غير مصنفمقالات

الفلسفة واللغة في مواجهة العلموية النسبية (ضد ويلارد كواين) – خالد الحسن

مقدمة:

يبدأ كواين في إحدى أشهر أوراقه “Two Dogmas of Empiricism” (الدوغماتيّتان التجريبيتان) أو (الدوغما التجريبية) في نقد القسمة التحليلية والتركيبية، وهي ما يسميها كواين بالتجريبية الحديثة، فالدوغما الأولى هي الاعتقاد بانقسام الحقائق إلى التحليلية وهي المتعلقة بالمعاني المستقلة عن الواقع، والتركيبية هي الحقائق المتعلقة بالواقع. والدوغما الأخرى هي الاختزالية، وهو الاعتقاد بأن أي مقولة لها معنى، فهي مساوية لبناء منطقي ما.  إن التأثيرات الناتجة عن التخلي عنهما هي: الأولى: طمس الحد ما بين التأملات الميتافيزيقية والعلوم الطبيعية، والأخرى: الانعطاف إلى البراغماتية أي إلى المنفعة1. سوف نجد أن بعض نقد كواين مجرد إشكالات وهمية متعلقة باللغة، وبعضه الآخر إشكالات في التقليد التحليلي نفسه، وعند محاولته في معالجة هذه الإشكاليات، عن طريق وضع بدائل أكثر دوغما من نفي القسمة التحليلية والتركيبية، وبما أنه سوف يتخلى عنها، فيحتاج إلى بديلٍ آخر، وهو النموذج العلمي، وهذا ما سوف يفتح المجال إلى سقوط الفلسفة وعدم جدواها، وستتجه المنفعة رأسًا إلى المنهج العلموي النسبي، ومن ثم ترجيح النسبوية في الأمور كلها، حتى لو كانت على حساب الأصول المنطقية نفسها. إذًا سوف يكون النقد تحديدًا ضد ورقته الشهيرة، منتقدًا بذلك العلموية النسبية ومنتصرًا للفلسفة، وواضعًا بديلًا آخرَ، وهو النموذج اللغوي، خلافًا لنموذج كواين العلمي.

مقدمة في مبدأ التحقق اللغوي:

يعد مبدأي في التحقق اللغوي بديلًا عن مبدأ التحقق عند الوضعية المنطقية، والذي أتفق فيه مع كواين برده؛ فهو بديل أفضل وأكثر دقة في تحرير القضايا ومعرفة حُكمها، ويستند إلى النموذج اللغوي، والذي سوف أفصل فيه، بنهاية المقالة.

في مبدأ التحقق اللغوي: يكون التحقق من أي قضية بالرجوع إلى اللغة نفسها، فتنقسم القضية: إلى معنى ذاتي ومعنى عرضي، ويكون المعنى العرضي ضروريًّا أو ممكنًا استنادًا إلى علاقة الموضوع بالمحمول، فالضرورة مستندة إلى مبدأ عدم التناقض، سواءً كان المعنى ذاتيًّا أو عرضيًّا، بشرط حصول العلاقة غير المنفكة بين الموضوع والمحمول في المعنى العرضي.

“كل رجل عَزَب هو غير متزوج”، هذه القضية مستندة إلى المعنى الذاتي؛ لأن معنى عزب يطابق معنى غير متزوج، إذن: الرجل العزب = غير متزوج، إذن: العزب ≠ المتزوج؛ فنقيض القضية، يحيل للتناقض بما أنها مستندة إلى مبدأ عدم التناقض؛ لذلك هي تحليلية، بما أن معانيها ذاتية.

وأما “مجموع زوايا المثلثات الإقليدية كلها 180 درجة” فهي قضية مستندة إلى المعاني العرضية؛ لأن المثلث الإقليدي ليس معناه مجموع زواياه 180 درجة. فمعنى المثلث الإقليدي هو شكل له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا على سطح مستوٍ. وأما معنى مجموع زواياه 180 درجة، فهي أن النتيجة من حساب الزوايا مع بعضها، هي 180 درجة. إذًا يوجد خلاف في المعاني، فليست ذاتية؛ ولكن توجد علاقة (المثلث الإقليدي ع مجموع زواياه 180 درجة)، فيستحيل أن يكون مجموع زوايا المثلث الإقليدي أكبر من 180 درجة أو أصغر؛ لذلك نقيض القضية تحيل للتناقض، بما أنها مستندة إلى مبدأ عدم التناقض. إذًا فالعلاقة ضرورية بين الموضوع والمحمول، وهذه القضية تركيبية، بما أن معانيها عرضية.

يتعلق كل ما سبق بالمعرفة القبلية أي ما قبل التجربة، وينطبق مبدأ التحقق اللغوي كذلك على المعرفة البعدية أي ما بعد التجربة، بالتطبيق السابق نفسه؛ ولكن يكمن الخلاف في أن الضرورة لن تكون مستندة إلى مبدأ عدم التناقض؛ لأنها ضرورة أقل، أي مستندة إلى المعرفة، فليست ضرورة منطقية، كما أن معرفة المعاني الذاتية تكون من الملاحظة التجريبية، لجوهر الشيء، فهي معاني ذاتية؛ ولكن معرفتها من الجهة الوجودية، كمعرفتنا أن للذهب العدد الذري 79، فهذه هي التحليلية البعدية. أما التركيبية البعدية، فهي مستندة إلى معاني عرضية، ولكن معرفتها أيضًا خارجية، كملاحظتنا للعلاقة بين العلة والمعلول، وأن الحديد يتمدد بفعل الحرارة، فيوجد هنا علاقة، وأن معنى الحرارة زائد عن معنى الحديد؛ لذلك هي معاني عرضية، إذًا هي تركيبية.

سردتُ هذه المقدمة لكي يفهم سياق المقالة بالشكل المطلوب.

 في المفهوم التحليلي:

يتطرق كواين للمقولات التحليلية التي تعريفها: بأنها المقولات التي عند نفيها تحيل للتناقض. ويرى أن مشكلة هذا التعريف أنه ليس واضحًا، فمفهوم مبدأ عدم التناقض يحتاج إلى تعريف كما هو الحال مع مفهوم التحليلي2.

المشكلة عند كواين أنه لا يرى أن نقيض القضية التحليلية هي متناقضة، فعند فريغه الموضوع مرادف للمحمول، وعند نفي المحمول يحصل التناقض؛ ولكن لنأخذ تحريرين للقضايا التحليلية: إن الموضوع عين المحمول، رغم أن التعريف قريب، من تعريف فريغه. لكن عندما نجعل ض=ح؛ لأن عندما ض≠ح يحصل التناقض؛ لأن تطابق الموضوع والمحمول، يجعل المساواة ض=ض و ح=ح ألا وهو ض=ح. فالاستناد إلى مبدأ الهوية، “الرجل العزب غير متزوج” فالعزب=غير متزوج إذًا العزب=العزب، كما أن غير متزوج=غير متزوج. فسوف يشكل كواين على هذا التحرير بين ض=ح وبين ض=ض؛ لأنه توهم عندما جعل الاسم=المعنى، في الأحوال كلها، سواءً كان المعنى ذاتيًّا أم عرضيًّا، والصحيح، أن المساواة لما هو ذاتي فقط؛ لأنه يوجد تفريق بين المعنى الذاتي والعرضي، فالذاتي يقع معه المساواة في الهُوية مع التسمية، فسوف نتطرق إلى خطأ كواين في نقده اللاحق.

عندما نقول: لكي تكون القضية التحليلية صادقةً، يجب أن يكون موضوعها مساويًا لمحمولها، إذًا يحيل نقيضها للتناقض عندما ننفي المحمول؛ ولكن لماذا يحصل التناقض عند حصول المساواة؟؛ لأن من الممكن أن تكون القضية صادقة بالمعنى الواسع أو العادي، مثل: السماء تمطر، ولا يحصل تناقض عندما نقول السماء لا تمطر. لكن في مسألة السماء تمطر، فهي ليست مستندة إلى المساواة أصلًا. توجد قضايا أخرى تجريبية؛ ولكنها مستندة إلى الهوية، وهي ما تسمى بمقولات الهُوية، فالمساواة في القضية التحليلية السابقة هي مساواة قبلية، ما قبل التجربة، وتكون هذه المساواة مثلَ المساواة التي في الرياضيات، 2=2، فلا يمكن أن نقول 2≠ II؛ لأن II عدد روماني، رغم أنه 2، فالمساواة هنا باعتبار المعنى الذاتي (1+1) لا اللفظ -كعدد روماني-، وهو معنى عرضي، فإن كان 2 معناها II إذًا 2=II بالمعنى الذاتي لا العرضي؛ فالألفاظ والرموز متغيرة بطبيعة الحال، والعبرة بالمعاني والمفاهيم المستخدمة.

ومن هذا الإثبات نستطيع أن نعرف القضية التحليلية الصادقة من خلال نقيضها:

(1) (∀ض) (ض≠ح) ↔ ¬(ض=ح)

إن كان الموضوع لا يساوي المحمول إذا وفقط إذا كان الموضوع لا يساوي المحمول. فكل رجل عزب لا يساوي المتزوج إذا وفقط إذا ليس الرجل العزب يساوي المتزوج، فالقضية صادقة، ونقيضها تناقض، بأن “كل رجل عزب هو متزوج” ونقيض محمولها “كل رجل عزب هو غير متزوج”. فنقيض النقيض صادقة. القضية التحليلية القبلية مستندة إلى مبدأ عدم التناقض، ومن خلال ذلك نعرف القضية الصادقة والكاذبة.

رغم أن كواين يعلم الفرق بين التسمية والمعنى، وقد ضرب على ذلك أمثلة تنسب لفريغه وراسل3؛ ولكنه يفصل بين التسمية والمعنى؛ لأن الكلمات المحددة أو الفردية، هي المتعلقة بالتسمية والمعنى، كمثال فريغه، “نجمة الصباح” و”نجمة المساء”، وأما الكلمات العامة فمعانيها التي لها مصاديق، كالمثال الذي ذكره كواين “كائن بقلب” و”كائن بكليتين”؛ لذلك يرى، بأن علينا أن نفرق بين المعنى للكلمة العامة، ومصاديقها التي في الخارج، أي الشيء الذي يصدق عليه المعنى في الواقع، مثل: “كائن بقلب”، فمصداقه أي كائن يملك قلبًا وكليتين، وبما أن “كائن بقلب” و”كائن بكليتين” لهما مصداق مشترك مثل الإنسان، ولكنهما مختلفان في المعنى. ويرى أن هذا التفريق مربكٌ، بين التسمية والمعنى في الكلمة المحددة، والمصداق والمعنى، في الكلمة العامة4.

عندما يكون الاسم=المعنى، فهذا هو المعنى الذاتي، فالقضية التحليلية هي عندما يكون الموضوع يطابق المحمول، وأما عندما يكون للاسم علاقة مع المعنى، أي يكون المعنى زائدًا على الاسم، فهذا هو المعنى العرضي، والمفترض ألا يقع أي مساواة، في المعنى العرضي، فمثلًا: “الذهب هو معدِن أصفر”؛ فليس أن الذهب=معدن أصفر، لأن الذهب لا يساوي المعدن الأصفر في المعاني؛ بل هي مجرد علاقة ما بين الاسم والمعنى، (الاسم ع المعنى). كما أن المعنى العرضي ليس من قبيل القضايا التحليلية؛ بل التركيبية.

صحيح، أن معنى “كائن بقلب” مختلف عن معنى “كائن بكليتين”، ولهما مصاديق، وهي جزئيات مفهوم الإنسان أو الكائنات الأعم، أي التي تملك الصفات السابقة؛ ولكن لنحدد مصداقًا واحدًا، لنقل إنه كواين، فهو كائن له قلب وله كليتان. عندما نلاحظ المعاني نجدها عرضية أي ليست معنى ذاتيًّا أو مستندة إلى هُوية كواين، فليس كواين=كائن له قلب. لا توجد مساواة ولكنها علاقة (كواين ع كائن له قلب)؛ لأن من الممكن ألا يكون لكواين قلب، والدورة الدموية تعمل على جاهز خارجي، أو لنأخذ مثال الكليتين، لأنه أقرب إلى الواقع اليوم، والتطور العلمي، يمكن لإنسان ليس لديه كلية أو كليتاه لا تعملان أن يُصفَّى دمه عن طريق جهاز يعمل محل الكليتين، فالعبرة هنا أنها ليست معنى ذاتيًّا، وليست حتى ضرورية؛ بل العلاقة ممكنة، يجوز أن تنفك، وهذا يثبت أنها مجرد معنى عرضي على المصاديق. فالمعنيان مختلفان بما أنهما معنيان عرضيان على المصداق. فالقضايا التي يضربها كواين هي تجريبية أي ما بعد التجربة، كمعرفتنا أن لهذا الكائن قلبًا أو كليتين. وهو ما يدخلنا في نقاش مع كريبكي، فنتفق مع هذا الأخير، بأن هذه القضية السابقة بعدية، وكذلك ممكنة وليست ذاتية أو جوهرية في الإنسان؛ ولكنها عنده تحليلية، أما عندي فهي تركيبية.

الجوهر والمعنى:

سوف يشكل كواين على المعنى الذاتي، أي ما يسميه بالمفهوم الأرسطي للجوهر أو الماهية، والنسخة المطورة منها هي التي تستخدم في اللغة، ما تسمى بمفهوم المعنى أو الذاتي فيذكر مثالًا، بأن أرسطو يرى أن جوهر الإنسان أو من ذاتياته أنه ناطق أو عاقل؛ ولكن عرضيًّا برجليْن أي له رجلان، ولكن في النسخة اللغوية أو بمفهوم المعنى الذاتي، الناطقية من معاني الإنسان، بعكس كونه برجلين، فهي ليست من معانيه، لأن معنى برجلين هي من معاني ذوات القدمين، ولكن الناطقية ليست من معاني ذوات القدمين؛ لذا يرى كواين أن هذا الطرح خالٍ من المعنى؛ لأنه عندما نقول للشخص إنه إنسان ومن ذوات القدمين، فهو ذاتيًّا أو جوهريًّا عاقل وعرضيًّا برجليْن؛ لذلك للأشياء عند أرسطو ماهيات أو جوهر؛ والصورة اللغوية هي التي لها المعاني، ويكون المعنى جوهرًا عندما ننتزعها من الأشياء المُحال إليها، ونعطيها للكلمة5.

الإشكال الذي وقع فيه كواين، هو مفهوم الجوهر الأرسطي، فهو يتعامل معه بطريقة متغيرة، بمعنى عندما يكون جوهر الإنسان أو ماهيته ناطقًا، إذًا يكون من ذاتيات الإنسان أنه ناطقٌ، فالناطقية من جوهر مفهوم الإنسان. وأما معنى الإنسان الذي له رجلان، فصحيح أنها عرضية وليست من المعاني الذاتية، أو المعنى الذاتي، فيحصرها كواين في المعاني اللغوية فقط أي التي لها معنى ذاتي، ولكن يوجد المعنى العرضي، وهي العلاقة ما بين الموضوع والمحمول، صحيح لا يوجد مساواة، ولكن يصح أن نقول إنها من المعاني العارضة على الأسماء، فالإنسان برجلين، هنا المعنى عرضيًّا فالإنسان≠برجلين؛ ولكنها علاقة بين مفهوم الإنسان ومفهوم برجلين. إذًا (الإنسان ع برجلين). ولكن الإنسان ناطق أو قل بالحد التام حيوان ناطق، إذًا يجب أن يكون الإنسان=الحيوان الناطق، فيكون المعنى الذاتي للإنسان كونه ناطقًا. يمكن أن يقع الخلاف في مفهوم الناطقية وهل هي أصلًا من المعاني الذاتية؟ من الممكن مراجعة كلامي في مقالة متعلقة بالحد التام6؛ ولكن لنفرض بأنها من ماهية الإنسان أو جوهره؛ إذًا يجب أن يكون الإنسان=الناطق أو العاقل.

وينطبق الحال أيضًا مع ذوات القدمين، فذوات القدمين=ما له رجلان؛ فهذا معنى ذاتي، ولكن (ذوات القدمين ع الناطق) أو العاقل؛ فهذا معنى عرضي.

المشكلة التي يقع فيها كواين، هي حصر الكلمة لما لها معنى ذاتي، أما المعنى العرضي، فيجعلها شيئًا منفصلًا عن المعنى الذاتي، والصحيح أن لها علاقة، ليست من قبيل المساواة الرياضية أو حتى الوجودية؛ ولكنها علاقة بينها وبين موضوعها. فيمكن أن تكون هذه العلاقة ضرورية ومستندة إلى مبدأ عدم التناقض، كطريقتي في القضايا التركيبية القبلية، مثل أن “2 عدد زوجي”. صحيح أن 2≠عدد زوجي، ولكن (2 ع عدد زوجي)، فلها علاقة ضرورية لا تنفك وإلا حصل التناقض، وهو أن “2 ليس بعدد زوجي”. فالعدد الزوجي معنى عارض على مفهوم الاثنين.

وكذلك أحد الأشياء التي يتغاضى عنها كواين هو السياق، وهو ما سنلاحظه كثيرًا في نقده؛ فعندما نقول الإنسان من ذوات القدمين، فيجب أن نراعي هنا السياق، فلا نستطيع أن نحكم على القضية من دون مراعاة سياقها؛ لذلك لا نهتم كثيرًا بالألفاظ؛ بل نهتم بالمعاني والمفاهيم والسياق، وهذا ما بنى عليه فريغه نقده على كانط:

“لا تسأل عن معنى الكلمة بمعزل عن سياقها في القضية”7.

وهنا تكمن أهمية السياق، فنحن لا نسأل عن معنى كل كلمة من كلمات القضية بمعزل عن الأخرى، والصحيح أننا نفهم معاني الألفاظ في سياقها. فلو قلنا إن “2” له معنى، و”+” له معنى، و”4″ له معنى؛ إذًا ستصبح معاني 2+2=4 غير متساوية في المفهوم؛ بل زائدة عليها، وهذا ما دفع بكانط إلى جعل الرياضيات كلها، بما فيها أسس علم الحساب تركيبية. ومما أدى بفريغه إلى الرد عليه، وأن معاني “2+2″، تفهم من سياقها الكامل، لا بصورة مجزَّأة أو مفردة، لأن معنى “2+2” هو “4”.

“إنسان من ذوات القدمين”، فتكون من سياقها قضية بالمعنى العرضي، بأنه ناطق برجلين أو حيوان ناطق برجلين.

وكذلك بالمعنى العرضي “الإنسان هو جسم متحرك بالإرادة”، فتوجد علاقة بين الإنسان وكونه جسمًا متحركًا بالإرادة؛ لأن القردة كذلك أجسام متحركة بالإرادة، فليست مستندة إلى معاني ذاتية، مثل: الإنسان حيوان ناطق. فالسياق ضروري عند التعامل مع القضايا، ومن خلال السياق نعرف المعنى.

انقسام المفهوم التحليلي إلى فئتين:

يتطرق كواين8 لإشكال آخر متعلق بالمعرفة التحليلية؛ فيجعلها فئتين، يسمي الأولى بالحقائق المنطقية، مثل:

(2) لا رجل غير متزوج هو متزوج.

ومثال الفئة الأخرى:

(3) لا رجل عزب هو متزوج.

الإشكالية التي يراها كواين هي أن (3) ستكون (2)، عند استخدام مفهوم المرادفة، ويرى أن مفهوم المرادفة ليست لها صفات محددة، فتحتاج إلى توضيح أكثر من المفهوم التحليلي نفسه9.

ولكن عندما نستند إلى (1)، ستكون (2) هي (3) بملاحظة المعاني؛ لأن معنى غير متزوج يطابق العزب، وهذا يوافق مفهوم المرادفة. ويعود هذا كله لاستخدام المعاني من اللغة، وبذلك وعن طريق مبدأ عدم التناقض، يستحيل أن يكون العزب متزوجًا؛ فإذًا (2) هي (3)، والخلاف في الألفاظ المستخدمة، -وهذا ما سيشكل عليه، كواين بتفصيل لاحقًا، بين الألفاظ والمعاني من دون مراعاة سياقها-؛ لذلك العبرة بالمعاني والمفاهيم المستخدمة من اللغة، وأهمية السياق.

يذكر كواين مثالًا آخرَ، معترضًا على كارناب، بمثال أن “يوحنا عزب” و”يوحنا متزوج”، فهذه قضايا مستقلة عن بعضها، فلو كانت عكس ذلك؛ فسوف تحتمل الصدق، ومن خلال ذلك ستكون قضية “لا عزاب متزوجين”، قضية تركيبية10.

رغم أن اعتراضه متجهٌ لأطروحة خاصة بكارناب؛ ولكن اعتراضه قريب من الاعتراض الأول المتعلق بالقلب والكليتين، ويتفق نقدي ونقد كريبكي عليه؛ لأن “يوحنا عزب”، ليس فيها أي مساواة أو حتى مرادفة، ولكنها عرض، والخلاف بيني وبين كريبكي فيها هل هي تحليلية أم تركيبية، وغيرها من الإشكالات المتعلقة بالقضايا الشخصية؛ ولكن “لا عزاب متزوجين”، فهي قضية تحليلية ومن الحقائق المنطقية، وعند النظر إلى معنى العزاب الذي يطابق غير متزوجين، نلاحظ أنه يستحيل أن يكون معنى العزاب يطابق المتزوجين استنادًا إلى (1).

اللغة والحقائق المنطقية:

يذكر كواين بأن من أمثلة الحقائق المنطقية العزب، ويُعرف بأنه غير المتزوج، ويتساءل: كيف علمنا ذلك؟ ويعترض بأنه لو عدنا إلى معاجم اللغة، واكتشفنا هذا التعريف، فهل يصح أن نجعل كلام المعجمي -أي مؤلف القاموس-، قانونًا؟ مع أن المعجمي عالمٌ تجريبي، فحصول المرادفة عنده بين العزب وغير المتزوج، هو بمجرد الاعتقاد بوجود علاقة بين الكلمتين11.

صحيح أن الألفاظ وطريقة نطقها، تعد شيئًا تجريبيًّا، كما هو الحال مع المصاديق المتعلقة بالكلمات؛ ولكن كواين غض النظر في أن المعاني نفسها تكون ثابتة للشيء المُحال إليه، سواءً كانت بالمفهوم -التي لا تتعلق بالتجربة- أو بالمصداق -التي لها تحقُّقٌ خارجي-. أي إن كان العزب هو غير المتزوج، فسوف يبقى المعنى نفسه، ولن يتغير، في أن العزب هو غير المتزوج؛ لأنني لا أحتاج أكثر من معرفتي بمعنى العزب فقط لكي أعطي حُكمًا بصددها، كما هو الحال في (1)، أو حتى بالمعرفة اللغوية في أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة، ولكن يختلف الأمر في القضايا الشخصية أو أسماء الأعلام، مثل “نيوتن عزب”؛ فلكي أتحقق من كون نيوتن عزبًا، يحتاج مني أن أبحث تاريخيًّا، أي في سيرته الذاتية، فيتضح أن هذا البحث تجريبي، ويقبل الخطأ، فالقضية السابقة ليست ضرورية؛ لأن من الممكن أن تكون معرفتنا التاريخية عن نيوتن مخطئة، والصحيح أنه متزوج. أو لنأخذ قضية أخرى “ابن سينا عزب”، فعندما نبحث في سيرته، لا نستطيع أن نتيقن؛ لوجود معلومات متضاربة حول هذا الأمر وتحتاج إلى ترجيح، إما أنه تزوج، وزوجته اسمها ياسمين، أو الرأي الآخر بأنه لم يتزوج؛ ولكن لو كانت القضية إما ضرورية الصدق أو ضرورية الكذب، لما وقعنا في الإشكالية السابقة، أي في البحث عن: هل هو متزوج أم لا؟. القضايا الشخصية بطبيعتها هي تجريبية، أي نحتاج إلى معرفة الموضوع والتحقق منه خارجًا، وهذه طريقة كريبكي التي نتفق معها مُجملًا لا تفصيلًا. عندما نعود لقضية “الرجل العزب هو غير متزوج”، نحن نعلم بأن العزب هو رجل عزب، فلم نحدد شخصًا بعينه، إذًا الموضوع نفسه، ليس متعلقًا بالقضايا الشخصية، ولنكن أكثر دقةً متبعين فيها الطريقة الصورية، بأن القضايا المعتبرة فقط هي المسوّرة أي إما أن تكون كلية أو جزئية، إذًا “كل رجل عزب هو غير متزوج”، فهذه قضية موجبة كلية معدولة، ومعناها أي عزب فهو غير متزوج، وضرورتها عائدة لمعانيها الثابتة لها؛ وبذلك تكمن أهمية معرفتنا بالمعاني والمفاهيم وسياقها، وتتبقى مسألة خارجية، وهي طبيعة اللغة نفسها أي اللغة العادية وأصلها، فهل اللغة موجودة فينا أم هي شيء خارج عنا مكتسبة؟ وتناقش هذه المسألة في كيفية ظهور اللغة، وما يتعلق بها في المباحث الوجودية.

الألفاظ والمعاني:

يطرح كواين، إشكالًا آخر12، على مفهوم المرادفة، “”العزب” مكون بأقل من عشرة أحرف”. وتطرق بأن ليس كل لفظ “العزب” يعطيك معنى “غير متزوج”، فيوجد وردة اسمها أزرار العزب (Bachelor’s button) وهي وردة الذرة. فما المحدد بأن المرادفة تقع للفظ “العزب” بأنه غير متزوج، من دون الألفاظ الأخرى؛ لأن من الممكن أن يكون معنى العزب وردةَ الذرة، أو أي معنى آخر للفظ نفسه، فلماذا لا يكون أيضًا استنادًا إلى مفهوم المرادفة، أن يكون العزب مساويًا لعدد أحرف “غير متزوج”. هذا الإشكال صغته بأسلوبي، ومختصرًا.

لا ينظر كواين هنا إلى المعنى أو المفهوم في سياقه، فكيف نعلم بأن أزرار العزب هي وردة كذا وكذا إلا بالرجوع لمعانيها من سياقها، فلو قلت “إن (س) هي أزرار العزب” فسيسهل أن نفهم من السياق، أن المراد من (س) هي الوردة المسماة بأزرار العزب، وليس أن الوردة غير متزوجة!، طبعًا القضية هنا مستندة إلى مقولات الهُوية؛ فهي تحليلية وضرورية، ولكن غير مستندة إلى مبدأ عدم التناقض؛ لأننا نتحدث عن نوع معين من الورود والتي اكتشفناها تجريبيًّا فهي معرفة بعدية؛ ولكن الألفاظ مثل “العزب” أو “Bachelor” متغيرة استنادًا إلى طبيعة اللغة، رسمًا -أي كتابةً- أو نطقًا. ولكن العبرة بالمعنى نفسه المستخدم للكلمة، فهذا يثبت أن معنى العزب هو غير متزوج بأي لغة كانت، إذًا الألفاظ هي أعراض، أو داخلة في المعنى العرضي أو العلاقة ما بين الموضوع والمحمول. تتكون كلمة “العزب”، من ستة أحرف، وتتكون “غير متزوج” من ثمانية أحرف، فهل يصح أن يكون العزب≠غير متزوج؛ لعدم حصول مطابقة في عدد الأحرف؟ وهذا هو الخلط الذي وقع فيه كواين، عندما لم يبالِ بالتفريق بين اللفظ والمعنى من جهة ذاتية أو عرضية، فكلمة العزب لا تساوي غير متزوج بعدد الأحرف؛ لأن هذا متعلق بالمعنى العرضي لا بالمعنى الذاتي، وهو أن المساواة بين العزب وغير متزوج بالمعنى نفسه لا بعدد الأحرف أو بشكل اللفظ ورسمه أو بنطقه. ولكلمة العزب علاقة بعدد أحرفه (العزب ع ستة أحرف) و(غير متزوج ع ثمانية أحرف). فكما قلنا لا توجد مساواة بالمعنى العرضي؛ بل مجرد علاقة، مثل: “الذهب معدن أصفر”، ليس أن الذهب=معدن أصفر، فحتى النحاس مع الزنك معدنٌ أصفر، فهل هذا يجعل من الذهب=النحاس مع الزنك، فقط لأنهما معدنان أصفران؟، إذًا هي مجرد علاقة؛ لأن اللون مجرد عرض على الذهب، فهي إذًا من المعاني العرضية لا الذاتية، (الذهب ع معدن أصفر) كما هو الحال مع (النحاس الأصفر ع معدن أصفر). نلاحظ بأن القضايا السابقة أيضًا تركيبية وليست تحليلية، وهذا يتجاوز إشكال كواين من أصله، فمثال الذهب متعلق بالمعرفة البعدية، ولكن مثال عدد الأحرف متعلق بالمعرفة القبلية، وكلاهما تركيبيتان، وأيضًا ليست ضرورية بل ممكنة؛ لأنها مستندة إلى المعاني العرضية السابقة، والتي بدورها مستندة إلى العلاقة الممكنة لا العلاقة الضرورية. فلو قلنا “عزب” لأصبح عدد أحرفه أربعة، أو لو قلنا “غير المتزوج” بزيادة ال التعريف؛ لأصبحت عشرة أحرفٍ. فهذا يثبت لنا أيضًا بأن شكل الألفاظ قابلٌ لأن يتغير أي لفظًا بداخل الجملة، سواءً لاعتبارٍ نحويّ أو غيره؛ لأن الألفاظ بطبيعتها اللغوية متغيرة، ولكن المعنى هو الذي يثبت دلالة الألفاظ، وسياقها في الجملة أو القضية.

مشكلة الدور المنطقي:

يطرح كواين مشكلة أخرى13، بالمرادفة المعرفية بين “العزب” و”رجل غير متزوج”، كالقضية التحليلية هذه:

(4) كل وفقط العزاب هم رجال غير متزوجين.

نلاحظ هنا أننا نفسر التحليلية عن طريق المرادفة المعرفية.

ولكن لنأخذ قضية تحليلية غير مستندة إلى المرادفة المعرفية:

(5) بالضرورة كل وفقط العزاب هم عزاب.

يتضح بأنها صادقة، حتى مع الافتراض أن الضرورة تفسر القضايا التحليلية؛ إذًا “العزب” و”رجل غير متزوج” متقاطعتان:

(6) بالضرورة كل وفقط العزاب هم رجال غير متزوجين.

عندما نستبدل في (5)، بـ”العزب” كلمة “غير متزوج”، فسوف تكون (5) صحيحة أيضًا؛ ولكن عندما نقول إن (6) صادقة، فسوف نقول إن (4) تحليلية؛ وبالتالي “العزب” و”رجل غير متزوج” مترادفتان معرفيًّا14.

يحاجج كواين، بأن تبرير القضية التحليلية في كونها تحليلية؛ لأنها مترادفة، وبما أنها ضرورية إذًا فهي تحليلية، التي سبق وبررناها عن طريق المرادفة. لا يرى كواين أن الإشكال السابق، هو دور صريح، أو بمصطلحه “دائري”؛ ولكنه شيء قريب منه15. بالإضافة إلى إشكال لغوي، في (4)، بأنه لا يوجد ضمان في كونها متفقة لغويًّا في الخارج، أي غير معتمدة على المعاني نفسها، بل على مجرد أعراض متعلقة بالواقع16، رغم أننا ناقشناها مسبقًا، في معرفة المعنى الذاتي والعرضي، والتفريق بينهما.

صحيح، أنه لا يصرح بوجود دور منطقي؛ ولكنها أقرب لشائبة الدور، فالإشكال هو عدم وجود تبرير صريح وواضح، في مفهوم التحليلي، وعند إسناده إلى مفهوم المرادفة، يراها كواين أكثر إشكالية وغموضًا، ولكن لو أسندناها إلى مبدأ عدم التناقض مباشرة كما في (1)، أي عندما يكون معنى العزب يناقض معنى المتزوج، بذلك تكون القضية (3) تحليلية. مع أن اللغة تجوّز مفهوم المرادفة؛ ولكن سوف نكون أكثر دقةً، ونستخدم مفهوم المساواة، التي تفيد التطابق بين الموضوع والمحمول، فعند حصول هذا في الاسم=المعنى، تكون تحليلية، مع الأخذ في الاعتبار، المعنى والمفهوم والسياق، الذي يتجنبه كواين، ويغض النظر عنه؛ لوجود معاني ذاتية وهي المتعلقة بمساواة الاسم والمعنى، والأخرى هي المعاني العرضية المتعلقة بالعلاقة بين الاسم والمعنى، وقد تكون هذه العلاقة ضرورية ومستندة إلى مبدأ عدم التناقض، كما في قضية “4 عدد زوجي”. فالتفريق بين المساواة (=) والعلاقة (ع). مهم في هذه القضايا؛ لكيلا نجعل الذهب=معدن أصفر أو 4=عدد زوجي. فهذا خطأ؛ لأنها غير مستندة إلى معاني ذاتية، والصحيح أنها مستندة إلى معاني عرضية؛ فللذهب علاقة مع معدِن أصفر، وهي ممكنة ويصح أن تنفك، فيكون الذهب ليس أصفرَ، فيمكن أن نغير لونه أو نصهره فيكون سائلًا. أما 4 فلها علاقة مع العدد الزوجي، وهي علاقة ضرورية، تستحيل أن تنفك؛ لأن نقيضها يحيل للتناقض، أي 4 عدد فردي. يُسلم كواين بأنه عند استخدام المساواة (=) كما في مقولات الهوية، أو التطابق الاستلزامي (إذا وفقط إذا)؛ تحصل المرادفة للكلمات الفردية أو المحددة، وبذلك تكون تحليلية17.

عندما نعود إلى إشكالية كواين السابقة، نجد أننا لكي نثبت أن (5) تؤدي بالفعل (4)؛ بل هي نفسها كمعاني ومفاهيم، استنادًا إلى المعاني الذاتية، هو بالعودة إلى حصول المساواة: العزب=غير متزوج، وعند حصول النقيض يحصل التناقض أي العزب≠غير متزوج، ويكون هذا كله عند إرجاعها لمبدأ عدم التناقض، كما في (1).

إذن: إن كانت (6) صادقة؛ فيجب أن تكون (4) و(5) قضايا تحليلية، استنادًا إلى (1).

التفريق بين التحليلية والتركيبية:

كواين18، يشكل على مفهوم التحليلية بقضية “كل أخضر ممتد”، رغم أنه يرى أن المعاني في هذه القضية واضحة؛ ولكن المشكلة في المفهوم التحليلي.

عندما نحرر القضية السابقة لغويًّا، سنجد أنها ليست تحليلية أصلًا، وحتى إن جعلها كانط من قبيل التحليلية، وهذه إحدى الإشكالات التي وقعت فيها الفلسفة المعاصرة، بأن أي شيء مستندًا إلى الضرورة بمبدأ عدم التناقض فهي التحليلية، وعند ظهور كريبكي تغير الأمر قليلًا، ولكن ما بعد النقد على كانط، ما زالت أي قضية قبلية هي تحليلية، ولا يوجد لقضايا قبلية تركيبية، فالتركيبية فقط هي البعدية، والصحيح أنه توجد قضايا تركيبية قبلية منها ما هو ممكن وضروري مستندًا إلى مبدأ عدم التناقض -خلافًا للضرورة العادية أو الذاتية كما عند كانط-، ويمكن الرجوع إلى أدلتي وتفاصيل أخرى، في مقالة (التركيبية والضرورة)19.

قضية “كل أخضر ممتد”، ليست مستندة إلى المساواة؛ ولذلك ليست من معانيها الذاتية، فالأخضر لا يساوي ممتدًا، كمعنى أو مفهوم. ولكن توجد علاقة بين مفهوم اللون، ومفهوم الامتداد، إذًا القضية ليست تحليلية بل تركيبية؛ لأن الامتداد مفهوم زائد على الأخضر. ولكن هل هي قضية قبلية؟، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه كواين في تحرير المعاني، رغم أنه قال: ليست المشكلة في فهم معنى الأخضر أو الممتد20، ورغم ذلك تتضح القضية بأنها ليست قبلية، استنادًا إلى التحرير اللغوي، ولا كذلك عند كريبكي استنادًا إلى المعين الصارم والمعين العرضي. فهي بعدية وكذلك ممكنة، ولكن الخلاف بيني وبين كريبكي سيكون: هل هي تحليلية بعدية أم تركيبية بعدية؟. فالمشكلة ليست في المفهوم التحليلي أكثر من أنها في طبيعة اللون نفسه، والاستناد إلى التجربة الخارجية، وأن البحث المعرفي يزداد في فهم الظواهر الخارجية، أو حتى التركيبية.

كما هو الحال مع القضايا الأخرى التي ذكرها كواين21. “بروتس قتل سيزار”، فلا يمنع أن تكون هذه القضية كاذبة؛ لأنها ممكنة، ومستندة إلى التحقق الخارجي أو البحث التجريبي، وكذلك لو كنا في عالم يستخدم “قتل” بمعنى آخر؛ فهذا لا يغير المفهوم الذي لدينا ولديهم، فلو كان معنى “قتل” في العالم الثاني، بمفهوم “صديق”، فهذا يجعلنا نعرف بأن المعنى المستخدم في لغتهم من اللفظ “قتل” هو “صديق”؛ لأنه لا يهمنا الألفاظ بقدر أهمية المعاني والمفاهيم المستخدمة، والسياق، وهذه من طبيعة اللغة العادية، التي نستخدمها في حياتنا اليومية، فلا يحصل أي خطأ عند تثبيت المعاني للألفاظ التي نتعلمها حتى لو كانت جديدة علينا. كما هو الحاصل عند تعلم لغة ثانية؛ حيث تتطابق المعاني في لغتنا مع اللغة الجديدة؛ لذلك نستطيع أن نكتسب المفاهيم اللغوية المشتركة.

ولكن عند البحث عن مفهوم “قتل” لدينا في لغتهم، ونكتشف أن لفظها كذا “لقت”؛ إذن سيكون معنى القضية بسياقها وألفاظهم المستخدمة “بروتس لقت سيزار” أي بلغتنا “بروتس قتل سيزار”، وليس أن بروتس صديقُ سيزار. وهذا ينطبق على اللغات الثانية أو الجديدة، سوف أفصل فيه عند مناقشة النموذج اللغوي البديل، مقابل نموذج كواين العلمي.

نموذج كواين العلمي:

بما أن كواين يرفض القسمة التحليلية والتركيبية؛ فسوف يختار نموذجًا علميًّا بديلًا، ويراه أفضل نموذج معرفي، وأساس هذا الترجيح هو نفعي-براغماتي-؛ لأنه أكثر نموذج نافع لنا بما توصلنا إليه من خبرة، والنسبية التي يطرحها هي في مراجعة كل شيء، حتى مراجعة أسس المنطق، واختيار البديل، استنادًا إلى الأنفع22، إذًا فهو ينتصر لهذه الطريقة البراغماتية، مستندًا إلى خبراتنا ومعارفنا العلمية الحالية23.

ولا يرى كواين أي مانع حتى في مراجعة القوانين أو المبادئ المنطقية بالنظر للعلم. مثل مبدأ الثالث المرفوع، بالنظر إلى فيزياء الكم24.

إن مشكلة هذه الطريقة في الترجيح هي اشتمالها على المعارف كلها بما فيها المنطق والرياضيات والتاريخ وغيرها، فلو كانت محصورة في العلم فقط، لكان من الممكن أن يكون لهذه الطريقة وجاهة. عندما تكون الأسس المنطقية، كمبدأ عدم التناقض، تصح مراجعتها استنادًا إلى معارفنا العلمية؛ فهذا تقديم للعلم أو التجربة على أسس أكثر صرامة، وفيه غض للنظر عن الإثباتات التي تقوم بها هذه المبادئ نفسها، ومن دونها، فلا قيمة للنموذج العلمي أصلًا من دون هذه الأسس. ومشكلة المقاربة البراغماتية، أنها تجعل الخيارات محددة مسبقًا لما هو أنفع، فكيف علمنا أن النموذج العلمي أنفع لنا؟، سوف يقال: بسبب خبراتنا ومعارفنا العلمية، وهذا دور منطقي، وتبرير النموذج العلمي؛ لأنه نافع، وأن المنفعة عرَفناها بسبب خبراتنا ومعارفنا العلمية التي نمتلكها هي دوغما أكثر من الدوغما التي ينتقدها كواين في القسمة التحليلية والتركيبية، رغم أن لهذا الأخير تبريراته البراغماتية أيضًا، بأن هذه القسمة أنفع للفلسفة!.

من التبرير السابق نفسه، نستطيع أن نبرر فيها، أفضلية القسمة التحليلية والتركيبية من الجهة البراغماتية؛ ولكن لنعيد النظر من جديد في هذه الطريقة في المعرفة كأساس. هل يصح أن 2+2=5، وتكون صادقة، لأنها أنفع لنا؟، بلا شك، هذه طريقة دوغمائية، تذكرنا برواية جورج أورويل (1984)، والأخ الأكبر، وأن 2+2=5، فهي صادقة، بما أن الجميع يعتقد بصدقها. وينطبق الحال، على 2+2=5 فهي صادقة، إن كانت أنفع للجميع!. يظهر أن المقاربة البراغماتية عند كواين، وترجيح النموذج العلمي، طريقة سيئة؛ لأنها تجعل المعارف كلها في نموذج واحد محدد، وبذلك لا قيمة للمبادئ المنطقية، بما أنه يمكننا مراجعتها استنادًا إلى النتائج التي توصل إليها العلم. وماذا عن الفلسفة؟، سوف يشمل عدم فائدتها، وسقوطها من حيز المعرفة البشرية؛ لأنها غير نافعة من الجهة البراغماتية، والعلم أنفع استنادًا إلى خبراتنا ومعارفنا العلمية التي اكتسبناها. وبذلك العلم المعاصر هو بديل أفضل من الفلسفة.

المعارف بشكل عام، غير محصورة بالعلوم أو الرياضيات أو المنطق وغيرها. لنأخذ التاريخ، قضية “ابن فضلان نقل طقوس الموت عند الفايكنج”، كيف نتحقق من هذه القضية التاريخية؟، بلا شك، المقاربة البراغماتية غير مجدية في البحث التاريخي، بمعنى أنه لا أستطيع القول: “إن البحث التاريخي غير نافع؛ إذًا فلا حاجة للبحث عن أي شخصية تاريخية وأحوالها، والحوادث الحاصلة في الأزمنة الغابرة”. كما أن البحث التاريخي، يعد تجريبيًّا أي مستند إلى ما بعد التجربة؛ ولكنه ليس داخلًا في النموذج العلمي، أي أن التحقق من ابن فضلان، وأنه قابل ونقل عن الفايكنج، لا يجري على طريقة المنهج العلمي المعاصر؛ بل يستند إلى منهجية مختلفة، متعلقة بالتحقق التاريخي، وما يجري فيه من ترجيح ونقد، وهو بحد ذاته مستند إلى ما نُقل إلينا. في رحلة ابن فضلان ذكر بأنه قابل “الروس”، فمن هم الروس؟، وهل هم “الفايكنج”، بلا شك، لا نستطيع أن نرجع بالزمان ونتحقق تجريبيًّا بطريقة العلم المعاصر من ملاحظةِ الملاحظة نفسها وتكرارها أكثر من مرة، ثم الترجيح؛ ولكن الطريقة المعتمدة هي ترجيح ما نُقل إلينا من نصوص، مثل ما كتبه ابن فضلان في كتابه (رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة)، وكذلك تزداد إشكالية التحقق التاريخي، عندما نناقش قضايا غير صحيحة، وهنا يثبت أن المعرفة أوسع من حصرها في النموذج العلمي، مثل هل كان “ابن فضلان هو المحارب الثالث عشر”؟، وعند التحقق التاريخي نكتشف، عدم صحة ذلك، وأنها قصة متخيلة، مأخوذة من رواية (أكلة الموتى) لمايكل كرايتون.

وتثبت هذه المحاججة حاجتَنا إلى نموذج أوسع وأشمل، تدخل فيه المعارف البشرية قاطبة، ومعرفة صحة القضايا وصدقها للتحقق منها، عن طريق المنهج المتبع، فإن كانت القضية متعلقةً بالتاريخ، فالمنهج التاريخي هو الذي يتحقق منها، أما إن كانت القضية متعلقة بالعلوم، فالمنهج العلمي هو الذي يتحقق منها، وكما هو الحال مع المنطق والرياضيات، ولا أن نراجع المنطق، بالنظر إلى منهجية نسبية كالعلم المعاصر. ويكون نطاق الطريقة البراغماتية ضيقًا جدًّا، وهو بالنظر للأنفع في المناهج ذات الطابع النسبي، مثل المنهج العلمي، عندما يأتي منهج أكثر منفعةً من المنهج الحالي، فسوف يكون أفضلَ، استنادًا إلى الطريقة النفعية. وهذا بنطاق ضيق، فلا ينطبق على المنهجيات الأكثر صرامة، أو التي تتعامل مع البراهين والإثباتات كالمنطق أو الأسس الرياضية، فعندما تحصل مشكلة في الأسس الرياضية، مثل المتعلقة بمبرهنة جودل، أو الحدسيات التي لم تبرهن، فهذه تُحل عن طريق الرجوع لمنهج الرياضية نفسه، والنظر في أسسه من جديد، والتحقق من الإثباتات، لا بالنظر إلى منهج نسبي، كالنموذج العلمي وتقديمه، ومراجعة الرياضيات من خلاله، ولا أيضًا من الجهة البراغماتية، أي نأخذ النموذج الأنفع، ونغض الطرف، عن البحث في الأسس والبراهين والإثباتات نفسها، ومحاولة حل الإشكالات التي تطرأ، وبذلك تغيب فائدة الفلسفة أو المنهج عن طريق اختيار ما هو أنفع لنا، وليس عن طريق البحث عن الصحة نفسها. ولكن من وجهة نظر فلسفية، علينا أن نسهم في البحث عن الحلول المتعلقة بالمشكلات الفكرية، فهذه هي غاية الفلسفة، وليس التسليم بالمشكلات، وترجيح الخيارات الأنفع في الأمور كلها؛ لأننا لا نستطيع أن نحل الإشكاليات التي تطرأ على الفكر، بذلك سوف تصبح 2+2=5، صادقة، استنادًا إلى الأنفع؛ لأننا نتكاسل معرفيًّا عن البحث عن حلٍ للمشكلات والتحقق من الإثباتات التي من المفترض أن تثبت إما أنها ضرورية الصدق أو ضرورية الكذب.

اللغة أساس الفلسفة:

وهو ما يثبت أهمية اللغة في الفلسفة، وأنها حاجة إلى التفكر. خلافًا للنموذج العلمي، الذي لا يستطيع أن يعطي أحكامًا من دون الاستناد إلى اللغة، مثال: عندما نعرف أن Morgenstern هي نجمة الصباح، فهذه القضية تحليلية؛ ولكي أتحقق من معنى Morgenstern، يجب أن أعود لمعناها في اللغة الألمانية، ومعرفة معناها من المعاجم، فيكون مصدر الحكم هنا اللغةَ نفسها؛ لذلك الحُكم في صدق القضية أو كذبها يكون قبل النظر إلى كونها تحليلية أم تركيبية، وهل هي ضرورية أم لا؟. فلا يعالج النموذج العلمي هذا النوعَ من القضايا اللغوية، التي يحتاج فيها إلى معرفة معاني الألفاظ من اللغة المستخدمة، ويعود بنا هذا إلى وجود قضايا في الفلسفة لا يجيب عنها العلم؛ بل نحتاج إلى نموذج أوسع من العلمي.

النموذج اللغوي:

لا يمكن أن نفهم أي قضية إلا بالاستناد إلى اللغة؛ وبذلك نستطيع أن نحكم عليها، وينطبق هذا الشيء على المسائل كلها، سواءً كانت نظرية أو فرضية أو فكرة ما؛ فيجب أن تستند إلى اللغة بالضرورة، ولا يكون الحكم إلا من خلال اللغة، فلو كانت النظرية أو الفرضية غير مفهومة لما استطعنا أن نحكم عليها، كما هو الحال لو كانت المعادلات الرياضية غير مفهومة، لما علمنا نتائجها فضلًا عن مقدماتها. ومن هذا المنطلق، يكون حجر الأساس للنموذج اللغوي، وبعد فهمنا للقضية، سوف نحكم عليها، استنادًا إلى المعرفة، أي كيف نتحقق معرفيًّا من كون القضية صادقةً أم كاذبة؛ فإن كانت معرفة تجريبية، سوف يكون التحقق بما يتعلق به، كالبحث العلمي، أو التاريخي وما يتعلق بها، كمعرفة مكونات الذهب، أو معرفة من هو أرسطو.

أما إذا كانت المعرفة غير تجريبية، فتكون مستندة إلى الرياضيات أو بحث لغوي، أو بحث منطقي، مثل: 1+1=2 أو العزب غير متزوج.

بالطبع، للقضايا المعرفية نقيضُها، وهي القضايا الميتافزيقية، مثل أن الغول كائن بعين واحدة، أو وجود كائنات فضائية أو أكوان موازية. فيحاول إرجاعها للأبستمولوجيا؛ ولكن إن تعذر بحثها معرفيًّا، كالبحث التجريبي أو الرياضي؛ فسيكون البحث بطريقة بديلة، كالاستناد إلى منطق الموجهات أو غيرها. وهذا كله داخلٌ في النموذج اللغوي، فلا معرفة من دون فَهم للقضية، ولا يكون هذا إلا بلغة نفهمها، وتحريرها عن طريق التحقق اللغوي.

صحيح، أن العلوم الطبيعية، أنفع من الجهة البراغماتية، في حل بعض الإشكالات الفلسفية، المتعلقة بها، مثل قضايا الاستقراء، ولكن من الخطأ حصر المعرفة فقط في المنهج العلمي كأساس؛ لأن هناك معارفَ أخرى كما بينَّا سابقًا، فلا يستطيع العلم مثلًا البحث في القضايا الأخلاقية، من قبيل هل قتْل الشخص المُسالم، أخلاقي أم غير أخلاقي؟. فالمنهج العلمي والنموذج العلمي، لا يستطيع أن يجيب عن هذه القضايا، رغم أن للفلسفة الأخلاقية اليوم معضلات كثيرة؛ لذلك من الخطأ غض النظر عنها، والقول إنها غير نافعة، من الجهة البراغماتية، والبحث عن حل هو مجرد مضيعة للوقت!. والصحيح أن حقيقة الفلسفة تكمن في البحث عن الأجوبة، وحل المشكلات، والإسهام كفيلٌ بإثبات الحاجة إلى الفلسفة، وأن المعرفة أوسع من حصرها في نموذج علمي محدد مسبقًا عن طريق الترجيح البراغماتي.

بما أن النموذج العلمي قاصر في القضايا غير الأبستمولوجيا، مثل الميتافيزيقية؛ لذلك النموذج اللغوي أفضل وأوسع؛ إذ شمل المعارف كلها، وحرَّر ما هو أبستمولوجي وميتافيزيقي، وبحث فيهما.

 

 


1-W. V. Quine, From a Logical Point of View (1980), p. 20.

2-Ibid., 20.

3-Ibid., 21.

4-Ibid., 21.

5-Ibid., 22.

6-تأملات في الحدّ التام بين المنطق والفلسفة المعاصرة – خالد الحسن

mana.net/archives/2012

7-Gottlob Frege, The Foundations of Arithmetic (1980), Introduction, p. X.

8-W. V. Quine, From a Logical Point of View (1980), p. 22.

9-Ibid., 23

10-Ibid., 23.

11-Ibid., 24.

12-Ibid., 28.

13-Ibid., 29.

14-Ibid., 29.

15-Ibid., 30.

16-Ibid., 31.

17-Ibid., 32.

18-Ibid., 32.

19-التركيبية والضرورة (نقد للفلسفة المعاصرة) – خالد الحسن

mana.net/archives/2764

20-W. V. Quine, From a Logical Point of View (1980), p. 32.

21-Ibid., 36.

22-Ibid., 44.

23-Ibid., 46.

24-Ibid., 43

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى