
يميز المتخصصون في الفلسفة – وتحديدًا منذ بروز الاهتمام بموضوعات الفلسفة التطبيقية- بين ما يطلقون عليه «الفلسفة النظرية أو البحتة» و«الفلسفة التطبيقية». فمباحث الوجود والمعرفة ونظريات الأخلاق والجمال والسياسة مباحثٌ يرونها بالضرورة مباحث نظرية، أما الفلسفة التطبيقية فلم يحدث اتفاق حول تصورها أو وضع معيار حاسم يحدد الاختلاف بينها وبين الفلسفة النظرية. من هنا سوف أعرض بعض تصوراتها، ثم أعرض تفنيدًا لهذه المعايير كونها غير كافية للتمييز بين الفلسفة التطبيقية والفلسفة النظرية. سأجعل -بعد ذلك- من هذا الإخفاق في إيجاد معيار حاسم للتمييز أساسًا للقول إن كل مباحث الفلسفة بالضرورة مباحث تطبيقية، مبينًا بأي معنى أراها تطبيقية. ثم أنهي كلامي بأهمية ومردود هذا الفهم على عالمنا العربي.
تصور الفلسفة التطبيقية بوصفها ذات الصلة
يضع ليزلي ستيفنسون Leslie Stevenson مجموعة من التصورات يميز بمقتضاها بين الفلسفة النظرية والفلسفة التطبيقية. سأحاول تمشياً مع ليبرت راسموسن كاسبر Lippert Rasmussen Kasper بيان أن هذه التصورات ليست كافية للتمييز بين الفلسفة النظرية والفلسفة التطبيقية.
الفلسفة التطبيقية على حد زعم ليزلي ستيفنسون هي تلك المسائل المهمة التي تكون «ذات صلة» بحياتنا اليومية. وهو يطلق على هذا المنحى «تصور الصلة» relevance conception ويذكر كأمثلة: مسائل أخلاقيات البيولوجيا، سياسات التعليم «تعليم مدني، ديني»، المشاركة الشعبية في التخطيط، واجب الدول الغنية تجاه الفقيرة[1].
تفنيد تصور الصلة
إذا كانت الموضوعات ذات الأهمية تختلف من وقت لآخر، وكانت الموضوعات ذات الصلة في الحياة اليومية هي التي تميز الفلسفة الخالصة من الفلسفة التطبيقية، فإن هذا يعني أن أي موضوع فلسفي يهتم به شخص ما سيندرج ضمن الفلسفة التطبيقية، مما يعني ضياع معيار التمييز الذي يعتمد فقط على كون المواضيع ذات صلة وعلاقة بحياة المرء. الأمر الآخر أن منهج الفلسفة في مباحثها التقليدية لا يختلف عن منهجها في مناقشة هذه الموضوعات، مما يضيع معه أيضًا التمييز. أضف إلى هذا أن اشتراط أن تجيب الفلسفة التطبيقية على الموضوعات ذات الصلة والمتعلقة بالحياة اليومية اشتراط قوي، أي من الصعب تحقيقه. فقد يكون شخص خبير في التغير المناخي دون أن يجيب على السؤال عما يجب أن نفعله بإزاء التغير المناخي. ثم إن هناك موضوعات مهمة في حياتنا اليومية ولا ينظر إليها عادة على أنها ضمن الفلسفة التطبيقية مثل حجج كانط في الخطأ غير المشروط للكذب، التي تنتمي للفلسفة الأخلاقية وليس الأخلاق التطبيقية[2].
تصور التعيين
تكون الفلسفة تطبيقية وفقاً لستيفنسون، متى تناولت موضوعًا محددًا يندرج تحت أحد فروع الفلسفة: الميتافيزيقا، الأخلاق، الإبستمولوجيا . مثلاً: ينتمي السؤال: «متى يكون مسموحًا أخلاقيًا قتل الجنود الأعداء؟» للفلسفة التطبيقية لأنه يندرج تحت السؤال العام «متى يكون القتل بشكل عام مسموحًا به أخلاقيًا؟» الذي يندرج تحت الفلسفة الأخلاقية[3].
تفنيد تصور التعيين
إن مسألة العمومية أو التحديد مسألة نسبية: فما هو سؤال عام قد يكون سؤالاً خاصًا لسؤال أكثر عمومية وهكذا. فإذا عددنا مثلاً السؤال: «لماذا يُعد التبرع بالأعضاء فعلاً حسناً؟» سؤالاً ينتمي للفلسفة التطبيقية لأنه يندرج تحت السؤال العام «ماهي الأفعال الحسنة؟»، فإنه من الممكن لهذا السؤال الأخير أن يكون سؤالاً خاصًا لاندراجه تحت السؤال أو المسألة الأكثر عمومية وهي «الصفات الأخلاقية للإنسان». كما يمكن للسؤال «ما هي معايير انتهاك الكرامة الإنسانية؟» أن يكون سؤالاً عامًا لسؤال أكثر تحديدًا أو خصوصية وهو «هل الاستنساخ مقبول أخلاقيًا؟»، ولكنه من الممكن أن يكون سؤالاً خاصًا لسؤال أكثر عمومية وهو «الخصائص الجوهرية للإنسان». التفنيد الثاني يمكن تلخيصه في أن هذه العلاقة «العمومية- الخصوصية» تتفق مع نمط تبرير في الفلسفة التطبيقية يسمى top-down model يأخذ به بعض الفلاسفة مثل بويشامب Beauchamp في مقالته «طبيعة الأخلاقيات التطبيقية» – في الكتاب الصادر 2003 A Companion to Applied Ethics تحرير R.G Frey، C.H. Wellman – إذ يتم مثلاً تبرير استحسان وخيرية التبرع بالأعضاء بأنه فعل من أفعال الإحسان والأثرة. ويتم تبرير رفض الاستنساخ لأنه انتهاك للكرامة الإنسانية وجميعها تندرج ضمن الأخلاقيات التطبيقية وليس الموضوع أو السؤال الخاص فقط. ثم إنه بمقارنة موضوعات معياري الصلة والتحديد نجد أن هناك موضوعات مهمة تكون عامة وموضوعات محددة تكون أقل أهمية.
تصور الناشط
بعض الفلاسفة لا يريدون الاكتفاء بالإجابة الفلسفية عن سؤال «ماذا يجب أن نفعل؟»، ولكنهم يريدون ومن خلال الفلسفة تغيير العالم أو التأثير فيه. تقول أستاذة الفلسفة نانسي دوكاس Nancy Daukas في فصل كتبته عن «الإبستمولوجيا النسوية»: تتوحد ميادين الفلسفة النسوية المتعددة والمتنوعة بالتزامها – باستخدام التأمل الفلسفي- بتطوير شروط حياتنا التي تشكلها قوى المجتمع. بمعنى أن الفلسفة النسوية تتحدد بأهدافها التحررية، ولهذا السبب تحديدًا يطلق عليها «فلسفة تطبيقية».
منطوق هذا التصور أن الفلسفة تكون تطبيقية متى حركها طموح إحداث تغيير في العالم. من هنا استعار ستيفنسون مصطلح «الناشط» الذي يطلق عادة على الناشط السياسي الذي يهدف إلى إحداث تغيير في مجتمعه[4].
تفنيد تصور الناشط
هذا المعيار يمكن تفنيده أيضًا من خلال التأكيد على أن معظم الفلاسفة أرادوا بفلسفاتهم إحداث تغيير في العالم من خلال أعمالهم: كأن يرغبون في تغيير اعتقادات الفلاسفة الذين يكتبون في موضوعات اهتمامهم، أضف إلى هذا أننا وفقًا لهذا المعيار يجب أن نعد ما كتبه كارل بوبر مثلاً بشأن استحالة التنبؤ بمسار التاريخ بالمعنى الماركسي- ضمن الفلسفة التطبيقية، لأنه كان مدفوعًا بمحاولة دحض الأيديولوجيات الشمولية بصفة عامة والماركسية بشكل خاص، وهو ما لا يُنظر له عادة على هذا النحو[5].
تصور الوقائع التجريبية
الفلسفة التطبيقية تكون كذلك متى كانت ذات طبيعة بينية؛ أي متى كانت تعتمد على نتائج العلوم التجريبية البعدية، بينما الفلسفة البحتة أو النظرية نسق قبلي يحاول الكشف عن الحقائق التصورية بالعقل الخالص.
تفنيد تصور الوقائع التجريبية
حجة النزعة الواقعية الأخلاقية تعارض هذا التصور: ترى هذه الحجة أن ما يفسر التنوع التجريبي للمواثيق الأخلاقية عبر الزمان والمكان هو أنه لا توجد وقائع أخلاقية. وفقًا لتفسير تصور الوقائع التجريبية، هذه الحجة حجة في الفلسفة التطبيقية، وإن كنا عادة لا ننظر إليها على هذا النحو.
ثم إن بعض الفلاسفة المتأثرين بالعلوم الطبيعية naturalistically minded philosophers يرون أن كل الفلسفة بهذا المعنى ستكون فلسفة تطبيقية. فبعضهم يرى أن التساؤل حول طبيعة وصولنا لمحتويات عقولنا لا يمكن الاجابة عليه بشكل مستقل عن النتائج التجريبية لعلم الأعصاب. يقول نايل ليفي Neil Levy «توضح علوم العقل المسائل الفلسفية التقليدية مثل حرية الإرادة وطبيعة المعرفة»[6].
تصور الجمهور
الفلسفة التطبيقية وفقاً لهذا التصور هي تلك التي تخاطب الجمهور غير الفلسفي، على اعتبار أن الفلسفة النظرية موجهة في الأساس للجمهور الفلسفي.
تفنيد تصور الجمهور
إذا كان هذا المعيار الذي ذكره ستيفنسون 1970 يصلح في ذلك الوقت حيث لم يكن هناك كثير من فلاسفة الفلسفة التطبيقية، فإن القول إن ما يكتب للفلاسفة يندرج ضمن الفلسفة النظرية لم يعد صحيحًا حيث أصبح ما يتعارف عليه الآن أنه فلسفة تطبيقية يكتب من قبل فلاسفة لفلاسفة[7].
فإذا كان الفلاسفة قد فشلوا في وضع تمييز حاسم بين الفلسفة التطبيقية وغير التطبيقية، ألا ينبئ هذا بإمكانية النظر للفلسفة في كليتها كفلسفة تطبيقية؟
هذا ما نزعمه، وهو ما نحتاج- من أجل تبريره- للنظر في مباحث الفلسفة التقليدية وبعض التصورات الفلسفية لنرى بأي معنى يمكن عدها مباحث وتصورات تطبيقية.
لنبدأ بأول وأشهر مباحث الفلسفة والذي به بدأت الفلسفة، ألا وهو مبحث الوجود. يحاول الفلاسفة في هذا المبحث– على اختلاف وجهات نظرهم- بيان ما يعتقدون أنه حقيقة الوجود. فيراه البعض وجودًا ماديًا صرفًا، ويبذلون الجهد في بيان كيف يمكن فهم النفس أو الله فهمًا ماديًا – إن كانوا يقرون لهما وجودًا-، وهناك من يرى أن الوجود روحاني، ويجاهد في بيان بأي معنى يمكن فهم الأشياء -التي يعُدها الحس المشترك مادية لكونها ملموسة أو محسوسة- فهمًا روحيًا. وهناك فريق يرى أن الوجود مادي وروحي معًا، فتقابله المشكلة التي واجهت رينيه ديكارت والتي يعبر عنها السؤال: «كيف يمكن لطبيعتين مختلفتين أن تجتمعان في كيان واحد بشكل متسق»؟
بأي معنى يمكن عد مبحث الوجود مبحثًا تطبيقيًا؟
نعلم جميعًا أن الفكر يحكم أو يوجه النظر والسلوك. بمعنى أن سلوك المرء يعكس ما يفكر فيه وما يعتقده المرء وهو ما يعني أن الاعتقاد في أن الوجود مادي أو روحي أو مادي وروحي سيظهر بالضرورة في سلوك وأحكام المُنظّر وتابعيه، ومن هنا كان التطبيق. لن يبحث الماديون عن جوهر نفسي يقلقهم مصيره بعد مفارقته للجسد. ولن يبحثون عن إله مفارق ينشغلون معه بوجوده وعلاقته بهم من خَلق وغيره. لا شك أن من يعتقد أن هناك إلهًا في نسقه الأنطولوجي سيسلك بطريقة مختلفة في حياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين عن ذلك الذي لا يعتقد أن هناك إلهًا. ولن يبحث من لا يعتقد في وجود جوهر نفسي تلتف حوله المشاعر والأحاسيس وسائر الظواهر النفسية عن هذا الجوهر ولن ينشغل بالسؤال أين ذهب ساعة الوفاة. ولن ينشغل بوجود حياة بعد الموت يعمل أو لا يعمل من أجلها. فالموت انتهاء آلي للعمر الافتراضي للكيان البشري، وإلى لا عودة. فلا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولاعقاب. فإذا وضعنا جانبًا جوهرية النفس، متمثلين للفكر الغربي المعاصر الذي لا نكاد نجد فيه ممثلاً لجوهرية النفس، نجد أن سائر النظريات التي تفسر الحالات النفسية إنما تهدف من وراء ذلك – أو ينتج عنها نتيجة مباشرة- تفسير السلوك البشري. فلنأخذ مثلًا أتباع الحتمية الترابطية الذين يتصورون الأنا كتجميع للحالات النفسية، يمارس أكثرها قوة تأثيره الراجح ويجر الآخرين معه: «كان بإمكاني أن أمتنع عن القتل لو كان كرهي للجريمة وتخوفي من نتائجها أقوى من الرغبة التي تدفعني إلى ارتكابها. كما قال ستيوارت مل»[8]. فالحالات النفسية أشياء متميزة يفسر أقواها سلوكياتي وتصرفاتي. أضف إلى ذلك ظهور النزعة الوظيفية في تفسير النفس التي رأت أنه لما كانت جدوى تفسير طبيعة الحالات النفسية هو تفسير السلوك، فلنذهب مباشرة – وهو ما فعلته- إلى التركيز في وظيفة الحالات النفسية. هذه الأمثلة جميعها تبين بجلاء كيف أن للفلسفة أهمية تطبيقية وليست محض مبحث نظري يتوقف عند حدود إشباع شغف المعرفة.
فإذا انتقلنا إلى مبحث المعرفة: المبحث الذي يتضايف مع مبحث الوجود، سنجد أن هناك من يرى أن المعرفة -أو بعض المعارف- عقلية وهناك من يراها تجريبية، وفريق ثالث يراها حدسية، وآخرون يرون سبل المعرفة الثلاثة يستخدمها الإنسان كلٌ في نطاقه أو في ميدان معرفته. لا شك أن تأثير هذا الاعتقاد سيظهر على سلوكيات وقرارات كل معتنق لأحد هذه الاتجاهات.
وعليه فلابد للفلاسفة أصحاب الاتجاه العقلي أن يكونوا أصحاب موقف واحد على الأقل من المواقف الثلاثة التالية:
- الاعتقاد في الحدس والاستنباط، فبعض معارفنا حدسية وبعضها الآخر تستنبط من معارف حدسية. هذه المعارف معارف قبلية أي نصل إليها بشكل مستقل عن الخيرة الحسية. البعض يرى هذه المعارف التي نصل إليها بالحدس والاستنباط معارف رياضية، والبعض يراها حقائق أخلاقية والبعض يراها دعاوي ميتافيزيقية مثل «الله موجود»، «لدينا حرية في الإرادة».
- الاعتقاد في المعارف الفطرية لأنها جزء من طبيعتنا العقلية.
- الاعتقاد في التصورات الفطرية. فهي أيضًا جزء من طبيعتنا العقلية؛ بمعنى أن بعض معارفنا فطرية لأن التصورات المتضمنة في هذه المعارف عبارة عن تصورات فطرية بداخلنا.
يرتبط بهذه المواقف الثلاثة الاعتقاد التالي: المعارف التي نحصل عليها بالحدس والاستنباط، هي معارف أرقى من المعارف التي نحصل عليها عن طريق الخبرة التجريبية. وقد رأى ديكارت أن المعرفة التي نحصل عليها بالحدس والاستنباط معارف قبلية يقينية بينما المعرفة التجريبية معرفة ليست يقينية. رأى أفلاطون أن المعارف القبلية التي نعرفها بالعقل فقط أرقى من غيرها لأنها ثابتة غير متغيرة أبدية[9].
يتوقف تأثير المعرفة الحدسية على معناها. المعرفة الحدسية وميض عقلي يظهر الأمور واضحة بذاتها ليست في حاجة إلى برهان. وبالتالي فالمرء الذي يعتقد في أن مصدر بعض المعارف هو الحدس يعتقد في صدقها اليقيني. فالمعارف الحدسية لا تخضع للتبرير أو للشك. من هنا ما كان الله أو جوهرية النفس أو وجود العالم محل أدنى شك لدى ديكارت وكل من يتبنى فكره.
أما من جهة أصحاب الاتجاه التجريبي فسنجد أن قضايا مثل وجود الله وجوهرية النفس، من القصيا التي تخضع للشك، لدرجة تصل إلى الرفض أحيانًا. فوفقاً للتجريبيين، لا مصدر لمعرفتنا خلاف الخبرة الحسية. معارفنا بعدية وليست قبلية. لا وجود لمعارف أو تصورات فطرية يولد بها الانسان. العقل صفحة بيضاء ينقش عليه من الخبرة الحسية كل معارفنا. هل يمكن أن نتوقع ممن يختزل المعرفة بأسرها في المعرفة الحسية التجريبية أن يقر بإله مفارق؟ أن يبحث عنه أو يؤمن به؟ فما يخضع للتجريب هو ما يمكن بالضرورة قياسه وتكميمه.
إذا انتقلنا إلى فلسفة العلوم، فسنجدها معنية في الأصل بأسس العلم ومناهجه ومضامينه واستخدامه وفائدته. هل نحتاج لدليل على تطبيقية فلسفة العلوم بأكثر من هاتين المهمتين الأخيرتين تحديدًا؟ أضف إلى هذا أن الفائدة العملية للعلماء من فلسفة العلم كانت بالفعل مثار حوار ونقاش بين العلماء وأحدثت جدالاً بينهم وبين الفلاسفة. يقول عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان Richard Feynman « تفيد فلسفة العلوم العلماء بالقدر الذي يفيد “علم دراسة الطيور” ornithology الطيور». وقد جاء الرد من الفلاسفة على هذا التهكم بقول ممثل الفلاسفة كريج كالندر Craig Callender « نعم كان علم الطيور سيكون ذا نفع بالغ للطيور لو أمكنهم أن يعقلوه»[10].
السؤال المحوري في فلسفة العلم هو: ما الذي يبرهن على صحة أو صدق النظريات العلمية المعمول بها؟ ما دليلنا على ذلك؟ يرد أتباع الواقعية العلمية على هذا السؤال بأن نجاح النظريات العلمية هو أبلغ دليل على صدقها. تهدف النظريات العلمية إلى تفسير الظواهر الطبيعية التي تتكرر على هيئة واحدة من أجل القدرة على التنبؤ بحدوثها. قدمت نظريات فلسفة العلم معايير متعددة للقول إن النظرية فسرت الظاهرة بنجاح. أحد هذه المعايير هو القدرة على إخضاع الظاهرة لقانون عام وهو معيار كارل همبل وبول أوبنهايم Oppenheim. الاستقراء والتكذيب ونظرية دوهيم-كواين وبارادايم توماس كون جميعها أمثلة على اهتمام فلسفة العلم بمسيرة العلم ودفعه للنجاح تفسيرًا وتطبيقًا.
لماذا تهتم الفلسفة باللغة؟ وبماذا تهتم الفلسفة تحديدًا في اللغة؟ هل طبيعتها أم استخدامها أم بنيتها وتركيبها أم بالأحرى كيفية انتاجها للمعاني؟
الواقع أن الفلاسفة الذين اهتموا بالبحث في اللغة عبر تاريخ الفلسفة بحثوا في كل هذا، أي في طبيعتها واستخدامها وبنيتها وكيفية إنتاجها للمعاني. ذلك أن الفلاسفة أدركوا مع الوقت أن اللغة مخزون هائل من المقولات والمفاهيم يتعذر بدونها أي تفكير ثري معقد[11]. ثم أن استخدام اللغة يعد أعقد وأدق مظاهر السلوك البشري، وبالتالي فهو يفتح الباب لفهم طريقة عمل العقل وإدراك الأمور الذهنية[12]. وقد كان لفلاسفة التحليل في القرنين التاسع عشر والعشرين النصيب الأكبر من الاهتمام باللغة. ويمكن تلخيص اهتمامهم في أربعة موضوعات رئيسية: الأول، البحث في طبيعة المعنى وأصله. الثاني، محاولة فهم عملية التواصل اللغوي. يندرج ضمن هذا الاهتمام محاولة فهم كيفية تكوّن اللغة وتعلمها. الثالث، البحث في طبيعة الصلة بين اللغة والعقل. الرابع، البحث في مسألة الصلة بين اللغة والعالم أو إلى أي مدى تعد عباراتنا تعبيرات صادقة عن العالم أو الواقع[13].
هل يمكن النظر إلى فلسفة اللغة بوصفها شكل من أشكال الفلسفة التطبيقية؟ لا شك أننا كلما اقتربنا من فهم طبيعة الشئ كلما ساعدنا ذلك على السيطرة عليه أو التعامل معه بشكل أفضل. نتعامل مع الشخص الذي نعرف بشكل أفضل ممن لا نعرف، ويتعامل الانسان مع الطقس- سيطرة وتحكمًا وتطويعًا- بشكل أفضل مما كان عليه الانسان منذ مئات السنين. وقد استطاع الإنسان الآن تطويع الحيوانات المفترسة والسيطرة عليها بعد أن فهم طبيعتها. ويجوب الانسان البحار والمحيطات بأمان أكثر مما قبل بعد أن فهم طبيعتها. الأمر ينسحب على كل ما اجتهد الانسان في فهمه. ثم إن المعنى مفتاح فهم الانسان وصلة الانسان بالعالم. لا شك أن فهم المعاني تفتح الباب أمام فهم الانسان من خلال لغته، وفهم المستمع الناطق بغير لغة المتحدث بفهم أسس الترجمات من لغة أخرى. وأخيرًا فإن حسم الخلاف حول ما إذا كانت اللغة فطرية أم مكتسبة سيؤثر في سياسات تعلم اللغة.
أما بالنسبة لفلسفة التاريخ، فغني عن البيان أن السؤال المحوري فيها يدور حول ما إذا كان التاريخ يعيد نفسه أم لا، أو بعبارة أخرى هل هناك قوانين -مثل قوانين الطبيعة- يمكن الوصول إليها تمكننا من تفسير حوادث التاريخ والتنبؤ بالحوادث المستقبلية انطلاقًا منها؟ سنجد الإجابة عن هذا السؤال بنعم لدى كلًا من كارل همبل Carl Hempel في مقاله وظيفة القوانين العامة في التاريخ the Function of General Laws in History 1942 وإرنست ناجل Ernst Nagel في كتابه «بنية العلم: مشكلات في منطق التفسير العلمي» Structure of Science: Problems in the Logic of Scientific Explanation 1961. في حين يعترض كلًا من وليم دراي William Dray في كتابه «القوانين والتفسير في التاريخ» Laws and Explanation in History وآلان دوناجان Alan Donagan 1966 في مقاله إعادة النظر في نظرية بوبر- همبل The Popper- Hempel Theory Reconsidered على إمكانية التوصل لمثل هذه القوانين.
ولا شك أن الاهتمام بهذا الأمر يدل دلالة قاطعة على الاهتمام بالجانب التطبيقي أي بمضامين الإجابة عن هذا السؤال، ذلك أنه إذا كانت الإجابة بنعم مقنعة، فلن يكون على المقتنعين سوى دراسة هذه القوانين ومراعاتها في قراراتهم بأن نسلك المسلك هذا وليس ذاك إذا ما قابلنا الموقف (أ) مثلاً أو في حكمهم على قرارات أو اختيارات الآخرين في سلوكياتهم، لأن هذه القوانين ببساطة تعني أن لديهم إمكانية التنبؤ بالمستقبل وبالتالي سيأخذون حوادث الماضي في الاعتبار في انتظار تكرارها كما كشفت لهم القوانين ذلك. أما غير المقتنعين بذلك فسيبحثون عن تفسيرات أخرى للسلوك البشري أو التاريخي، تفسيرات لا تستند إلى أي إمكانية للتنبؤ به يستندون إليها في سلوكياتهم وأحكامهم على سلوكيات الآخرين.
فإذا ما انتقلنا من مباحث الفلسفة إلى بعض المفاهيم الفلسفية المفردة يمكننا ملاحظة كيف يمكن أن ينتج عن الإيمان بفكرة معينة تطبيقات هائلة. لا يخفى على أحد مثلاً كيف كانت أسئلة الفلسفة الاسلامية في العصور الوسطى عن الذات والصفات، ومرتكب الكبيرة، وجوهرية النفس ذات نفع عظيم للمسلمين في العصور الوسطى أرادوا بها تعميق فهمهم للدين.
لننظر أيضًاس للمفهوم الفلسفي القديم قدم الفلسفة؛ مفهوم الهُوية، لنرى كيف أصبح لها تطبيقات معاصرة شديدة الوضوح. لقد أدى اعتقاد البعض بضرورة الحفاظ عليها بل والتشدد في التمسك بها في مقابل الـ«هم» إلى ما يعرف بالتعصب الهوياتي وهو ما يفسر صعود التوجهات اليمينية المتشددة في الكثير من المجتمعات الغربية، حيث أدى بهم الخوف على تماسك ومظاهر تسيد هوياتهم إلى تبني توجهات قيمية ومعاداة لفئات بعينها مثل النخب الحاكمة أو التقارب الأوروبي والإعلاء من قيمة القومية المرتبطة بالوطن والعداء للأجانب ورفض الأقليات والتعددية الثقافية والدفاع بعنف عن الهوية الإثنو-وطنية والدعوة للحد من الهجرة، لأن المهاجر في رأيهم يهدد تلك الهوية الإثنو-وطنية وهو السبب في البطالة والجريمة وغيرها من مظاهر عدم الأمن الاجتماعي. يشهد العقل الغربي نموًا لتلك الاتجاهات بشكل مطرد خلال العقد الأخير حتى باتت الأحزاب المعبرة عنه طرفًا رئيسيًا في المعادلات الانتخابية المتلاحقة وفاعلاً مؤثرًا في صياغة السياسات العامة والرأي العام الأوروبي. يفسر هذا التشدد في التمسك بالهوية الأحداث العنصرية التي استهدفت مسلمين في دول أوربية وفي الولايات المتحدة. كذلك لا يختلف الأمر – مثلًا- عند تحليل أسباب مهاجمة جماعة «الفولاني» لجماعة «أدرار» في نيجيريا في ابريل 2019، حيث يُعد الأمر هنا دليلاً على تأثير التطرف الهوياتي في بعض الجماعات وهو ما سمح بظهور متطرفين لا يرفعون الراية الدينية، ويقدسون أسس أخرى للانتماء والهوية الجماعية تشرعن لهم التحرك ضد الآخر الذي أصبح يشكل تهديدًا وخطرًا عليهم أو على الاستقرار الوطني والسلام المجتمعي[14]. يمثل الإرهابي الأسترالي برينتون تارانت (28 سنة) الذي قام بمذبحته الشهيرة في الخامس عشر من مارس 2019 ضد مسلمين يؤدون شعائر صلاة الجمعة في مدينة كريست تشيرش في نيوزيلندا والتي راح ضحيتها خمسون مسلمًا من جنسيات مختلفة تعبيرًا جليًا عن هذا التشدد الهوياتي. ففي البيان الذي سبق الحادث والذي وصل لنحو ثلاث وسبعين صفحة أكد تبرير ما سيقوم به، فيقول «إن المسلمين بمثابة غزاة .. سوف يلفت وقوع هجوم في نيوزيلندا الانتباه إلى الحقيقة التي تشير إلى الاعتداء على حضارتنا. هؤلاء الغزاة موجودون في جميع أراضينا» ثم يقول إن هذا الحادث يهدف إلى «إقناع الغزاة أن أراضينا لن تصبح لهم أبدًا .. أتمنى أن أستطيع فقط قتل أكبر عدد ممكن من الغزاة والخونة أيضًا». رأى تارانت أنه بهذا الفعل يضمن مستقبل وجود أطفالهم، وأن هذا العمل ناتج عن خوفه على الهوية الغربية التي يراها تذوب أو تتراجع سيطرتها وتأثيرها عالميًا. جاءته هذه الفكرة عندما وقف ذات يوم خارج البوابة الأمامية للمركز التجاري في فرنسا ورأى مقابل كل رجل فرنسي أو إمرأة فرنسية سيلاً من “الغزاة” يدخلون المركز. أثار هذا المشهد مشاعره فترك المدينة وتكونت عندئذ لديه فكرة الدفاع عن الهوية[15].
في مقابل هذا التشدد الذي نتج عن اعتقاد خاطئ يفهم الهوية على هذا النحو، اكتسبت فكرة التسامح الديني أهمية بالغة في القرن السابع عشر في أوروبا، وذلك إبان حركة الإصلاح الديني في الكنيسة الغربية في القرن السادس عشر التي قسمت أوروبا إلى معسكرات دينية متنازعة وهو ما أدى إلى نشوء حروب أهلية وخلق عداءات وكراهيات دينية. قاد الإصلاح – أو الثورة الدينية في الكنيسة الغربية- مارتن لوثر(1483 – 1546) وجون كالفن ( 1509 – 1564). أسست هذه الحركة- والتي كان لها تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية بعيدة المدى- للمذهب البروتستانتي(أحد الأفرع الثلاثة الرئيسية للديانة المسيحية). ما دعا لخروج هذه الحركة من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أن الحياة داخل الكنيسة قبيل حدوث هذه الحركة كانت قد أصبحت شديدة التعقيد. أصبحت الكنيسة تتدخل في الشؤون السياسية بشكل متزايد. أدى الفساد السياسي والمؤامرات وصكوك الغفران والتزايد المستمر لقوة الكنيسة في الحياة السياسية في أوروبا أن بدأت الكنيسة تفقد دورها كقوة روحية[16].
وقد عاصر الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في هولندا نشأة دولة علمانية تسمح بالاختلافات الدينية، وهي الدولة التي نشأت كرد فعل لكراهية الكاثوليك للبروتستانت وإساءة معاملتهم. ورغم أن هنري الرابع في فرنسا وقّع مرسوم نانت edict of Nantes والتي بموجبها منح البروتستانت الفرنسيين حقوقاً في الدولة، إلا أن لويس الرابع عشر ألغى هذه الاتفاقية عام 1685 وهي السنة التي بدأ فيها جون لوك كتابة الرسالة الأولى في التسامح الديني، وهو ما أدى إلى إساءة معاملة البروتستانت الفرنسيين Huguenots الذين رحلوا في جماعات ضخمة.
أما في إنجلترا فقد كان الصراع الديني عنوان القرن السابع عشر، وهو الصراع الذي أدى في النهاية إلى الحرب الأهلية. والحقيقة أن تحديد موقع جون لوك من التسامح الديني مسألة ليست سهلة. بالطبع كان للدين وخاصة المسيحية تأثيره الأكبر في فلسفة جون لوك. ولكن لأي طائفة من المسيحية كان ينتمي لوك؟ ظل لوك حتى وفاته يقول أنه ينتمي للكنيسة الانجيلية Anglican بينما زعم البعض أنه ينتمي لطائفة المساحية latitudinarianism (وهي احدى طوائف البروتستانت الأكثر تسامحاً التي ترى أن التمسك بتعاليم معينة وممارسات خاصة ليس ضروريًا بل ربما كان مضرًا بصورة أكبر). ظل لوك يكتب عن التسامح الديني منذ 1659. وقد رأى لوك بعينيه الجموع وهي تهرب من فرنسا وذلك عندما ألغى لويس الرابع عشر اتفاقية مرسوم نانت Edict of Nantes. ورغم أن لوك لم يقصر حديثه في التسامح الديني عما يحدث في وقته، وأعطى تنظيرًا لمبدأ التسامح الديني نفسه بصفة عامة، إلا أن تنظيره كان مختلطًا بحجج تنطبق على المسيحية فقط، بل وأحيانًا خاصة بالبروتستانتية فقط. لم يدرج لوك الكاثوليك ولا الملحدين ضمن الطوائف التي يجب أن نتسامح معهم. ربط لوك تسامحه الديني برؤيته للحكومة المدنية. الحياة والحرية والصحة والممتلكات اهتمامات مدنية وحقوق طبيعية. من حق الحكومة المدنية أحيانًا التدخل بالقوة لحماية هذه الاهتمامات. أضاف لوك لهذه الحقوق الطبيعية حريتي في اختيار الطريق الذي من خلاله أعبد الله. وبالتالي ليس من حق الدولة إجبار أي إمرئ على طريق معين لعبادة الله أو إجباره على الإيمان باعتقادات معينة.
ولنأخذ فكرة العدالة بين الأجيال التي نشأت عن ملاحظات واقعية ثم تحولت إلى فكرة فلسفية لها حجج تناصرها وأخرى تفندها، ثم صار لها تطبيقات كثيرة أشهرها تطبيقات فكرة التنمية المستدامة. مع بداية عصر التصنيع، بدأ المفكرون والعلماء يلاحظون تأثر البيئة بأشكال التلوث المختلفة كما أدركوا الضرر الذي أحدثه وسيحدثه التلوث الناتج عن التصنيع. انتقل الاهتمام بالبيئة نقلة مهمة في القرن العشرين مع صدور كتاب ريتشل كارسون Rachel Carsonالربيع الصامت the Silent Spring 1962 ، إذ لاحظت عالمة البحار الأمريكية أن الطيور التي كانت تملأ فضاء مدينة ما في الولايات المتحدة رحلت ولم تعد تغني في الربيع كما كانت وأن الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية ومعظمها كان ساماً مثل ال دي دي تي DDT أدى إلى تدمير في نسق الطبيعة بأسره وليس فقط إلى هروب الطيور. ولقد ترك نشر صورة الأرض من الفضاء كبلورة زرقاء كبيرة أثرًا رائعًا في القلوب. هذا الانطباع والصورة التي جاءت عن الأرض تُرجمت إلى إجراء عملي في العقد التالي مباشرة عندما عُقد مؤتمر البيئة الأول للأمم المتحدة في ستوكهولم 1972. نتيجة لهذا المؤتمر أسست الجمعية العامة برنامج الأمم المتحدة للبيئة في ديسمبر من العام نفسه. في 1983 دعا السكرتير العام للأمم المتحدة دكتور جرو هارلم بروندلاند Brundtland رئيس وزراء النرويج السابق- وكان طبيبًا في الوقت نفسه- إلى تأسيس ورئاسة لجنة دولية في التنمية والبيئة. في أبريل من عام 1987 -نشرت لجنة بروندلاند- إذ هكذا أصبح اسمها تقريرًا حمل عنوان «مستقبلنا المشترك – Our Common Future » وهو التقرير الذي جعل مصطلح (التنمية المستدامة) من وقتها مصطلحًا متداولاً وشائعًا. «التنمية المستدامة» وفقًا لتقرير بروندلاند هي التنمية التي تفي بحاجات الجيل الحالي دون أن تؤثر على قدرة الأجيال المستقبلة في الوفاء بحاجاتهم».
يمكن صياغة التساؤل الفلسفي الذي لفت الانتباه إلى فكرة العدالة بين الأجيال على النحو التالي: ألا يمكن أن يؤثر التصنيع الكثيف على تلوث البيئة وبالتالي يحقق نفعًا للجيل الحالي وضررًا للأجيال التالية؟ ألا يمكن أن يؤثر أيضًا التصنيع الكثيف في كم وكيف الموارد الطبيعية فيؤدي إلى انقراض بعض الأنواع الطبيعية وبالتالي يترك الأرض وقد اختل التنوع البيولوجي فيها، وهو ما قد يضر بالأجيال التالية؟ أليس من حق الأجيال التالية أن ترث الأرض بالثراء والنقاء والتنوع الذي ورثناه نحن؟ تم التمييز- في إطار الجدال الفلسفي الذي دار حول هذا الموضوع- بين الاستدامة بالمعنى القوي strong sustainability والاستدامة بالمعنى الضعيف weak sustainability. يرى أدعياء الاستدامة بالمعنى القوي أن هناك عناصر في البيئة الطبيعية لا يجب على النمو الاقتصادي أن يتلفها أو يدمرها. هذه العناصر لا يمكن تعويضها وتشكل أهمية بالغة لرفاه الإنسان والتنوع البيولوجي في كوكب الأرض. ينكر أدعياء الاستدامة بالمعنى الضعيف القول إن هناك عناصر طبيعية لا يمكن الاستغناء عنها. ذلك أنه ما دام أن قدرات الانسان تتطور، فإنه قادر بالتكنولوجيا المتطورة باستمرار أن يعوض فقدان أي عنصر طبيعي يكون قد انقرض[17]. على هذا النحو اتفق أدعياء الفريقين على ضرورة تحقيق العدالة بين الأجيال وإن كانا قد اختلفا في سبل تحقيق ذلك.
يقول البعض إن الفيلسوف حين يُنظّر لا يهدف إلى التطبيق، بل هدفه الرئيس هو التنظير والمعرفة الخالصة ليس إلا. غير أن الرد على هذا القول يتمثل في التأكيد على أن هذا لا يمنع من أن لتنظيراته تطبيقات بالضرورة. وهل إنكار البعض فعل التفلسف الفطري في كل منا يمنع كون كل منا فيلسوفًا بالضرورة؟ هدف التنظير بالمثل لا يمنع أن لنتائج التنظير تطبيقاته واستخداماته.
ما يمكن أن أضيفه قي هذا السياق أننا يجب أن نخرج من هذا لضرورة التفلسف؛ ضرورة إثارة الأسئلة والبحث عن الإجابات، واضعين في أذهاننا أن الاجابات ستكون ذات مردود تطبيقي. من هنا علينا أن نبحث عن الأسئلة التي تناسب مرحلتنا التاريخية الراهنة وكذا الإجابات، حتى لا يكون عملنا ترفًا نمارسه ولكن توظيف حقيقي لدور الفلسفة في المجتمع وفي خدمة الإنسانية.
========
لقد بيننا كيف أن الفلسفة تطبيقية في جوهرها، وأن القول بأن الفلسفة نظرية بحتة، هو من الأقوال التي تحتاج إلى مراجعة، فالأفكار تترجم بالضرورة إلى سلوك وأفعال. وهنا يجب أن نلاحظ أن غياب هذا الفهم للفلسفة قد أدى في عالمنا العربي إلى التراجع الحاد في التنظير للمشكلات التي تواجه بيئتنا العربية والإسلامية. وقد يكون غياب التنظير عائدًا في المقام الأول إلى عدم التدرب عليه نتيجة سيادة ثقافة التلقين على حساب الاهتمام بالجوانب الإبداعية والابتكارية. من جهة أخرى انتشرت أشكال الفكر المتطرف المنغلق وما نتج عنها من أفعال وخطط ولم تجد من يقف في وجهها أو يقارعها الحجة بالحجة. وبالطبع احتلت التفسيرات الخرافية والأسطورية مكان الصدارة لدى الكثير وغاب التفكير الناقد والتحليل المبنى على أسس عقلانية واضحة. فهل آن الأوان أن نبدأ فهمًا جديدًا لدور الفلسفة ندخل به عصرًا جديدًا نحل به مشكلاتنا الخاصة بمفاهيم ونظريات خاصة بنا؟!
————————————–
[1] Stevenson, L. 1970. “Applied Philosophy.” Metaphilosophy 1(3): 259 in Lippert-Rasmussen, K. (ed.) 2017. A Companion to Applied Philosophy. First Edition. John Wiley &Sons. Ltd. P.5
[2] Lippert-Rasmussen, K. (ed.) 2017. Introduction in A Companion to Applied Philosophy. First Edition. John Wiley &Sons. Ltd. P.5,6
[3] Ibid., p.7
[4] Ibid., p. 10
[5] ibid
[6] Ibid., p.13
[7] Ibid., p. 15
[8] هنري برجسون، بحث في المعطيات المباشرة للوعي، ترجمة الحسين الزاوي، بيروت، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2009. ص 148.
[9] Markie, Peter, “Rationalism vs. Empiricism”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2017/entries/rationalism-empiricism/>. https://plato.stanford.edu/entries/rationalism-empiricism/ تم الدخول بتاريخ 20 أغسطس 2019
[10] Philosophy of science, in https://web.stanford.edu/class/symsys130/Philosophy%20of%20science.pdf تم الدخول بتاريخ 7 سبتمبر 2019
[11] وليم جيمس ايرل ” مدخل إلى الفلسفة” ترجمة عادل مصطفى، مراجعة يمنى الخولي، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 2011. ص 204
[12] المرجع السابق، ص 206
[13] Philosophy of Language, in New World Encyclopedia. Last modified 25 March 2019 In https://www.newworldencyclopedia.org/entry/Philosophy_of_language تم الدخول بتاريخ 26 أغسطس 2019
[14] باسم رزق عدلي مرزوق “تصارع الهويات في العالم وبنية العقل الإرهابي” ملحق “اتجاهات نظرية” مجلة السياسة الدولية، العدد 217، يوليو 2019، ص 16.
[15] المرجع السابق نفسه، ص 17
[16] Petruzzello, M. (2019). Reformation: Christianity. ENCYCLOPEADIA BRITANNICA. In https://www.britannica.com/event/Reformation تم الدخول بتاريخ 14 سبتمبر 2019
[17] Darwish, B.(Spring 2009). Rethinking Utilitarianism. In Teaching Ethics. Vol. 10, No.1. p. 104
المراجع العربية
أحمد ناجي قمحة ” في الأمن القومي: الهوية والفكر والثقافة في مواجهة تعقيدات العلاقات الدولية” مجلة السياسة الدولية، العدد 315، يناير 2019
باسم رزق عدلي مرزوق “تصارع الهويات في العالم وبنية العقل الإرهابي” ملحق “اتجاهات نظرية” مجلة السياسة الدولية، العدد 217، يوليو 2019
هنري برجسون، ” بحث في المعطيات المباشرة للوعي” ، ترجمة الحسين الزاوي، بيروت، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2009. https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D9%87%D9%86%D8%B1%D9%8A-%D8%A8%D8%B1%D8%BA%D8%B3%D9%88%D9%86-pdf تم الدخول بتاريخ 15 أغسطس 2019
وليم جيمس ايرل ” مدخل إلى الفلسفة” ترجمة عادل مصطفى، مراجعة يمنى الخولي، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 2011
المراجع الأجنبية
Darwish, B. 2009. Rethinking Utilitarianism. In Teaching Ethics. Vol. 10, No.1
Lippert-Rasmussen, K. (ed.) 2017. Introduction in A Companion to Applied Philosophy. First Edition. John Wiley &Sons. Ltd
Markie, Peter, “Rationalism vs. Empiricism”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2017/entries/rationalism-empiricism/>. https://plato.stanford.edu/entries/rationalism-empiricism/ تم الدخول بتاريخ 20 أغسطس 2019
Petruzzello, M. (2019). Reformation: Christianity. ENCYCLOPEADIA BRITANNICA. In https://www.britannica.com/event/Reformation تم الدخول بتاريخ 14 سبتمبر 2019
Philosophy of Language, in New World Encyclopedia. Last modified 25 March 2019 In https://www.newworldencyclopedia.org/entry/Philosophy_of_language تم الدخول بتاريخ 26 أغسطس 2019
Philosophy of science, in https://web.stanford.edu/class/symsys130/Philosophy%20of%20science.pdf تم الدخول بتاريخ 7 سبتمبر 2019
Stevenson, L. 1970. “Applied Philosophy.” Metaphilosophy 1(3): 259 in Lippert-Rasmussen, K. (ed.) 2017. A Companion to Applied Philosophy. First Edition. John Wiley &Sons. Ltd. P.5