وفقًا لقصةٍ قديمة في اليابان طلب «سين نو ريكيو» سيّد احتفالات الشاي من أحد تلاميذه أن يجهّز المكان لحفلِ شاي، بدأ الشاب بإزالة الحجارة الصغيرة، وتشذيب الأغصان بدقة، وإزالة الأوراق اليابسة من على الأرض حتى بدت الحديقة مثالية وفي غاية الدقة والتهذيب، وحين قدِم المعلّم سار وسط الحديقة التي لا تشوبها شائِبة حتى وصل إلى غصن شجرة أمسك به وهزّه قليلًا وهو يتأمل تساقط وريقات الشجر بعشوائية على الدرب المهذّب، هذا الفعل الجمالي الذي قام به «ريكيو» هو تمثيل في منتهى البساطة لمفهوم الوابي-سابي.
تميل مُعظم الفلسفات الشرقية إلى تقدير البساطة في الحياة واستلهام أساليب العيش من الطبيعة باعتبار الكائنات جميعًا -ومن ضمنها الكائن البشري- جُزءًا من الطبيعة، وإحدى الفلسفات التي شقّت طريقها من خلال الفنون والاحتفالات اليابانية التقليدية لتُصبح أسلوبًا لحياة كثير من الناس داخل اليابان وخارجها هي «وابي-سابي». تتبنى هذه الفلسفة فكرة أنّ قيمة الحياة والفن وجماليتهما لا تكمن في الكمال والديمومة، بل على العكس في النقص و«الموقوتية» حيثُ تقوم هذه الفلسفة على ثلاثة حقائق: «الموقوتيّة، وعدم الكمال، وعدم التمام» أولًا موقوتيّة الأشياء فكل الأشياء إلى فناء، ثانيًا النقص وعدم الكمال فلا شيء مثالي، وثالثًا عدم التمام لا شيء يصل إلى نهاية تجعلنا نصفه بالتامّ. يصعب ترجمة «وابي-سابي» من اللغة اليابانية إلى لغة أخرى لكن يمكننا تعريف الكلمتين: «وابي» تعني الانعزال والتماهي مع بساطة الطبيعة بينما تعني «سابي» التَقادُم بمرور الزمن، وليس تقادم الأشياء أيّ اضمحلالها إنما التقادم الذي يُكسبها وقارًا وأصالة.
على العكس من التوجهات الجمالية -وبالأخص الغربية- التي تعتبر الكمال والمثالية والتناظر أساسيات للجمال، تقدّر هذه الفلسفة اليابانية اللاكمال باعتباره سِمة وجودية وتنظر إلى ما قد يراه البعض عيوبًا كآثارٍ ذات قيمة تستحق التقدير، بل ترى أن ذلك هو جوهر الشيء وما يكوّن هويته ويجعله فريدًا. ليس في لحظات الازدهار والاخضّرار، ولكن في البدايات المتواضعة وفي الاضمحلال والذبول تتجلى الوابي-سابي ما يجعل منها دربًا للتصالح مع الذات وطبيعة الحياة العابرة وقبول العالم كما هو من حولنا لا كما نريده أن يكون، إذ إنّ طبيعة الحياة مُتغيّرة وغير مثالية، فلا شيء سيدوم على حاله ولا شيء سيصل إلى المثالية المتخيّلة، وإنّ هذا القبول يُسهِم في تناغمنا مع تلك الطبيعة وإدراكنا وفهمنا لأنفسنا، وبالتالي التوصل إلى منطقة داخلية مليئة بالسلام تُعيننا على عيش حياةٍ طيّبة. يعزو بعض الباحثين اليابانيين في هذا المجال سبب غموض هذا التوجّه وقلّة الكتب والدروس التي تُفسِّر وتشرح معناه إلى أنّه في جوهره غامض، وأنّ تفسير الوابي-سابي ومحاولة شرحها وتعليمها يُفسد هذا الجوهر، إذ إنها في فكرتها احتضانٌ للأشياء كما هي، فهي حالة تُعاش وليس مفهومٌ يُفسَّر.
فن الكينتسوغي
يُحكى أنه في القرن الخامس عشر تحطّم وعاء الشاي المفضّل لدى الشوغن «أشيكاغا يوشيماسا» ولم تَسلَ نفسه ولم يرغب في التخلي عنه فأرسله للصين لإصلاحه لكنه شعر بالإحباط حين عاد إليه بعد أن تم إعادة جمع الأجزاء مع بعضها البعض بأربطة معدنية جعلته مختلفًا عمّا كان عليه من قبل وغير عَمليّ، إلا أنّه لم يفقد الأمل من إمكانية إصلاحه فعرضه على حرفيين يابانيين والذيّن رأوا تعلّقه في قطعته ففكروا بملء الكسور والشقوق بخلط بودرة الذهب ومادة صمغية وتلحيم الأجزاء مع بعضها، لتبدو القطعة بعد تقديمها إليه أجمل حتى مما كانت عليه، وبالفِعل نالت النتيجة استحسانه وكأنه تلقى جَوهرة ثمينة.
هكذا بدأ ما يُعرف حتى اليوم بفنّ «الكينتسوغي» وهو فن إصلاح القطع المكسورة بالورنيش ومخلوط الذهب والفضة. يرتبط هذا الفن مع «الوابي-سابي» بكونه ليس سعيًّا لإخفاء عيوب القطعة؛ بل على العكس اعتبار الخدش أو الكسر جزءًا من تاريخ وقيمة القطعة بدلًا من محاولة إخفائها؛ فالهدف هنا إبرازها بلمسات جماليّة تجعل من هذه الآثار جزءًا من القطعة وهويتها. تُصلَح الكسور بطريقة تجعلها أوضح وغالبًا ما تشابه عناصر طبيعية كالأنهار والشلالات والجبال، في ذلك الفن دعوة لقبول التغيير بدلًا من مقاومته أو رفضه، بل إنّ هذه التغييرات تَمنح القطعة جمالًا وفرادة وتجعلها أكثر قيمة ومعنى فهذه الآثار والخدوش التي تملأ القطعة هي ذكريات وأحداث كوّنت هويتها. وقد ساهم في ولادة هذا الفن أيضًا مصطلح «mottainai» وهو مصطلح ياباني يُعبّر عن الشعور بالأسف على الأشياء المهدورة، ويستخدمه الدُعاة لحماية البيئة في حملاتهم لتوجيه الناس إلى إعادة استخدام الأشياء وإعادة تدويرها، ومصطلح آخر وهو «Mushin» والذي يعني الحالة الذهنية الصافية التي يصل إليها الإنسان في التأمل.
تكمن أهمية هذا الفن لنا في تذكيرنا بأن الآثار التي نحملها هي جزءٌ مهم من صورتنا الكاملة وهويتنا، إنّ نهج المثالية الحديث قد يجعلنا نرى بعضًا من آثار مرور الزمن على أجسادنا أو وجوهنا عيوبًا يجب التعامل معها أو إخفاؤها، بينما هي جزء طبيعي من تغيّراتنا الحتمية خلال رحلة حياتنا، التجاعيد وآثار التقدّم في السن بل وحتى الندوب خلف كل منّها قصة وأجزاء مهمة من حكايتنا وحياتنا الشخصية ساهمت في بناء هويتنا وذاتنا التي نحن عليها اليوم. إن تقدير هذه الندوب والآثار والتراكمات وقبولها والتصالح معها هو ما سعى إليه جميع الفلاسفة عبر التاريخ، إذ إنّ الحياة الطيّبة ليست إلا درب السلام الذي يُصالحنا مع أنفسنا كما هي والعالم من حولنا.
«وابي-سابي» كطريقةٍ للعيش
ثمّة نوع من التعارض بين مفهوم وأشكال «الوابي-سابي» والتوجه الحديث سواء في أساليب الحياة أو أدواتها فإن الهندسة المعمارية الحديثة الدقيقة جدًا والأدوات التي نستخدمها، قطع الأثاث المقطوعة بدقة، والأسطح الملساء الخالية من الخدوش والانحناءات، كلها لا تشبه تلك القطع التي لا تخلو من الاعوجاج والخدوش والزوايا اللامُتناظِرة والأسطح الخشنة غير المستوية، يميل أولئك الذيّن يتبنون تلك الفلسفة كطريقة للعيش إلى استخدام أدوات تُشابه الطبيعة بل مستخلصة منها، وأحد الأمثلة على الأماكن التي يمكننا رؤية احتضانها لتلك الفلسفة هي حدائق الزِن. مؤخرًا أصبحت «حدائق الزِن» إحدى الخيارات التي يميل إليها المهتمون بالحدائق وتُعرف بهذا الاسم عالميًّا، إلا أنها في اليابان تُسمى «karesansui» والتي تجيء بمعنى الطبيعة الجافّة. حيثُ تغلب الحجارة والرمال في هذه الحدائق وتُشكَّل الحجارة البيضاء بأشكال تُحاكي التدفّق والتيارات المائية. أما بالنسبة للمنزل فما يمكننا استلهامه من هذا التوجه هو إعادة استخدام القِطع القديمة واعتماد البساطة فنستشعِر «الوابي-سابي» في البيوت التقليدية، وقِطع الأثاث العتيقة التي لا تفقد وظيفتها وقيمتها حتى وإن بَهتت بعض ألوانها، بل يُفضِّل من يميل إلى هذا النوع من التأثيث إلى استخدام ألوان محايدة مستخلصة من الطبيعة وتتماهى معها.
ما الذي قد نستخلصه من فلسفة جمالية يابانية؟ إننا نحيا في زمنٍ هادر، أيام وسنوات تسير كتيارٍّ مُندفع كما لو أنها في مهب الريح، لو كنت أميل لأحد أوصاف العصر الحديث فسيكون وصفه بعصر السرعة، هذا الزمن فعلًا يجري بوتيرة سريعة، وما أثمن تلك الأوقات التي نوقف فيها جريان العالم الهادر داخل عقولنا لنتأمل الأشجار أو الطرق التي اعتدنا المرور عليها، حركة الأغصان الهادئة مع الرياح، الأوراق المتساقطة بهدوء، أشعة الشمس وهي تتخلل أغصان الأشجار، إنّ هذه الأوقات التي نغوص فيها داخل تأملاتٍ صامتة تُعيدنا إلى استشعار ما هو أهم في هذه الحياة، كما أننا نحيا في عالمٍ مُكتظٍ بالأشياء وليس أمرًا سهلًا أن نحقق التوازن بين حاجتنا للأشياء ومتعة امتلاكها وبين ضرورة التخفف من الأشياء ومتعة التحرر منها. ثم إنّ قبول فكرةٍ كالفناء مثلًا يتطّلب دروبًا طويلة إلا أن تهذيبنا لأنفسنا باستذكار ما هو حتميّ والسعي لقبوله يُعيننا على تهوين ما قد يحلّ على وعينا كمعاناة ثقيلة.