب للصقور، إذ قال: “لم يكتف ملوك العرب بإهدائنا أنواع البزاة، بل بعثوا معها المتخصصين في استعمال البرقع من البيازرة الماهرين”. وهو يسمى بالمغرب بالكبيل، أي القيد.
المنْقلة: وهي عبارة عن درع يدخله الصقار في يده اليسرى بحيث إنها تغلّف يده كاملة حتى لا تضر مخالب الصقر بيد الصقار، ويسمى أيضًأ القفّاز.
السّبوق: (أو السبوك)، وهو سير أو مجدول، أي خيط سميك قصير متصّل بالمنقلة يلازم رجل الصقر.
المرسَل: وهو خيط السبوق، وخيط الجرير، وخيط التبالغة. وهو الذي يكمل إحكام القبض على الصقر، ويسميه المغاربة المقود.
الملواح: وهو مجموعة من الأجنحة وغالباً تكون من جناح الحبارى، يتم خياطتها وربطها بخيط يلوح بها للصقر، ويطلق عليه التلواح.
الوكر: وهو المجْثم الذي يقيم عليه الصقر للراحة أو النوم، ويكون مصنوعًا من الخشب أو الحديد. ويكسوه المشارقة بالخشب المنقوش. وقمة هذا الوتد محشوة بالقش الطري، أو العشب الصناعي حتى لا تتعب رجلا الصقر حين الوقوف عليه.
الجلجل: وهو جلجل صغير يربط برجل الصقر. وهو يصلح للإفصاح عن موقع الصقر في حال تلفه، وهو بذلك الصوت يدخل أيضًا الرعب على طريدته بصوته المجلجل.
طرائف على سبيل الختم
في كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار، يعتذر الصقر عن الالتحاق بركب الهدهد رغم قيمته الرمزية التليدة، للخروج بحثًا عن العنقاء، ذلك الطائر الخرافي المعروف، متذرِّعًا أنه دائمًا ينعم بمصاحبة الأمراء…
ومما يُحكى أيضًا أن البازي والبلبل تشاجرا حول السر الكامن وراء حظوة الصقر على البلبل. فخاطب هذا الأخير الصقر بهذه الأبيات:
فقال: أراك حلية للملوك ومن فوق أيديهم تُحمل
وأنت، كما علموا صامت وعن بعض ما قلته تنكل
وأُحبَس مع أنني ناطـق وحالي عندهم مُهمَــــل
فرد عليه الصقر بذكاء:
فقال: صدقتَ، ولكنهـــم بذا عرفوا أيَّنـا الأكْمَــل
لأني فعلتُ وما قلت قطّ وأنت تقول وما تفعل!!
المراجع
ابن سيرين، تفسير الأحلام، دار ابن رجب، القاهرة، 2009.
الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام هالرون، دار العلم للملايين، 1999.
الدميري، حياة الحيوان الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، 2010.
عبد الهادي التازي، القنص بالصقر بين المشرق والمغرب، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 1980.
آنماري شيمل، “الباز الأشهب، ملاحظات في البيزرة في الشرق والغرب”، مجلة فكر وفن، ع. 4، 1964.
Patrick Morel, L’art de la fauconnerie, Independantly published, 2019.
Jean Charles Chenu, La Fauconnerie, ancienne et moderne, Nabu Press, 2019.
Christian Antoine de Chamerlat, La Fauconnerie et l’art, ACR éditions, Paris, 2017.
Encyclopédie de l’Islam, « Bayzara ».