القناع والشبح
يقول محمود درويش في إحدى روائعه، جداريته الخالدة: “هزمتك يا موت الفنون جميعها”، هي إذن علاقة صراع بين غالب ومغلوب تلك التي تجمع بين الفن والموت، بين الساعي إلى الخلود وبين بوابةِ الفناء؛ لهذا لم يتوانَ الفنان في البحث الدائم عن سُبلٍ لتخليد اللحظة المقتنصة من الموت؛ بل إن الصورة Image في جذرها اليوناني، ترتبط بالموت: وهي من جذر “Imago” أي القناع الشمعي الذي يوضـع على وجوه الموتى والذي يضعه القاضي في الجنازة، وليُحفظ به في صناديق الفناء فوق الرف بعيدًا عن العيون[1]. ويُستعان بالشمع لتطبـع ملامحُ الميت وَتقدس وتُخلّد. وأيضًـا، فمصطلح صـور Figure من اليونانيـة “Figura” أي الوجه و”شبـح”..! إنه – إذن – الموت، هو ذلك الشبح الذي لا يتوقف عن مطاردتنا، هو ذلك القناع الذي نختبئ خلفه بعد الموت.. إنه صورتنا التي نرتديها دائمًا، وضدنا الذي ينتظر لحظة الخروج للوجود لننمحي معه وفيه.. إنه نوع من السحر العجيب، وقد رأى الفيلسوف الفرنسي ريجـيس دوبري أن كلمة “سحـر Magie”، ما هي إلا حـروف متعاكسة عن Imago، حيـث السحر بالفعل ارتبط بتفاعـلٍ مع الصورة التي هي ألطف من المادة وَمرتبطة بعالم المُثل أو ما يسمـى أيضًا “الخيال”، وَالعالم الـذي سعى إليـه الخيميائـي لاحقًا.. عالم الخلود. ولنا في اللغة العربية ما يقترب من ذلك؛ إذ نقول “طلسم” (جمعها طلاسم)، وهي تلك التعويذة السحرية التي يصنعها ويدمدم بها الساحر، وما هي إلا كلمة بأحرف معكوسة لكلمة “مُسلّطٌ” والتي تشير إلى ذلك الجن (الشبح)، الذي يُسلّطُه الساحر ويجعله في خدمة أغراضه..
إذن، لا ينفصل الموت والفن عن الصورة التي لا يمكن أن نعزلها عن الخيالي والشبحي، عن الموت من حيث إنه هو عينه “الشبح الذي يطاردنا”، القلق بالمعنى الهيدغري الذي يجعلنا مندفعين نحو البحث عن المعنى في هذه الحياة، ما يتولد عنه الشقاء الذي لا علاج منه إلا عبر الفن كما يذهب شوبنهاور. فحسب هذا الفيلسوف الشرس، لسنا نحن – في نظره – من يتخلى عن الإرادة حينما ننتحر (وإن كان لا يقدم موقفًا محددًا من الانتحار): نموت طواعية؛ بل إنها الإرادة عينها مَن تتخلى عنا، وإن ننتحر ونزول (نموتُ) فهي [أي الإرادة] باقية ومستمرة ودائمة.. فكل ما تقوم به حينما ننتحر سوى أنها تلغي مظهرًا من مظاهرها: المنتحر(ون). وهو ما يجعلها عصيةً عن الموت.. لهذا يرى أننا لن ننجو من رفض الإرادة لنا، بفعل الشقاء والألم، سوى بالدخول في الفن، وعبره. إنها الطريقة الوحيدة والفضلى للبقاء أو على الأقل التخلص من الشقاء.
مات الفن، عاش الفن
لا يمكن الحديث عن “الفن والموت” – في نصنا هذا – دونما الإشارة إلى مفهوم “موت الفن”، والوقوف عنده مليًّا؛ إذ إن هذا المفهوم الذي أعيد استحداثه مع الفنون ما بعد الحداثية، وبالخصوص مع ظهور فلسفات البراديغم الجديد، والتي تعلن عن موت الحقيقة والتاريخ والإنسان وغيرها… وقد ظهر هذا المفهوم مع أطروحة هيغل؛ حيث أعلن صاحب “فينومينولوجيا الروح” عن موت الفن مع بلوغ الرومانسية ذروتها؛ إلا أن الفن لم يفتأ يتطور ويتغير ويتبدل ويتجرأ على إعلان ولادات جديدة، لا تلغي الواحدة الأخرى؛ لكن الجديد منها يخترق أراضي السابق ويحتلها؛ إذ لم يكن قصد هيغل سوى أن “الفن أصبح أداة يمكن أن يستعملها كل واحد منا بطريقة ملائمة، مهما كانت طبيعتها فيتماهى ذهنه مع الحرية ويكون مستقلًّا عن المفاهيم والمعتقدات التي تمظهر فيها لمبدأ الأزلي والإلهي للوعي والحواس”، إنه هنا يتوقع “خمود” الفن الرومانسي، “موته”؛ ما يعجّل بميلاد حساسية جديدة، وفن جديد ينبعث من أنقاض السابق. وهو ما طوره أرتور دانتو Arthur Danto بعد ذلك في أطروحته[2] القائلة إنه استُنفدت الوسائل الإبداعية كلها؛ وذلك لأن كل شيء تم اختباره وكشفه وتحقيقه، فعلى سبيل المثال، وضعت أعمال كلٍّ من دوشان ووارهول وتجارب الفن المفاهيمي حدًّا نهائيًّا للمفاهيم التي كانت سائدة: من الأصالة والفرادة وغيرها الكثير…، بل عدّت كل أثر “مبتذل” بمثابة “عمل فني”. وعلى هذا المنوال ستكون نهاية الفن، بمعنى أن يكون محكومًا عليه بالتكرار[3]. مع الفن المعاصر بات كل شيء فنًّا، وأي شيء قابل أن يكون عملًا فنيًّا، ولم تعد هناك حدود “جمالية” يمكن تتبع خطوطها والمشي بمحاذاتها؛ بل إن الفن المعاصر كشف لنا على ما يمكن تسميته بـ”أزمة الفن”؛ إذ إن الفن دائم الأزمات، بل إنها أزمات لا تنفك تتوالد وتعلن على ميلادها، فمع كل أزمة نقع معها في “نهاية الفن”، أي انهيار القيم التي يستند إليها الفن السائد؛ بالتالي ندخل في مرحلة جديدة قوامها التفكير في “فن بديل” أو براديغم مخالف لسابقيه.
يُشترط “موت الفن” بالتالي، بحياة وميلاد “فن جديد”، أي هناك انبعاث متجدد ودائم مع كل موت؛ بل إنه ليس الموت بمعنى الكلمة المتعارف عليها، إنه بمعنى من المعاني “قد استوفت حقبةٌ فنية شروطَها” لتمنح “حق” الوجود لحقبة جديدة، مختلفة ومغايرة… وذلك بعدما يقع الفن “السابق” في أزمة تستلزم معها ميلاد فن “لاحق”. إنه نوع من “الخلود” المتجدد؛ إذ يصير معه الفن هو تلك العنقاء التي تتجدد من رماد احتراقها الذاتي…؛ لهذا إن كان “الفن أقل الصيغ المعرفية كمالًا” كما هو الحال بالنسبة لهيغل، فإن شيلر يرفع الفن إلى درجة تجعله “يلغي الحقيقة وروح الوجود وتثبيته بشكل ملموس”؛ إذ يذهب هيدغر إلى القول إن الفن أحد “الأساليب التي تحدث فيها الحقيقة”. فإن ماهية الفن هي التي تجعل الوجود يظهر والحقيقة تشع وتلمع. فالفن “انكشاف لحقيقة الوجود”. وهو عند هيدغر يَتَوَفّق فيما فشلت فيه الميتافيزيقا، بل إن نيتشه ليعد الفن بديلًا عنها وتعويضًا عن خيباتها. فيكون الفن صيرورة لا تنتهي عند الموت بالمعنى البيولوجي بل تتولد عنده كلحظة ميلاد جديدة.
السبيل إلى الخلود
بعيدًا عن “موت الفن” قريبًا من الخلود، سعى الإنسان منذ بداياته الأولى في بحثه عن فَهم العالم وتصوره ووضع معنًى لوجوده، والغاية من ذلك أن يفهم هذا الشبح الذي يطارده، المسمى “الموت”، تلك البوابة التي تأخذ الأقارب والأحبة إلى عالم “غير معلوم”، إلى حيث اللاعودة إلى عالمنا هذا؛ ما جعل من الموت يشكل هاجسًا ميتافيزيقيًّا وجب التغلب عنه وتخطيه، فما كان من الإنسان الأول سوى الاستعانة بـ”الفن” سلاحًا لذلك؛ لهذا ترك على جدران الكهوف الباردة والخشنة بصمات أنامله وأكفه وقصص صيده وطقوس عيشه منقوشة ومرسومة وملونة بألوان التربة… تخليدًا لكل ما عرفه وخبره. وإن عدّ سيغموند فرويد أن الموت غير قابل للتمثيل؛ فقد سعى الإنسان (الفنان) منذ القدم إلى الانتصار على هذه الفكرة، وأن يقدم لهذا “الشبح” جسدًا أو وجهًا أو هيئةً هلامية… وذلك لمواجهته، وقلب صيغته “الفانية” إلى “حالة الخلود” في العمل الفني [في الصورة]. بل “إن الموت، هو أولًا وقبل كل شيء، صورة، وسيظل كذلك صورة”، يقول غاستون باشلار: و”الصورة انتصار الحياة… انتصار منتزع من الموت ومستحق منه”[4].
إن سعي الإنسان نحو العيش والاقتراب قدر المستطاع إلى الخلود؛ جعله يُبدع ويترك آثارًا قائمة شاهدة على عبقريته وصراع الدائم مع الموت، وحتى الطبيعة التي شكلت بالنسبة له سببًا من الأسباب المجهولة التي تقوده نحو “فنائه”، فما كان منه إلا أن عظمها وتقرب منها وشكّل من خلالها أساطيره وحكاياته.. لهذا لا يختلف شكل الهرم، مَدْفَنُ الفرعون، عن شكل الجبال والكثبان الرملية التي تعتلي عنان السماء.. لما للصورة في ذهن الإنسان، الذي يفكر بشكل ثنائي: اللغة والصورة الذهنية؛ لما لها من حياة نابضة، إنها القُداس الجنائزي الذي ينقل المدلول من حياة إلى أخرى، من البائد إلى الخالد[5]. وإن الهرم هو بوابة الفرعون نحو الخلود؛ إذ عليه أن يسلك الطرق التي تشير إليها الخريطة المصورة على طول الجدران نحو فتحة تطل على نجوم السماء؛ الفن إذن بهذا المعنى، هو تلك الخريطة التي على الفرعون أن يتبعها وألَّا يخطئ وهو يركب قارب النجاة نحو العالم الآخر. فلم يكن إذن من الغريب أن يشيّد الملك شاه جهان الإمبراطور المغولي (1630-1648)، ضريح “تاج محل” البديع، ليضم رفات زوجته ممتاز محل -الزوجة الثالثة-، في دلالة خالدة عن عشقه لها وتخليدًا لذكراها. وأليست المتاحف اليوم تلعب الأمر عينه؟ أليست تسعى إلى تخليد آثار الإنسان المبدع أو الذي كان له دور تاريخي مهم، وتظل شاهدة على عبقرية البشرية؟ فالمتاحف تلعب الدور عينه الذي لعبته الأهرام من تحنيط الفرعون وتخليده وحفظ ذكراه، وجعله يرتقي إلى الأعلى ويبلغ السمو؛ لهذا فلننظر إلى متحف الشمع (توصادز) في لندن (وفي فروعه) –نموذجًا- الذي يحتوي على تماثيل للشخصيات العالمية البارزة في جميع المجالات: الفن، السياسة وغيرها، مثل ونستون تشرشل وهتلر وشكسبير، كما توجد به غُرفة الرعب التي تصّور أشكال الإجرام في أثناء الثورة الفرنسية… إننا نجد أنفسنا أمام تلك التُحف (والشخوص) التي تُخلدها المتاحف في رهبة، باحثين فيها عن علامات خلودها وعبقريتها، ساعين إلى فهم الحياة ومعانيها من خلالها والحفر عميقًا في الإنسان وتاريخه وفنه، وهو ذاته ما تفعله الكهوف التي ترك الإنسان آثاره على جدرانها، في دواخلنا. إننا إذن ونحن إزاءها نسعى إلى إيجاد “إكسير الحياة”، مشروب الخلود. وبالمقابل ونحن أمام العمل الفني، شعرًا كان أم سرديًّا أم بصريًّا (صورة، لوحة، منحوتة، معمار…)، نكون شهودًا على معركة انتصار الفن على الموت بلغة محمود درويش:
– “هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين. مِسلة المصري، مقبرة الفراعنةِ،
النقوش على حجارة معبدي هزمتْك
وانتصرتْ، وأِفْلت من كمائنك
الخلود“.
يأتي الخلود عند فيلسوف المطارق نيتشه مرتبطًا بالعود الأبدي، بتلك الدائرة العجيبة للحياة، شبيهًا بمفهوم العنقاء – الذي سبق وأشرنا إليها -، ما أن تنتهي دورة حياة حتى تبدأ أخرى: ما أن تنتهي دورة حياة فن حتى تبدأ دورة فن آخر. غير الفن (بمعنى الشامل) يظل خالدًا مقاوِمًا للموت، عصيًّا على الإمساك به في شباكه الخفية. إنه رهين الوقت النتشوي شبيه الثعبان الذي يعض على ذيله، يدور في حلقة دائمة ويجدد جلده للأبد.
الهشاشة المفرطة
يخبرنا جيل دولوز بأنه يوجد نوع من “التأكيد الأساسي بين العمل الفني وفعل المقاومة”[6]؛ لكن أي نوع من المقاومة؟ يجيب قائلًا: “مقاومة الموت”. إننا إذن نقاوم عبر الفن ذلك الشبحَ الخفي الذي يترصدنا أينما توجهنا وتوجهت ركائبنا. وكلما سعى الفنان إلى التعبير عنه وتمثيله فهو يقع في حالة الهشاشة والسوداوية، التي قد تبلغ حد الإفراط، وهذا ما نشاهده في أعمال فناني “الفانيتي” Vanité [الغرور !!]، وهو تيار فني يتكئ على تمثيل مجازي للموت، ومرور الوقت، وفراغ العواطف والأنشطة البشرية[7]، غايةً في إحداث صدمة في ذهن المتلقي، وإنزاله من أبراج “الغرور” لأسطح التواضع؛ حيث كل شيء فانٍ وغير دائم..
وقد ارتبط هذا التيار بالتوجه الفني الشهير “الطبيعة الصامتة [الميتة]” natures mortes؛ إذ توضع الأشياء الممثلة للأنشطة البشرية، من العلم والدراسة، والمال والمتعة والثروة والسلطة، في مقارنة بين العناصر التي تستدعي الوقت الذي يمر بسرعة كبيرة والهشاشة والدمار والاضمحلال، وانتصار الموت، في تناغم صادم بين الطبيعة الصامتة مع جمجمة – أو جماجم – بشرية.
من بين أهم فناني هذا التيار الفنان الفرنسي Philippe de Champaigne (1602-1674)، وقد اشتهر بأعمال تجسد مواضع الصراع بين الهشاشة ومقاومة الموت، ومن أهمها لوحته الشهيرة (“الغرور !، أو رمزية حياة الإنسان”، رسمها عام 1646)؛ حيث يضع المشاهد أمام مشهد مُعتم تتوسطه ثلاثة أشياء في خط مستقيم ومتقاربة: مزهرية تحتوي على وردة توليب tulipe، وجمجمة وساعة رملية؛ كلها موضوعة على ما يشبه حجر جيري. يبرز الفنان الموت الذي ينظر إلينا من خلال الحالة السوداء التي تطبع العمل ومن خلال تلك الجمجمة البشرية، الرامزة إلى أنه لا مفر من المرور بالانحدار والاضمحلال، وتذكرنا بتدهور جميع الكائنات الحية، المنذور إلى الموت والرحيل. أما الوردة الحمراء، التي تتوهج مثل اللهب، فتثير هشاشة الحياة. وتجسّد الرمال الصفراء، المتدفقة من الساعة الرملية، مرور الوقت واستحالة عودته كما كان. إنها الهشاشة التي تحيط بنا في كل مكان: جسدنا، الطبيعة، الزمن، المال، الحياة…
ولم يكن من العبث أن يختار الفنان وضع الجمجمة في وسط اللوحة، التي تجعلنا نتذكر أن الموت هو ذلك القلق الذي لا مفر منه والذي يتمركز في جوانب حياتنا كلها، إنه “يواجهنا” !. بل إنه يحمل من الدلالة القوة التي تحيل إلى فقدان الإنسان الذي فينا، فهذه الجمجمة ليست لأحد وهي للكل، كلنا سواسية أمام الموت. بينما على يمين الناظر يتراءى له تلك الساعة الرملية، التي لا تزال رمالها تتدفق، فليس الوقت (النسبي) هو الذي يرمز إليه الفنان هنا فحسب؛ وإنما هو فعل مرور الوقت بالتحديد، وهذا الأخير هو الذي يقودنا إلى الموت، لسنا نموت بفعل الزمن بل بفعل مروره ومرور عوامله وآثاره علينا، فنحن في معادلة عكسية، كلما زاد الوقت اقتربنا من موتنا. ومن ناحية أخرى فلهذه الساعة إشارة قوية لوهم التحكم بالزمن وضبطه، فهذا الأخير سائل عصي على مسايرته ونحن المحكومون بتأثيراته. فلسنا نحن من نتحكم بالوقت؛ بل هو الذي يتحكم بنا. وعلى يسار الناظر تقع نظراته على تلك الوردة: التوليب، التي تشتعل كشمعة تُحرِق ذاتها، وهي أيضًا تحمل من الدلالة ما يشير إلى الموت، “موت الجمال” في هذه الحالة، فالوردة محكومة هي أيضًا بقانون مرور الوقت، بآثار العمر والهشاشة. منذورة إذن، إلى الموت مثلها مثلنا. فالموت حاضر أينما وليَّنا وجوهنا، حتى في الأشياء الجميلة التي تسعدنا. إلا أن اختيار زهرة التوليب لم يكن من باب الصدفة؛ إذ غزت هذه الوردة الغرب في القرن الخامس عشر، وعرفت نجاحًا تجاريًّا باهرًا جعل من الاغتناء منها حمّى دفعت بالتجار إلى القيام بمغامرات تجارية كبرى، وصل إلى حد أن ثمن إحداها بلغ ثمن منزل في هولندا؛ حيث ازدهرت تجارتها. فزوالها السريع أشعل نيران المتاجرة بها، بالإضافة لغرابتها وندرتها؛ إلا أن سرعة صعودها إلى سقف السلع الأثمَن قابله سرعة سقوط الطلب عليها وانخفاض ثمنها؛ ما أسقط السوق الغربية والهولندية بالخصوص، في أول أزمة اقتصادية حادة سيُصطلح عليها بـ”هوس التوليب” tulipomania.. كأن مقولة مونتيني تحققت في هذه الحالة: “الجمال لا يبهج، إنه يدمر”.
المعاصرة والخلود
بعد هذا كله يسعنا القول إن العالم مصاب بالهشاشة والنسبية والزوال، كل شيء منذور إلى السقوط في براثين “الموت” بما فيها التجارة الناجحة. لا شيء يبقى على حاله؛ لهذا يسعى الفن وهو يحاول بلوغ المتسامي، بالمعنى الكانطي، أن يُراقص الحد الأقصى من الوجود، الذي نفسه دائمًا ما يكون مثقلًا بالنهاية، حاملًا ضده: الغياب/ الموت. وما يعمل الفن – كما يذهب شوبنهاور – سوى لحل مشكلة الوجود؛ بل لا يميّز صاحب “العالم إرادةً وتمثلًا” بين الشعور بالسمو – في طبيعته – عن الإحساس بالجمال. إنه يختلط معه في شرط أساسٍ، وهو معرفة “المُثُل” من خلال التأمل الخالي والمجرد من كل إرادة[8]؛ أي التخلص من كل رغبة مدفوعة بالنقصان؛ وبالتالي التخلص من الشقاء والمعاناة.
هشٌّ إذن هذا الوجود الذي نحن مقذوفون فيه وإليه، وملزمون بعيشه إلى النهاية، ووحده الفن من يحضر كمقاومة لا بد منها لكي لا نُنسى أو تنمحي ذكرانا، وما نقوم به كل مرة سوى تغيير “الكهوف” من شكل إلى شكل جديد مع كل حقبة تأتي بديلًا عن سابقاتها. إننا إذن لا نخلد إلا عبر الفن. هذا الأخير الذي سعى اليوم مع فنون ما بعد الحداثة أن يمثل ويعرض الزائل والعابر، ألا يُخلده عبر العمل الفني المستدام (كاللوحة)، بل عبر صورته (الفوتوغرافية أو سينماتوغرافية: الفيديو)، ما تولد عنه فنون كفن الفيديو أو فن الأرض الذي يستعين بالصورة الفوتوغرافية لنقل العمل الفني من فضائه الشاسع إلى المعرض؛ حيث تغدو صورة العمل الفني في حد ذاتها هي العمل الفني لا انعكاسًا له، كأن الشبح الذي يطاردنا يتخذ في هذه الحالة هيئتنا، وحضر في الزمن من حيث إنه نحن. بل إن أعمالًا فنية عديدة معاصرة، قد اختفت مع مرور الزمن ولم يبق منها سوى صورها أو ما يُحكى حولها؛ إذ تنبني المعاصرة على فعل السرد أكثر من المادة المشكلة للعمل… إنها بهذا لا تسعى إلى الخلود بل تنفيه عبر الزوال: الموت.
[1] ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة: فريد الزاهي، منشورات أفريقيا الشرق، 2007، ص 17.
[2] راجع:
Arthur Danto, la transfiguration du banal, une philosophie de l’art, trad. Claude Hary-Schaeffer, éd. Seuil, coll. Points Essais, Paris, 2019.
[3] مارك جيمينيز، الجمالية المعاصرة، الاتجاهات والرهانات، ترجمة: كمال بومنير، منشورات ضفاف، 2012، ص 85.
[4] ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ص 18.
[5] راجع: عز الدين بوركة، شطحات الحرف… أو حينما تومض الحركة في الفراغ، كطالوغ معرض الفنان رشيد باخوز، الباب الكبير- الرباط، 2016.
[6] G. Deleuze, Deux régimes de fous, Paris, Éditions de Minuit, 2003, p. 300.
[7] Ségolène Bergeon-Langle et Pierre Curie, Peinture et dessin, Vocabulaire typologique et technique, Paris, Editions du patrimoine, 2009, p. 96.
[8] كيُّوم مورانو، شوبنهاور، ترجمة: فاروق الحميد، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 2013، ص 201.