مقالات

الحياة الطيبة من منظارٍ فلسفي – غالية السعدون

“حسنًا أيها الأثينيون، عليكم الآن أن تقرروا إذا كنتم ستبرؤني أم لا! أيًّا كان قراركم فافهموا أنني لن أغير أبدًا طُرقي، حتى وإن كان عليّ أن أموت عدَّة مرات! فإنَّ الحديث اليومي عمَّا يجعلنا طيبين والتساؤل مع نفسي والآخرين هو أعظم عمل يقوم به الإنسان، فالحياة بدون تساؤل لا تستحق العيش” –  سُقراط/ عام ٣٩٩ ق.

مدخَل:

إنه لمن المثير حقًّا الإقرار بأنه باعتناقنا لرؤيةٍ مُحدَّدة للأمور من خلال المِنظار الذي نَحمِله طوعًا نكون قد اخترنا النافذة التي نَطلُّ من خلالها على العالم، والتي على إثرها يتشكَّل نوع الحياة التي نعيشها، والأشدّ إثارةً هو أنَّ كل ما نحتاج إليه أحيانًا هو تبديل عدسَة منظارنا لعدسَة ذات (آلية تبعيد Zoom-out) تُحَقِّق لنا رؤية أشمل وأكثر عموميَّة، فمن خلالها يُتاح لنا اختبار صحَّة تشكيلتنا السابقة لبلوغ أسمى منازل عيشِنا. ذلك أن كل موقف من مواقف الحياة يَمنح بُعدًا آخر يتصوَّره الفلاسفة عالمًا آخر، ولا شكَّ بأنَّ حصيلة الإنسان من مفاهيمه للأشياء التي تكوَّنت إبّان تلك الرؤية تلعب دورًا في غاية الأهمية في رسم شكلٍ مُحددٍ لنوع حياته التي يعيشها، والتي يترتب من خلالها نوع الأثر الذي ينعكس على تلك الحياة أيضًا.

يُشكِّل القول إنَّ مُراجعة هذه المفاهيم عبرَ مساءلتها وتمحيصها إلحاحًا ضروريًّا لتحقيق ما يسمّى بالحياة الطيبّة، والتي بدورها تُشكّل مطلَبًا أساسيًّا وغايةً شرطيةً لكُلَّ إنسان. ولتحقيق تلك الغاية؛ يتعيَّن علينا أولًا إعطاء معنًى محُدَّدًا لماهيّة الحياة الطيّبة.

ما الحياة الطيبة؟

أسهمت المعاجم العربيَّة في تقديم معانٍ مختلفة تَحتمله لَفظَة طيّب/طيّبة والتي تتماهى عند تعريفاتها مع دلالةٍ واحدة بأنها: كُل ما هو جيِّد وتستلذهُ الحواس والنَفس، ومن ذلك يمكننا القول إنَّ الحياة الطيّبة في شكلها الأساسي تتعلَّق باستكشاف ما يمنحنا الفرح والرضا واستخلاص السّعَادة مما نفعله؛ أيّ حياة جديرة بأن نحيَاها. غير أنَّ تلك الحياة تختلف في تعريفها لدى مُعظم النَّاس، وذلك وفقًا لأهدافهم المختلفة، فيتصوَّر بعضهم أن السعادة الناتجة عن اكتساب الثروة والمكانة الاجتماعية والمتعة التي تلحقُ ذلك شكلًا مثاليًّا للحياة الطيّبة، ويربط آخرون الحياة الطيّبة بالأيام التي يقضونها في الطبيعة ويتأملون فيها الحياة، بينما يريد بعضهم الآخر ببساطة قضاء وقته بطريقةٍ جديرة بالاهتمام ومُثمرة؛ كمحاولة جعل هذا العالم مكانًا أفضل.

وما فتئ الإنسان يؤكّد لنا بدأب، في جميع أحواله، طمعه في تحقيق تلك الحياة؛ تسهيلًا لعيِشه وتخفيفًا لوطأة الوجود، فما كان له أن يَعبُر حياته إلا وقد شعَرَ بحاجةٍ مُلِحة تدفعه إلى البذل خلف حياة أفضل وأهنأ من تلك التي يعيشها؛ بأقلّ العَقَبَات العقلية والنفسية والاجتماعية.

انطلاقًا من ذلك، وتماشيًا مع جدلِ المعنى الحقيقي للحياة الطيبة، جاءَت الفلسفة مُبرهِنةً قدرتها على تحقيق تلك الغاية؛ لِما تحمله معها من طاقات فكريّة أسهمت في تقدُّم جوانب عديدة لدى الإنسان، فنَصبت له مبادئَ يُمكن من خلال اعتلائها في واقعه الشعُورُ بجدارة عَيشه.

وقد جاء بعض الفلاسفة العظام وفي جُعبتهم أهم الأسئلة الفكريَّة والنَقديّة والتي تتعلّق مباشرةً بالحياة اليومية، مستعينين في ذلك بالحجاج الجدلي والتفكير الاستدلالي والتأمُّل الاستّباقي، لا لمعرفة كيفية الأمور فقط، بَل لمعالجة الإخفاق في فهمها أيضًا.

وكان لإلحاحهم الشديد بمعرفة المعنى الحقيقي للحياة الطيّبة على مرّ التاريخ قدرةٌ واضحةٌ على تقديم أفضَل الوصايا الفكرية والتأويلات المناسبة لظروفنا، وأيضًا مساعدتنا على اتخاذ قرارات أفضَل؛ من خلال إنقاذنا من نماذج خاطئة لِما قد نعتقد بأنه سبيلٌ للحياة الطيّبة.

وباعتبار أن هدف هذا المقال هو الكشف عن أهميَّة الفلسفة للارتقاء إلى الحياة الطيبة، عرضنا بعض هذه التأمُّلات من مدارسَ فلسفيةٍ مختلفة اشتَهرت في جدالاتها بشكلٍ مباشر بمعنى الحياة الطيبّة، وأضفت تأكيدًا واضحًا لقُدرة الفلسفة على اتخاذ مثل هذا الدور.

الفلسفة اليونانية:

قدَّمت الفلسفة الإغريقيَّة مع (سقراط وأفلاطون وأرسطو) ما يفترض أنَّ الحياة الطيبَّة تكمُن في فحص طبيعة الحياة نفسها، وإتقان الذات، والإسهام في المجتمع، والاهتمام بالفضيلة والأخلاق الحسنة؛ فالشجاعة، والصدق، والعدالة، وحب الخير، والسيطرة على النفس، ومواءَمة الرغبات، وغيرُها من الفضائل الصادرة عن كينونتنا، هي الطريق المؤدي لتلك الحياة.

سقراط:

كان سقراط أكثر الفلاسفة اهتمامًا بالقضايا الأخلاقية واليومية، وقد قاوم في أثناء بحثِه فكرةً مفادها أن السعادة تتكوَّن فقط مما يرضي رغباتنا، وأنه يتوجَّب علينا بناءً على ذلك تحديد الرغبات الأجدر إرضاءً لتحقيق السعادة. إلى أن اقتَضى خلال بحثه تأسِيس هاتين النقطتين:

  • السعادة هي ما يريده الناس كلهم.
  • لا تعتمد السعادة على أشياء خارجيَّة.

وفقًا لسقراط لا تكون الحياة الطيّبة ماديَّة، بل تتعلَق بعقل الفرد، فالفرد الذي يتمتَّع بعقلٍ سليم يحظى بحياةٍ طيّبة أكثر من الفرد الذي يتمتع بالثراء المادي.

ونظرًا إلى أن سقراط حاجج في دور السعادة في تحقيق الحياة الطيِّبة من منطلق أنه لا يمكن الحصول على السعادة من الثراء أو الاستهلاك الماديّ؛ ولكن يمكن اكتسابها من عقلٍ نشيط وغنيّ؛ فقد آمن بأن الابتعاد عن حُبّ الأشياء الزائلة، كالمال والقوة، والاقتراب من الحب الخالص للجمال نفسه، وهو نشوَة الطرب، ورضا الروح.

ووفقًا لحُججه في هذا الجانب، فإنه يمكن أيضًا لدولةٍ ما أن تكون غنيَّةً ولكنها غير صحيّة؛ لأن مثل هذه الحالة تفتقر إلى السعادة التي تؤدي إلى حياة طيّبة، وقامت حُجّته هنا على حقيقة أن هذه الدول ينتهي بها الأمر في الحرب مُعظم الوقت بسبب التدافع على الموارد التي لديها؛ إذ يكافح المواطنون من أجل الحصول على هذه الموارد لتحقيق أهدافهم؛ وبالتالي يواجهون الظلم وعدم المساواة، مستخدمًا في حججه مثالًا لمدينة أثينا. فهذه الأخيرة، وفقًا لسقراط، تفتقر في عصره إلى السعادة المطلوبة لتحقيق الحياة الجيدة؛ نظرًا لأن لديها إمبراطورية مليئة بالمتاعب ويكرهها كثير من الناس.

أفلاطون:

دفَع الإرثُ السُقراطي أفلاطونَ إلى الانخراط في فحصٍ شامل لطبيعة المعرفة وكل ما قد يُشكّل معنًى للحياة الطيّبة، وهو فَحص أخذه تدريجيًّا إلى أبعد من نطاق مناقشات سقراط التاريخيَّة، فلعبت السياسة دورًا رئيسًا في فلسفته ومؤلفاته. ولا شك أننا حين نسترجع مدينة أثينا ونظامها الاستبدادي الذي أشار إليه سقراط نتمكَّن من فهم التفكير الذي دفع أفلاطون إلى وضع محاورة “الجمهورية” بحُكم عَيشه في ذلك السياق؛ فيحاول أفلاطون عبر المحاورات التي أوردها في الجمهورية تقديم رؤية مُمنهجة وشاملة عن شكل المجتمع العادل والحياة الجيدة وكيفية تطوير المواطنين للسمة الأخلاقية الضرورية لتحويل هذه الرؤية إلى واقع، فكان من الأفكار الرئيسة التي عالجها أن كلًّا من العدالة والمصلحة الشخصية توجدان معًا في حياة الفرد، وأنَّ العدالة بالنسبة لفرد معيّن هي دعامة للمجتمع العادل[1].

وتناول الحجة القائلة إن الحكومة العادلة تفرض أن يحترم المواطنون جميعَ المشارب الاجتماعية التي تمهّد للإجماع بين الطرفين؛ وذلك لموقفه من فكرة أن “العدالة” هي ما يُقرّره الطرف الأقوى، فيقول إن الحياة التي تجعل العدالة هدفها الأساسي تكون الأكثر ميلًا نحو السعادة وتحقيق الذَّات.

ومن حلوله في إصلاح المدن الظالمة والتي تسلب مجتمعاتها معاييرَ العَيشِ الطيّب والعادل؛ فقد أشار أفلاطون أنه “لكي يصبح من الممكن أن نحيا حياةً إنسانية جديرة بالعيش، يجب أن يصبح الفلاسفة ملوكًا، أو أن يصبح الملوك فلاسفة”[2].

وأشار أيضًا إلى أنه يتوجَّب إصلاح التعليم الذي يستهدف المواطنين المستقبليين، وعلى الأخص قادتها في المستقبل (الفلاسفة)؛ لتمكينهم من تحقيق العدل، فالفيلسوف هو الذي يملك المعرفة الحقّة السامية، فهو لهذا قدير على حكم المدينة، ويغدق بعلمه عليها، وذلك أن الفيلسوف وحده الذي تلقّى مُعطيَات الحضارة الإنسانية ثُمَّ فكّر بإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بينما ميدانه الخاص هو العقل والتفكير المنطقي والتحليل والتركيب.

يحوم أفلاطون بشكلٍ عام حول فكرة أن (العقل) هو القوة القادرة على كشف المفهوم والنظام اللّذين يحكمان العالمَ متغيرَ المظاهر، مستخلصًا إلى أنه حين يحكمُ المدينة فيلسوفٌ يؤدي دوره في تعليم المدينة وإعادة الاحترام إليها، وحمايتها من الجور والطُغيَان بحق شعبه؛ فإنه يبثّ فيها حب العدالة، والولاء للمدينة، وخلق الحياة المنسجمة والطيّبة بين الحكومة والشعب.

أرسطو:

في مناقشاته حول ماهية الحياة الطيّبة يراجع أرسطو أحد المفاهيم السائدة للحياة الطيّبة في المجتمع، وهو مفهوم المُتعة؛ إذ يفترض الكثير من الناس في المجتمع أن الحياة الطيّبة تدور حول المتعة، وعلى الرغم من أن أرسطو يرى أنَّ الحياة الطيّبة ممتعة؛ إلا أنَّ أولئك الذين يبحثون عن الملذات في الحياة لا يعيشون حياةً طيّبة بالفعل، وهذا لأنهم يميلون إلى البحث عن المتعة بالطرق والأماكن الخاطئة، ففي بحثهم عن المتعة ينتهي بهم الأمر بالتشتت عن عيش الحياة الطيّبة. فالجريُ المستمر خلف المُتعة ومحاولة إيجادها بشتَّى الطرق قد يؤخّرنا عن إدراك حقيقة جوانب عديدة في حياتنا، والتي كانت ستُشكّل معًا حال تمحيصها والتأمُّل بها مقوّمات كافية في تحقيق حياة جيّدة وسعيدة.

ووفقًا للفيلسوف، فإنَّ السعادة التي تُعيشّنا حياةً طيّبة تتطلَّب من الفرد الانخراط في أنشطة من شأنها أن تجلبها، كتلك الأنشطة التي تلزم الانخراط بعلاقات وصداقات جيّدة، بحيث يمكن القول إن غاية كل علاقة إنسانية وكل نشاط اجتماعي هي تحقيق الرفاهية ورغد العيش ما دام أنَّ الإنسان يهتدي في كل ذلك بنور العقل؛ لذلك في سبيل عيش حياةٍ طيّبة يخلص أرسطو إلى أنَّ الأنشطة التي تساعد البشر على التعبير عن قدراتهم العقلية ضروريةٌ للسماح للأفراد بعيش حياة طيّبة[3].

وتأتي الحريّة بوجهٍ عام، كأهم العناصر الأساسية في الفلسفة لتحقيق الحياة الطيّبة. فوفقًا لأرسطو إنَّ الحياة الطيّبة يمكن عيشها فقط إذا كان المرء حرًّا في اتخاذ قراراته. غير أن الفهم المحدود لاحتياجاتنا من شأنه أن يُقيّد تلك الحرية في اتخاذ القرارات، فتُعزَّز رغباتنا بما يسُمّى “بالآراء التافهة” الخاصة بمن يحيطون بنا، والتي لا تعكس التراتبية الطبيعية لحاجاتنا. وبحسب أرسطو ينبغي لنا تمييز هذا الأمر وإدراك أن الآراء السائدة لا تنبع عادةً من عملية تأمّل صارمة، بل عبر قرون من التخبّط الفكريّ، وهذا ما يعيدنا لأهمية العقل والتفكير لتحقيق الحياة الطيبة.

ومن المصادرات الرئيسة التي ترتكز عليها نظرية أرسطو في الفضائل وعلاقتها بالسعادة، قوله: إنَّ لكلِّ شيء وظيفةً، وإنَّ سعادة الفرد تتحدد بمدى قدرته على أداء تلك الوظيفة بنجاح، ولأنَّ الوظيفة التي يتميَّز بها الإنسان هي التفكير؛ فإنَّ الإنسان الفاضل هو الذي يهتدي في أفعاله وطريقة عيشه بحكمة جليَّة؛ لأنه يعرف ما يجب عليه وما لا يجب أن يفعل لتحقيق الحياة المطلوبة؛ لذا بالتفكير والتعَقُّل نوقظ حكمتنا النائمة، والتي تأخُذها الفلسفة كبُرهان أساسيّ في قدرة الإنسان على تهيئة حياةٍ أفضل للعيش، لخَّصها آلان دو بوتون بقوله: “يُتيح لنا العقل التحّكم بأهوائنا وتصحيح الأفكار المغلوطة التي تحثّنا عليها غرائزنا”[4].

الفلسفة الرواقية:

للفلسفة الرواقية كغيرها من المذاهب القديمة غايةٌ عامة تتمثل في بلوغ السعادة والحياة الطيّبة. وقد كان لِكُلٍ من المنطق والأخلاق عند الرواقيين دورٌ أساسيٌّ في تحديد هذا القصد وبلوغه، وكانوا يعتقدون أن العلوم الخاصة التي يشتغل بها الناس عادةً في أغلب الأحيان ما هي إلا قصور وعجَز فِكري في تسهيل هذا الجانب.

يعتقد الرواقيون على سبيل المثال أنَّ العَيش في ظلال المنطق وبالاتفاق مع الطبيعة (طبيعتنا كبشر) هو الغرَض من الحياة، وأننا بمحاولتنا في استغلال عقولنا -بالتفكير- بهذه الطبيعة وفهمها بشكلٍ أفضل ثمّ التصرف على هذا الأساس هو السبيل للعيش في حياة جيّدة.

فمن طبيعتنا كبشر التكيّف مع الملذَّات وأيضًا صعوبة احتفاظنا بحالة الفرح الناتجة عن تحقيق إنجازاتنا؛ إذ سُرعان ما يتحوَّل هذا الفرَح إلى رغبات جديدة مختلفة؛ وبالتالي فإن المسَار المنطقيّ للسعادة عند الرواقيين هو تعلُّم الرغبة فيما نمتلكه بالفعل، فيصفها الرواقيّ الروماني أبكتيتوس بالحكمة في قوله:” إنَّ الرجل الحكيم هو الذي لا يحزن على ما ليس لديه، بل يفرَح بما لديه”[5].

وتفصيلًا في مسألة الرغبة جاء أبكتيتوس بمصطلح “ثنائية السيطرة”، فقسَّم رغباتنا إلى داخلية (تحت سيطرتنا) أو خارجية (خارجة عن سيطرتنا)، وأشار إلى أنَّ الرغبة في شيءٍ خارج عن إرادتنا وسيطرتنا هو أمر غير منطقي وعثرة لمن يحاولون بلوغ حياةٍ جيّدة وسعيدة، فاقترح عملية استيعاب الأهداف لتجنُّب الوقوع في رغبات خارجة عن سيطرتنا، وذلك عن تقسيم أهدافنا وتوزيعها في فئات صغيرة تابعة لما هو تحت سيطرتنا تمامًا أو خارجها تمامًا، فبهذه الطريقة يمكننا تجاهل العوامل الخارجية ونضع كامل تركيزنا على العوامل الداخلية فقط.

الفلسفة التشاؤمية:

لبعض المذاهب الفلسفية الأخرى، كالتشاؤمية، رأيٌ مُغايرٌ فيما يتعلَّق بشرطيّة السعادة الدائمة لتحقيق حياةٍ هانئة. فقد اتّسمت تلك المذاهب بمناهضة صارمة للتفاؤل بالمستقبل، مؤكِدةً مجاراتها للطبيعة وذلك عبر السعي وراء أسلوب حياة لا مادي (immatriality)، فكانت الأرضية المشتركة لمعتقدات أصحاب هذه الفلسفة هو الاِتّسام بالفضيلة، والنزوع إلى حتميَّة وجود الشر في جوانب حياتنا كلها، مُقيَّدين بما يسمونه “الوعي بالشَّر”، فقد آمنوا بأنَّ السعادة النابعة من تحقيقنا لرغباتنا ما هي إلا عملية مؤقتة في طريقها للتلاشِي؛ لأنَّ الحياة في طبيعتها لا تفتأ عن أن تكون محاولات مستمرة ودائبة لنَيل الرضا بها.

وإقرارًا بذلك، صوَّر الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور الحياةَ برقّاص الساعة، حين قال:
“إن الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم”[6]، مُستنتجًا من ذلك بأن التضحية باللذة في سبيل تجنُّب هذا الضيق مكسبٌ واضح في سبيل حياة جيَّدة.

وقد ذهب في فلسفته إلى القول إن ثمة قوة دافعة تتحكم بحياتنا، وهذا ما يستدعي عدم أخذ الحياة بجديَّة تامّة، مُعزيًّا المُصابين بالخذلان والحزن أحيانًا إلى أن السعَادة لا تشترط دومًا أن تكون جُزءًا من الخُطّة؛ وذلك لأنَّ حياتنا خارجة عن سيطرتنا وإرادتنا.

ومن ذلك فقد توصَّل معتنقو هذه الفلسفة إلى أنَّ التوقُّف عن تعليق الآمال على الغَد والمستقبل وتوجيه أهدافنا -لا نحو ما هو مُمتع ومستساغ بل نحو ما يُجَنِّبنا شرور الحياة التي لا تُحصى قدر الإمكان- والاكتفاء بما تحمله اللحظة الراهنة، هو أنسب طريقة لعيش الحياة بأقلّ الآلام العقلية والنفسية بعيدًا عن الإفراط في التفاؤل.

الفلسفة الوجودية:

للفيلسوف الوجودي نُقطةُ تشابه مع أغلَب الاتجاهات الفلسفية فيما يتعلَّق بأهميَّة الفضيلة والأخلاق في الحياة الطيّبة؛ إلا أن الوجوديين يختلفون عن تلك المناهج بتركيزهم أيضًا على الوجود البشري. فالفلسفة الوجودية تعتمد على تصويبها المباشر على الذات لا على الموضوع، وعلى الإنسان لا الطبيعة، وعلى التجربة الحُرَّة لا العقل النَظرِي. ذلك أنَّ الوجوديَّة تنظُر إلى الإنسان بوصفه مُلقًى به في هذا العالم دون خطَّة مُسبَقة أو هدَف، وهو الوحيد الذي يتملكه الإحساس بوجوده وانخرَاطه في تحقيق ماهيته. يقول سارتر: “إنَّ الإِنسان يُوجد أولًا وقبلَ كُلّ شَيء يواجه نفسه وينخرط في العالم، ثمّ يعرف نفسه فيما بَعد، وإذا كان الإنسان كما يراه الوجوديون غير قابل للتعريف، فإن السبب هو أنّه في البداية لا شَيء، وإنه لن يكون شيئًا إلا فيما بعد، وعندئذٍ سوف يكون على نحوٍ ما يصنع ذاته”[7].

من هذه الزاوية تؤكد الوجودية على ضرورة أن يختار الإنسان نفسه، وأن يخلق ذاته، ذلك أنه كائن منفتح على إمكانات لا تُحصى، يختار منها ما يُحقق به ذاته. ولكي يعيشَ حياةً طيّبة وجديرة يتوجَّب عليه أن يُقرن اختياراته بالمسؤولية، فهو محكوم بحُريَّة الاختيار وعليه أن يتحمّل مسؤولية هذه الاختيارات، ومن ثم عليه أن يحرر سلوكه وتصرفاته من طغيَان الجماعة ومن التقليد الأعمى، فالتّملص من الوجود الزائف وغير الأصيل الذي يفصل الإنسان عن اختياراته الذاتية هو ما يُحققّ له تلك الحياة.

إنَ الدفاع عن فردانية الإنسان وحريته ضد أخطارٍ قد تُحيله إلى مجرد رأس يسير وسط قطيع، بتعبير نيتشه، يُشكِّل أهَم نُقاط هذه الفلسفة والتي نستطيع حالَ توظيفها في حياتنا أن نتمكَّن من تحقيق شكل من أشكال الحياة الطيّبة؛ لِما تحمله بجوهرها من دعوَة إلى التفكير والتساؤل.

وبحسَب الوجوديين أيضًا، ثمة بعض العناصر التي يحتاج إليها البشر على نحو طبيعيّ من أجل حياةٍ مُنجزة، مثل الألم. فالسعادة والتعاسة وجهان لعملة واحدة ولا يمكن تحقيق واحدة دون المرور بالأخرى، وقد أشار مونتين من قبل إلى هذا المعنى في مقالاته بقوله: “لا بدّ أن نتعلّم معاناة كلّ ما نعجِز عن تجنّبه، فحياتنا تتكون مثل تناغم العالم، من نشازات علاوة على نغمات مضبوطة مختلفة، ناعمة وقاسية، حادة ومنبسطة، هادئة وصاخبة، لو أحبَّ موسيقيّ بعضًا منها فقط ما الذي يمكن أن يُغنيّه؟ ينبغي له معرفة كيفية استخدامها جميعها، ومزجها معًا، وكذا ينبغي أن نتعامل مع الجيّد والسيئ، والنابعَين من جوهرٍ واحدٍ في حياتنا”[8].

***

بعد تمحيصنا لهذه الآراء المختلفة عن ماهيَّة الحياة الطيّبة، يمكننا استخلاص بعضٍ من أهمِّ النقاط التي قد تساعدنا على تصور مثل هذه الحياة:

1- اختبار الحياة، والبحث عن المعرفة:

قد يؤدي العيش دون التشكيك في سلوكياتنا ومعتقداتنا والتعبير عنها إلى قضاء وقتنا في أنشطة لا تستحق العناء، من ناحية أخرى فإن العقل يُتيح لنا التحكّم والتصحيح لأفكارنا المغلوطة، فمن خلال تطبيق العقل على فحص الحياة يمكن اكتساب دفق مستمر من المعرفة والفضائل، يقول شيشرون: “ليس ثمة مهنة أجمل من البحث الفكري، فالبحث هو الوسيلة لزيادة معرفتنا، يعلمنا البحث الورع، والاعتدال، وعظمة القلب؛ إنه ينتشل أرواحنا من الظُلمَة ويبيّن لها كل الأشياء من السامية والدنيا، والأولى والأخيرة وكل ما بينهما، فيعلمنا البحث بوسائل العيش براحة وسعادة كيف نعيش حيواتنا من دون استياء أو انزعاج”[9].

2- بناء علاقات جيَّدة:

أعلى مُعظم الفلاسفة من شأن العلاقات الجيَّدة في سبيل تحقيق حياة طيّبة، فكان لمفهوم الصداقة عند أرسطو على سبيل المثال دلالاتٌ أخلاقية واجتماعية؛ حيث تستمد مبادئها من الطبيعة الإنسانية، ومن حيث إنها تُمثِّل أحد العناصر الأساسية التي تقوم عليها الحياة الفاضلة والرغيدة، وهو بالطبع يقصد ذلك النوع من الصداقة الفاضلة التي تتجلّى خصائصها من خلال قدرتها على تنمية قدرتنا على التفكير والسلوك بطريقة عقلانية؛ إذ لا يتحقق رغد العيش والشعور بالسعادة إلا في جو من المحبة والألفة، فنحن بقولِ آلان دو بوتون: “لن نكون موجودين ما لم يكن ثمّة أحدٌ يرى أننا موجودون، وما نقوله لا معنى له ما لم يفهمه أحد، وأن نكون محاطين بأصدقاء يعني حتمًا تأكيدًا لهويّتنا[10].

3- الاستمتاع بالملذات البسيطة وعيش اللحظة:

لا تتكون الحياة الطيّبة من المطاردة المُستمرة لما هو غير موجود، بدلًا من ذلك فإن البساطة والقدرة على استخلاص السعادة مما لدينَا بالفعل جوانبُ لا تتجزّأ من الحياة الطيّبة.

4- التعقُّل باختياراتنا والتصرُّف بحكمة:

وفقًا لسينيكا: “لا بدَّ من تطويع أنفسنا مع اللا-اكتمالية المتلازمة مع الوجود، فالحكمة تكمن في التمييز الصحيح للحظة التي نكون فيها قادرين على تطويع الواقع وفقًا لرغباتنا، ومتى ينبغي لنا قبول الأمور العصيّة على التغيير بهدوء”[11]. وبحسبه أيضًا: “حين نتعلم ألّا نُفاقم استعصاء العالم [أمامنا] من خلال ردود أفعالنا فإننا بلغنا الحكمة الكافية لعيش حياة هانئة”[12].

5- الحُريّة في الرأي وتحقيق السيادة على الذات:

إنَّ عيش الحياة الطيّبة يدور حول إتقان أنفسنا؛ لكن من المثير للاهتمام أن معظم الأفراد لا يفكرون في إتقان أنفسهم عندما يتعلَّق الأمر بالسعي وراء حياة جيّدة؛ إذ يفضلون عوضًا عن ذلك مُطاردة رغباتهم، والتي في أغلب الأحوال تُسقطهم في ارتباكات ناتجة عن فهمهم الضئيل لحاجاتهم؛ وبالتالي يمتلكون صفات غير معقولة لا تعكس شخصية إنسانٍ حُرٍّ وسيّدٍ لذاته.

6- الامتنان، والرضا بما نملك:

الامتنان جانب مهم من جوانب تحقيق حياة جيّدة، فمن خلال الشعور بالرضا والامتنان يمكننا أيضًا التغلُّب على السعي اللّامتناهي وراء رغبات لا حدود لها.

7- عدم القلق بشأن الأمور الخارجة عن سيطرتنا:

تُقدّم لنا الحياة جانبين مختلفين:

أولًا- تلك الجوانب من حياتنا التي يمكن أن تتأثر أو تتغير بسعينا.

ثانيًا- الجوانب أو الأحداث التي تتجاوز قدرتنا على التأثير أو التغيير.

إننا ببساطة مسؤولون عن الأولى في حين لا نملك أدنى تأثير في الثانية؛ لهذا لا بد أن نقصي الآثار السلبية الناتجة عن عجزنا من التأثير عليها. والمفتاح الرئيس لتحمُّل مصاعب الحياة يكمن في الطريقة التي نسمح بها لهذه الأحداث بالتأثير فينا.

ختامًا:

إنَّ الفلسفة في جوهرها بحث دؤوب نحو تكريس ذواتنا عبر السؤال والتأمُّل فيما وراء التمظهرات، على نحوٍ يجعلنا نرفض قبول أي فهمٍ سائد لم يخضَع بَعد للتمحيص على نحو مُفصَّل ومُشبع.

ولا ريبَ في أن كل ما من شأنه يجعلنا نشعر بأننا أفضل، هو ذاك فقَط الذي يستحق فهمه ومراجعته. ولكون الظاهر هو ما يشكل عالمنا؛ فإنَّ الفلسفَة هي عملية لسبر أغوار هذا الظاهر وليس الاكتفاء بمداعبة قشوره. ومن خلال الاستكشاف والبحث وتحقيق الإتقان الذاتيّ نستطيع امتلاك زمام الأمور التي حتمًا سيكون مصيرها إلى التعثُّر لو لم يتم السيطرة عليها وإدراكها.

 


[1] جيمس أور، تحليل كتاب الجمهورية لأفلاطون، ترجمة: هنادي مزبودي، لبنان، دار التنوير للطباعة والنشر (٢٠١٧)، ص: ٤٧.

[2] أحمد المنياوى، جمهورية أفلاطون المدينة الفاضلة كما تصورها فيلسوف الفلاسفة، دمشق-القاهرة، دار الكتاب العربي (٢٠١٠)، ص: ٣٨.

[3] أحمد أغبال- مفهوم الصداقة لدى أرسطو-le blog www.sophia -٢٠٠٨

[4] آلان دو بوتون، عزاءات الفلسفة، ترجمة: يزن الحاج، لبنان، دار التنوير للطباعة والنشر (٢٠١٦)، ص: ١٤٦.

[5] غاري بيشوب، حرّر نفسك، ترجمة: الحارث النبهان، لبنان، دار التنوير للطباعة والنشر (٢٠٢٠)، ص: ٤٥.

[6] فريدريك لونوار، في السعادة: رحلة فلسفية، ترجمة: خلدون النبواتي، لبنان، دار التنوير للطباعة النشر (٢٠١٦)، ص: ١٣٧.

[7] يوسف عيد، المدارس الأدبية ومذاهبها، لبنان، دار الفكر اللبناني (١٩٩٤)، ص: ١٨٧.

[8] عزاءات الفلسفة: ص ٢٨١.

[9] السابق: ص ١٤٦.

[10] السابق، ص٧١.

[11] السابق، ص١٠٥.

[12] السابق، ص١٠٠.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى