تُعتبر العبقرية كلمة مُستهلكة يصعب وصفها ومعرفتها بالتحديد. وربما يكون أفضل تعريف لها هو: العباقرة هم أولئك الذين يُوسّعون أفق مجالهم. ما من طريقةٍ مؤكدة تجعلنا نحدّد ما إذا كان شخصٌ ما عبقريًا أم لا، أو متى يصبح كذلك، فالأمر مسألة تتعلق أكثر باعتراف الناس بعبقريته.
إنّنا ندرك العبقري ونميّزه بنفس الطريقة التي ندرك بها عددًا متضافرًا من الأحداث على أنّه حدث واحد كبير وهام، مثل ثورة، إذ تصبح بعض الأشياء واضحة بعد مرور الزمن، حتى وإن لم تكن كذلك في وقتها.
وتعرّف الموسوعةُ -التي عمل على تحريرها الشخصية التنويرية والعبقرية الفرنسية دينيس ديدرو- العبقريَّ على أنّه:
“الشخص الذي تتسم روحه بالرحابة، والقدرة على استشفاف مشاعر الآخرين جميعا؛ يثير كل ما في الطبيعة مشاعره، ولا يحصل البتة على فكرة إلا إن استحضرت معها شعورا؛ كل شيءٍ يثيره، وبالتالي ما من شيءٍ مفقود لديه”.
والحقيقة هي أنّه بقدر ما نُضفي على العبقرية مسحة رومانسية، إلا أنّها ليست بالشيء المُقدّر أو المحتوم؛ فلم تُقبّل آلهة الإلهامِ العبقريَّ ولم يباركهُ الرب. الموهبة ليست كل شيء، وللعباقرة خصائص مشتركة تجعلهم كذلك، وهي خصائص يمكن اكتسابها.
وبعد قضائي لوقتٍ طويل في دراسة حياة العباقرة وما يمنحهم هذا اللقب، استطعتُ تقليص الخصائص التي يشتركون فيها جميعًا إلى خمس خصائص، ويمكن العثور على كل واحد منها في تعريف الموسوعة السابق ذكره. تتمثل هذه الخصائص فيما يلي:
- التفكير المتشعّب.
- النظر من زوايا ومنظورات أخرى.
- انعدام الاستقرار تماما. [1]
- التشكيك في التفكير التقليدي.
- اعتداد عظيم بالذات وإيمان جسور بها.
سأوفّر عليك الشعارات التحفيزية والعبارات المبتذلة عن العمل الجاد، فالإنتاجية ليست مطلبًا أساسيًا للعبقرية. والواقع هو أنّه ليست جميع الأمثلة أدناه لأشخاص عملوا بجد، بل إن واحدًا منهم “بالكاد” اجتهد فيما عمل.
كما أن أحدًا منهم “لم يتظاهر بالأمر حتى تمكّن من تحقيقه” من خلال تقليد العباقرة الآخرين، ولم يتقبّلوا فشلهم بشكل روتيني، مع أنهم قد “فشلوا” بلا شك من وقتٍ لآخر. ما من صفة من هذه الصفات التي يحبّها المدرّبون التحفيزيّون تصنع بالفعل شخصًا عبقريًا.
إن ما يجمع كل هذه الخصائص الخمس هو الشجاعة، وهذا هو السبب في كون العبقرية نادرة للغاية. جميع العباقرة أدناه هوجموا بطريقة ما، وتعرضوا للسخرية والتهديد والاعتداء على أقل تقدير. أحدهم تعرّض للمقاضاة، واثنان رميًا في السجن؛ واحد منهما تمّ إعدامه. كل هذا في سبيل العبقرية.
إذا أتقنتَ كل واحدة من هذه الخصائص -وستحتاج إلى الكثير من الشجاعة لإتقانها حقًا- فستصبح عبقريًا. قد لا نكون عباقرة أبدًا، ولكنّنا سنحقّق نتائج رائعة ونحن نحاول أن نكون كذلك.
التفكير المتشعّب – بابلو بيكاسو
نحن نتعلم في معظم الأحيان من خلال التفكير المتقارب، أي إيجاد حلّ واحد من محفّزات مختلفة. ولكن التفكير المتشعب يتمثل في الإتيان بعدد من الحلول من حافزٍ واحد.
أحد تمرينات التفكير المتشعب هو أخذ شيء واحد واستخدامه في أمور متعددة. يجيد الأطفال ذلك جيدًا، فعندما يلعب الطفل، يمكنه تخيّل كرة التنس كوكبًا، أو تخيل صندوق من الورق المقوى منزلًا أو محطة فضائية على سطح القمر.
لكي تكون عبقريًا، عليك التفكير كطفل. قال بابلو بيكاسو: “لقد استغرقني الأمر أربع سنوات لأرسم مثل رافائيل، ولكنّه استغرقني عمرًا بأكمله لأرسم مثل طفل”، كما قال أيضا: “كلُّ طفلٍ فنّان، المشكلة هي كيف تبقى فنانًا بعدما تكبر”.
كان بيكاسو بارعًا بشكلٍ خاص في التفكير المُتشعّب. كان قادرًا على “رؤية” الأغراض اليومية المعتادة بطرق مختلفة للغاية. من الأمثلة الرائعة على ذلك هي الطريقة التي أخذ بها مقود دراجةٍ وكرسيّها وجمعهما معا لتشكيل رأس ثور.
لقد بنى بيكاسو تماثيل لأشخاص وحيوانات من الخردة والنفايات؛ فلعبة على شكل سيارة تصبح رأس بابون، وسلةٌ تصبح جذع طفل، وبعض الخردة المعدنية تصبح بطريقة سحرية عنزة. المثير بشأن هذا الأمر ليس البراعة التي صُنعت بها التماثيل، بل أن بيكاسو رأى هذه الأشكال الحيّة في مادةٍ جامدة مخصّصة لاستخدامٍ آخر. ومثل طفل، استخدم التفكير المتشّعب للعب بالواقع.
النظر من زوايا ومنظورات أخرى – جيمس جويس
“أُعدّ هذا الكتاب أهم صور التعبير التي أوجدها العصر الحاضر.” هكذا تحدث تي. إس إليوت عن رواية عوليس التي كتبها جيمس جويس، وتقع أحداثها في مدينة دبلن. لقد أحدثت هذه الرواية ثورةً في الادب، وسقطت على العالم الأدبي كقنبلة.
أثبت جيمس جويس أنه كاتبٌ بارعٌ بالفعل، ولكن غالبًا ما يعتبر النقاد روايته البارزة والفارقة هذه أعظمَ أعماله، نظرا لبراعتها الفنية وبصيرتها النفاذة بشأن معنى أن تكون إنسانًا.
حقّق جويس هذا الهدف من خلال وضع نفسه ككاتب مكان الشخصيات الرئيسية الثلاثة: ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس ومولي بلوم. كان ليوبولد بلوم مدير إعلاناتٍ يهودي جعلته معاداة السامية يشعر بالغربة في بلدته. أما دايدالوس فهو شاب يافع وذكي لكنه ضائع، وبالنسبة لمولي بلوم فهي زوجة ليوبولد الخائنة التي تشعر بأنّها عالقة.
يكتب جويس أفكار الشخصيات بشكل حرفي أثناء حدوثها (وقعت أحداث عوليس كلها في يومٍ واحد) باستخدام تقنية تسمّى “تيّار الوعي”. يتكون الفصل الأخير من الرواية بأكمله من أفكار مولي بلوم وهي مستلقية في الفراش ليلًا، مكتوبا في أربع جملٍ ضخمة ومترامية الأطراف. ما نطلق عليه “عقل القرد monkey mind” أو العقل المشتت لنوبة أرق، استطاع جويس حياكته في نسيج شخصية بطريقةٍ مُحفّزة على التحول ومؤثرة تأثيرًا بالغًا.
يبدأ الفصل وينتهي بكلمة “نعم”، كنوعٍ من التوكيد على الذاكرة. هذه الذكريات هي تلك التي صنعها جويس من كونه مع أشخاص آخرين، فيتذكّر ويراقب من أجل تصوّر تجربة للعالم تختلف عن تجربته الخاصّة. “نعم” كلمةٌ مقدّسة. يقول العباقرة “نعم” لأنفسهم و “لا” لمطالب الآخرين.
انعدام الاستقرار تمامًا – بيورك غوموندسدوتير[2]
بيورك وهي تؤدي في لندن عام 2018 (المصدر: ويكيبيديا). تعتبر بيورك “فنانة مؤلفة auteur”، أي أنّ جميع المجالات الإبداعية والإعلامية تتلاقى لتشكّل أعمالها.
عندما كرّم متحف نيويورك للفن الحديث بيورك من خلال إقامة معرضٍ لها، وجّه الناقد الفني Peter Schjeldahl انتقاداتٍ لاذعة للأمر. لكنه أردف قائلًا: “ومع ذلك، لم تصب بيورك بأذى.” لماذا؟ لأنّها ” قوة إبداعية تجريبية لا تكلّ ولا تملّ، وليست علامةً تجارية عُرضة للتشويه”.
يصبح متوسطو الأداء Mediocrities “علامة تجارية”، فهم يستقرّون على أسلوب ما وينخرطون في تكراره. أمّا العباقرة فلا يستقرّون أبدًا، وهو أمرٌ يجعلهم عرضةً للخطأ والفشل. ولكن الفشل لا يُعد ّكذلك في الحقيقة إذا ما جرى التنقيب فيه عن ولو أجزاء ضئيلة من الذهب، تندمج معا لتشكل نجاحًا لاحقًا.
لقد جمعت بيورك بين الأسلوب والأنواع كما لم يجمع مبدعٌ آخر، ويُعتبر تصنيفها كموسيقية فقط ظلمًا صارخًا لمنتوجها الفني، فأعملها تجمع بين الأزياء والأداء والتصوير والفنون البصرية، وهي عناصر ممتزجة معًا بالطبع.
تذوب الحواجز بين هذه الوسائط، ويذوب الفرق بين الفن “العالي” و”المنخفض” في ظل سعي بيورك الحثيث لإشباع نهمها الإبداعي للاختلاف. يدور عالم البوب اليوم حول الانتقائية التركيبية eclecticism للوسائط، ولكن لا يمكن تصور هذا العالم دون عمل بيورك الرائد. وقد كتب الناقد جيسون فاراجو قائلا: “ما من شكٍّ أن بيورك هي سيّدة التضاريس الثقافية للوقت الحاضر”.
تكمن وصفة انتقائية بيورك في التعاون. تضم قائمة الذين تعاونت معهم مجموعةُ مِن أشهر مَن في الثقافة العالمية للقرن الواحد والعشرين. يمكن أن نصف بيورك بما يُعرف الآن بالفنان المؤلّف auteur؛ وهو المخرج الذي يجمع أركان عمل إبداعي معًا، مع مشاركة عدد كبير آخر من الممارسين العظماء.
التشكيك الدائم في الأعراف التقليدية والموروث – سقراط
جاك لويس ديفيد، وفاة سقراط. (المصدر: ويكيبيديا). أُعدم سقراط في النهاية بسبب تشكيكه المتواصل في المعتقدات التقليدية.
إن تفكير معظم الناس بطريقةٍ مُعينة لا يعني أنّها الصحيحة، فقد تضمّنت المعتقدات التقليدية ذات يوم القول بأنّ العالم مسطّح وأن الشمس تدور حول الأرض. من الجليّ بطلان هذه المعتقدات الآن، ولكنّها لم تكن لتصبح كذلك لولا تشكيك عدد قليل من الشجعان والحكماء فيها.
لقد بنى سقراط إرثا مكوّنًا من الأسئلة الغريبة غير الملائمة. ما ندعوه الآن بـ “الأسلوب السقراطي” (“elenchus”) ما هو إلا عمليّة تشكيك ومُساءلة تدفع أولئك الخاضعين لها نحو إعادة النظر في الحقائق المُسلَّمة لديهم. لقد تناول سقراط حقائق كان من الخطر ربما التشكيك فيها.
وعلى حد علمنا، فإن سقراط لم يدوّن فلسفته مُطلقًا. لقد عمل الكُتّاب -وأبرزهم أفلاطون- على حفظ “أعماله” التي تكونت في معظمها من الحوارات. كان سقراط محاورًا صفيقًا سليط اللسان، يستخدم السخرية في معظم الأحيان، فعندما تحدث مع الشاب الثري مينو Meno حول الفضيلة، قال: “أعترف بخزي أنني لا أعرف أي شيء عن الفضيلة”. جزءٌ ممّا قاله كان صحيحًا، ولكن هل شعر حقًا بـ “الخزي”؟ هذا أمرٌ مشكوك فيه. يدّعي الفيلسوف جهله بموضوعٍ ما في كل “حوارٍ” يشارك فيه تقريبًا. وعوضًا عن ذلك، ينتهج عملية ثابتة يشكّك في الشخص (أو الأشخاص) الذين يعتقدون بوجهة نظرٍ معيّنة، كاشفًا إياها لهم، الأمر الذي يسمح لهم ببناء فهمٍ عقلانيّ للموضوع.
ومن أجل هدفه الخاص، قال الفيلسوف: “سنصبح أشخاصًا أفضل وأكثر شجاعة ونشاطًا إذا آمنّا بصوابيّة البحث عمّا لا نعرفه”. ليس شخصًا “أفضل وأكثر شجاعة ونشاطًا” فحسب، بل وقادر على تغيير العالم: العبقري شخص لديه دافع يجبره على التشكيك والتساؤل. دائمًا.
الاعتداد العظيم بالذات – محمد عليّ
بشخصيته الكاريزمية الفائقة، اشتهر علي بأفعاله خارج الحلبة كشهرة موهبته الاستثنائية داخلها. لم يكن علي مجرد ملاكم، بل أصبح ظاهرة ثقافية بفضل اعتداده العظيم بنفسه. علي على غلاف مجلّة Esquire (المصدر: ويكيميديا كومنز).
“يصعُب على شخصٍ بعظمتي أن يكون متواضعًا”.
يُعتبر الإيمان بالنفس أمرًا أساسيًا، ولكنه لا يتعلق بالأنانية. غالبًا ما يُعبّر العباقرة عن شعورهم بوجود شيءٍ ما يعمل من خلالهم. هناك خط دقيق بين الاعتداد بالذات والتوهّم، ولكن هذه هي طبيعة العبقرية. أن تكون عبقريًا يعني أن تسير بمحاذاة حافّة الوهم.
كان عليّ ملاكمًا عظيمًا بلا شك، وربما ما يزال الأعظم كما ادعى، لكن أفعاله خارج حلبة المصارعة هي ما جعلته عبقريًا. لقد جسّد عليّ التحول الاجتماعي والسياسي للولايات المتحدة في فترة الستينيات المضطربة والصاخبة.
لقد سمح إيمان عليّ المتطرف بنفسه -وهو أمرٌ أساسي للشخص الرياضي، وقد شحذه حديثه السوقي البذيء قبل المباراة (الذي تمادى فيه كثيرًا معظم الأحيان) – سمح له بمعالجة التابوهات الاجتماعية والسياسية بصورة مباشرة. لقد منحته كاريزمته الاستثنائية -أكثر ممّا منحته براعته في الملاكمة- ركيزة استطاع على أساسها الاختلاط بأقوى الأشخاص في العالم، وإسماعهم ما يكرهون.
أُودع عليّ السجن بسبب معتقداته، كما أنّه عاد من اعتزاله ليفوز باللقب، ولكنّه اضطر لمواجهة هجومٍ عنيف ومُبرح في سبيل ذلك. لقد خاطر بكل شيء لأنه لم يستطع تمالك نفسه عن فعل ذلك. لم تكن تصريحات عليّ السياسية والاجتماعية نابعة من أنانيته وتمركزه حول ذاته. أن تكون عبقريًا يعني أن تكون وعاءً لشيءٍ أكبر من “الذات”. اعتبر عليّ نفسه بمثابة صولجان تنوير لقوى خارقة؛ لموجة التحول، وحلقةً في التغيير:
“أنا أمريكا. أنا الجزء الذي لن تعترفون به. ولكن عليكم الاعتياد عليّ: أسودٌ واثقٌ مغرور؛ اسمي لا أساميكم؛ ديني لا دينكم؛ أهدافي، خاصّتي؛ عليكم الاعتياد عليّ”.
هذا ما قصده عليّ عندما قال إنه من الصعب أن يتواضع. لقد جرفته قوةٌ ما معها. أن تكون عبقريًا يعني أن تتدفّق، فعندما تبدأ، يكون من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- عليك أن تتوقّف.
[1] (على قلقٍ كأنّ الريح تحتي. اقتباس. إضافة المترجمة)
[2] Björk Guðmundsdóttir