تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
في فبراير 1944، حطَّمت القنابل الروسية نوافذ استوديو توف جانسون Tove Jansson للفنون، في هلسنكي. كتبت الكاتبة في دفتر يوميّاتها: «لقد أخرجت شظايا الزجاج من النوافذ». كانت مكتئبة للغاية، ولم تتمكن من الرسم لمدة عام، وشَعَرت باليأس من أنّ الحرب «تجعلنا أصغر. فلا يملك الناس القوة ليكونوا عظماء إذا استمرت الحرب لفترةٍ طويلة».
على بُعد حوالي 250 ميلاً عبر بحر البلطيق، كانت امرأةٌ أخرى توثّق القصف نفسه، من شقتها الآمنة، في ستوكهولم. كتبت أستريد ليندغرين Astrid Lindgren، في دفتر قصاصات الحرب الخاصّ بها: «نفّذت حوالي 200 طائرة روسية ضربة جويّة على هلسنكي».. «من المروع التفكير في مصير فنلندا».
غلاف الطبعة الأولى من كتاب Pippi Longstocking (1945)، الذي رسمته إنغريد فانغ نيمان Ingrid Vang Nyman. حقوق الطبع والنشر لشركة أستريد ليندغرين Astrid Lindgren Company.
كان هناك الكثير من القواسم المشتركة بين توف جانسون، وأستريد ليندغرين، بغض النظر عن فارق السِّن بينهما البالغ سبع سنوات: فقد قصَّت كلتاهما شَعرها قصيرًا في أواخر سِنّ المراهقة وبداية سِنّ العشرين، وارتدتا البناطيل الطويلة وربطات العنق- على نمط النساء الراديكاليات في عصر موسيقى الجاز. وكانت كلتاهما مولعتان في شبابهما بالفلاسفة، من أمثال: فريدريك نيتشه، كما كانتا مناهضتان للفاشية.
تسبَّبت وظيفة ليندغرين، المُتمثلة في مراقبة البريد الخاصّ بأجهزة الأمن السويدية، إلى تعريضها لرسائل مؤلمة من عائلاتٍ يهودية، ووثَّقت مذكراتها غضبها من ألمانيا النازية. بينما تحدَّت جانسون، التي لم يكن لديها أطفالٌ لترعاهم، تهديدات الملاحقة القضائية من الحكومة الفنلندية الموالية لألمانيا؛ بسبب الرسوم الكاريكاتورية التهكميّة التي رسمتها لأدولف هتلر، والتي نُشِرت في مجلة غارم Garm اليساريّة.
لكنّ الأمر الأكثر أهمية هو أن كلتيهما بدأتا بالعمل على كتب للأطفال منذ بداية الحرب. في نوفمبر 1945، ظهرت في العالم شخصية ليندغرين: “بيبي ذات الجوارب الطويلة Pippi Longstocking”، بضفائرها الأفقية ذات اللون البرتقالي اللامع، والنمش على خدّيها، والجواربٍ ذات الألوان الغريبة، لقد كانت شخصية بمنطق العودة إلى الواجهة، والظهور المفاجئ لقوى الإنسان الخارقة. وبعد شهر، شرعت عائلة جانسون: “عائلة مخلوقات المومن Moomin family” اللطيفة والغامضة والمُغامرة، بأعينها الصغيرة الرقيقة وأجسادها الغريبة الشبيهة بفرس النهر، بحذرٍ شديد، في أولى مهامها العديدة.
تأثرت كِلتا المؤلِّفَتان تأثرًا شديدًا بالتجربة الاستبدادية والعنيفة في الحرب العالمية الثانية، وسَعت كلتاهما، بطرقٍ مختلفة خفيّة وغير خفيّة، إلى تحصين الأجيال القادمة ضد الخضوع وعبادة القوة، التي مكَّنت من حدوث هذه الكارثة الإنسانية.
وبينما تحتفل هذه الكتب بالذكرى السنويّة الخامسة والسبعين لصدورها، فإنها لا تزال تهيمن على أدب الطفل في بلدانها الأصل: السويد وفنلندا، فيما هي على وشك أن تتعرَّف على جيلٍ جديد؛ حيث تخطِّط شركة: هايداي فيلمز Heyday Films، التي تصنع أفلام: بادينغتون Paddington، وهاري بوتر Harry Potter، لإعادة إنتاج فيلم بيبي Pippi، بينما تقوم شركة الرسوم المتحركة السويدية: سينيماتيك Cinematic، بإعادة إنتاج فيلم مذنّب في أرض مخلوقات المومين Comet in Moominland. فمع تمزيق الوباء للعالم، والأزمة البيئية التي تلوح في الأفق، والسياسيين الشعبويين الذين يحرضون على الانقسام والكراهية، تصبح رسائل الحُريّة واللطف والتسامح هذه، ضرورية أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
أستريد ليندغرين في حفل توقيع كتاب. مجاملة من شركة أستريد ليندغرين.
صرَّحت جانسون لأحد المحاوِرين بعد صدور كتابها الثاني: «مذنَّب في أرض المومين»، الذي نُشر عام 1946: «سنوات الحرب الجهنمية هي ما جعلتني فنَّانة، أكتب القصص الخيالية؛ فقد كنت أشعر بالحزن والخوف من القنابل وأردت الابتعاد عن الأفكار القاتمة».
لكن جلبت جانسون الكثير من ويلات الحرب بالنسبة لشخصٍ حاول الهرَب منها. ففي المرّة الأولى التي نلتقي فيها بشخصية الصغير (مومينترول Moomintroll)، وأمّه ( مومينماما Moominmamma)، في كتاب: “المومين والفيضان العظيم The Moomins and the Great Flood”، الصادر عام 1945، كانت المومين يؤدون دور لاجئين يَعبرون أرضًا غريبةً محفوفةً بالمخاطر المُهددة للحياة؛ بحثًا عن المأوى، فيما كان الأبّ (مومينبابا Moominpappa) غائبًا، كما كان حال الآباء -غالبًا- أثناء الحرب.
بعد بضع صفحات فحسب، تواجه المومين بشجاعةٍ غابة مُظلمة عند الغسق، وتلتقي بعيونٍ متوهجة، وضباب غريب، ومستنقع مليء بالمخلوقات التي تعيش تحت الماء، بما فيها ثعبان البحر الذي كاد أن يلتهمهم، ومن ثمّ يُقبَض عليهم في البحر أثناء عاصفة مُرعبة. وكل ذلك، قبل أن نصِل حتى إلى الفيضان، الذي هو عنوان القصة.
في الكتاب التالي، يتعرّض العالم للتهديد؛ بسبب مذنَّب يمتصّ المياه من البحر، فيما يخلِّف في إثره منظرًا مروِعًا أشبه بنهاية العالم. وخلال ذلك، يلتقي مومينترول وصديقاه سنيف Sniff، وسنوفكين Snufkin، بمجموعةٍ من الأشخاص الفارّين، «بعضهم يمشي، وبعضهم يقود السيارة، وبعضهم يركب الخيل، والبعض الآخر يأخذ منازله معه على عرباتٍ يدوية. وظلَّوا جميعًا يرمقون السماء بلمحات الخوف، ولم يكن لدى أيّ شخصية منهم وقت كافٍ للتوقف والتحدث».
وعلى الرغم من الرعب -في كل هذه الأحداث-، فإننا نواجهه في عالمٍ طفوليّ، حيث مهما كانت الأمور سيئة، تكون الأم قادرة على تصحيحها. يقول مومينترول بقلقٍ عندما يعلم بالوقت الذي سيضرب فيه المذنَّب: «إذا تمكنّا فحسب من العودة إلى المنزل لأمي قبل أن يسقط المذنَّب، فلن يحدث شيء؛ فأمي تعرِف ماذا ستفعل».
«تمثّل شخصية بيبي التوق الطفوليّ للقاء شخص لديه السُلطة، لكنه لا يسيء استخدامها».
كان هناك أيضًا شعور قويّ بأن رعب الحرب سيفسح المجال لعالمٍ أفضل. فعندما تنحسر المياه، يكتشف كلّ من مومنترول وأمّه مومينماما أنّ الطوفان قد خَلَق منطقة (وادي المومين Moominvalley) الوارفة. وإذا كانت أصداء الحرب موجودة في الكتابين الأوّلين للمومين، فإنها تغيب عن كتب بيبي ذات الجوارب الطويلة Pippi Longstocking، التي تدور أحداثها في الأربعينيات من القرن الماضي؛ حيث أُزيلت الحرب من هذه الكتب تمامًا. فبيبي نفسها، هي نقيض القائد الاستبدادي. أيّ، ردة فعل ليندغرين على الحرب.
في الرسالة التفسيرية التي أرسلتها ليندغرين مع نسخة النصّ الأولى لبيبي (المرفوضة)، إلى الناشر بونيرز Bonniers، وصفت ليندغرين بطلتها بأنّها إنسان خارق Übermensch: «إنسان خارق صغير، في جسد طفل»، مستخدمة في ذلك، مفهوم نيتشه في قلب الأيديولوجية النازية.
خلال سنوات الحرب، شعرت ليندغرين بالرعب من القوة التي جمعها شخص غير أهلٍ لها، مثل: هتلر. ووصفته بأنّه «حرفيّ ألماني صغير غير معروف»، أصبح «خصمًا لشعبه ومدمِّرًا ثقافيًا».
تتجلَّى سخرية بيبي في أوضح صورِها، حين تواجه رجل السيرك القويّ مايتي أدولف Mighty Adolf، وتجعله يتسلَّل هاربًا من الإذلال. كما أنها تتصدَّى للمتنمرين، وترمي بالأشياء على بلطجيّ المدينة المخمور الذي يهدد بائع السجق. وتقذف شرطيًا في الهواء، وتقلب اثنين من اللصوص سيئيّ الحظ بسرعة وخِفّة فوق خزانة ملابس. أوضحت ليندغرين لاحقًا: «بيبي تمثّل التوق الطفوليّ لمقابلة شخص لديه السُلطة، لكنه لا يسيء استخدامها».
أخبرني كاتب سيرة جانسون، الكاتب بويل ويستن Boel Westin -الأستاذ الفخري لأدب الطفل، في جامعة ستوكهولم-، أنّ عام 1945، يُعتبَر في بلدان الشمال الأوروبيّ: «العام الذهبيّ لأدب الطفل». فإلى جانب شخصيات بيبي والمومين، كان هذا هو العام الذي نَشر فيه آلف برويسن Alf Prøysen، في النرويج مجموعته الأولى من القصص القصيرة، حيث دشَّن مسيرته المهنية، التي تضمنت لاحقًا: “ السيدة بيبربوت Mrs Pepperpot“ (2)، وهي سلسلة لا تزال تحظى بشعبيةٍ في جميع أنحاء العالم. كما كان هذا هو العام الذي نَشر فيه لينارت هيلسينغ Lennart Hellsing، الذي لا تزال أعماله تُقرَأ على نطاقٍ واسع في السويد، كتابه الأول للأطفال أيضًا.
بعد الحرب، كان الطفل يمثّل وعدًا بشيءٍ ما جديد، كما قال ويستن؛ كانت طفرة المواليد تبلغ ذروتها، و«كان هناك شعور بأنّ كل شيء ممكن». وفي حين أن بقيّة أوروبا كانت مُعدَمةً بسبب الحرب، كان الاقتصاد السويدي المحايد يمضي قُدمًا. وأدت إعادة إعمار أوروبا إلى ازدهارٍ اقتصادي مُستدام، استخدم الحزب الديمقراطي الاجتماعي عائداته لبناء دولة رفاهية سخيّة. وقرَّر البرلمان السويدي، باعتباره جزءًا من أوروبا البدء في تمويل رياض الأطفال تمويلاً مركزيًا، عام 1943، (تبعته الدنمارك، عام 1949)؛ وذلك في سياسة تأثَّرت بشدةٍ بأفكار عالِمة الاجتماع النسويّة ألفا ميردال Alva Myrdal، التي أرادت تحرير النساء؛ من خلال نقل العديد من مسؤوليات رعاية الأطفال إلى الدولة.
في الوقت نفسه، كانت هناك حاجة، في ألمانيا والنمسا المجاورتين، إلى كتبٍ لتحلّ محلّ الدعاية النازية للأطفال، التي تضمَّنت نصوصًا سيئة السُمعة، مثل: “لا تثق في الثعلب Trust No Fox”، التي تصوِّر اليهود على أنهم سكّان يعيشون في المدن، قصيرون، وغير جديرين بالثقة، وغير صحيين، يعيشون بشكلٍ طفيليّ عالةً على الألمان الكادحين. أخبرتني كارين نيمان Karin Nyman، ابنة ليندغرين، وهي مترجمة أدبية من الألمانية إلى السويدية: «في الأجزاء الألمانية من العالم، كان هناك فراغ في ثقافة الأطفال بعد الحرب، فعندما تخلَّصنا من جميع الكتب والثقافة النازية، كان هنالك فراغ».
باختصار، كان هناك طلب هائل على كُتّاب الأطفال الجدد. وبدلاً من محاولة تلقين هؤلاء المواطنين المستقبليين ضد الفاشية، شَعر الجيل الجديد من الكتّاب بأنّ عملية التلقين نفسها كانت هي المشكلة؛ لذا فضَّل الكتّاب التدريس بأسلوب «التعليم المدرسي الحُرّ» للمفكرين، مثل: التربوي الأسكتلندي ألكسندر نيل A S Neill، أو الفيلسوف بيرتراند راسل Bertrand Russell.
وأوضح هيلسينغ ذلك بشكلٍ جليّ في كتابه: “تأملات في أدب الطفل Reflections on Children’s Literature”، المنشور سنة 1963: «كل الفنون التربوية فنون سيئة، لكن كل الفنون الجيدة فنون تربوية». فقد كان يرى أنّ أدب الطفل يجب أن يهدف إلى الترفيه والتنوير والتحفيز، تمامًا مثل أدب البالغين؛ حيث شعر بأنّ أدب الطفل السابق لم يفعل سوى القليل جدًا من ذلك: «لقد كان مليئًا بالدوافع النبيلة والترويج لجميع الفضائل الإنسانية التي يمكن تصوّرها، لكن كان من الصعب عليه بطبيعة الحال تلبية حاجتنا للضحك في نفس الوقت».
تستشهد الأكاديمية السويدية أولا اندكفيست Ulla Lundqvist، بمقالٍ من أوائل الثلاثينيات، في صحيفة فوكسكولاراناس تيدينينغ Folkskollärarnas Tidning -الصحيفة المخصَّصة لمعلميّ المدارس العامة-، ذُكر فيه أنه يجب فحص جميع كتب الأطفال قبل دخولها للمكتبات المدرسية؛ لاستبعاد «الشتائم، أو التعبيرات القاسية، أو صور جوانب الحياة البشرية السيئة». واختتمت بعد مسح كتب الأطفال الأخرى المنشورة في السويد عام 1945، بقولها إنّ «أكثر اتجاه أدهشني في الكتب، هو النصح الأخلاقي؛ إذ غالبًا ما يكون بطل الرواية طفل عمليّ، وحسَن الهندام، ومطيع، وفي معظم الأوقات يخاف الله».
كانت شخصية بيبي صمامًا للتنفيس أكثر من كونها نموذجًا يُحتذى به.
إنّ الإثارة التي تقدّمها شخصية بيبي تكمن في كيفية قلب كل ذلك. فهي تنام بقدميها على الوسادة، وتكوّر عجينة البسكويت على أرضية المطبخ، وتُحضّر الفطائر عن طريق رمي البيض -بقشره- في وعاء التحضير. وتبقى حتى وقتٍ متأخر من الليل ترعى حديقتها، وهي كاذبة بارعة، تروي حكايات طويلة ومُبتكرة عن الشعوب التي صادفتها في الأراضي النائية.
عندما تذهب بيبي إلى أحد الفصول المدرسية ليومٍ من أيام الأسبوع، فإنها تخاطب المعلمة بـ: «أنتِ يا آنسة»، باستخدام كلمة «دو du» غير الرسمية. وهذا أمر ملحوظ بشكلٍ خاصّ عندما تتذكّر أنه في السويد عام 1945، لم يكن يُتوقع فحسب من الأطفال الإشارة إلى البالغين بكلمة (ni)، وهي الكلمة الرسمية لـ «أنت»، لكن كان يُتوقَع منهم أيضًا أن يخاطبوهم بألقابٍ، مثل: السيِّد المدير Herr Direktör، أو السيِّدة المعلّمة Fru Professor. لم يكن لدى بيبي أيّ من ذلك. فعندما كانت المعلمة تسألها: “ماذا تساوي خمسة زائد سبعة”، كانت ترد بحدةٍ قائلة: «إذا كنتِ لا تعرفين الإجابة بنفسِك، فلا داعٍ للتفكير بأنني سوف أخبرك بها».
وفي وقتٍ لاحق، عندما كانت أنيكا Annika -صديقة بيبي- تتساءل عن سبب اضطرارها لتناول العصيدة، كانت بيبي ترد قائلة: «بالطبع يجب أن تتناولي العصيدة اللذيذة الخاصة بكِ. فإذا لم تفعلي ذلك؛ لن تستطيعي النموّ لتصبحي كبيرة وقويّة؛ وإن لم تصبحي كبيرة وقويّة؛ فلن تتمكني من جعل أطفالك يتناولون العصيدة اللذيذة الخاصة بهم».
وعندما كان السكّان المحليون الطيبون يحاولون وضع بيبي في barnhem (وتعني حرفيًا باللغة السويدية «دار الأيتام ومنزل الأطفال»)، كانت بيبي ترد قائلةً: «لديّ بالفعل مكان في منزل الأطفال؛ فأنا طفلة وهذا هو منزلي».
كانت كتب بيبي تعارض باستمرارٍ الأخلاقيات التي تأسَّست عليها، أيّ نهج الدولانية الديمقراطي الاجتماعي، وتروّج بدلاً من ذلك للفردانية الفوضوية. فقد كانت ليندغرين تدرك أنّ ما كتبته ليس إلا بدعة على هامش أحداث العَصر الذي تعيش فيه. في خطاب تقديمها الأوّل إلى ناشرها، حرصت ليندغرين على الإشارة إلى أنّ الأطفال لن يرغبوا في تقليد بطلة روايتها، لكنهم عوضًا عن ذلك سيتعاطفون أكثر مع تومي وأنيكا، وهما أصدقاء بيبي وجيرانها المهذبيْن.
ربما بسبب مفاجأة بيبي للقرّاء؛ نجت من النقد لمدة عام قبل أن يهاجم جون لاندكويست John Landquist، -أستاذ الأدب والناقد البارز- الكتب، حيث وصَفها بأنها غير أخلاقية بشكلٍ مثير للاشمئزاز. إذ شجبها قائلاً: «لا يوجد طفل طبيعي يتناول كعكة كاملة في حفلة قهوة، إنّ ذلك يشير إلى خيالٍ مريض أو سلوكٍ قهريّ وسواسيّ».
مع احتدام النقاش في الصحف السويدية، التزمت ليندغرين الصمت، إلا أنها جادلت باستمرارٍ في المقابلات بأن بيبي كانت صمّامًا للتنفيس أكثر من كونها نموذجًا يُحتذى به، فكتبت لاحقًا أن: «بيبي ترضي حلم الأطفال بامتلاك القوة، وأعتقد أنّ مفتاح شعبيتها يكمن في ذلك بطريقةٍ ما».
لكن كان لليندغرين أيضًا هدف أعمق. فقالت عن كتابٍ آخر ألَّفته: «أودّ أن تثير قصتي الازدراء في روح طفلٍ واحد على الأقلّ مدى حياته تجاه أسوأ أنواع البشر الموجودة، وهُم: الأشخاص ذوو السُلطة الذين يسببون لنا الأذى». في رأي ليندغرين، كان لأدب الطفل القدرة على تشكيل المستقبل أكثر من أيّ شيء آخر. إذ توضح «لا شيء أكثر تأكيدًا من أن مصير العالم يتشكَّل في غُرف نوم الأطفال».
في ظاهر الأمر، فإن شخصيات المومين تقليدية بقدر ما كانت شخصية بيبي تخريبية.فبيبي تعيش بمفردها، دون أبوين، في حين أنّ مغامرات شخصية مومينترول اللطيفة تنتهي دائمًا بالعودة إلى أمّه مومينماما، في عالمٍ يسوده الحبّ والتسامح المتبادل. أوضحت جانسون لأحد المحاوِرين، عام 1983: «حاولت أن أحكي قصة عائلة سعيدة للغاية».
صورة توف جانسون في الستينيات أو السبعينيات. الصورة بواسطة بير أولوف جانسون.
تستند عائلة المومين والشخصيات المحيطة بها -نوعًا ما- إلى عائلة جانسون البوهيميّة: والدها النحّات وأمها الرسامة، اللذان يعيشان ويعملان معًا في نفس المنزل -في هلسنكي-، والأطفال يركضون حولهم، والأصدقاء غريبيّ الأطوار يمرّون لزيارتهم بين الفينة والأخرى. قال لي ويستن: «قد يبدو أنّهم محافظون، لكنهم في الواقع ليسوا كذلك»؛ مجادلاً أنّ عائلة مومين تتحدى الأسرة النواتية بنوعٍ من «المُشاعيّة الحرّة». على سبيل المثال، من الصفحات الأولى من كتاب: «الفيضان العظيم»، مُنح جميع أصدقاء مومنترول الجُدد مكانًا للعيش. «لقد انتقلوا إلى المنزل وحسب، ومن ثمّ تجعل الأم مومينماما الطاولة أكبر، ويضيفون بعض الأسِرَّة».
وبنفس الطريقة التي يسمح بها الحبّ للعائلات بتجاهل سِمات أفرادها الأقلّ جاذبية، فإنّ عائلة مومين المُمتدة تتسامح مع الجميع: ليس سنوفكين فحسب، الشاعر والفيلسوف المتجوِّل الذي لا يملك سوى الهارمونيكا، ولكن أيضًا سنيف، صديق مومينترول الرائع الأناني والجبان، وسنوركمايدن Snorkmaiden، السطحية والفارغة. حتى أنّ هناك تعاطفًا مع شخصية الغروك Groke، الذي يشعّ بالبرد والحقد، «تجسيد للخوف والرفض»، وفقًا لتولا كارجالاينن Tuula Karjalainen، كاتبة سيرة أخرى لجانسون.
تصبح رسالة الدمج والشمول هذه استثنائية بشكلٍ أكبر عندما نتذكّر أنّ خلال سنوات الحرب، كانت عائلة جانسون منقسمة تمامًا مثل العديد من الأشخاص اليوم. إذ كان والدها، فيكتور جانسون المُلقب بـ: “فافان” Viktor ‘Faffan’ Jansson، مؤيدًا متحمسًا لألمانيا النازية، وكان يثير غضب ابنته بآراءٍ سياسية -وصفَتها بأنها «يقشعر منها الجسد»-، تشمل المعاداة الصريحة للسامية. وفي الوقت نفسه، كانت توف ووالدتها، سيقني هامرستين-جانسون المُلقبة بـ: “هام” Signe ‘Ham’ Hammersten-Jansson، يكسبون المال من رسم الرسوم المناهضة للنازية لصالح مجلّةٍ يساريّة.
لذا يتحول الضغط الذي يشكّله ذلك على الأسرة إلى غياب الأبّ مومينبابا. فقد «أُخِذَ» مع عائلة هاتيفاتنرز Hattifatteners، «الذين يتجولون إلى الأبد، بلا كلَل، من مكانٍ إلى آخر، في سعيهم بلا هدف إلى ما لا يعرفه أحد». في وقتٍ لاحق، يغفل مومينبابا بهدوء افتتانه بهذا الحشد الغريب الأحمق عندما يكتب قصة حياته، وهو النهج الذي اتبعه العديد من المؤيدين الفنلنديين لألمانيا النازية. وعندما تكتمل مذكرات مومينبابا، لا يُذكَر فيها شيء على الإطلاق عن السنوات الضالة التي قضاها مع عائلة هاتيفاتنرز، الأمر الذي أثار حيرة سنوفكين.
في المناخ السياسي الأكثر يساريّة في السبعينيات من القرن الماضي في السويد وفنلندا، تعرَّضت كلّ من: ليندغرين، وجانسون، لانتقاداتٍ شديدة؛ بسبب رجعيّتهما. لكن الحقيقة هي أنّ كلتاهما سبقتا عَصرهما بشكلٍ كبير- لا سيَّما فيما يتعلَّق بالجنس. فحتى يومنا هذا، يصعب التفكير في شخصية طفلةٍ أخرى قويّة ونشطة ورابطة الجأش، مثل بيبي. في عالمنا اليوم، تشعر الكثير من النساء والفتيات بالسوء حيال مظهرهن، بينما أحبَّت بيبي مظهرها وشَعرها الأحمر والنمش وما إلى ذلك.
«إنكِ رائعة، رائعة»، تتمتم وهي ترتدي ملابسها أمام المرآة. ويسألها صديقها تومي: «مَن هو الرائع؟». تجيب بيبي: «أنا رائعة». وعندما ترى بيبي إعلانًا في نافذة صيدليةٍ مكتوب فيه: «هل تعاني من النمش؟»، تقتحم بيبي الصيدلية، وتواجه المرأة عند المنضدة، وتقول لها: «أنا لا أعاني من النمش»، «أنا أحبّه».
يبدو أنّ شخصيات المومين بالتأكيد أكثر تقليدية؛ فالأم مومينماما دائمًا ما تخبز وتنظّف وتزيّن وتُطمئِن. بينما ينغمس الأب مومينبابا في كل نزواته؛ حيث يقتلع الأسرة بأكملها في مرحلةٍ من حياته، وينتقل إلى فنار لمجرد شعوره بالاكتئاب. لكن في الواقع، وجهت جانسون نقدًا نسويًّا يعكس الغضب على وضع والدتها، هام، وعلى علاقتها بوالدها، فافان.
إذ كتبت إلى أحد الأصدقاء: «أرى كيف أنّ فافان، الأكثر اضطرابًا وقُصرًا في النظر بيننا جميعًا، يستبد بالمنزل بأكمله، أرى أنّ هام غير سعيدة لأنها كانت تقول دائمًا «نعم»، وتهدئ الأمور، وتستسلم، وتضحي بحياتها، ولم تحصل على أيّ شيء في المقابل باستثناء الأطفال».
تعتبر القصص أكثر راديكالية في تصويرها للجنس. والسيولة الجنسيّة. فقد أقامت جانسون نفسها علاقات مع كلٍ من الرجال والنساء قبل أن تستقرّ أخيرًا، على حدّ تعبيرها، في «الجانب المُخيف»، مع شريكتها، مصمِّمة الجرافيك تيوليكي بيتيلا Tuulikki Pietilä. تشكّل علاقة حبّها مع المخرجة المسرحية فيفيكا باندلر Vivica Bandler جوهر حبكة فيلم عائلة مومنترول الفنلندية Finn Family Moomintroll (1948) -وهو ثالث كتاب لها في السلسلة وأوّل نجاح دوليّ لها، نُشر باللغة الإنجليزية عام 1950. فلدى ثينغومي Thingumy وبوب Bob لغة سِريّة ويخفيان ياقوت الملك -الذي يرمز إلى حبّهما- في حقيبة سفر. لكن الغروك -الذي يمثّل قوى القمع والسلبية- يريد حرمانهما منها. وفي محكمة السخرية التي تعقدها عائلة مومين، يتناقض حقّ الجروك القانوني في الياقوت مع حقّ ثينغومي وبوب الأخلاقي. وفي (فيلم أرض المومين في وسط الشتاء Moominland Midwinter) (1957)، صوَّرت جانسون شريكتها بيتيلا في الكتاب بشخصية توتيكي Too-Ticky؛ على الرغم من الإشارة إليها بـ: «هي»، إلا أنّ توتيكي كانت ترتدي سراويل وبلوزات البريتون Breton، وكانت ذات شَعر قصير وقبعة وسكين على حزامها.
لم يستوعب قرّاء جانسون الصغار بالكامل هذا الاعتداء على الرقابة والقوانين الاجتماعية المناهضة للمثليّة الجنسيّة، وكذلك أغفله ناقدوها البالغون (أو ربما تجاهلوه بأدب). لا أستطيع التفكير في أيّ كاتب أطفال آخر كان، في وقتٍ مبكر من أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، يصوّر السيولة الجنسيّة ويحتجّ على عدم شرعية المثليّة الجنسيّة. وإذا كان أيّ شخص قد فعل ذلك منذ ذلك الحين، فإن أحدًا لم يفعله على مثل هذا النحو الرائع. على أيّ حال، فإننا نواجه اليوم ردة فعل غاضبة ضد عقود من التقدّم، مع الكثير من أدب الطفل الذي يسوّق لكتب الأميرات، والمهور الصغيرة، والأحصنة أحادية القرن للفتيات. وفي الوقت نفسه، تبدو مجموعة من الكتب التقدّمية الجديدة وكأنها عودة إلى هذا النوع من النهج الأخلاقي، الذي كانت ليندغرين تحاول الهروب منه. قد تحتوي كتب، مثل: «قصص ليلة سعيدة للفتيات المتمردات Good Night Stories for Rebel Girls» (2016-)، أو المجلدات العديدة عن الناشطة البيئية غريتا ثونبرغ Greta Thunberg، على كل النوايا الصحيحة. لكنها تتعلّق أيضًا بضمان حصول أطفالنا على تلك الآراء التي نريدها لهم، والقليل منها ممتع للغاية.
تذكّرنا بيبي ومخلوقات المومين بأنّ الفكاهة الجنونية، وسرد القصص الخيالية، يمكن أن ينقل الأفكار الإنسانية على الأقلّ بنفس قوة النهج الأخلاقي الحرفيّ. لكن ربما تكون رسالتها الأكثر أهمية هي أنه مهما كانت الأمور سيئة، فمن المُمكن دائمًا تخيّل العالَم من جديد.
الهوامش
1- بيبي شخصية خيالية كرتونية عٌرفت لأوّل مرّة في سلسلة قصصٍ للأطفال للروائية أستريد ليندغرين إبّان الحرب العالمية الثانية، وقد جُسّدت الرواية في عدد من الأفلام والمسلسلات، ومنها المسلسل الكرتوني (بيبي الشقيّة) الذي دُبلج وعرض على قناة سبيستون. أمَّا المومن فهم أيضًا شخصيات خيالية في سلسلة قصص أطفال أخرى للروائية توف جانسون، وقد جُسِّدت الرواية أيضًا في مسلسلات كرتونية، ومنها مسلسل ياباني دُبلج للغة العربية، وذلك خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي، وكان اسم المسلسل (وادي الأمان).
2- مسلسل بيبربوت عرفه عالمنا والجيل القديم حين تمَّت دبلجته، أنتجته شركة يابانية في بداية الثمانينات، وكان اسم المسلسل: (السيّدة ملعقة)، وقد كانت دبلجته من صالح: المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.