1- فاتحة تجديدية:
في العقود الوسطى من القرن العشرين يتقدم أمين الخولي (1895-1966) علمًا من أعلام التيار الإصلاحي الممتد لتجديد الفكر الإسلامي. يتقدم بمعنى الكلمة، بفعل عوامل عديدة، تتكاثف وتتبلور في منهج تجديدي رصين، يتأتى تشغيله وتفعيله في إطار نموذج تنويري منشود، لا إسراف فيه ولا شطط ذات اليمين أو ذات اليسار. لقد كان إسهام الخولي المنهجي المكين في الإصلاح وفلسفة التجديد الديني وفي رسالة التجديد الحضارية أنموذجًا حيًا ماثلاً ومثالياً لتحديث الأصالة وتأصيل الحداثة، من حيث كان الخولي شخصيًا – كما جاهرتُ وفصلتُ مرارًا: “شيخ الأصوليين في التجديد وشيخ المجددين في الأصولية”.[1]
انطلقت جهوده التجديدية، المتشعبة والمتكاملة والمتنامية، من الثابت البنيوي في ثقافتنا: النص الديني ثم الدوائر التراثية التي تخلقت حوله ومن أجله وبفعله أو بـتأثيراته المتوالية. انطلقت جهوده في هذا مؤتمةً بتلبية حاجات الواقع الراهن ومداواة علله: درء عوامل سلبية وتفعيل ممكنات إيجابية، احتواهما تراثٌ تخلق على مدى قرون متوالية بفعل رعيل وأجيال متلاحقة، ليمثل رحلة عقل أمة ومسارًا حضاريًا. تراث هو في المحصلة رصيد معرفي، منظومة قيمية ورؤية للوجود، تمثل معالم ثقافة من ثقافات العالم، توسم بأنها الثقافة الإسلامية، تشغل منطقة وسطى وزاخرة بين أمم العالم وثقافاته.
انطلقت جهود أمين الخولي التجديدية، مُدججةً بتمكنه الأستاذيّ من علوم التراث ونصوصه، ومن أجل خدمة المتطلبات الراهنة والمعاصرة لهذه الثقافة الإسلامية. كان على الدوام واقفًا على الأرض الصلبة التي نملكها وتملكنا، عاملًا فيها وبها ومن أجلها، مؤمنا بأن الحضارة لا يتم استيرادها؛ بل هي إنجاز وبناء وصيرورة متواصلة لفعل التشييد والتطوير والتجديد.
واللافت حقًا أنْ أتت جهود الخولي وإسهاماته التجديدية تستشرف روح العصر وقيم الحداثة التي تبلورت في تجربة الحضارة الأوروبية، في رؤية متكاملة متوازنة كما صدرنا الحديث. ولعل أبرز العوامل التي صنعت توازن رؤية الخولي التنويرية واعتداله، أنه استطاع الاستفادة من خبراته في إيطاليا وفي ألمانيا اللتين عمل فيهما إبان عشرينيات القرن العشرين، إمامًا للمفوضية المصرية فيهما. عرف أمين الخولي كيف يجعل الفترة التي قضاها في أوروبا، ثم تردده المتواتر على الأقطار الأوربية.[2] فرصة مواتية لامتصاص إيجابيات من حصائل الحداثة الغربية ومعالمها، من دون أن ينبهر بها أوتزل القدم إلى تلمس أعتابها بأي شكل كان، بأي سعر كان، حتى لو كان الإقلاع عن ثوابت وخصوصيات ثقافية. هاهنا فيما نرى مربط الفرس في توازن وحصافة رؤيته الحضارية وجهوده التجديدية. وذانك معاملان: الحضارة والتجديد، متلازمان لاينفصلان البتة في فكر الخولي، الحامل حقا للواء الأصالة والمعاصرة.
2- المجددون في الإسلام:
لئن انطلقت أعماله جميعًا بشكل أو بآخر صوب المتجه التجديدي، فإننا نخص بالذكر كتابيه الفذين “المجددون في الإسلام” و “مناهج تجديد: في النحو والبلاغة والتفسير والأدب“.
تتفق الأطراف المعنية على أن “المجددون في الإسلام” من أهم كتبه، وهو أكثرها شيوعًا وذيوعًا، يستهله بأنه كتابٌ أنشيء على أساسٍ من تحقيق مخطوطتين في دار الكتب المصرية – وهي أول مكتبة وطنية قومية في الحضارة العربية – هما: مخطوطة “التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة” للإمام جلال الدين السيوطي[3]، مستدعيًا ومثبتًا وشارحًا في قرنه التاسع الهجري صحيح الحديثَ الشريف: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها”، ومخطوطة “بغية المقتدين ومنحة المجددين” للشيخ محمد حامد المراغي الجرجاوي في القرن الثالث عشر الهجري، أيضًا حول هذا الحديث.
نعم أعمال الإمام السيوطي بالذات لها أهميتها بالنسبة لعصرها. لكن نلاحظ أن المخطوطتين ليستا من عصور توثب الحضارة الإسلامية وإشراقها التي بلغت حدها بسقوط بغداد في يد المغول العام 656 هـ، وما تلا هذا من انعطاف إلى ليل التخلف الطويل. المخطوطتان بهذا تبرزان كيف ظلت فكرة التجديد ماثلة في مسار الحضارة الإسلامية حتى في عصور التراجع؛ من حيث أن الحديث الشريف المذكور، بتفسيرات وتأويلات شتى، كثير التواتر في هذا المسار. والمحصلة الماثلة أن كان التجديد قضية الخولي الأم، رؤيته ورسالته، إيمانًا منه بالماضي كركيزة، وبالحاضر كحياة متوثبة، وبالحوار الدائم بينهما ليتفاعلا ويتلاقحا فيثمرا مستقبلًا مأمولًا.
مضى الخولي بعزم أكيد في معاركه التجديدية الشاملة؛ محاربًا سلطان التقليد والتبعية الذي يشل حركة العقل ويئد روح الإبداع والإضافة والمستقبلية، رافعًا شعاره الشهير والسديد: “أول التجديد قتل القديم فهمًا وبحثًا ودراسة”؛ أما إذا: “مضى المجدد برغبة في التجديد مبهمة، وتقدم بجهالة للماضـي وغفلة عنه، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم، فذلكم – وقيتم شره – تبديد لا تجديد”،[4] كما أكد الخولي في مناهج تجديده، محتلًا موقعه اللافت في مسيرة المجددين في الإسلام.
3 – الهيرمنيوطيقا التجديد الأكبر:
وبمنهجية بصيرة معتدلة بقدر ما هي منطلقة، راح الخولي يبث أصول التجديد في كل المجالات المتصلة بإسهامه المرابطة في سويداء ثقافتنا وفي أرومتها، وتصب جميعها في دعوته الأم بالإصلاح وتجديد الفكر الديني.
ولأن القرآن الكريم الثقل الأعظم والثابت البنيوي في الثقافة الإسلامية، فلا غرو أن تأتي أقوى وأمضى صولات التجديد في النهر المُعلّى: التجديد في تفسير القرآن الكريم. إنها مدرسة الخولي الشهيرة في التفسير الأدبي الموضوعاتي، أي تفسير القرآن موضوعًا موضوعًا، لا سورة سورة أو آية آية، وعلى أساسٍ من وثيقِ اتصالِ القرآنِ بالحياةِ الإنسانيةِ، كفنٍ أدبيٍ مُعجز بهدِيه للنفوس وتأثيره البالغ بجرسه وإيقاعه، بمبناه ومعناه…. وقعه وتأثيره على النفس الإنسانية بمتغيرات احتياجاتها واستجاباتها بتغير الزمان والمكان، ليظل الكتاب المجيد حيًّا ماثلًا في كل العصور، في شتى الأزمنة والأمكنة.[5]
كانت مدرسة التفسير الأدبي أول اقتحام للهيرمنيوطيقا في الثقافة العربية الحديثة. وما أدراك ما الهيرمنيوطيقا.. إنها منهج الفهم والتفسير والتأويل الحداثي، أو بالأحرى بعد الحداثي، أصبح الآن معلمًا من معالم مقاربات عصر ما بعد الحداثة، التي تنحو إلى إثبات دور الذات العارفة القارئة المتلقية، كمنحى مقابل للموضوعية المطلقة – والموهومة – في عصر الحداثة الكلاسيكي. وتتلخص الروح المنهجية لعصر ما بعد الحداثة الراهن في ثلاث مقولات: التفكيكية، والأركيولوجيا أو منهج الحفر المعرفي، والهيرمنيوطيقا.
الهيرمنيوطيقا كمنهج تفسير وتأويل النصوص – امتد الآن ليصبح منهج تأويل الظواهر العديدة وليس الظواهر النصية فحسب – هو منهج يلغي التباعد بين الموضوع/النص والذات/القارئ أو المتلقي.. فيقوم على فهم النص ليس ككيان مفارق، بل فهمه وتفسيره وتأويله في سياق إنتاجه وفي أفق المتلقي له، فتتعدد مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة. ويبقى النص معينًا لا ينضب أبدًا وإمكانية متجددة دومًا. هكذا تتجلى الهيرمنيوطيقا كمنهاج ذي قدرة متفردة على بث الحياة مجددًا ودائمًا في النص، كمنهج هو تمثيل عيني للتجديد في الفهم والتأويل كفعالية متوالية.
منذ أكثر من عشرين عاماً، في كتابٍ لي عن أمين الخولي، سبق أن أوضحتُ تفصيلًا هذه الهيرمنيوطيقيّة في تفسيره الأدبي للقرآن الكريم، وذلك في فصل بعنوان “في الآفاق الفلسفية للتفسير: أمين الخولي هيرُمنيوطيقيًّا”.[6] وإذا تجاوزنا محاولة محدودة مبكرة من ابن قيم الجوزية (691-751 هـ) حملتها رسالته “ في القسم” يمكن تأكيد أن أمين الخولي أول هيرومنيوطيقي في تاريخ الحضارة الإسلامية. يقول فيلسوف الدين البارز في بلاد الرافدين عبد الجبار الرفاعي: “إن الخولي هو أول هيرمنيوطيقي بالعربية، وربما في عالم الإسلام، إذ لا أعرف أحدًا سبقة إلى ذلك، حتى في بلاد الإسلام غير العربية.”[7]. وقد صدر مؤخرًا كتاب للرفاعي بعنوان “الشيخ أمين الخولي: أول هيرمنيوطيقي في عالم الإسلام، نشر نور، 2020.” وشبيه بهذا ما تقره رصودات غربية للمسارات الحديثة للهيرُمنيوطيقا والتحول الهيرُمنيوطيقي في الأدب، ترى الخولي ممن تولوا “تشكيل الهيرمنيوطيقا في الفلسفية العربية الإسلامية من خلال المناظرات اللغوية”.[8]
ومع تقدير هذا الدور الهيرمنيوطيقيّ الهام والمتميز، الذي عددناه تجديده الأكبر، تنبغي الإشارة إلى أن البادي لنا في قضية تفسير القرآن الكريم تعددية منهجية لدن الخولي، حيث تتكامل الهيرمنيوطيقيا في التفسير الأدبي مع التأويل المقاصدي مع مناهج التفسير التقليدية المتوارثة، خصوصًا التفسيرات اللغوية والبلاغية. ولئن كانت الهيرمنيوطيقا قد باتت مقولة بعدحداثية، فإن التعددية المنهجية، وخصوصًا في الميثودولوجيا العلمية، باتت بدورها هكذا: مقولة بعدحداثية. لا يتسع المجال لمبررات أخرى عديدة يمكن سردها لاعتبار أمين الخولي مفكرًا بعد حداثيًا بامتياز![9]
وفي كل حال لا تتوارى أبداً لغوية الحدث القرآني الجليل ولغوية إعجازه، فتتوالى في إثرِ تجديدِه الهيرمنيوطيقيِّ الأكبر آفاقٌ متواليةٌ للتجديد الشامل.
4- التجديد شاملاً:
إن تجديد الخولي في التفسير ليواكبه التجديد في اللغة العربية ونحوها. ويمكن مراجعة كتابه “مشكلات حياتنا اللغوية” لنرى كيف تأتت بعض تجديدات اللغوية حية نابضة منطلقة من الواقع المعيش.
والحق – لغويًا – أن يتصدر الواجهة تجديده في البلاغة وجمالياتها. لقد كان باحثاً متحمسًا عن تحرير البلاغة وانطلاقها، لتخاطب النفس الإنسانية والحس الجمالي فتربي الذوق والوجدان، وأكد تأكيدًا على ألا تثقلها الفلسفة، ولنذكر كتابه وتعبيره الشهير “ فن القول“. البلاغة هي فن القول وجماله وعلم التفريق بين الجيد والرديء منه، ودراسة البلاغة لإعجاز القرآن هي دراسة للون خاص معياري من القول الجيد.
وفي رحاب فن القول يتقدم بجدارة فن الأدب: الهيكل المعلى لجماليات اللغة. يتفاعل الأدب مباشرة مع الأبعاد السيكولوجية التي يحرص الخولي دائمًا على استحضارها. وكان الخولي في طليعة روادنا الذين تعرضوا لصلة علم النفس بالبلاغة وبالأدب.[10]
وضع الخولي طريقًا مرسومًا للتجديد في الأدب من حيث نقده والتنظير له، عماده تقدير عوامل الخلود والعالمية من ناحية، ومن الناحية الأخرى أخذ الإقليمية والمحلية بعين الاعتبار؛ ولنذكر كتابه الرشيق “في الأدب المصري“. وحين نجد أن عملاقي الأدب المصري في القرن العشرين: توفيق الحكيم عملاق المسرح ونجيب محفوظ عملاق الرواية، يمكن أن يتلخص دورهما الأدبي التاريخي – فيما يبدو لي – في أن توفيق الحكيم نجحت مسرحياته في أن تجعل العالمي محليًا، بينما نجحت روايات نجيب محفوظ في أن تحعل المحلي والقاهري عالميًا، نستطيع أن ندرك أكثر قيمة رؤية الخولي التي تعمل على حسبان دور عوامل المحلية وعوامل العالمية معًا في الإبداع الأدبي العربي. وتبقى رعايته الشخصية والأستاذية من خلال مدرسة الأمناء لأدباء شبان مبدعين على رأسهم صلاح عبد الصبور والأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي، ونقاد شبان واعدين على رأسهم غالي شكري والأستاذ الدكتور ماهر شفيق فريد – وهما قبطيان – وسواهما، من إسهامات الخولي المحسوبة ولا تبعد كثيرًا عن ساحة وباحة التجديد. وفي رحاب الأدب والإبداع الأدبي نذكر أن الخولي له في صدر شبابه محاولات في فن المسرح. كتب مسرحيته الشهيرة “الراهب المتنكر” إلى عرفت طريقها إلى دور العرض المسرحي إبان العشرينيات في القرن الفائت وحققت نجاحًا، وكتب سواها. على أن أمين الخولي الأديب أو المسرحي منوسط القيمة، ويظل محدود القيمة تمامًا إذا قورن بأمين الخولي المفكر والأستاذ والمعلم. تمامًا كما أن مشاريعه المحدودة للإصلاح الاجتماعي وتحسين أحوال الفلاحين في قريته شوشاي بمحافظة المنوفية في دلتا مصر الخصيبة، تجعل أمين الخولي المصلح الاجتماعي محدود القيمة تمامًا إذا قورن بأمين الخولي المصلح الديني.
وعلى أية حال تتتابع آفاق التجديد المتوالية. وحتى حين تعرض الخولي للاضطلاع بترجمة إمام من عصر التدوين، قد لا يحمل إلا خطوطًا أصولية سلفية، هو الإمام مالك بن أنس (708-795 م / 90-179 هـ). حتى في هذا أعطى الخولي درسًا تجديديٍّا في أصول ومناهج تحرير التراجم، لتغدو تقنينًا لتجارب حياة، وليس أَمْثّلة معيارية غير واقعية.[11] يصل التجديد إلى النظر في مناهج الأزهر وأساليبه وطرائق التدريس فيه، ولنذكر عمله المخلص حول إصلاحه: “رسالة الأزهر في القرن العشرين – 1936″.
لم يَدْرس أمين الخولي في الأزهر – بل في مدرسة القضاء الشرعي – وإن درَّس فيه، ليبقى في الصدارة إعلانه قولًا وفعلًا أن تكون الجامعة المصرية / جامعة فؤاد الأول أو جامعة القاهرة الآن هي الرحاب الرحيبة لفعل التجديد وإنتاج التجديد. وقد كان في طليعة رجالاتها، الأساتذة الأولين الذين اضطلعوا بعبء تمصير الجامعة تمصيرًا للحداثة وتوطينًا للتجديد. وكانت الجامعة المصرية بدورها ساحة نضاله الكبرى حيث تأتت ثمار مرجوة، في طليعتها صناعته لعقول الطلاب فيها. وهو يؤكد دائمًا أن هذه الصناعة مهمته الأولى والأسمى. لقد انتشر تلاميذه خريجو كلية الأداب في حياتنا الأكاديمية والثقافية إبان القرن العشرين لينشروا تنويرية التجديد الثوري العقلاني، التي تعلموها من أستاذٍ دانوا له بالإجلال والإكبار، بوصفه شيخ “الأمناء”. ضمت جماعة “الأمناء” هؤلاء التلاميذ بريادته؛ لتمثل نسل العقل لأمين الخولي، أو أبناءه من العقل بتعبيره، في مقابل أبنائه من الصلب وهم بنوه الطبيعيون.
5- رسالة التجديد:
وفي خضم هذه الخطوط التجديدية العديدة، المتوازية والمتحاورة، نجد الخط المحوري إنما هو خطة الخولي في تجديد الفكر الديني ليس كحقٍّ وواجب فحسب، بل كطوق النجاة لنا من الضياع الحضاري والانسحاق الثقافي وتشويه الهوية.. وطوق النجاة من العجز عن الاقتحام المقتدر لآفاق مستقبل منشود، ثم لمواجهة ما نعانيه من اهتزاز قيم الحرية والعدل والديمقراطية والعقلانية، وهبوط الوعي وصعود ترديات فكر متطرف وفتية تنتابهم نوبات الفرار المخبول إلى الماضي، وعلاقة إجرامية بالحاضر مضمخة بالإرهاب والدماء!
وقد كان الخولي بتجديده للفكر الديني سائرًا في طريق سبق أن ترسمت معالمه وتشكلت تضاريسه في خريطة الفكر العربي الحديث، بفعل جهود دؤوبة لرواد أسبق، يتقدمهم بجدارة الشيخ محمد عبده) 1849- 1905) الأستاذ الإمام، إمام المجددين والإصلاحيين، وقائد جيش الهجوم على التقليد، والذي هوى بمعوله على مرض “الجمود على الموجود” مؤكدًا تآخي الدين والعقل في الإسلام, وأن فطرية الشعور الديني لا تمنع الدين من أن يتطور بترقي الإنسانية.
برفقة فكر الأستاذ الإمام وروحه، رأى الخولي ضرورة أن يتواصل التجديد دائمًا، حتى في بناء عقائدنا، كي تلائم المتغيرات وتواجه التحديات المستجدة، ولجعل العلاقة بين الدين وبين الحياة سائرة قدمًا نحو المستقبل، وتبرأ من اهتراء يصيبها أو جنوح يعتريها.
أجل، نادى الخولي بالتجديد حتى في بناء عقائدنا، قائلًا: “تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه وحاجة الدين إلى تقريره.”[12] ويتبدى لنا كيف كانت دعواه لتجديد الفكر الديني جذرية وشاملة، حين وجدناه يؤكد تأكيدًا على التجديد في العقائد من خلال التجديد في علم الكلام. ويمكن اعتبار علم الكلام بمثابة الفلسفة الإسلامية الحقة، والتعبير الأصيل عن روح الحضارة الإسلامية، كما سبق أن أكد الشيخ مصطفى عبد الرازق وآخرون. وأمين الخولي من جهته يفضل مجددًا في أصول العقائد هو متكلم على مجدد في العبادات هو فقيه، ليكون التجديد الديني عنده شاملًا للأصول والفروع، العقائد والعبادات والمعاملات.
ومن جانبي لبيتُ هذه الدعوة، كمتخصصة في فلسفة العلوم ومناهج البحث العلمي؛ فأخرجت واحدًا من أعز أعمالي: “الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل– 1995″. وأردفته بكتاب “نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا– 2017″ كمقاربة مستجدة لدور علم أصول الفقه تستهدف تفعيل روحه المنهجية المقننة، فيتكامل الأصولان: أصول الدين وأصول الفقه للقضاء على غربة العلم الرياضياتي التجريبي والمنهجية العلمية، وتأصيلهما في واقعنا الثقافي. إن في هذا صلب من أصلاب حل مشكلة الأصالة والمعاصرة، عبر اشتباك طموح بين فلسفة إسلامية معاصرة وفلسفة العلوم الرياضية والتجريبية.[13]
نعود إلى شيخنا المجدد أمين الخولي، لنجده بطبيعة الحال مصدقًا على أن نهتدي في تواصلنا الحضاري بتجارب السلف، مؤكدًا على أن هذا لا يعني أن نقبل جميع ما يؤثر عنهم، بل معناه في ضوء الرؤية التجديدية: تفعيل الحاسة النقدية الملتزمة بأرض الواقع الراهن، التي بلورها الخولي بقوله: “هم رجال ونحن رجال، لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.”
بلغت تجديدية الفكر الديني بأمين الخولي حد تأثيم المقلد الرافض للتجديد، مثلما سبق أن بلغت بمحمد عبده حد اعتبار المقلِّد كافرًا؛ لأنه مردد وليس مستيقنًا من أصول.
هاهنا لبنة محورية من لبنات التجديد، فلسفته ورسالته معا، إنها الإصلاح عن طريق إيقاظ العقل وإبطال التقليد. وهي الدعوة التي سبق أن تحولت إلى قوة نابضة بفعل الرائد السيد جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897) وصحبة الإمام محمد عبده الحميمة له، وكانت قوة شقت طريق التيار الإصلاحي الذي سار فيه أمين الخولي إلي غايته، والذي يمكن اعتباره التيار الرئيس للفكر الإسلامي الحديث، الحامل للواء الأصالة والمعاصرة كمركب جدلي ووسط ذهبي، يرفض زيف القضية ونقيضها.
هكذا نتفق على أن الفلسفة التجديدية لأمين الخولي تتخذ موقعها على خريطة الفكر العربي المعاصر في صلب التيار الإصلاحي، الذي كاد في بعض فروعه ومع بعض رجالاته أن يرادف ويطابق بين الإصلاح والتجديد.
والتجديد في النهاية، مع التيار الإصلاحي عمومًا، ومع محمد عبده وأمين الخولي خصوصًا، هو حماية المجتمع من عوامل الجمود والتخلف. وقد كان الإصلاح أولًا وأخيرًا تيارًا يرتاد الخطوط الباحثة عن عقلنة الإسلام وتحديثه، أو بعبارة أخرى: تجديده.
التيار الإصلاحي كمحاولة لتصنيف جهود الخولي على أساس الاتفاق على رسالة التجديد، لا يلغي أبدا تفرد جهود الخولي، وتميز شخصيته في عطائها التجديدي. لقد رأينا خطوط جهوده في منهجية التجديد، في حد ذاتها، وسواء انتمى لهذا التيار أو ذاك متميزة في أنها عميقة الأصول ومترامية الحدود غزيرة المضمون ومتعددة العناصر، أو باختصار شاملة كما يومئ عنواننا الفرعي.
يمكن أن نلتقط الآن خيطًا بدَا لنا مفتاحًا يفض مغاليق، ويلقي ضوءًا كثيفًا على صلب فلسفة التجديد عنده، وتميزها حتى في إطار التيار الإصلاحي، وهو خيط يلتف حول مقولة الحياة.
6 – التجديد حياة وتطورية:
هاجس الحياة والارتباط بالواقع الحضاري الحي كان مهيمنًا على فكر الخولي، حتى قيلَ إنَّ الحياةَ والحيوية أكثر الكلمات شيوعًا في كتاباته وأحاديثه. ومن هنا يمكن الانتقال إلى التطور والإيمان بالتطورية الدارونية تحديدًا كأصول فلسفية للتجديد الديني.
وبينما اشتهر إمام التيار الإصلاحي جمال الدين الإفغاني برفضه لنظرية التطورية الدارونية وتهكمه منها تهكمًا نال من التيار الإصلاحي أكثر من أن ينال من النظرية، نجد أنها – أي نظرية التطور – أساس فلسفي من أسس التجديد الديني عند أمين الخولي عساه أن يكونَ تجديدًا سائرًا نحو الأصلح والأكمل والأقدر على البقاء.[14] تلك نقطة شديدة الأهمية والتميز في ميراثه، ألا وهي تشغيله الحذر البارع لمقولة التطور والانتخاب الطبيعي، أو كما كانت تُسمى آنذاك: النشوء والارتقاء، [15]ثم البقاء للأصلح.
نظرية التطور – كما هو معروف – نظرية بيولوجية، أي محاولة لتوصيف وتفسير نشوء ظاهرة الحياة على سطح الأرض، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعي حتى بلوغها الشكل الراهن. وقد فرضت نفسها كنظرية عامة لعلوم الحياة وأساس لأي عمل ميداني في البيولوجيا العامة وفي تاريخ ظاهرة الحياة على سطح الأرض. هذا فضلًا عن خصوبتها في تفسير ظواهر أخرى مما خلق ما يسمى بتيار الفلسفة التطورية. ولا يدهشنا أن أمين الخولي من السائرين بشكل ما في هذا التيار بثقة، إن لم يكن قد شق له مسارًا فرعيًا في صلب ثقافتنا.
ذلك أنه فور عودته من ألمانيا في العام 1927 كان قد انتدب للتدريس في جامعة الأزهر. وفي هذا ألقي على طلاب كلية أصول الدين محاضرات في التاريخ العام لفلسفة الأخلاق، أو كما أسماها الفلسفة الأدبية. ويمكن العود إلى كتاب: “أمين الخولي، كتاب الخير: دراسة موسعة في الفلسفة الأدبية مطبقة على الحياة الشرقية والتفكير الإسلامي“. وهذا الكتاب في أصله مخطوطة محاضرات سنة ١٩٢٧. وقد نشرتها مطبعة دار الكتب لأول مرة عام ١٩٩٦، في سياق احتفالات المجلس الأعلى للثقافة بمرور مائة عام على ميلاد أمين الخولي، وقد قمتُ بإعداده للنشر ومراجعتة والتقديم له.[16] في هذا الكتاب، أو تلك المحاضرات، واحدة من محاولات أمين الخولي في التأريخ للفلسفة.[17] إنه تأريخ لفلسفة الأخلاق يبدأ من الحضارات الشرقية القديمة، وحتى الفلسفة الإغريقية وأعلامها. وما أن يصل إلى العصر الحديث، حتى يحلو له أن يقدم فلسفة الأخلاق بأسرها من مدخل، أو في إطار شامل هو نظرية التطور وفلسفة النشوء والارتقاء، وكأنه يختزل الفلسفة الغربية الحديثة للأخلاق بأسرها في إطار التيار التطوري، مما يعني وجهة نظر خاصة بأمين الخولي تُحَبِّذ هذا التيار إلى أقصى الحدود، حتى احتل ما يقرب من نصف محاضراته المذكورة في فلسفة الأخلاق.
يقدم الخولي لطلابه عرضًا جيدًا لنظرية التطور مع إمامها تشارلز دارون (+ ١٨٢٢ )، مع الإشارة إلى الرواد الآخرين لامارك (+١٨٢٩ ) و ألفرد والاس (+١٩١٣.( وببيانه المحكم البديع، يوضح كيفية تفسيرها للحياة، فأنواع الأحياء – وعلى رأسها الإنسان – لم تظهر هكذا منذ خُلقت، بل هي دائمة التغير من حال إلى حال، وبهذا تتطور من البساطة إلى التركيب المتدرج؛ موضحًا أنه بالتغير والتطور تنشأ بعض الأنواع عن بعض، وترتقي بعمل ناموس الانتخاب الطبيعي: بقاء الأصلح للحياة وانقراض ما عداه. ويتهكم الخولي من رد النظرية إلى القول الدارج إن الإنسان أصله قرد! ولا يفوته تعداد مواطن القصور المعروفة فيها. ويبين الخولي أصول نظرية التطور في الفكر البشري، عند الإغريق ثم عند الإسلاميين، ابن سينا وابن خلدون وابن طفيل، والقزويني… وبوجه خاص مع جماعة “إخوان الصفا وخلان الوفا.”[18]
ويتوقف الخولي لتبيان أن نظرية التطور الحديثة في صلبها لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين لا درس في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء، والإسلام في أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، وفي قصة الخلق اكتفى بالكليات الكبرى وارتفع عن التفاصيل التي خاضت فيها التوراة، وهي تفاصيل متروكة للبحث العلمي. وينتهي إلى أن مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها في أوروبا وأمريكا أمر لا يخصنا؛ لأنه تناقض بينها وبين نصوص في التوراة، وحتى مثول مثل هذا الصراع في تراثنا كان من فعل الإسرائيليات لا سواها.
وهذا الصراع الغربي معروف جيدًا، ولا تزال له امتدادات هنالك حتى يوم الناس هذا. وقد رأيتُ في متحف التاريخ الطبيعي بشيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية قاعة مخصصة لنزاع لا يزال دائرًا بين جهات كنسية وبين نظرية التطور، وإقرارًا لأستاذ في جامعة نبراسكا بأنه في كل محاضرة يتصدى طالب واحد على الأقل ليناقشه في أن نظرية التطورة تتناقض مع الدين مما يستدعي رفضها. وبالطبع لا يفوت متحف شيكاغو أن يعلن لزائريه أن هذا ليس موضوعًا لمواعظ يوم الأحد. ومنذ البداية كان نزاع دارون الضاري تحديدًا مع نفر من رجال الكنيسة. باختصار يملك الخولي حيثياته للقول بأن هذا النزاع أمر لا يخصنا.
المهم حقًا أن أمين الخولي دائمًا على الوسط الذهبي المتوازن. وانتصاره لنظرية التطور، علميًا وفلسفيًا، لا ينسينا أنه ينطلق من موقف الدين الإسلامي. وفي هذا نجده يقف مع أئمة من رجالات الدين وفلاسفته، في الغرب وفي الشرق أيضًا، يرحبون بنظرية التطور، يرونها متفقة مع الفهم الصحيح للدين وأكثر إثباتا للألوهية من نظرية الخلق المباشر المكتمل، على أساس أن التطورية خلق مستمر موجه، ليحل محل الخلق الفجائي المنتهي.
ومن شخوص الفكر الغربي في هذا الصدد، نتوقف بإزاء جون بولكين هورن J. Polkinghorne (1930- ؟) وهو شخصية فريدة حقًّا، يتبوأ منزلة عالية كعالم في فيزياء الجسيمات الأولية. كان أستاذًا للفيزياء الرياضية في جامعة كمبردج العريقة فيما بين عامي ١٩٦٨ و ١٩٧٩ . وفي عام ١٩٧٤ اختير عضوًا في الجمعية الملكية للعلوم التي تضم جهابذة علماء الفيزياء، وقد ترسم عام ١٩٨٢ قسيسًا في الكنيسة الإنجيلية فأصبحت أعماله تدور حول استكشاف المقولات الكبرى في هذين القطبين اللذين يكاد يجري العرف على أنهما متنافران أو على الأقل متباينان، أي العلم الفيزيائي أولًا، ثم الرؤى الدينية المستنيرة ثانيًا. أهم أعمال بولكين هورن” لعبة الجسيم الذري– 979″ و “عالم الكوانتم– 1984″ و”العلم والعقيدة المسيحية 1994″. ويبدو كتابه ” ما وراء العلم: السياق الإنساني الأرحب- 1996″[19] من أروع أعماله ومن أجمل إصدارات العقد الأخير من القرن العشرين في هذا المجال. في كتابه هذا يوضح بولكين هورن العالم/ القس كيف أن العاصفة التي هبت من كتاب تشارلز دارون “أصل الأنواع” جاءت من فكرة التطور القائلة إن التغيرات الصغيرة البطيئة المتراكمة خلال عملية الانتخاب الطبيعي هي السبيل الذي يصل به الكائن الحي إلى الشكل الضروري للبقاء في بيئته، بغير حاجة إلى القوة الربانية العليا، حيث تجري المسألة على ظهر الأرض في إطار المحاولة والخطأ. ويؤكد بولكين هورن أنه لم يعد ممكنًا على أية حال التفكير في التنوع الرائع للحياة بوصفه خلقًا فجائيًا، أو تنفيذًا نهائيًا لتصميم إلهي مسبق. ومع هذا لا توجد حجة يمكنها أن تنكر تمامًا أي غرض إلهي من وراء هذا التطور الذي تتوالى مراحله وحقبه عبر الزمان. وليست المسألة خيارًا حاسمًا بين الخلقوية والتطورية، كبديلين متقابلين لا وسط بينهما، فالله لم يخلق بنية عالم منتهٍ صنعه وكأنه دمية ماثلة، بل خلق شيئا أكثر حذقًا وبراعة وأكثر إثباتًا لذاته تعالى: عالمًا حيًا متطورًا. هكذا نجد رجال دين مستنيرين – ربما تمتد جذور توجههم إلى إخوان الصفا – يرون في التطور خلقًا مستمرًا أكثر إثباتًا لفعل الذات الإلهية.
إذن لم يأتِ أمين الخولي فعلًا شاذًا حين رحب بالتطورية وجعلها أصلًا فلسفيًا يغذي دعواه إلى التجديد الديني. ويظل اللافت حقًّا أنه جعل الدعوى التطورية تنطلق من رحاب الأزهر الشريف، وتتلى على طلابه، ولم يمانع أحد.
وقد ذهب الخولي إلى أن التطور لا يقل ثبوتًا في المعنويات، لذا تحول إلى مذهب فلسفي، وأنه: “لم يعد الباحثون يقبلون القول بظهور كائن كامل الوجود دفعة واحدة، فكرةً كان أو لغةً أو فنًّا أو حضارة”. اللغة أيضًا خاضعة للتطور، وكذلك الفنون والحضارة ككل وكأجزاء، و”البقاء للأصلح دائمًا كما تنص التطورية، في الماديات وفي المعنويات معاً“.
هذا ما نقرأه في كتاب الخير، أي ما كان يُعرض على طلاب الأزهر. ويتضح لنا كيف كان مدخل الخولي إلى تجديد الفكر الديني على أسس حيوية نازعة إلى التطور والارتقاء، مؤكدًا أن “في الدين فكرة صريحة عن التجديد تبين ناموسًا كونيًّا، وتنسبه إلى سنن اجتماعية مطردة لا تتبدل” هي سنن التطور، وأن التجديد تطور والتطور هو التجديد الديني الحق. وما كان الاجتهاد أصلًا من أصول الفقه الإسلامي، إلا تقديرًا لحدوث متغيرات يوجبها التطور، وكشفًا عن حاجة النصوص إلى توسيع يمدها بحيوية، وتجعلها أصلح للبقاء. وبتعبيره:” التجديد لا يكون مع منطق الحياة والواقع إلا تطورًا”.
وفي النهاية، وفي البداية أيضًا، الدين في حاجة دائمة للتجديد والتطور ليواجه المتغيرات العاتية التي تصطخب حوله؛ وليظل صالحًا على امتداد المكان والزمان. ولهذا كان الاجتهاد والتجديد أصلًا ثابتًا في العقيدة.
لعل التطورية كفلسفة، هي كأي فلسفة مدعاة للنقد والتحجيم، ولكن تظل إيجابيتها الكبرى في أنها تدفع الإنسان إلى الكفاح والجهاد والنضال، طلبا للصعود والترقي، ومن قبل طلبًا لاستمرار البقاء. وبعد أن كاد التطور بإيجابياته وسلبياته أن يكون قصرًا على العلميين والعلمانيين، أمثال شبلي شميل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى، نجد يقوم بتشغيل التطورية في تجديد الفكر الديني ذاته، معلنًا إياه من ساحات الأزهر.
7 – التجديد إصلاح .. مثالية لا مذهبية:
من ناحية أخرى وأخيرة، لابد أن نضع تشغيل أمين الخولي الحذر لمقولة التطور في موضعه الملائم، فلا نتصور مثلًا تطورية إسلامية أو مذهبًا تطوريًا جديدًا يوضع بجوار المذاهب الفلسفية التطورية كمذهب هربرت سبنسر H. Spencer (1820-1903) في بدايات القرن العشرين ومذهب ريتشارد دوكينز R. Duckins (1941-؟) في القرن الحادي والعشرين. لم يكن أمين الخولي أبدًا من دعاة المذاهب والمذهبية. إنه باحثٌ عن آفاق مثل عليا منشودة تضيء سبل التجديد المثمر، وليس البتة عن مذاهب مغلقة. كرس كتابه “في أموالهم” ليدحض القول باشتراكية الإسلام وبرأسماليته على السواء، ورأي أن كلا الطرفين يحمل تكلفات لا ينبغي أن يُشدّ إليها الإسلام، الذي يترك للبشر حرية الفكر وحرية الممارسة وحرية التجربة – وأنتم أعلم بشؤون دنياكم – ولايفرض إلا مثلًا عليا تهدي إلى السبيل القويم.
ومن منطلق المثالية بآفاقها الرحيبة ونبذ التعصبية بحدودها المنغلقة التي ينبغي أن يتنزه عنها الإسلام، تغدو التطورية بدورها محض أفق مثالي للتجديد الديني يكسبه مزيدًا من الحياة والفعالية.
وذلكم هو عين المنشود: قراءة أصولنا الدينية قراءة تاريخانية هيرومنيوطيقية علمية تطورية، وتجديد الفكر الديني تجديدًا تطوريًّا.
الهوامش
[1] حين كنت أقوم بإعداد ومراجعة مستنسخات الطبعة التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب لمجموعة مؤلفات أمين الخولي، في آواخر الثمانينيات والنصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، صغت هذا التعبير: “شيخ الأصوليين في التجديد وشيخ المجددين في الأصولية”، بدا لي نافذًا ومحيطًا بالموقف الثقافي والدور الريادي للخولي، فقمت بإثباثه على ظهر الغلاف الأخير للجزء٧ من هذه المجموعة التي نفدت أجزاؤها العشر جميعا. كانت تحت عنوان “الأعمال الكاملة” إلا أنها لا تمثل كل أعمال أمين الخولي، على الرغم من اشتهاره بالتريث في الكتابة والنشر.
لقد وضعت التعبير المذكور على غلاف الجزء السابع من هذه المجموعة، لأنه من أهم أعمال أمين الخولي، وأراه الأهم.. بألف ولام العهد لاسيما حبن طرح قضية تجديد الفكر الديني، إنه كتاب الخولي الأشهر: “المجددون في الإسلام”، وقد صدرت منه على مدار العقود الأخيرة طبعات عديدة متوالية، وحقق انتشارًا واسعًا.
ومؤخرًا، في يناير 2020، كان المؤتمر الدولي الكبير الذي عقده الأزهر الشريف للتجديد في الفكر الإسلامي، وجاء الاستشهاد بهذا الكتاب في المدونة الافتتاحية للمؤتمر. وسنعود إليه لاحقًا في الجزء التالي مباشرة، أو العنوان رقم [2]. إنه مرتكز دراستنا هذه.
[2] في بروكسل عام 1935 واحدة أهم زيارات أمين الخولي إلى أوربا، برفقة الشيخ مصطفى عبدالرازق. إنهما موفدا كلية الآداب بالجامعة المصرية، الخولي رئيس قسم اللغة العربية وعبد الرازق رئيس قسم الفلسفة، لحضور مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس في بلجيكا (من 16-20 سبتمبر 1935). في هذا المؤتمر ألقى الخولي بحثه ” صلة الإسلام بإصلاح المسيحية.” ظهر هذا البحث مصحوبًا بمقدمات في كتابه:
صلة الإسلام بإصلاح المسيحية، مجموعة الإعمال الكاملة لأمين الخولي، الجزء التاسع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. 1993. وقد ظهرت ترجمة ألمانية حديثة وجيدة لهذا الكتاب الهام:
Amῑn al-Hūlῑ, Die Verbindung des Islam mit der christlischen Reformation, űbersetzung und Kommentar von Christiana Paulus, 2011. Frankfurt: Peter Lang. (Reihe fűr Osnabrűcker Islamstudien Band 4)
[3] جلال الدين السيوطي (849-911 هـ = 1445–1505م) هو الاسم الذي اشتهر به عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد سابق الدين الأسيوطي، نسبة إلى موطن أبيه المدينة الشهيرة في صعيد مصر: أسيوط. أما هو فقد ولد ومات في القاهرة، وأيضا ضريحه في القاهرة مازال مشهودا، كواحد من العارفين. وقد كان من كبار علماء المسلمين في عصره، وتنوعت وتعددت كتاباته.
[4] أمين الخولي، مناهج تجديد: في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995. ص 109.
[5] مدرسة أمين الخولي في تفسير القرآن موضوع لبحوث ودراسات عديدة في أنحاء شتى من العالم. يجدر حقا بالذكر دراسة بالغة الرصانة حملها هذا الكتاب الصادر مؤخرا:
مدحت ماهر وشريف عبد الرحمن، أمين الخولي: من أدبية التفسير إلى إشكالات التأويل، القاهرة وبيروت: دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 2020.
[6] د. يمنى طريف الخولي، أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد (2000)، طبعة ثانية إلكترونية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014. ص ص 52-59.
[7] د. عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، 2019، (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر)، ص 182.
[8] نخبة من المؤلفين، موسوعة الهيرمانيوطيقا، ترجمة د. محمد عناني، الجزء الثالث، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018. ص422.
[9] أثبت هذه القضية تفصيلًا في محاضرة ألقيتها في جامعة هيلدسهايم في ألمانيا، بتاريخ 14 نوفمبر 2019، لاقت استحسانًا واستصوابًا من الأساتذة الألمان الحاضرين والشباب من الطلاب أيضًا. وذلك في إطار برنامج برنامج: “Contemporary Woman Philosophers in Arab Countries: Intellectual Portraits”، الذي أعدته أكاديمية برلين في هذه الجامعة العريقة لعرض منظورات نساء فلاسفة. كانت محاضرتي تلك بعنوان:
An Approach to Renovation and Evolutionism in Contemporary Arab Philosophy: Amin Elkholy as Model
[10] انظر: علم النقس والأدب، في: أمين الخولي، مناهج تجديد، ص ص 135-163. وأيضا: أمانة جامعية في المرجع نفسه، ص 159-160. وللخولي أيضًا: علم النفس الأدبي، في مجلة علم النفس، العدد الأول، 1945. ص ص 26-51.
[11] انظر: أمين الخولي، مالك بن أنس: تجارب حياة (1962)، سلسلة أعلام العرب ع 11، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر. وقارن الطبعة الموسعة: أمين الخولي، مالك بن أنس، ثلاثة أجزاء في مجلد واحد، سلسلة أعماله الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩94.
[12] أمين الخولي، المجددون في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992. ص52.
[13] انظر: د. يمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل، ط3، دار رؤية، 2010. (طبعة إلكترونية مجانية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014. وقد حصد هذا الكتاب جائزة جامعة القاهرة للبحوث المستقبلية في مجال العلوم الإنسانية. وراجع للمؤلفة نفسها: نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا، المؤسسة العربية للقكر والإبداع، بيروت، 2017. وقد ظهر هذا الكتاب في القوائم المرشجة لنيل جائزة الشيخ زايد للكتاب، في فرع التنمية وبناء الدولة. للمؤلفة نفسها أيضا، توطين المنهجية العلمية: مقاربات فلسفية.. تاريخية ومستقبلية، نيو بوك للطبع والنشر، القاهرة، 2019. ويمكن اعتبار هذه الكتب الثلاث محاولة على الحدود المتحاورة بين فلسفة إسلامية معاصرة وفلسفة العلوم، من أجل اقتحام العقدة المنهجية.. من أجل استنطاق مكونات الحضارة الإسلامية وثقافتها وتراثها بمعالم نموذج قياسي إرشادي إسلامي، ليبدو كفيلا بتوطين المنهجية العلمية في بيئتنا، مُلبياً لاحتياجاتها، وعاكسا لحضارتنا بنموذجها المعرفي ورؤيتها للعالم، بمخزونها العقائدي ونسيجها الشعوري ومنظومتها القيمية ومنظورها الأنطولوجي أو رؤيتها للوجود؛ فيكون تجسيرا للهوة بين الواقع الراهن والواقع المأمول.. بين منطلقاتنا الراسخة وثورة التقدم العلمي والتقاني الجياشة الموارة.. بين الماضي والمستقبل.. بين الأصالة والمعاصرة.. بين الخصوصية والكونية.
[14] كتابي المذكور “أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد – 2000” كان إعلانا وتبيانا للتطور والتطورية كفلسفة للتجديد مع أمين الخولي.
[15] في القرن التاسع عشر والنصف الآول من القرن العشرين ساد استعمال مصطلح “النشوء والارتقاء” عنوانا لنظرية دارون، لم يعد هذا المصطلح متداولا الآن، وبدلا منه ساد مصطلح “التطورية” الذي يبدو أكثر مواءمة وكفاءة.
[16] نفدت هذه الطبعة الأولى لـ “كتاب الخير“، ونفدت أيضا الطبعة الأولى من كتابي المذكور في الهامش السابق. فصدرت طبعة ثانية عن هذا الأخير ملحق بها نص كتاب الخير، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تحت عنوان: أمين الخولي: الأبعاد الفلسفية للتجديد ونص كتاب الخير – 2018.
[17] كتابا أمين الخولي الآخران في التأريخ للفلسفة هما: “تاريخ الملل والنحلل” و “كناش في الفلسفة“. وأيضا كلاهما في الأصل محاضرات أعدت لطلبة الأزهر.
[18] طرح إخوان الصفاء بالذات إرهاصات بالغة الوضوح لنظرية التطور، راجع الرسالة الثامنة من الجسمانيات الطبيعية في: رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، ج ٢، دار صادر، بيروت، ١٩٥٧ ، ص ١٧٨وما بعدها.
[19] انظر: عرض نقدي لكتاب: جون بولكين هورن، ما وراء العلم: السياق الإنساني الأرحب، بقلم: يمنى طريف الخولي، في: سلسلة عروض، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2000.