هناك فكرة يونانية قديمة مفادها أن الفن لا يستنسخ ما في الطبيعة ولا يعيد إنتاج تفاصيلها، إنه يقوم، على العكس من ذلك، بتصحيح جوانب النقص فيها. وهي الفكرة ذاتها التي أشاعها كاندينسكي وضمَّنها تصوره لحقيقة الفن ووظيفته. فالطبيعة لا تتسرب إلى العمل الفني من خلال مظاهرها، إنها تكشف عن نفسها من خلال إيقاعات الألوان والأشكال فيها. استنادًا إلى هذا “كان التخيل نشاطًا أكثر أصالة من المحاكاة، فهذه لا تمثّل سوى ما يُرى، أما التخيل فيقوم بتمثيل ما لا يُرى”( فيلوسترات). وذاك هو جوهر الإبداع الفني، إنه سبيل نحو حقيقة جديدة لا تستقيم إلا بتخليص المحيط من نفعيته وتحويله إلى موضوع جمالي يستمد قيمته من ذاته لا من استعمالاته.
بعبارة أخرى، إن الفنان يستنبت في الوجود روحًا جميلة قد تكون مستوحاة من الجمال الطبيعي، ولكنها تقدم للعين جمالًا لا يكون كذلك إلا في العمل الفني. إن طريقنا إلى الجميل يمر عبر الاحتفاء بالحقيقة، فهي مصدر “انفتاح الموجود على العالم”، كما يقول هايدغر. ففي هذه الروح يثوي الجمال وينمو ويكبر لينتشر بعد ذلك في الكائنات والأشياء الجميلة، كما تتحقق في كل الأعمال الفنية. يتعلق الأمر بالارتقاء بالجمال من مجرد تمثيل لأشياء موجودة في العالم الخارجي إلى ما يمكن أن يعبر عن “داخل” تستوطنه صور ليست مستوحاة دائما مما يمكن استعارته من محيط طبيعي صامت.
وذاك ما أكده روسو أيضا وهو يتحدث عن الأصول الأولى للغة. فأشياء كثيرة يمكن أن تكون جميلة في ذاتها، كما هو الشأن مع الجمال في صوت معزول. ولكن جمال الموسيقى لا يتحقق بالجمع بين كل الأصوات الجميلة. إن جمالها يعود إلى نشاط آخر مصدره الملحن. “إن جمال الأصوات من الطبيعة، وتأثيرها تأثير خارجي، فجميع الناس قادرون على التمتع بهذه الأصوات ” (1)، أما الصوت الموسيقي فمصدره شيء آخر، ذلك أن ” اللحن لا يؤثر فينا من خلال طابعه الصوتي، بل يفعل ذلك عندما يتحول إلى علامات لانفعالاتنا وأحاسيسنا، وبهذه الطريقة نهتز له ونتعرف عليه “(2). “إن الضجيج لا يستثير في الذهن أي شيء، لذلك لا يجب أن تكون الأشياء حاضرة فحسب، بل يجب أن تكون ناطقة لكي يسمعها الناس أيضًا” (3).
وتلك هي حكاية “حذاء فان غوخ” الذي يتحدث عنه هايدغر وهو يُسائل الهوية الشيئية للشيء بحثًا عن أصل العمل الفني. فحقيقته ليست مستقاة من خصائصه، وليست أيضًا حاصل ما يحيط بنواته من مظاهر حسية، وهي أيضًا ليست جزءًا من مادة تُجليها الأشكال. إن حقيقته في مكان آخر، هي ما يمكن أن يقوله عندما يتخلص من كل هذه الحجب ويصبح واحدًا في ذاته وتلتقطه النفس وتحتفي به استنادًا إلى ما يمكن أن يستثيره فيها بعيدًا عن الاستعمال اليومي.
لقد كان هذا الحذاء قبل أن يستوطن اللوحة في مكان آخر. لقد كان ناطقًا في نفعيته وحدها، فلا غاية منه سوى ما هو منذور له بشكل مسبق. لقد كان ينتمي إلى المعيش اليومي، كانت الفلاحة تلبسه وقاية من البرد وحماية لأقدامها من الطين والأوحال، بل كانت تشق به الطريق وتمشي فوق التراب. لذلك لم تكن تهتم بوجوده ولا تُحس به، فهي لا تلتفت إليه إلا حين تشرع في ارتدائه، أو حين تتخلص منه مساء وقد عادت إلى بيتها مجهدة، لتلبسه في الصباح من جديد، وهكذا ضمن دورة حياتية يتحقق جزءٌ منها في ما يقدمه الحذاء من وظائف. وسيظل هذا الحذاء يقوم بهذه الوظيفة إلى أن يتآكل ويتلاشى ويصيبه التلف لتستبدله بآخر(4).
لا تقول هذه المعارف مجتمعة إلا ما كنا نعرفه بشكل مسبق. إن الحذاء أداة استعمالية، إنه شبيه في ذلك بالكثير من الأدوات التي نستعملها دون أن نلتفت إلى وجودها. “أما إذا وقفنا عند تمثيله في “بداهته” و”بشكل عام” خارج الدائرة النفعية ومردوديته في اليومي، أي نكتفي بالنظر إلى اللوحة باعتبارها تمثل حذاء “فارغًا”، صامتا بدون استعمال، فإننا لن ندرك أبدا الكينونة “الإنتاجية للمنتج”، ذلك أننا لا نعرف، من خلال لوحة فان غوخ، مصدره ومكانه، فليس هناك سوى فضاء فارغ” (5). ومع ذلك، قد يكون هذا الفراغ هو سبيلنا الوحيد إلى استنفار مخزون معرفي واسع يشمل الحياة في كل مناحيها.
ستختفي الحقائق الأولى فجأة، فقد أصبح الحذاء في اللوحة عنصرًا ضمن نظام وجودي من طبيعة أخرى. لقد أعاد فان غوخ تشكيله خارج وظائفه، لقد خلصه من نفعيته، وقذف به داخل عالم يعود من خلاله إلى نفسه. لقد استعادته عين الفنان إلى الذاكرة خارج كل سياقات الاستعمال. سينسى الناس ماضيه في الأقدام ليستحضروا فقط صورته كما تمْثُل أمام العين. إن هذه الصورة لا تستعيد حذاء يشبه كل الأحذية، بل تمثل لحذاء مفرد موجود باعتباره نسخة لا تحيل على نموذج يستوعب كل النسخ المشابهة. لذلك كان الموضوع في الصورة دائمًا مفردًا.
لقد فصَلَته اللوحة عن محيطه ووظيفته، وعن أقدام الفلاحة أيضًا، لكي يحضر أمام العين باعتباره هو في ذاته في انفصال عما كان يُراد منه لحظة تصنيعه. حينها تبدأ سيرورة جديدة، من خلالها سيتخذ مضمونًا جديدًا، يتعلق الأمر بسلسلة من الأحاسيس التي يعتقد هايدغر أنها تشكل حقيقة الحذاء في وضعه الجديد، أي باعتباره موضوعًا فنيًا، لا باعتباره مجرد أداة نفعية. إنها “الكينونة ” الشيئية للشيء، بتعبير هايدغر دائمًا.
سنُطل من خلال هذا الحذاء على حقائق أخرى، قد لا تقول عنها نفعية الحذاء الواقعي أي شيء. “ففي جوف هذا الحذاء تختفي حميمية من نوع خاص. إنها تحيل على جهد الفلاحة وتعبها. وفي ثقله وخشونته يرتسم كدها وتعبها وإصرارها على الاستمرار في الحياة وهي تشق الحقول كل يوم. وهناك في جلده بقايا من العرق والأوساخ. وفي خيوطه نتلمس وحشة الطريق وامتدادها في البادية عندما يحل المساء. وهناك أشياء أخرى: هناك النداء الصامت للأرض بكل خيراتها، وهناك القلق من فقدان رغيف العيش، وفيه الفرح الصامت من النجاح في إشباع كل الحاجات. وفيه أيضا قلق الولادة والخوف من الموت. إن المنتج ينتمي، من خلال كل ذلك، إلى الأرض، إنه في حماية عالم الفلاحة ففيه يستريح مكتفيا بنفسه”(6).
لا وجود لهذه الحقائق مجتمعة في نفعية الحذاء وفي أقدام الفلاحة، إن اللوحة وحدها قادرة على بعثها وجعلها الحقيقة الوحيدة للحذاء.
لقد أصبح ناطقًا في الأحاسيس التي يمكن أن تستخلصها العين من لحظة توجد خارج اليومي كما يوحي به الحذاء. لقد اختفت النفعية فيه، وحضر تاريخ الفلاحة وتاريخ الأرض، تعبها وكدها وشقاؤها والسنابل التي رعتها والحبوب التي جمعتها، ستظهر هذه العناصر فجأة في الحذاء عندما ينفصل عن وظيفته ومحيطه. لقد امتلك حياة جديدة في اللوحة، لقد خلصه فان غوخ من استعماليته المتمثلة في مادة مصنوعة وموجهة إلى غاية بعينها، لكي يحوله إلى أثر في الفن تستحضر من خلاله العين حقيقة أخرى غير حقيقة النفع فيه.
فكيف حصل ذلك ؟” لقد وصلنا إلى الكينونة الإنتاجية للمنتج*. ولم يكن ذلك من خلال وصف حذاء حقيقي أو تفسير وجوده، ولا من خلال رصد سيرورة تصنيعه، ولا من خلال الطريقة التي يُستعمل بها فعليًا في أماكن مختلفة، إننا في واقع الأمر لم نقم سوى بأن أسْلمنا قيادنا للوحة فان غوخ، وهي التي تكلمت، وألقت بنا إلى مكان آخر غير ذاك الذي تعودنا أن نكون فيه” (7). ففي غياب اللوحة لم يكن لكينونة الأداة أن تظهر، فما تكشف عنه اللوحة هو حقيقة أخرى غطى الاستعمال على ما هو فني في “الشيء” عندما كان محددًا من خارجه، أي استنادًا إلى خصائص هي التي كانت تحرمنا من تحديد كنهه.
وهي صيغة أخرى، للقول إن الفن وثيق الصلة بالحقيقة ومصدر من مصادرها، ذلك أن “كل ملفوظ فني يسلمنا رسالة، ما يشبه الهزة العنيفة المرتبطة بمعرفتنا، إن الأمر يتعلق باندهاش، وقد يكون رعبًا مما حدث للإنسان وما وصل إليه” (8). فلا يحيل العمل الفني على الجميل فحسب، كما هو الشأن في الجماليات، بل يحيل على “حقيقة قصة”، هي قصة الفلاحة مع الأرض في هذا الحذاء، وقصة الإنسان مع قدَره في الحياة.
وذاك ما يميز الحفري عن الهرموسي، كما يؤكد ذلك غادامير وهو أحد تلامذة هايدغر؛ يبحث الأول في اللقى عن زمنية أصلية قد تقربه من البداية، بداية الكون ولحظاته الأولى استنادًا إلى معطيات العلم وإكراهاته، أما الهرموسي فيبحث في هذه اللقى ذاتها عن الحقيقة، كما تبلورت في تلك المرحلة استنادًا إلى الفهم، وبذلك يوسع من فهمه لذاته وللآخرين وللمرحلة التي يعيش فيها. إن الحفري يستنطق مادة ميتة، أما الهرموسي فيبحث عن بقايا المعنى في اللقى والنصوص(9).
——
*- philostrate
1-Jean-Jacques Rousseau : Essai sur l’origine des langues ,éd Gallimard,1990, p.122
2-نفسه ص126
3-نفسه ص 125
4- Martin Heideger : Chemins qui ne menent nulle part , éd Gallimard,1962 ,p.33
5-نفسه ص33
6- نفسه ص34
*-l’être-produit du produit
7- نفسه ص36
8- H. G Gadamer : L’art de comprendre II, p.308
9- انظر كتابنا : سيرورات التأويل من الهرموسية إلى السميائيات، الدار العربية لعلم ناشرون 2012 ص 145