“وكم فتىً مُدبر قد بان كاهلهُ فالسَّهم واصله والرمحُ قاتلهُ
وما استطاع بنو الطروادِ صدهمُ بل استوى في مجال الفتكِ هائلهُ
كمرأةٍ عـالَـت الأطـفـال عـادلـةٌ قد أمسكت عود ميزان تعادلهُ
لا تخسر الصوف مثقالًا تضنّ به عن العيار الذي ألقت بكفّته”.
– مقطع من النشيد الثاني عشر لإلياذة هوميروس، البستاني.
ما هي الإلياذة؟
الإلياذة هي ملحمة شِعرية للشاعر اليوناني هوميروس. يروي فيها قصة أحداث السنة الأخيرة من حربٍ دامت عشر سنين، تسمَّى: “حرب طروادة”. تعتبر تحفة أدبية خالدة على الرغم من تأليفها في القرن التاسع قبل الميلاد. صارت أشعار هوميروس منذ تعرّفت الحضارات عليها ومن ثمّ ترجماتها، بمثابة كتابات مقدَّسة توجز جوهر المعرفة الإنسانية وتجسّد التفوق البشري. والعيدي من جوانب الإلياذة وجدت طريقها إلى الأدب المعاصر وأشكال الفن وحتى الثقافة الشعبية، ويمكن تتبّع تأثيرها في أعمالٍ مختلفة، مثل: مسرحيات شكسبير.
يعطينا هوميروس في الإلياذة صورة واضحة المعالِم لفترةٍ مبكرة من التطور الحضاري البشري، وهي صورة حافلة بالمعالِم السياسية والدينية والقيم الأخلاقية، بالإضافة إلى البيئة الاجتماعية. تختلف هذه الصورة الهومرية عن لوحةٍ من الفسيفساء أو أيَّة قطعة أثريَّة أخرى؛ لأنها صورة مُكتملة ومنسجمة مع الانطباع العام الذي يتركه هوميروس في الأذهان.
أعجب اليونان بملحمة الإلياذة وأسلوبها العذب، وتمّ جمعها في عهد سوستراتوس(1) عام 534 ق.م وفي القرن الثالث الميلادي قسَّم نُقّاد الإسكندرية هذه الملحمة المؤلفة من 15693 بيت من الشِّعر الى أربعٍ وعشرين أنشودة. بفضل الإلياذة صارت دراسة هوميروس العنصر الأساسي في نظام التعليم اليوناني، ومستودع الأساطير اليونانية والمسرحيات وأساس التدريب الخلقي، واحتلّت هي والأوديسة قدسية دينية خاصة في اليونان. وعندما ترجمها الطبيب الماروني تيوفل الرهاوي للعربية -لأول مرة- في القرن الثامن الميلادي لم تلق التِّرحاب عند المسلمين؛ بسبب طبيعة الملحمة والتعددية الإلهية فيها. لكن بعد مرور ألفية تقريبًا ترجمها الأديب اللبناني سليمان البستاني، بديباجةٍ شِعرية فصيحة، ووضع لها مُقدمة تعتبر بحد ذاتها نموذجًا في الأدب المقارن. ومن ثمّ تبعته -في العصر الحديث- ترجمات عديدة أهمّها: ترجمة ممدوح عدوان عن الإنجليزية، وترجمة الدكتور أحمد عثمان عن اليونانية مباشرة.
هوميروس، هل هو مؤلف الإلياذة؟
“طوباك فقد أُوتيت منتهى السعادة؛ حيث قام شاعر كـ هوميروس بتخليد ذِكرك”.
هذا ما قاله الإسكندر المقدوني فيما هو واقف عند قبر أخيل بطل الإلياذة، الإسكندر (2) الذي كان يصحب معه نسخة من الإلياذة يقرأ منها ويتغنَّى بأشعارها. ولا نعرف شيئًا عن هوميروس، فلا يمكن استخلاص أية معلومة من ملحمتيه الإلياذة والأوديسة عن حياة المؤلف وملابساتها. ووصلتنا سِيَر كثيرة لهوميروس من العصر الإغريقي الروماني، ولكنها جميعًا من صُنع الخيال. هناك حقيقتان فقط مؤكدتان: الأولى أنه كان أعمى. والثانية أنه من ساحل آسيا الصغرى أو الجزر المحاذية له. لقد أثار ظهور هوميروس -أعظم الشعراء- في بداية تاريخ الأدب الإغريقي مشكلة لم يهتد إلى حلّها أحد حتى الآن، لذا أصرّ بعض العلماء على أن هذا الشاعر لم يوجد على ظهر الأرض قط، لكن اسمه هوميروس (Homeros) الذي يعنى إمَّا “الرهينة” أو “الأعمى” أو حرفيًا “الذي لا يُبصر” (ho me horon): منحوت أبدعه الخيال الأسطوري، وذهب البعض إلى القول بأنه كان هناك عدة شعراء – لا شاعر واحد – بهذا الاسم، ثمّ خفّف هؤلاء من غلوائهم وقالوا إنه كان هناك -على الأقل- شاعران بهذا الاسم، أحدهما نظم “الإلياذة” فيما ألَّف الآخر “الأوديسة”.
على هذا الأساس يمكن اعتبار الإلياذة والأوديسة من تأليف عدة أجيال متتالية من الشعراء المتجوّلين. ولكن إغريقييّ العصر الكلاسيكي اعتبروهما من تأليف شاعرٍ واحدٍ هو هوميروس وعلينا أن نحترم رأيهم، ولو أنهم نسبوا إليه أشعارًا أخرى لا يمكن بأيَّة حال أن تكون له فعلًا -إن وجد- مؤلفها. وبغض النظر عن الفوارق بين الملحمتين فإن روحهما العامة واحدة. وبما أن هوميروس لا يتحدث عن نفسه في ملحمتيه فقد استدل البعض من ذلك على أن مكانته الاجتماعية كانت أقل من مكانة أبطاله وهُم من الملوك والأمراء، بل وأقل من جمهوره أيضَا؛ لأنه كان ينشدُ أشعاره في بلاط أحفاد هؤلاء الأبطال.
قصة الإلياذة، رحلة عبر الحرب والبطولة: حبكة القصة
تناول هوميروس أيَّامًا قلائل من السنة العاشرة لحصار إليون، وبنى عليها منظومته، التي شرع فيها بقوله:
“ربَّة الشِّعرِ عن أخيل بِن فيلا أنشدينا واروي اِحتدامًا وبيلا”[1].
إشارة منه إلى أنه سيدور حول ذلك الاحتدام منذ اتقد إلى أن خمد. وهو موضوع يكاد يحسبه شعراؤنا تَفِهًا لبساطته، ويعجبون لقريحة علقت به؛ فأنتجت نحوًا من ستة عشر ألف شطر أو شِعر، مع أنّ معلقة امرئ القيس ومطلعها ينبئ بمجموعٍ أوسع وموضوعٍ أجمع تقصر بجملتها عن مئة بيت. وإنك مع هذا إذا طالعت الإلياذة كلّها لا تكاد ترى فيها حشوًا ولغوًا بل لا تتمالك أن تستزيد منها في مواضع كثيرة.
مُجمل قصة الإلياذة أن اليونانيين قاموا بأسر جاريتين أثناء حربهم مع طروادة فحصل كلّ من أغاممنون (3) وأخيل على فتاة، وجاء بعدها أحد كهنة أبولو يُريد ابنته التي حصل عليها أغاممنون فرفض، فابتلى أبولو (4) الجيش بالوباء، فرضي أغاممنون أن يعيدها شريطة أن يسلب الفارس أخيل فتاته، فعظم الأمر على أخيل وكاد يبطش بأغاممنون لولا أن أثينا (5) -إلهة الحكمة- هبطت من السماء وصدَّته قسرًا، فغضب أخيل وامتنع عن القتال هو وعشائره، فلقي الإغريق تنكيلًا من الطروادة مستغلين غياب أخيل، فلما ثقلت الوطأة على الإغريق أوفدوا الوفود استرضاءً لأخيل فما زاد إلا عتوًّا وكِبرًا، ولم يعد أخيل ليحارب إلا عندما مات صديقه الحميم بتروكلوس (6) -أثناء قتاله الطرواديين- حيث تبارز مع هيكتور بن بريام (7) -قاتل صديقه- ثمّ يقتله، وتنتهي الإلياذة.
أخيل وهيكتور: تطلّعات حول البطلين (الحزن الأبديّ، والبطولة الخالدة)
يثير كِلا البطلين -على الرغم من مصائرهما المتناقضة- شعورًا عميقًا من الإعجاب والتأمل. أخيل، المعروف بقوته الفائقة وعدم قابليته للهزيمة في ساحة المعركة، يجسّد نموذج البطل المأساوي ويكمن طموحه الأكبر في تحقيق المجد الأبدي من خلال الأعمال البطولية. ومع ذلك، يأتي هذا السعي بتكلفةٍ عالية -حزنه العميق على وفاة صديقه العزيز بتروكلوس- يقوده إلى طريق الانتقام والتدمير الذاتي. من ناحيةٍ أخرى، يمثّل هيكتور الزوج والأبّ المثالي أعظم مثال للبطولة؛ حيث يسعى للدفاع عن طروادة ضد الغُزاة اليونانيين. يتجذّر طموحه في حماية مدينته وأسرته والحفاظ على الشرف على الرغم من معرفته بأن هذه المهمة قد تؤدي في النهاية إلى موته على يد أخيل في موقفٍ بطولي.
إنّ المكانة التي منحتها الحضارة اليونانية القديمة لشخصية أخيل، والارتباط العاطفي المكين الذي يصاحبها، تستحق اهتمامنا خاصة وأن القرّاء المعاصرين غالبًا ما يجدون أنفسهم غير مستجيبين نسبيًا لهذا البطل المتجهم والمكتئب. قليلون اليوم يشعرون بالتعاطف مع حزنه، حيث يجد القارئ المعاصر أنّ من الأسهل بكثير أن يشعر بالتعاطف مع هيكتور، بطل طروادة وقائدها، الذي غالبًا ما يميزه القرّاء المعاصرون من وداعه المؤلم لزوجته وابنه الصغير -قبيل ذهابه لقتال أخيل في نهايات المعركة- اللذين سيصبحا قريبًا أرملته ويتيمه. المشهد الأكثر تميزًا في الإلياذة.
عند التفكير في هؤلاء البطلين جنبًا إلى جنب، يتم تحفيزنا على التفكير في تعقيدات الطبيعة البشرية – رغباتنا في التفوق متشابكة مع ضعفنا أمام اليأس. تعتبر المقارنة بين حزن أخيل الأبدي وبطولة هيكتور الأبدية، تذكيرًا مؤثرًا بأن البطولة الحقيقية لا تُعرف ببساطةٍ من خلال النَصر أو الانتصار، بل أيضًا من خلال قُدرة الإنسان على مواجهة الصِعاب بالمرونة والنُبل.
اليونانيون والإلياذة: أثرها على الحضارة اليونانية
كانت هناك العديد من القصص المشابهة للإلياذة في اليونان القديمة، وما يهم أكثر ليس القصص نفسها، بل ما تكشفه عن حاجة المجتمع إلى تفسير تطور الأغنية الهوميرية. تشير الأدلة الداخلية للأبيات الهوميرية، سواءً في تطورها اللغوي أو في مراجعها التاريخية، إلى تطور مستمر للأغنية الهومرية، يشمل فترة زمنية واسعة ربما استمرت ألف عام، وتمتد من الألفية الثانية قبل الميلاد. وبلغت هذه الفترة ذروتها في مرحلةٍ ثابتة استمرت حوالي قرنين من الزمان، أحاطت بمرحلةٍ تكوينية في الجزء الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد، ومرحلة نهائية في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، حيث وصلت الملحمة إلى شكلها النهائي والحالي، حيث جمعها علماء الإسكندرية كما ذكرنا سابقًا.
ولكن ما هي بالضبط الأُمَّة اليونانية؟ إن فكرة الأُمَّة في حد ذاتها تصبح غير متجانسة إذا طبقناها على العصر الذي تشكّلت فيه الإلياذة والأوديسة من القرن الثامن إلى القرن الخامس قبل الميلاد، كانت المنطقة الجغرافية التي نعترف بها الآن باسم اليونان القديمة عبارة عن تكتّل من الأراضي، التي تسيطر عليها العشرات من دول المدن المستقلة والمتنافسة. وأهمّها وأكثرها شُهرة: أثينا، وإسبرطة، وأرغوس، وطِيبة، وكورنثوس. وكل مدينة كانت بمثابة دولة، أو كيانًا اجتماعيًا في حدّ ذاته، له حكومته الخاصة، وقوانينه العُرفية، وممارساته الدينية، ولهجته.
تفكّك اليونان في هذا العصر كان ملحوظًا لدرجة أنه عند النظر إلى الوراء، يصعب العثور على أمثلةٍ حقيقية للتماسك الثقافي. أحد الأمثلة المُبكرة هو الألعاب الأولمبية، وآخر هو معبد أبولو في دلفي (8)، أمَّا الثالث، والأكثر وضوحًا، هو التراث الشِّعري لهوميروس. يمكن النظر إلى “الإلياذة” و”الأوديسة” لهوميروس معًا على أنهما عجائب من التوليف الثقافي؛ حيث يدمجان التراث المؤسسي المتنوع لهذا التعدد من المدن/الدول، وهذا العالم اليوناني المتعدد الألوان من اللغة، في بيانٍ موحّد للهوية الثقافية والحضارية.
طبيعة الملحمة الشِّعرية، (الإلياذة) نموذجًا مثاليًا[2]
في كتابه “فن الشِّعر”، يتغنَّى أرسطو -الفيلسوف الإغريقي- بشِعر هوميروس، واضعًا إيّاه نموذجًا مثاليًا للشِّعر وتفوقه، وما زال الشعراء وكتَّاب القصص الشِّعرية يعتبرونه بمنزلةٍ عُليا عن باقي الشعراء لوقتنا الحاضر؛ يذكر أرسطو في كتابه بعض الخصائص التي تجعل من الملحمة كاملة الأركان مقارنًا إيّاها مع فن التراجيديا، وهي:
- يجب أن تدور قصة الملحمة حول فعل واحد، كما ينبغي أن تختلف عن التاريخ المعروف لنا، فالتاريخ لا يعالج بالضرورة فعلًا واحدًا، ولكنه يُعالج فترة زمنية واحدة، وعلى هذا الأساس يتفوق هوميروس الملهم على غيره من الشعراء. فهو لم يحاول في منظومته، أن يُعالج حرب طروادة بأكملها، إنما اختار جزءًا محدودًا منها، ثمّ استفاد في حوادثه الفرعية من الأحداث العديدة، التي تتكوّن منها القصة كاملة، مثل: حادثة إحصائية السُّفن (الإلياذة – الأبيات من 484 إلى 760)، وغيرها من أحداث. بهذا استطاع هوميروس أن يُحدث تنويعات في منظومته.
- ينبغي أن يكون للملحمة نفس الأنواع للتراجيديا، فهي إمَّا تكون بسيطة أو مركّبة أو خلقية أو متعلقة بمعاناة.
- الملحمة تستخدم عناصر التحول والتعرّف ومشاهد المعاناة كما يجب تجويد الفكر واللغة فيها. ويعتبر هوميروس الشاعر الأول والقدوة المثلى في استعمال هذه العناصر، فالإلياذة تتصف بكونها بسيطة ومتعلقة بالمعاناة، وقد فاقت الإلياذة والأوديسة كذلك على الملاحم الأخرى من حيثُ اللغة والفكر.
- الطول والوزن: سبق وذكرنا طول الإلياذة ووزنها السداسي، وقد كان طولها لكثرة الأحداث التي تقع في وقتٍ واحد، وكانت أيضًا ملائمة ووثيقة الصِلة بالموضوع الأساسي؛ ما زادها جلالًا وجاذبية لسامعيها وقارئيها. أمَّا وزن الإلياذة السداسي فيتميز بالسلاسة والبلاغة وتناسب الملاحم الطويلة، عكس الأنواع الأخرى (الأيامبي، والرباعي).
- ذات الشاعر: هوميروس الوحيد بين الشعراء الذي يستطيع أن يقرر الدور الذي يجب أن يلعبه الشاعر بنفسه بالملحمة، فالحقيقة أنه ينبغي ألا يتكلم بلسان نفسه إلاّ في أضيق الحدود لأنه لو فعل غير ذلك، لما عاد محاكيًا. هوميروس في إلياذته لا يكادُ يفتح قصيدته بكلمةٍ قصيرة حتى يتعرض على الفور إلى إحدى الشخصيات ولا تكون إلاّ ولها خصائصها وأبعادها الخاصة.
- الإدهاش: أدهشنا هوميروس في كل شطر من الملحمة موضّحًا الحقيقة التي تقول: بأن الشخص عندما يروي قصة، يُضيف شيئًا من دهشته فيها وما أعظم ما نقله إلينا.
- المغالطة: هوميروس، هو الذي علَّم الشعراء الآخرين فن صياغة الأكاذيب فهاهو في إلياذته يوجد أشياء، ثمّ ينفي وجودها بوجود أشياء أخرى لا تحتمل وجود ما سبقها، يأخذ تصديقنا في (أ) ويُغالطها بذكر (ب) مع عدم استطاعتنا لتفضيل أو تصديق واحدة على أخرى.
الإلياذة فلسفة وآداب[1]
إذا أمعنت النظر في فلسفة الشاعر وخلائقه وآدابه، رأيت أنه رمى فيها كلّها إلى أمور خاصة برجلٍ واحد؛ فهو وإن جارى أبناء زمانه في كثير من عاداتهم ومعتقداتهم فقد خالفهم في أمورٍ أخرى؛ لسلامةٍ في ضميره ونظر بعيد في ترقيتهم، وهو حيثما جاراهم فلا ينحرف في مجاراته، وحيثما خالفهم فقد راعى ما انطبع عليه من آداب النفس التي جعلته أرقى أهل زمانه، فعصره عصر فسق وفجور وقد شجبهما حتى في نفس الآلهة، وزمنه زمن بطش بالأسرى وقد طعن بقتلتهم وحسبك في هذا الباب أن تتصفح المواضع التي أفاض فيها بمدح المرأة، وأتى على إطراء صفات الأمهات والزوجات والبنات والأخوات حتى السبيَّات في قرنٍ كانت المرأة فيه من جملة المتاع وسلعة تشرى وتُباع.
البطل الهومري في الإلياذة إلى جانب القُدرة الحربية، يتمتع بصفاتٍ أخرى، مثل: الكرم، حسن المعاشرة، والإخلاص. أمَّا شهيته للتمتع بالحياة وملذاتها من طعامٍ ونساءٍ توازي وتساوي حبّه للحرب والنزال. الأنموذج الهومري إذن، يُسلّط الأضواء على القوة الجسدية دون أن يقلّل من القيمة العقلية، والقوة الروحية. فهما اللتان تضيفان على الجسد شيئًا من النُبل والجاذبية، وقدرًا من قوة النفاذ والقدرة على الإنجاز، بل وبثّ الهيبة في النفوس وإتاحة الفرصة لممارسة النفوذ والسلطان.
في الإلياذة، نجد هوميروس يضع في مواجهة أخيل بطل الأبطال الإغريق بطلاً آخر هو هيكتور الطروادي الذي لا يجسّد فقط مجرد روح طروادة المدينة المعاصرة، بل أيضًا وجودها ذاته. وخلع عليـه هوميروس بعض الصفات والمميزات الإنسانية المؤثرة، ولا سيَّما عندما يحاول تهدئة زوجته أو يداعب ابنه، الصغير أو يعتني بأمّه العجوز أو يعامل هيلين (9) -سبب البلاء كلّه- بلينٍ ولطف. هو الذي يحثّ الطرواديين على المقاومة الشرسة، ويقود هجومهم المُضاد على السُّفن الآخيَّة، ويؤنِّب باريس أخاه في الوقت المناسب. لكن هيكتور يعلم أنه لا بد أن يُلاقي يومًا ما أخيل الذي سيقتله بالطبع؛ لذا يستجمع قواه لهذه المصير، لكن أخيل يصرعه بالفعل ومعه تسقط طروادة. وإذا كان أخيل يجسّد أنموذجًا للبطولة الفردية، فإن هيكتور يمثّل تعديلًا في هذه الصورة؛ لأنه الأكثر ارتباطًا بالأسرة والمجتمع والوطن.. وللإلياذة غير ذلك من الآداب والفلسفة الكثير.
خاتمة: (تعاطينا مع الأسطورة والتحفّظات حولها) [5]
لقد أصبحت الأسطورة موضوع تصديق ساذج وشكوكيَّة مترّددة وتخمينات خطرة؛ لذا لم يعد يجري الكلام عليها إلا بتحفّظٍ شديد. بيد أنها تحفّظات متعمّدة فغالبًا ما كان كتَّاب العصر الهليني والروماني كمثال لدى تبسّطهم في سرد إحدى الروايات الأسطورية يبدون متردّدين ويمتنعون عن التعبير بلسانهم الشخصي: ((قيل إنه))، أو ((حسبما تروي الأسطورة)). لكنهم سرعان ما يُظهرون في الجملة اللاحقة إيجابية واضحة حيال نقطة أخرى من الرواية عينها. هذه التناوبات بين الجُرأة والتحفّظ ليست بنت المصادفة، إنما تخضع لقواعدٍ ثلاث هي: تحاشي إبداء الرأي في الغرائبي والفوْطبيعي، والتسليم بأساسٍ تاريخيّ للأسطورة، وعدم التورّط في التفاصيل.
الأفكار السياسية هذه غالبًا ما تجهل نفسها، إذ تتغلغل في أعماق النفس وتغدو حالة باطنيّة. بعبارةٍ أوضح، يصعب علينا ألاّ نأخذ إلى حدّ ما بعقائد غريبة أنشأنا معها عُصْبة هجوميّة أو دفاعيّة، لأن من طبيعتنا النزوع إلى تحقيق الانسجام بين معتقداتنا وكلامنا ما يؤول بنا إلى استبطان العقائد المذكورة في الإلياذة وغيرها من الملاحم والميثولوجيا فلا نعود نعرِف حقيقة ما نعتقد به أحيانًا.
لنجعل من الإلياذة وغيرها من الملاحم التاريخية وسيلة لتعلّم وتهذيب ذواتنا، أن نستفيد من عِبر الحضارات وجُلو الأحداث، خير لنا من إلباسها ثوب التعارض مع معتقداتنا مسلّمين أنفسنا لجهلٍ يغتال أفكارنا ويحرمنا الفائدة.
المصادر
[1] الإلياذة، هوميروس. ترجمة: سليمان البستاني، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، (2012).
[2] كتاب فن الشعر، أرسطو. ترجمة وتعليق وتقديم: د. ابراهيم حمادة. مكتبة الأنجلو المصرية.
[3] الأدب الإغريقي تراثًا إنسانيًا وعالميًا. د. أحمد عثمان. دار المعارف، الطبعة الثانية للكتاب (1998).
[4] الإلياذة، د. أحمد عثمان. المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية (2008)
[5] هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم (بحثٌ في الخيال المكون)، بول فاين. ترجمة: جورج سليمان، الطبعة الأولى (2016).
[6] تاريخ الإغريق، د. ابتهال الطائي، دار الفكر، الطبعة الأولى (2014).
[7] Article entitled: Heroes and the Homeric Iliad, By Gregory Nagy.
الحواشي
- سوستراتوس: مهندس يوناني معماري قام بتصميم فنار الإسكندرية، إحدى عجائب الدنيا السبع (في عام 280 قبل الميلاد)، على جزيرة فاروس في الإسكندرية في مصر.
- إسكندر المقدوني: الإسكندر الكبير (356ق.م – 323ق.م)، هو أحد ملوك مقدونيا الإغريق، ومن أشهر القادة العسكريين في التاريخ.
- أغاممنون: جنرال وقائد الجيوش اليونانية، وهو ابن أتْربوس وإيروبي، وشقيق الملك مينلاوس.
- أبولو: حسب اليونانيين، يُعتبر إله الشمس، إله الموسيقى، إله الرماية، إله الشعر، إله الرسم، إله النبوءة، إله الوباء والشفاء، وراعي الفنون المتحضّرة.
- أثينا: إلهة الحكمة والاستراتيجية، وتمثّلها خوذة لها والتمرير الاستراتيجي في الحرب.
- فطرقل (بتروكلوس): صديق أخيل المقرّب، ويُعد رمزًا للصداقة والانتقام في الأساطير اليونانية.
- بريام: كان ملك مدينة طروادة، وهو والد هيكتور، البطل الطروادي.
- معبد أبولو دلفي: يقع في اليونان – دلفي، ويعود تاريخ الصرح الذي يحتوي على أعمدةٍ مرممة جزئيًا والمرئي اليوم إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وهو المعبد الثالث الذي بُني في نفس المكان.
- هيلين: زوجة الملك منيلاوس ملك أسبرطة. تمّ اختطافها من قبل باريس، الأمير الطروادي، الذي هرب معها إلى طروادة. هذا الاختطاف الذي أدى إلى بدء حرب طروادة.
__________