قبل أن تصدر حكومة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق جون ميجر قرارات بتحويل المعاهد متعددة الفنون (polytechnics) إلى جامعات في تسعينيات القرن الماضي، كان التعليم العالي في بريطانيا نوعين مختلفين: الجامعات التي تتبنى ذلك نموذج الجيمناسيون الإغريقي القديم في التعليم؛ حيث يقبل الطلاب الذين «يتعلّمون من أجل التعليم» -وإنْ كان هذا النموذج يترفّع على الكلاسيكيات والفنون المتحررة- أما معاهد العلوم التطبيقية فهي النوع الثاني؛ إذْ كانت موطن تخصصات الهندسة، وكانت تصنف في منزلة أنزل من الجامعات، وقد شابها «دنس» الفائدة العمليّة.
تحوّلتْ المعاهد متعددة الفنون وتحدّثت خلال القرن العشرين لتقدّم مقررات في الفنون وتقنيات التصميم، والأزياء، والصحافة، وصناعة الأفلام، وغيرها الكثير. ورغم ذلك عُدتْ تلك المقررات «مواد» تخص الجامعات في أبراجها العاجي، واحتُقِرَتْ المعاهد متعددة الفنون لتقديمها «تدريبًا مهنيًا»؛ وكأن اكتساب المعرفة العملية والمهارات المتعلقة بالعالم أحقر من تلك «المواد»، وكأن تحقيق العلم لهدف ما كان أمرًا عرضيًا.
وإنْ أردت عرض القضية عرضًا اختزاليًا؛ سأقول: وهب النصف الأول من التعليم العالي الناس شيئًا ليفكروا به، بينما وهبهم النصف الآخر شيئا ينفذوه، ويذكرنا ذلك بمثل كاتب وقسيس القرن التاسع عشر، جورج واشنطن بورناب، والذي كثيرًا ما يستشهد به: «إنّ ضروريات السعادة في هذه الحياة ثلاثة أمور: شيء تؤديه، وشيء تهواه، وشيء تتطلع إليه».
إن مفردة Vocation الإنجليزية («حِرفة») أصلها كلمة نداء اللاتينية vocare. وكانت تطلق أصالةً على المرشحين المؤهلين للكهانة استجابة لإيعاز إلهي؛ فالقساوسة قد استُدعوا للخدمة، وفي خدمتهم تلك وجودوا السعادة، والبهجة، والمعنى. عندما نقول في يومنا هذا عبارةhaving a vocation (لبّى النداء) يطرأ على بالنا مباشرةً الأطباء والمحامون، والفنانون، والمحامون؛ أي أولئك الذين لبّوا النداء وأدوا الواجب قد عثروا سبيلًا وصِلة لفضائل سامية؛ كالعلاج، والعدالة، والتعليم. لقد ضحّوا بجانب من نفوسهم بسعيهم في تحقيق تلك الفضائل، وذابت تلك النفس في المجموعة إيثارًا للمصلحة العامة.
لطالما تأثرت تأثرًا بالغًا بنهج البهجة المنافي للبديهة الذي مفاده أن المرء بتخليه عن الأشياء (يقصد في هذا السياق رغبات الشخص الأنانية، ولكن قد يشمل ذلك حاجياتنا الفائضة) يكون أكثر إرضاء لذاته. وأود الآن أن أتشبث بهذه الفكرة أكثر من ذي قبل؛ وهي أن إيجاد السعادة والبهجة يقترن بالغاية، أو حتى بالواجبات. نعيش في عالم يؤمن الكثير من الناس فيه بأن مهامنا وواجباتنا الأولية هي لذواتنا، وأن البهجة والرضا في حصول النفس على كل ما ترغب فيه. ووتماشيًا مع هذه الفكرة، يندرج الاستهلاك المحموم والسعي في إثر ماديّة فارغة، وكذلك السعي الأجوف خلف تجارب الذروة؛ وأقصد بالذروة تلك الأعالي الخاطفة أوهمنا المجتمع أنها سبيل للسعادة والبهجة، بينما ليست هي في الحقيقة سوى وهم متلاشِ، وربما لا يعلو بهاؤها أيضًا عن ذلك الوهم.
لعلّ حجتي تتضح لو قلبنا الفكرة رأسًا على عقب، وسألنا عما إذا كان من الممكن أن نكون سعداء دون غاية؟ قد تشعر مؤقتًا بحماسة ونشوة الخروج عن طريق التطلعات مرسومة الأهداف، أو بالتنفيس عن نفسك وترك ذاتك دونما عقاب أو تأنيب، أو الإفلات من عجلة الإنتاجية الرأسمالية. إن ما يبدو جذابًا ومرغوبًا هنا هو كون المرء يشعر بالحرية عند غياب الغاية، ويعيد ذلك إلى الأذهان حركة «الهيبي» وتكاسلها عن أداء أي شيء، وصدودها عن الماديّة، موقنين بأن شعور السعادة والبهجة لا يكمن في الرغبة، بل في العيش ليس إلا (بالتأكيد لستُ أول من لاحظ سخرية القدر في مآل المنخرطين في هذه الحركة؛ فعدد منهم ممن انسحب من الدراسة في الستينيات قد أصبحوا رؤساءً تنفيذيين للشركات في الثمانينيات والتسعينيات).
أو تأمل في سيناريو التقاعد التقليدي الذي يَعِد بالبهجة بعيدًا عن أي نشاط هادف؛ ولسان الحال يقول: تقاعد؛ وستتلاشى أعباء وكروب العالم عن ناظريك! ستلعب الغولف، وستسترخي تحت أشعة الشمس على الشاطئ، وستقرأ الروايات، وستشرب الخمر مع وجبة الغداء. ولم تعد قوانين الارتباط تسري عليك؛ إذ إنك أتممت واجبك، وقدّمت فترة خدمتك، وبذلت أفضل ما لديك لأخلاقيات العمل؛ وبذلك حصلتَ على الساعة الذهبية وصافحت مصافحة الشكر الدافئة، إذن لك أن تنغمس في ساعات من الاسترخاء وتأمّل الغروب المحمرّ، وألا تنظر إلى الخلف بتاتًا.
ما أسهل التصورات المبتذلة! إنّ ما تومئ إليه محذرةً إيانا هو أن كذبة تحاك أمام ناظرينا، وهذا ما تعضده الدراسات المستفيضة؛ إذْ تشير إلى ارتباط سيناريو التقاعد التقليدي هذا مع ارتفاع معدلات الاكتئاب (ودع عنك إدمان المشروبات الكحولية وغيرها من الأشياء التي يدمن عليها كيميائيًا ومزاجيًا).
قابل الطبيب والكاتب أتول قواندي عشرات المُسنّين والمصابين بمرض عضال أثناء بحثه لدراسته الرائعة حول محدودية الإنسان والمراحل المتأخرة من العمر في كتابه «Being Mortal»، وذلك محاولة لمعرفة العوامل الذهنية والجسدية التي أسهمت في خلق سعادتهم ورفاهيتهم وقد أوشك الموت أن يطرق بابهم. وقد توصل إلى نتيجة ما فتئت تعاود الظهور في إجابات من قابلهم؛ وهي أن وجود هدف وغاية في الحياة يؤدي إلى الشعور ببهجة وسعادة بالغتين، أكثر من تلك السعادة التي تغمر المرء عند زيارة أحفاده له، أو أثناء الاستمتاع بالعلاقات الاجتماعية، أو ما توفّره وسائل الراحة الماديّة. وتحدّث في آخر كتابه إلى معلمة الموسيقى بيغ، التي غادرت دار الرعاية الطبية لتوافيها المنية في دارها، وكانت بيغ كذلك مصممة على الاستمرار في تدريس الموسيقى، إذ عاهدت نفسها أن تواصل التدريس أنّى سنحت لها الفرصة وأعانها جهدها. أُقيمت حفلة فنية لاحقًا والتمّ تلامذتها لعزف الموسيقى فيها، وحضنت كل واحد منهم حضنًا احتفاليًا دافئًا. ورغم محدودية ذلك وصغره، إلا أنها تركت بصمتها الدافئة قبل الرحيل عن الحياة.
شلّت ملازمة المنزل تحركات الكثير منّا خلال الأشهر المنصرمة إثر أزمة فيروس كورونا، وحبستنا داخل فقاقيعنا المحدودة وحرمتنا من غاياتنا. إن الاستسلام الإكراهي أسلوب لمعاملة الأطفال: حرمنا مؤقتًا من حياتنا العملية، وأخذ وحرمنا الاهتمام بعائلتنا وأصحابنا؛ إلا من يعيش معنا في المنزل نفسه، وأبعدنا عن الخدمة الاجتماعية العامة، إلا إذا كنا عمّالًا «أساسيين»، وبأسلوب المعيشة ذاك غمرنا ترح لا يصحبه أي فرح.
لقد أحال هذا التقييد الحقيقي حياتنا إلى معمل تجارب فعلي في عين بعض الباحثين؛ حيث يمكن اختبار الأفكار المتداولة حول السلوك المحدد الأهداف. إن باحثي السعادة في مركز علوم الخير الأسمى (GGSC) في جامعة بيركلي في كاليفورنيا مشغولون بدراسة سلوكنا أثناء ملازمة المنزل؛ إذ يرغبون بمعرفة ما إذا كانت بعض الخطوات اليسيرة قد توصلنا إلى أهداف وغايات ضخمة أثناء هذه الأوقات العصيبة.
ومن غير المفاجئ أن الناس باتوا يحيكون الكمامات، ويخبزون الخبز، وينضمون إلى دورات تعليمية عن بعد، ويؤدون الاعمال التي قد ينفذها الفرد بمفرده؛ كالحياكة والتزيين؛ إذ هي «الأنشطة الإرداية» التي يوصي بها الأخصائيون النفسيون في مركز علوم الخير الأسمى (GGSC) -مثل سونيا ليمبروسكي- كجزء مما تسميه «هندسة السعادة المستدامة» التي تدعم وتُنشئ مشاعر الحياة الطيبة.
من المثير للاهتمام أن جحافل علماء النفس الإيجابي – بالإضافة إلى تأكيدهم على السعادة النابعة من الاعمال التي تقودها الغاية- يعيد المتخصون منهم في جامعة بيركلي اكتشاف فضائل تقليدية. اشتغالهم على «الأنشطة الإرادية» بدأ منذ زهاء عقد من الزمان، لكن آخر أبحاثهم تشير إلى أن إبداء الامتنان، والصفح، والعمل بجد؛ كل ذلك، يعزز مستويات شعورنا بالبهجة والسعادة بفاعلية عالية. ومما لا شك فيه أن تلبية النداء المهني تندرج ضمن هذا النطاق أيضًا. ومما أغدقني بالأمل أن أُسس الحياة السعيدة -في نهاية الأمر- ليست تلك المغمورة بالأنانية.
NP29: Purpose
Does having a purpose in life make us happy? by Marina Benjamin.