في واحدة من أشهر اقتباسات ميشال فوكو، يقول “حيث توجد سلطة لا بدّ من وجود مقاومة”. استنادًا إلى أنّ السلطة تبقى رهينة الشروط المتغيّرة والاستراتيجيّات المتقلّبة، يستدعي البحث في آليات عمل السلطة ومجال استخدامها، الحديث دائمًا عن علاقة السيّد بالعبد؛ غالبًا ما تُختصر هذه العلاقة بثنائيّة تتألّف من قطبيْن (اسم فاعل\اسم مفعول) على سبيل المثال (حاكم\محكوم). على أنّه على المستوى الممارسة السياسيّة، أرى أنّ هذه الثنائيّة قابلة للتفكيك، بحيث يمكن أن يتبادل القطبان المراتب الدلاليّة أي أن يصبح المحكوم حاكمًا والحاكم محكومًا عليه أو على الأقلّ أن يتمتّع المحكوم عليه بهامش من الحريّة، يمكنه أن يمارس فيه سلطةً ما أي أن يستفيد من الخطاب المهيمن بطريقة أو بأخرى، من أجل تحقيق بعض المكاسب.
في السعي لفهم هذه العلاقة الديناميّة، من الضروريّ أن نعزّز دراسات المقاومة باعتبارها نموذجًا معرفيًّا بديلًا عن نموذج السلطة. وإذا كانت السلطة موجودة في كلّ مكان “Power is Everywhere” – كما يقول فوكو – فهذا يعني أنّ المقاومة أيضًا حاضرة، حتى في أكثر الأنظمة استبدادًا وديكتاتوريّةً. في بداية هذه المقالة، دعونا نشير إلى أنّ المقاومة لا تعني دائمًا نصرة الضعيف على القويّ؛ إذ بوصفها سلطة مضادةّ، يمكن أن تعمل المقاومة بأدوات الهيمنة والتسلّط وبأساليب خفيّة وغير ملحوظة. وهذا ما تظهره رواية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل.
تستكشف هذه المقالة مفهوم”المقاومة اليوميّة” (Everyday Resistance)، بخاصّة ما اصطلح على تسميته فنّ التمويه (The Art of Pretending) كسلوك يستخدمه البشر يوميًّا في مواجهة أكثر الخطابات السلطويّة قمعًا. يتمثّل هذا الفنّ على سبيل المثال لا الحصر بالسلوكيّات والأساليب البلاغية الآتية (جرّ القدمين، عدم الامتثال، الكسل، الاستعارة، التجاهل، الافتراء، وما إلى ذلك…) مرورًا ببعض استراتيجيّات الخطاب، والّتي توضع أيضًا تحت خانة هذا الفنّ البلاغيّ.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مبحث المقاومة اليوميّة يدين بشكل خاص للعالم السياسي التاريخيّ “جيمس س.سكوت” (James C. Scott)، في وصفه السلطة ب “البنية الخفيّة”. وذلك في معرض نقده للنقد السياسي، الّذي غالبًا ما يركّز على الأحداث التاريخيّة المرئيّة أو المقاومة الجماهريّة مثل التمرّدات المنظّمة أو العمل الجماعيّ أو الحركات الطلّابيّة أو النقابيّة…بدلًا من التركيز على أشكال المقاومة الثقافيّة الخفيّة، الّتي يتمّ توظيفها يوميًّا في مسار العبودية المستمرّة في مجتمعنا، القديم منه والحديث.
التنظير حول المقاومة اليوميّة والجماهريّة
“جورج”، أستاذ حديث التخرّج، أوكلته مديرة المدرسة بأعمال إضافيّة بلا مقابل مخالفةً شروط العقد الّذي يوصي بتحديد ساعات العمل. خوفًا من أن يخسر الوظيفة لم يعترض أبدًا، لا بل استمرّ بتنفيذ ما هو مطلوب بالرّغم من أنّ الأعمال الموكلة إليه، كانت تزيده إرهاقًا وتعبًا. كان جورج عند كلّ لقاء بالمديرة يجرّ قدميْه ثمّ يبتسم ابتسامةً صفراء ويتهرّب من الإجابة المباشرة عن أسئلتها. في غرفة الاستراحة، سمع زملاءه يتذمّرون من الضغوطات الّتي تفرضها المديرة عليهم. وفي إحدى المرّات، لوحظ بأنّ ملامح وجهه حادّة ويكاد يختنق من سرعة أنفاسه…ما هي إلّا لحظات حتى انفجر غضبًا وبدأ يشتم المديرة ساخرًا من حركاتها المزعجة مقلّدًا صوتها وعباراتها…سمعت المديرة صوت الأساتذة وضحكاتهم فدخلت. فإذا بهم يقفون احترامًا ويدعونها للجلوس معهم كما لو أنّهم كانوا يتحدّثون عن شخص آخر….من منّا لم يمر باختبار مشابه، سواء أكنّا في الجانب الأضعف في علاقة السلطة أم الأقوى؟ نقول شيئًا إذا كنّا في حضرة من لديهم سلطة تفوق سلطتنا، وشيئًا آخر مع من يشاركونا المرتبة أو الوضعيّة أو المكانة (الطبقة الاقتصاديّة، الزمالة، المهنة، الأصدقاء، الأقران، الأقرباء…إلخ).
“المقاومة اليوميّة” هي مفهوم نظري قدمه جيمس سكوت في عام 1985، كاصطلاح مرنٍ يشمل كل الوضعيّات والسلوكيّات اليوميّة المقاومة، الّتي تندرج تحت ما يسمّى الخطاب المستتر في مقابل الطابع الدراميّ والمرئيّ للثورات والتمرّدات وأعمال الشغب والمظاهرات والحروب أو غيرها من مفاصل المقاومة المنظّمة أو الجماعية. هذا التمييز يسمح بتحديد خصائص المقاومة اليوميّة، سبيلًا لتعريفها كما يسهم في فهم من أين تأتي التمرّدات الظاهرة ولماذا لا تحدث أحيانًا، على الرغم من الظروف الموضوعية والملائمة لحدوثها. علاوةً على ذلك، إنّ دراسة هذا المفهوم تنطوي على أهميّة ذاتية كون المقاومة ظاهرة اجتماعية متكرّرة، غالبًا ما يتمّ تجاهلها أو شيطنتها أو التقليل من أهميّتها بإقصائها واستبعادها عن مجال الدراسة.
توصف المقاومة اليوميّة بالهدوء والسلميّة والتشتّت والخفاء وبأنّها تتمظهر بأشكال غير ملحوظة؛ وبهذا التصنيف يؤسّس سكوت لمفهوم “السياسة التحتيّة” (Infrapolitics). وهي تشمل الخطاب المستتر وما يندرج تحت لوائه من وضعيات تتّخذها الذوات المقاومة. يوضّح سكوت كيف أنّ سلوكًا شائعًا معينًا لمجموعات تابعة على سبيل المثال (جرّ القدم، الهروب، السخرية، الكسل، سوء الفهم، التجنّب…) تشكّل خطابًا مستترًا أو حيلًا لغويّة (لغة الجسد واللّغة المدوّنة\اللّفظية)، يستخدمها الناس من أجل تقويض الهيمنة وتفكيك مرجعيّات السلطة؛ خصوصًا في السياقات الّتي يكون فيها التمرّد الظاهر أو الخطاب المعلن شديد الخطورة.
وفقًا لسكوت، يعتمد شكل المقاومة على شكل السلطة؛ وانطلاقًا من التمييز بين الظاهر والخفيّ، اقترح سكوت تصنيفًا عامًا للمقاومة يقوم على نوعيْن رئيسيّين: المقاومة الجماهريّة (Public Resistance) والمقاومة المقنّعة (Disguised Resistance)؛ هذان النّوعان من المقاومة يتعلّقان بثلاثة أشكال من الهيمنة (الماديّة، المكانة، والأيديولوجيّة). وينبثق عن هذا التزاوج ستّة أنواع من المقاومة.
تكون المقاومة جماهريّةً معلنةً (ثورات مفتوحة، عرائض، مظاهرات، غزو الأراضي…إلخ) عندما تعمل ضدّ (1) الهيمنة الماديّة. وتّتخذ حالةً وضعيّةً من خلال (2) تأكيد القيمة أو تدنيس رموز المكانة عندما تعمل ضدّ هيمنة المكانة؛ وتواجه المقاومة المعلنة الهيمنة الإيديولوجيّة ب (3) إيديولوجيّات موازية. في المقابل، تتّخذ المقاومة اليوميّة المقنّعة (غير الظاهرة، غير المعلنة) شكل (4) المقاومة المباشرة من قبل مقاومين مقنّعين عندما تعمل ضد الهيمنة الماديّة؛ أو شكل (5) النّصوص المخفيّة للغضب أو الخطابات المستترة عن الكرامة ضدّ هيمنة المكانة؛ أو (6) الثقافات الفرعية المنشقّة (مثل البدع الألفية والماسونية، الأساطير اللّصوصيّة الاجتماعية، سرديّات البطولات القومية) عندما تعمل ضدّ الهيمنة الأيديولوجيّة.
تكمن الإشكالية في طبيعة المقاومة اليوميّة، وتحديدًا في مسألة مدى تشتّتها؛ فقد تقاوم مجموعة من الأفراد كما لو أنّهم على غير اتّصال بينما تكون مقاومتهم مغمورة ومخفيّة، على سبيل المثال من خلال أخبار وسائل الإعلام، أو الإنترنت، أو القصص المشتركة في المجتمعات الصغيرة، أو شبكات الهاتف أو تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، أو الراديو أو غيرها من الوسائط غير الرسمية أو غير المنظّمة. سلوكٌ قد يبدأ كمقاومة مشتّتة ثمّ يتطوّر إلى اتّصال ضعيف مع مرور الوقت، وحتى لاحقًا إلى اتّصال منظّم. وهنا سيكون البحث التجريبي (Empirical Research)، ضروريًا لاكتشاف ما إذا كانت مقاومة الأفراد المشتّتة جزءًا من عمل منظّم.
إذن من الملاحظ أنّ المقاومة اليوميّة يمكن أن يمارسها فرد أو جماعة؛ وقد لاحظ ذلك سكوت في أثناء دراسته للثقافات التابعة (Subcultures) وتحديدًا ثقافة الفلّاحين في جنوب شرق آسيا؛ تنسّق مجتمعات الفلّاحين مجموعة من الأنشطة المعقّدة مثل “تبادل العمالة، الاستعدادات للزّفاف، الطقوس…وذلك عبر شبكات المقاومة وممارساتها المجهريّة”. ومع ذلك، فإنّ المقاومة اليوميّة “ليست احتكارًا على الفلّاحين”، ولكنّها موجودة لدى كلّ الثّقافات التابعة. وثمّة دراسات حديثة تظهر تجليّات المقاومة اليوميّة في الخطاب اليوميّ؛ أذكر منها دراسة لنايلة مكربل بعنوان (الخادمات السريلانكيّات في لبنان: “العنف الرمزي” و “أشكال المقاومة اليوميّة”). ودراسة لصوفي ريختر ديفرو بعنوان (المقاومة اليوميّة للمرأة الفلسطينيّة: بين الطبيعيّة والتطبيع).
يتبيّن أنّ تصنيف “الأنواع المزدوجة للمقاومة” يفسّر الاختلاف بين “المقاومة اليوميّة” و “المواجهة المفتوحة المباشرة”؛ في المقاومة اليوميّة، يسعى المرء إلى “مكاسب ضمنيّة بحكم الواقع”، بينما في المواجهة المعلنة يسعى إلى تحصيل اعتراف رسميّ بهذه المكاسب بحكم القانون. يقارن سكوت الطبيعة المزدوجة للمقاومة بـ “معيار الزواج المقدس دينيًّا باعتباره الأساس الشرعي الوحيد للحياة الأسريّة”، من خلال القول بأن هذا المعيار الأخلاقي يمكن مقاومته، ليس فقط من خلال حركة اجتماعية “تنكّر صريح لهذا المعيار”، ولكن أيضًا من خلال “نمط من الزيجات القانونيّة الّتي لا تخضع للمقدّس والمنتشرة على نطاق واسع ولكن غير معلنة للجمهور.”
وجدير بالذكر أنّ صفة “اليوميّة” في المقاومة اليوميّة ضروريّة للفهم طبيعتها؛ فعلى عكس المقاومة المعلنة، تحدث المقاومة اليوميّة في سياقات زمكانية وفي علاقات اجتماعيّة معقّدة، تختلف عن السياقات والعلاقات الظاهرة الّتي يمكن النبّؤ بها أو تحديدها في خطاب المقاومة الجماهريّة. بهذا المعنى، تصبح الأفعال الصامتة والعادية سلوكًا طبيعيًّا يمارسه الناس في حياتهم، ويمكن أن تتحوّل إلى نمط شخصيّ وثقافة وتقليد من دون أن يعي هؤلاء الناس أنّ هذا السلوك هو مقاومة يوميّة. من ناحية أخرى، ليس كلّ شيء في السياسة اليوميّة أو في نمط الحياة التابع هو مقاومة، لأنّ السلوك اليوميّ قد يكون تعبيرًا عن ادّعاءات دون أن يكون مقاومة فعليّة. وتاليًا، بات من الضروري العودة إلى منطق فوكو الّذي يوصف الأفعال بأنّها مقاومة فقط حين تسعى إلى تقويض السلطة من جهة والتفلّت من قبضتها، على أن تُشكّل من الجانب الآخر جزءًا من الحياة اليوميّة العادية بحسب سكوت. بعبارة أخرى: ينبغي أن تندمج الأفعال في طريقة حياة المقاومين.
حيل اللّغة بين الخطاب المعلن والخطاب المستتر
يضع سكوت أربعة أنواع من الخطابات السياسيّة لدى الجماعات الخاضعة، استنادًا إلى تمييزه بين الظاهر والخفي ونوعيّة الجمهور الّذي تتوجه إليه؛ يرتبط النّوعيْن الأوّليْن بالسمة الرئيسة للمقاومة اليوميّة ألا وهي “الاستخدام الواسع للتمويه” إما من خلال “إخفاء هوية المقاوم”، حيث يتمّ “إخفاء الهوية الشخصية وليس الطبقيّة” (النّوع الأوّل). أو “إخفاء منقول” أي بدلاً من تسليم رسالة واضحة عن طريق متكلّم مقنّع، يتمّ تسليم رسالة غامضة بوساطة أشخاص محدّدين بوضوح (النّوع الثاني(. أمّا النوع الثّالث، فهو يقع ما بين الخطاب المعلن والخطاب المستتر ومن أبرز مظاهره “الأدب الشعبي والمثل الخرافي” اللّذين يمجّدان الحيل وروح الثأر والثورة.
ويمكن أن نراجع في الأدب العربيّ، كتاب كليلة لابن المقفّع، الّذي يجمع نصوصًا متناقضة، منها ما يركّز على “طاعة السلطان” وأخرى تركّز على “ميوله إلى الطغيان والهيمنة”. وقد استنطق الخطاب القصصي عالم الحيوان، متواريًا خلف الرمز حينًا، ومجاهرًا بالمقصود حينًا آخر…ويعدّ استخدام المعجم الحيواني، تشبيهًا واستعارةً، أحد أشكال الالتفاف على السلطة، بغرض إيصال قيمة ما، حين يكون التعامل مع المقصود المباشر بالغ الحساسية. ويعدّ كتاب كليلة ودمنة مرجعيّة إسناديّة للخطاب السياسي المستتر. وفي هذا الصدد، تؤكّد الاستعارة السياسية المنسوبة إلى الحيوان، الترابط القائم بين عالم البشر وعالم الحيوان وكيف أنّ التضفير ين الخطابيْن المعنيّين، يمكن أن يُستخدم كاستراتيجيّة من استراتيجيّات المقاومة اليوميّة أو تقنية من تقنيات الذات بحسب فوكو.
نصل إلى النّوع الرابع، وهو أخطر أنواع الخطاب، لأنّه يتحقّق حين تُقطع الأوصال بين الخطاب المستتر والخطاب المعلن؛ حيث يتمّ تحدّي السلطة القمعيّة بشكل ظاهر عبر تسمية الأشياء بأسمائها والتحوّل نحو المقاومة المعلنة، إمّا من خلال إظهار مزيد من الأفعال والعبارات الجريئة أو إلى استثارة الشعوب في حركات احتجاجيّة.
على العموم ومهما تنوّع تصنيف الخطاب لدى الجماعات الخاضعة، فإنّ فعل المقاومة غالبًا ما يكون مصحوبًا بتأكيد استطراديّ عام للذوات. في الصراع السياسي المألوف (السيّد\العبد)، يكون امتداح الذات أكثر أشكال الخطاب السياسي علنيّةً. ولكن من غير الملاحظ أنّه في ظل هذا الخطاب، ثمّة تنازلات على الذات الحاكمة اتّخاذها داخل نطاق أيّة إيديولوجيا من الإديولوجيات السائدة (دينيّة، لغويّة، مناطقيّة…) وهي تشمل على سبيل المثال، الاهتمام بالعبد وتربيته تربيةً دينيّة محدّدة وتعليمه أنماط السلوك المتعلّقة بالإيديولوجيا المعنية. لذا كان العبد قادرًا على الاستفادة سياسيًّا من هذا الخطاب الضيّق، لكي يطالب باهتمام أو بعناية من دون أن يكون سلوكه المقاوم خطابًا ظاهرًا أو ثوريًّا. وفي الثقافة الشعبية نجد عادةً شخصيات مخادعة أو استعارات أو عبارات ملطّفة (Euphemism)، “لها معنى مزدوج…بحيث لا يمكن معاملتها على أنها تحدّ مباشر ومفتوح”.
في مثال عن النمط الثاني من الخطاب، نرى أنّ العبيد في أماكن تجمّعهم يمكنهم أن يستعملوا أيّ شكل من أشكال الخطاب المقاوم كإعلان الغضب والسباب والشتائم مع ما يترافق ذلك من تأكيد للذات، ولكن هذا النمط مشروط بالبيئة الاجتماعية وبعوامل ثقافية وجغرافيّة خاصّة. في قصّة جورج والمديرة، يمكن اعتبار غرفة المعلمين المكان الملائم لنمو النوع الثاني من الخطاب، لأنّ المقاومة تجلّت خارج المسرح وبوساطة أشخاص محدّدين. في المقابل، جرّ القدم والابتسامة والتهرّب، هي خطاب مستتر ينتمي إلى النّوع الأوّل.
بالعودة إلى تصنيف سكوت للخطاب السياسي لدى الجماعات الخاضعة، يمكن القول إنّ رواية “مزرعة الحيوان” تقع في النمط الثالث من أنماط الخطاب، لأنّها تنتمي إلى المثل الخرافي. ويتجلّى هذا النوع، في ما تعبّر عنه سياسية التمويه بدلالات مزدوجة هدفها حماية المؤدّين؛ وحسبنا أن نراجع الأمثال الشعبية، والفضائح والشائعات، والنكات والطقوس والكلمات الغامضة والرّموز والشعارات والأغاني والأناشيد، الّتي وظّفها أورويل ببراعة.
وتعدّ رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل، وهي أولى أعماله، أبرز الروايات استخدامًا للمكان “مزرعة مانور” – وهي رمز لروسيا – بوصفها الفضاء البلاغي الّذي ينتج فيه خطاب السلطة المعلن والمقاومة الجماهريّة واليوميّة. يرتكز الخطاب السردي (المستوى الميتانصّي)، على الاستعارة الحيوانية من أجل تضليل هوية المقاوم. في حين يرتكز الخطاب الداخلي على كيفية استخدام الأنظمة المستبدّة (الخنازير) اللّغة لفرض هيمنتها والتحكّم بالجمهور.
وتحكي الرواية عن ثورة الحيوانات بقيادة مجموعة من الخنازير على مالك المزرعة “السيد جونز”، الّذي كان يستنزف جهد الحيوانات مسخّرًا طاقاتها وما تنتجه من خيرات لنفسه. يشير مالك المزرعة إلى النظام الرأسمالي القائم على التبعية. أرادت الحيوانات – في صحوة مفاجئة – التخلّص من السيّد جونز وأعوانه؛ فقرّرت أن يكون مردود المزرعة لمن يعمل فيها. لكن الخنازير فيما وضعته من فلسفة (مبادئ “الحيوانية”)، استطاعت أن تسرق الثورة لصالحها. ويبدو أنّ خطاب الخنازير هو الجزء الأكثر أهمية في الرواية، ومن خلاله يعرض أورويل فهمه الكبير للخطاب السياسي وكيف يتّكئ هذا الخطاب على جهل الجمهور بحيل اللّغة وقابليّته لتصديقها.
تعكس مزرعة الحيوان، “مناخ الرأي” في الثورة الروسية عام 1917 والسنوات الأولى للاتّحاد السوفييتي بصور خفيّة وحيل سيميائيّة؛ إذ ترمز الحيوانية (Animalism) إلى الشيوعية أمّا مالك المزرعة “السيد جونز”، فهو القيصر الروسي. والخنزير الحكيم (Old Major) يشير إلى كارل ماركس وفلادمير لينين، ويمثّل الخنزير سنوبول “ليون تروتسكي”. أمّا خصمه نابليون، فيرمز إلى ستالين. الكلاب هي شرطة نابوليون السريّة أي السلطة العسكرية ومهمّتها المراقبة والتدخّل لحماية النظام. ويرمز الحصان “بوكسر” إلى البروليتاريا أو الطبقة العاملة. أمّا “موللي” فهي ترمز إلى البرجوازية، الّتي فرّت من روسيا بعد سنوات قليلة من الثورة.
يتجلّى الخطاب المستتر في الرواية في نشيد الثورة “يا حيوانات العالم اتّحدوا”، والنشيد الّذي كانت الحيوانات تغنّيه بعد رفع العلم وعند انتهاء كلّ اجتماع. صحيحٌ أنّ الأناشيد كانت تردّد بشكل ظاهر إلّا أنّ لها مفاعيل خفيّة تتمثّل في السيطرة الذهنية على الحيوانات – حتى تلك الّتي تعيش خارج مزرعة “مانور” – وضمان اتّحادها واندماجها في إيديولوجيا المزرعة. وفي الوقت عينه، شكّل نشيد الثورة، الشرارة الّتي أطلقت العنان لكلّ وسائل المقاومة الجماهرية، الّتي استخدمتها الحيوانات لتتخلّص من البشر.
يضاف إلى الأناشيد الدورية، شعار البغل بوكسر “سأعمل بنشاط أكبر…نابليون لا يخطئ”، والأوسمة العسكرية الّتي استحدثت بعد الثورة. وأخيرًا مبادئ الحيوانيّة والّتي اختصرت بمبدأ واحد “نعم لذوات السيقان الأربع، لا لذوات الساقيّن” (Four legs good, two legs bad)، والّذي إذا أردنا أن نعيد صياغته على ضوء تطوّر أحداث الرواية، فستنكشف حقيقته على النحو الآتي “نعم لذوات السيقان الأربع، والامتياز لذوات الساقين” (Four legs good, two legs great)، لأنّ الخنازير شرعت في ارتداء الملابس والتصرّف بقسوة وقمع مثل البشر تمامًا.
ويمكن حصر استراتيجيّات الخطاب المستعملة في الرواية، بثلاثة عناوين:
1- الغموض الاستراتيجي (Strategic Vagueness)
2- التملّك الخطابي (Discourse Appropriation)
3- التهديد المبطّن (Veiled Threat)
وجديرٌ بالذكر أنّ هذه الاستراتيجيّات وظّفت مؤخّرًا بشكل كثيف في الخطابات الرئاسيّة خلال ثورات الربيع العربي.
“الغموض الاستراتيجي”
يؤكّد أيزنبرغ أنّ الوضوح ليس سوى مقياس للكفاءة التواصليّة عندما يكون “هدف الاتّصال واضحًا”. إلّا أنّ هناك العديد من المواقف الّتي يمكن أن يكون فيها الاتّصال الغامض، أكثر فائدةً من التواصل المباشر خصوصًا حين يكون التعبير تلقائيًّا وسريعًا أو حين يحتمل السياق عدم يقين أو تردّد. استخدم أيزنبرغ مصطلح “الغموض الاستراتيجي”، لوصف الحالة الّتي تستعمل فيها اللّغة عن قصد بطرق غامضة من أجل تحقيق أهداف تنظيمية. وفقًا لفان ديك، يشكّل الغموض الاستراتيجي إحدى الوسائل الّتي من خلالها يحقّق الفاعلون أهدافهم من الخطاب.
في مزرعة الحيوان، شعار مبهم مبنيٌّ على التناقض “كل الحيوانات متساوية، لكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من بعضها الآخر” (All animals are equal, but some are more equal than others). وقد استغلّ الخنازير هذا الشعار لفرض هيمنتهم على سائر حيوانات المزرعة؛ فقد احتفظت هذه الأخيرة، بنتاج الحليب والتفاح من دون توزيعه بالتساوي. ويكثر في الرواية أسلوب “التسميل” (Euphemism)، بمعنى تلطيف العبارات وتنميق الكلمات، كوسيلة بلاغيّة مقنّعة لإقناع الجمهور؛ فالخنازير تستخدم عبارة “إعادة تعديل الحصص الغذائية” لتبدو وكأنّها لا تأخذ الكثير من الطعام من الحيوانات. فضلًا عن سرقة جراء الكلاب تحت عبارة “التعليم الخاص” (Special Education) للإشارة إلى تدريبها، لتصبح فيما بعد حارسة للنظام. فضلًا عن شيوع عدد من المغالطات منها مغالطة المقارنة الخاطئة (False Analogy)، حينما يتمّ منح تفضيل حالة المزرعة الآن عن حالتها قبل الثورة (أيام حكم جونز)، مع العلم أن الحيوانية أصبحت أشد بطشًا واستبدادًا من حكم البشر.
“التملّك الخطابي”
يشير فعل (ملك) إلى الحيازة والسيطرة والاستيلاء على الشيء والقدرة على التصرّف به بحسب أهواء المالك وإرادته؛ يعدّ “التملّك الخطابي” استراتيجية تستخدم لإعادة إنتاج السلطة أو مقاومتها من خلال تحويل مسار الخطاب ووجهته ثم توظيفه أو استثماره لتحقيق أهداف استراتيجيّة. وتعدّ اللّغة في هذا المضمار، رأس المال في استمالة الجمهور والـتأثير فيه سلوكيًّا وبيولوجيًّا ونفسيًّا، من دون أن يدرك أنّه موضوع للهيمنة ولإيديولوجيا السلطة السائدة. من هنا، يكتسب “التملك الخطابي” بعدًا مهمًا في البلاغة النقدية كونه أكثر الاستراتيجيات فعاليةً في إقناع المخاطب وحشد ولائه، ظنًّا منه أنّ الإنجازات أو خطاب الوعود والإصلاحات هي مفاعيل شخصية ينتجها النظام في حين أنّها تكون إنجازات أو خطاب شخص آخر. ويعدّ تملك خطاب الثورة في معارك الخطاب السياسي في الربيع العربي من أبرز مظاهر حيازة الخطاب.
في مزرعة الحيوان لم تكن الثورة لتتحقّق لولا تذكير الخنزير الحكيم حيوانات المزرعة، بما كانت تعاني منه من مشقّات وصعوبات يوميّة بصمت ورضى من دون أن تقاوم. وإذا اعتبرنا أنّ صمت الحيوانات وعدم تمرّدها هو خطاب يوميّ، فإنّ تقنية الإدماج الّتي استخدمها الخنزير الحكيم لاستثارة الحيوانات، هي “تملّك خطابي”. وعندما وضع سنوبول مخطّطًا لطاحونة الهواء، عارضه نابوليون ساخرًا من المشروع، وما لبث أن طرده من المزرعة. داعيًا الحيوانات مجدّدًا إلى العمل على إنشاء الطاحونة، مستوليًا على مشروع سنوبول، مطلقًا اسمه على المنشآت الّتي بذلت الحيوانات جهودًا مضنية في بنائها. وهكذا يصبح كل فعل يعود بالمصلحة (العامة) – بين هلالين – وكل نجاح مقدّر أو انتصار محتمل، يُنسب للقائد في حين يُنسب الفشل أو الخطأ أو الهزيمة إلى الخصم؛ سنوبول “الرفيق” و”قائد للثورة” الحائز على وسام “البطل الحيواني”، طرد بأمر عسكريّ وأصبح الملقّب ب “الخائن”.
“التهديد المبطّن”
“إذا تقاعسنا، نحن الخنازير، عن القيام بواجبنا؟ سيعود جونز نعم، جونز! بكل تأكيد أيّها الرفاق…وطبعًا لا يوجد من بينكم من يريد عودة جونز؟” – سكويلر |
يقع القارئ في الرواية الحيوان على تكرار لهذا الاستفهام المبطّن الّذي وفقًا لنظريّة أوستن “أفعال الكلام” (speech-act)، يحقّق فعلًا إنجازيًّا ينحصر في دلالات التهديد والإسكات والزجر وإنهاء الكلام وإجهاض أيّة محاولة للنقاش. غالبًا ما يمارس أدوار التهديد، من يمتلكون الخبرة في المجادلة والحوار والإقناع. ويقدّم أورويل هذا الخطاب الخفي عبر شخصية سكويلر، الذراع الأيمن لنابليون، ووزيره الّذي يعظّم أفعاله ويبّرر أفكاره، ولديه أساليبه الخاصة في نشر بروباغندا “الحيوانية” والتعامل الحذق مع حيوانات المزرعة.
حتى أنّ مبدأ الحيوانية المختصر “نعم لذوات السيقان الأربع، لا لذوات الساقين”، كان يحمل تهديدًا مبطّنًا وغموضًا؛ فالعصافير اعترضت ظنًّا منها أنّها تنتمي إلى ذوات الساقين. وتحوّل هتاف الخواريف لهذا المبدأ، وسيلة لإسكات الحيوانات الأخرى والتشويش على اعتراضها وتعطيل النقاش والحوار.
المقاومة اليوميّة عبر التهرّب والتجاهل والكسل
موللي هي الفرس البيضاء الجميلة الّتي تقود عربة السيد جونز…وتظهر المقاومة اليوميّة في خطاب “موللي”، منذ اللّحظة الأولى لولادة فكرة الثورة، إذ كانت تتهرّب من الاستجابة إلى خطاب “الحيوانية” (قبل تفعيله) – بسلوك غريب يعكس ماديتها وتمركزها الأنوي؛ لذلك فإنّ اهتمام موللي الوحيد هو كيف ستؤثّر الثورة عليها. علمت أن أيّامها الجميلة ستنتهي، وعلى الرغم من أنّها لا تقاتل الحيوانات الأخرى على فكرة الثورة، إلّا أنّها لا تبدو على استعداد لتقديم التضحيات الّتي تتطلبّها مبادئ الحيوانية.
أما الأسئلة الأكثر سخافةً فتلك الّني طرحتها المهرة البيضاء “موللي”. لقد بدأت في مساءلة “سنوبول”:
– “بعد الثورة هل سيكون السكر متوفّرًا؟” – لا، أجابها “سنوبول”، بنبرة قاطعة. ليس لنا في هذه المزرعة وسائل لصناعة السكر. على كلّ حال السكّر شيء غير ضروري. سنوفّر لك العلف والخرطال الّذي تحتاجين إليه. – “هل سيسمح لي بوضع شرائط في عرفي؟” – “أيتها الرفيقة“، أجاب سنوبول بسرعة، “هذه الشرائط الّتي تتعلّقين بها هي شعار عبوديّتك. ألا يمكنك أن تتصوّري أنّ للحريّة ثمنًا أغلى من هذه الزينة التافهة؟” أبدت “موللي” موافقتها من دون أن يظهر عليها أنّها مقتنعة. |
يتأكّد غرور موللي من إحجامها عن العمل في أثناء موسم الحصاد – فهي لا تستطيع أن تكرّس نفسها لأّي سبب آخر غير غرورها. وهكذا، عندما بدأت حملة محو الأميّة في المزرعة، رفضت تعلّم أيّ أحرف باستثناء تلك الّتي تتضمّن اسمها. على عكس سنوبول أو نابليون، وقفت موللي عن طيب خاطر في موقف سلبي، فتمنّعت عن أداء أيّ دور في العملية السياسية.
لم تكن موللي تستيقظ باكرًا، لنعترف بذلك، كما أنّها لا تخفي ميولها إلى الانصراف من موقع العمل في وقت مبكر، وتتذرّع بأنّ حصاة في الحافر تزعجها… |
فأخذتها “كلوفر” على حدة
– “موللي، أريد أن أحدثك بكل جد. لقد رأيتك هذا الصباح وأنت تنظرين من وراء السياج…وكان أحد رجال السيد “بيلنغتون” يقف في الجانب الآخر…لقد رأيته وهو يحدثك ويداعب خطمك. ماذا تعني هذه التصرّفات، موللي؟ بدأت “موللي” تتململ وتقفز، فقالت: “أبدًا! لم أكن أتحدث إليه! ولم يداعبني! هذه أكاذيب!” – موللي. أنظري إلي جيدًا. أعطني كلمة الشرف بأنه لم يداعب خطمك. – أكاذيب. قالت موللي، لكنها لم تستطع النظر إلى “كلوفر” وبعد لحظة ارتدت وانطلقت في الحقول. |
تظهر المقاطع الأخيرة، كيف استطاعت موللي أن تقاوم بغرورها ما فرضته السياسية الجديدة على المزرعة وذلك من خلال الكسل والتذّرع بحجج تبدو مقنعة. وحين تعرّضت للقمع من خلال مجتمع المزرعة (أسئلة الكلبة كلوفر وحيل سنوبول)، حاولت تحييد الموقف من خلال إخفاء موقفها واستخدام حركات جسمها الرشيق، ثم بالنكران والهروب…
وهنا، يعتبر خطاب الحركة ولغة الجسم في السوسيولوجيا السياسية بمنزلة رسالة انفعالية إلى العالم الخارجي ولمعرفة خصائص هذا الخطاب المستتر، ينبغي العودة إلى الثقافات السائدة؛ فإنّ هزّة الرأس يمينًا ويسارًا تعني الرفض في المجتمع الشرقي، بينما تعني هزّة الرأس إلى الأعلى أو أسفل الموافقة في مجتمعات الشرق الأدنى. وكثيرًا ما تتعرّض العاملات الأجنبيات إلى القهر، بسبب سوء فهم الإيماءات وحركات الجسم. ونظرًا إلى طبيعة هذا الخطاب غير اللّفظيّة، فإنّه عادةً ما يستخدم في علاقات السلطة كأسلوب للتهرّب والخوف أو لإبداء الانزعاج وعدم الرّضى والغضب والكراهية والاحتقار.
وما تعبّر عنه صور التضليل والتذويت والقهر والّتي تشمل الجهل، وضعف الذاكرة، لدى بعض الحيوانات؛ أعني فقدان القدرة على تكذيب لغة الخنازير أو مقاومتها بشكل معلن. قد يُحتمل أن تكون هي بعينها، خطابًا مستترًا يستخدم كأداة مقاومة. وهذا قلّما يشار إليه في تحليل رواية “مزرعة الحيوان”، حيث تنحصر الدلالات في سهولة خضوع الحيوانات لخطاب السلطة بسبب جهلها من دون أن يكون أمامها أيّ أمل في المقاومة.
في عالمنا الّذي لا يختلف عن عالم أورويل المتخيّل، رسخت النيوليبرالية صراعًا تنافسيًا لا ينتهي وأصبحت تتطلّب أن يصبح الأفراد روّاد أعمال منافسين. وهذا على الأقل ما يفسر حالات الاكتئاب والإرهاق والقلق (أسئلة موللي). في خضم هذا الصراع، بدأ ينظر إلى الكسل وعدم النشاط والجهل والمماطلة كأشكال مقاومة يوميّة، لأنّها تعطّل هذا المنطق من خلال فتح إمكانيات جديدة لتطوير جوانب أخرى من الحياة أو للحفاظ على نمط حياة مرضي.
يقودنا الخطاب الخفيّ إلى تفاعلات الحياة اليوميّة للخاضعين لرقابة السلطة، حيث تفرز الرقابة انشقاقًا أو نوعًا من السياسة التحتيّة الفرعيّة. من هنا يتّجه الفاعلون إلى اتّخاذ نهج آمن وسريّ من أجل الحفاظ على أوضاعهم وتأمين احتياجاتهم، سالكين دروبًا خفيّة في التعبير عن شخصيّتهم وعدم رضاهم عن ممارسي السلطة. وبالرّغم من أنّ موللي لم تتحرّر فعليًّا من هيمنة البشر، إلّا أنّها على الأقل لم تكن فريسة نظام أكثر استبدادًا وقمعًا.
بعد ذلك بثلاثة أسابيع اختفت “موللي”. وطيلة ثلاثة أسابيع لم يعرف أيّ شيء عن هجرتها. إلّا أنّ الحمام قال إنّه رآها في الجانب الآخر من “والانغتون”، تجرّ عربة إنجليزيّة مصبوغة بالأحمر والأسود، أمام حانة. رجل ضخم بوجه أحمر، يلبس طماقًا وسروالًا، له مظهر صاحب حانة، يداعب خطمها ويعطيها قطعًا من السكر. كانت تضع ثوبًا قصيرًا جديدًا وتضع خصلة قرمزيّة للزينة. كانت تبدو سعيدة، حسب الحمام. بعد ذلك، وإلى الأبد، لم تعد الحيوانات تعرف عنها أي أخبار. |
من المثير للاهتمام إذن، أن يدرس التمركز الأنوي كأداة للمقاومة، خصوصًا وأنّ هذه السمة عادةً ما تصنّف كدليل على التسلّط والهيمنة. ويبدو أهمّ صور الأنانيّة كأداة للمقاومة ما حصل في لبنان، حيث بالرّغم من محاولات الدولة العثمانية في تطهير اللّسان اللّبناني (سياسة التتريك) على مدى عقد طويل من الزمن، إلّا أنّ اللّبنانيّين تمسّكوا بلغتهم مدفوعين بتأكيد لذواتهم القومية محاربين التذويت بوسائل خفية وظاهرة.
المهم ألّا نعيد إنتاج ديستوبيا أورويل !
لقد تمكّن أورويل من صياغة عالم متخيّل لا يختلف عن حياتنا اليوميّة وما يكتنفها من صور التذويت والقهر والتضليل والفساد. ولم يغفل أن يكون هناك بارقة أمل في المقاومة أو في إحداث شرخ في الستاتيكو (Status quo). وإذا كانت الثورات والتمرّدات خطيرة وقاصرة على إحداث تغيير جديّ في النظام السياسي، فإنّ السياسة التحتية والمقاومة اليوميّة – بشبكاتها المعقّدة المجهرية – يمكن أن تصلح كأدوات فعّالة لإحداث التغيير المنشود…ولكن حذار حيل اللّغة واستراتجيات الخطاب المضلّلة! كي لا تصبح الثورة غرقًا في مستنقع الفساد أو كابوسًا أورويليًّا لا ينتهي…
ولعلّ لأهم وسيلة يمكن أن تساعد على إحداث تغيير صحيح، الإفادة من نتائج الدرس البلاغي الحديث (بلاغة الجمهور، بلاغة المخاطب، بلاغة الحجاج)، والّذي أثبت أنّه الأقوى والأصدق في الكشف عن حيل السلطة وتجريد أدواتها الخفيّة؛ فمعينه اللّغة في جميع مستوياتها (اللّسانيّة وما فوق اللّسانيّة والسيميائيّة). ونحيل في هذه النقطة إلى دراسات الدكتور عماد عبد اللّطيف عن بلاغة الخطاب السياسي وبلاغة الميادين.
المراجع:
– أورويل، جورج، مزرعة الحيوان، تر: محمود عبد الغنيّ، المركز الثقافي العربي: المغرب، ط2، 2014.
– سكوت، جيمس، المقاومة بالحيلة، تر: ابراهيم العريس و مخايل خوري، دار الساقي: بيروت، ط1، 1995.
– نادر، أنطونيوس، لامركزيّة الخطاب: الذات بين المعرفة والسلطة، منصّة معنى الثقافية،20 دسمبر 2020: https://mana.net/10048
– Christiaens, Tim. (2016). Laziness as Resistance in Lazzarato and Agamben. 2016.
– Eisenberg, E. (1984). Ambiguity as Strategy in Organizational Communication, Communication Monographs 51: 227-242.
– Fairclough, N., and Wodak, R. (1997). Critical Discourse Analysis’, in T. A. Van Dijk (ed.), Discourse as Social Interaction: Discourse Studies vol. 2 – A Multi-Disciplinary Introduction, pp. 258-284. London: Sage.
– Foucault, M. (1972). The Archaeology of Knowledge. London: Tavistock.
– Foucault, M. (1978). The History of Sexuality. Vol. 1: An Introduction. New York: Random House.
– Mamatova, F. (2020). Definition and usage of euphemisms. International journal of word art. 6. 116-123. 10.26739/2181-9297-2020-6-16.
– Scott, James C. (1985). Weapons of the Weak. Yale University Press.
– Scott, James C. (1989). Everyday Forms of Resistance, Copenhagen Papers, No. 4, pp. 33- 62.
– Scott, James. C. (1990). Domination and the arts of resistance. Hiddens transcripts. Yale University Press.