مقالات

معنى أن تكون وحيدًا

آية طنطاوي

بين غربة المساحات المحيطة وصمت الجسد، خُلقت الوحدة. تقف على حافة المشاعر وتمتد للجدران المصمتة، يمكنك أن تشعرَ بها وتراها، أن تلامسَ أطرافها كأطيافِ حلمٍ ليس بالبعيد. ولأن الوحدةَ شعورٌ حميم هناك دومًا من يتلصص عليها، من يرصدُها بعين قلقة وقلب شجيٍّ. يعرفنا الفنُّ على الكثير من الوحيدين، فقط لأنهم وحيدون، ولأننا نتماس مع وحدتهم الصامتة كجرح آلمنا يومًا وما زال يحفر بداخلنا ندوبه.

في حديث الباحثة «إيف كوسوفسكي» عن المشاعر، تستبصر الرابطَ الوثيق بين الانفعالات والملمس، إذا تأثرْنا بشيءٍ ما فهو يلمسنا من الداخل، وإذا تلامسنا يثير فينا اللمسُ شعورًا ما، ومن هنا تتولد المشاعر على اختلافها. يعيدني التفكير في الشعور بالوحدة بغياب الملمس، يفكر الفيلسوف «بريان ماسومي» في علاقة الشعور بحركات الجسد، يقول: «الجسد يتحرك بينما يشعر، ويشعر بينما يتحرك». بإمكاني الآن أن أتأمل الوحدة، وأن الوحدة تتولد لأننا لا نجد شيئًا يلمسنا، يتحول الجسد إلى كتلة صامتة تخبئ طبقاتٍ من الوحدة لأنه لم يُلمس، فيبقى الجسدُ وحيدًا لا يتحرك، يخشى الاختلاطَ بالجموع لأنه منغمس في وحدته، هو جالس دومًا أو منزوٍ في أكثر الأماكن ظُلمةً؛ لأنه غير مرئيٍّ لم يُمس. للأجساد خرائط يرسم التيه حدودها.

إذا أمعنا النظر في اللوحة السابقة للرسام الأمريكي «إدوارد هوبر» نجد امرأةً وحيدة تحتسي قهوتها الخاصة في مطعم (Automat) وهو عنوان اللوحة نفسه. من بين زحام مرتادي المطعم وصخب الأجواء المحيطة اختار هوبر أن يرسم امرأةً وحيدة مع كوب من القهوة، ترتدي معطفًا شتويًّا يمزج بين اللون الزيتي والأسود، وفي خلفيتها يفترش الأسودُ زجاجَ المطعم كأنه انعكاس للداخل، تبدو المرأة الوحيدة جزءًا من هذا السواد، امتدادًا آخر له، لا يعكس الزجاج جسدَها بل سوادها، ويتبدل لون الوحدة عند هوبر من الأزرق إلى الأسود. اشتهرت لوحات هوبر بثيمة الوحدة، هناك دومًا أجسادٌ وحيدة، تجلس دومًا ولا تتحرك، محاطة بنفسها في المطاعم، والقطارات، وفي الساحات الخلفية للبيوت، وداخل الغرف، كلما وُجد الناس في لوحات هوبر وُجدوا وحيدين.

يحلُّ الصمت رفيقًا للوحدة، ممارسة ذاتية نعيد فيها تدوير مشاعرنا وهواجسنا تجاه الضجة حولنا، ثم فجأة تتحول الأصوات إلى آلات صامتة في انتظار العازفين، يتحول الصمت إلى نغمة مصاحبة لكونك وحيدًا. يمكنك الآن أن تراقبَ المرأة في لوحة هوبر فتصغي إلى صمتها، حينها ستدرك أنها في لحظة شديدة الوعي بذاتها الوحيدة بين الجموع.

«كل الناس الوحيدة، من أين أتوا؟

كل الناس الوحيدة، إلي أين ينتمون؟»

تباغتنا قسوةُ السؤال في أغنية «إليانور رجبي» لفرقة البيتلز البريطانية. اسمها إليانور، هي شخصيةٌ متخيَّلة فرضت حضورها على «بول مكارتني» وهو يكتب كلمات الأغنية، هي ليست حقيقية لكنها وحيدة، تجمع حبات الأرز المتناثر على أرضية الكنيسة بعد انتهاء مراسم زفافٍ ما، رحل الجميع وتركوها وحدها، ربما لم يلتفتْ أحد لوجودها من الأساس. على الجانب الآخر في مكان ما في العالم، في ليلة غائمة، يكتب الأب ماكنزي موعظةً لن يسمعها منه أحد؛ لأن أحدًا لا يأتي لسماع مواعظه؛ لكنه رغم كل شيء يكتبها بشيء من العزاء والكثير من الوحدة. «إليانور رجبي» هي مرثية للوحدة، يجتمع فيها أناس وحيدون، ولا يشعر بقسوتها سوى الوحيدين حول العالم. يستدعي بول مكارتني ذكريات كتابة هذه الأغنية، لم يكتبها مكارتني دفعةً واحدة بل التقطها من مواقف متفرقة ومشاعر غير مكتملة، بعد أن اختار اسم إليانور رجبي تخيلها امرأة عجوزًا تجمع حبات الأرز من أرض الكنيسة، عجوزًا ووحيدة كزهرة يحاصرها الخريف.

«كانت الوحدة أن تجد نفسَك فجأةً في العالم كما لو أنك أتيت من كوكب آخر لا تعرف لماذا طردت منه» – خوان خوسيه مياس

يخدعنا فيلم (Lost in translation) بمقصد قصته، في بداية الأمر تظن أنها تتبع لرحلة بطل الفيلم، ذلك الممثل الأمريكي “بوب” الذي يسافر إلى اليابان ليشارك في عدد من الأعمال الدعائية هناك؛ لكننا ننجرف معه كنسمات الهواء لنقف مشدوهين أمام معنى أن تكون غريبًا ووحيدًا في عالم لا يشبهك، وحيدًا بلا مشاعر.

ترتبط المدن بالوحدة، كأننا مغلفون بالمدن لتغلفنا بالوحدة. من ارتفاع برج عالٍ يطل على اتساع مدينة طوكيو تجلس البطلة «شارلوت» محتضنة نفسَها بصمت. في إحدى النهارات الغائمة تسير البطلة في شوارع طوكيو، كل الناس متشابهةٌ وغريبة عنها، لا مجال للرفقة هنا، هنا في طوكيو وهنا في هذه المرحلة من حياتها. جاءت البطلة برفقة زوجها في سفرة عمل، الزوج مشغول عنها طيلة الوقت وتبقى هي مع وحدتها بصمت. تلقي بها الصدفةُ في طريق الممثل «بوب» الذي يشعر أيضًا بالوحدة وغياب التواصل؛ لأنه لا يتقن الحديث باليابانية ولا أحد حوله يجيد الحديث بالإنجليزية. في كتاب المدينة الوحيدة تقول أوليفيا لاينج: »بدأت أدرك أن الشعور بالوحدة أشبه بمكان مأهول بالسكان، بل إنه مدينة بحد ذاتها«. يمكننا تشبيه مدينة طوكيو بالوحدة، وأبطال الفيلم سائرون في زحام الوحدة، في ضجيجها ومتاهاتها السرية، ويمكننا أيضًا تشبيه عواصم العالم كلها بالوحدة، نسير فيها وتسير فينا.

تتشكل ذواتنا من علاقة أجسادنا بالداخل والخارج، المشاعر والناس والأشياء، كلما اتسعت الفراغات المحيطة بيننا، وتمددت خلسةً إلى داخلنا؛ افترشت الوحدةُ موضعًا تتكئ فيه على هواجسنا. في فيلم «فيلا 69» يعيش حسين وحيدًا في بيته المكون من طابقين وذكريات غابرة، اختار الوحدة وأشباحها رافضًا أن يتماهى مع العالم من حوله، يغلف نفسَه بصلابة الطبع وقسوة المشاعر كي لا يكشف هشاشة الداخل، حسين هش ووحيد للغاية.

تطورت حالة حسين النفسية، يقضي جلسات متخيلة مع أصدقاء الماضي، لم يعد قادرًا على فصل الواقع عن الخيال؛ لكن خيالاته تخبرنا أن شبح الوحدة لا يغادره إلا بحضور أصدقائه المتخيلين. في اللحظة التي تقرر فيها أخته نادرة أن تقيم معه لترعاه يرفضها، يألف الوحيدون الغرف المؤصدة وظلالهم الوحيدة تحت شموع الليل، يمقتون صخب الأصوات والحركة من حولهم، تفرض الوحدة عليهم موسيقى خاصة لن يطرب لها أحد. يزداد انفعال حسين في وجود أخته معه في البيت، أما أصدقاؤه المتخيلون فلم يعد استدعاء حضورهم سهلاً كما في السابق. في نهاية الفيلم، وفي اللحظة التي يقرر فيها حسين أن يغادر كآبة البيت إلى براح الخارج يدرك أن الكثير من العمر فاته وهو حبيس جدران الوحدة، يطالع الحياة من حوله بعيون مشدوهة وروح يافعة، وعقله يردد موسيقى مختلفة، لم يعد للوحدة مكانًا في صحبة الحياة التي يقرر حسين بعد عناء أن ينسجم مع نسماتها في نهار يوم ساطع.

يعيدنا الفنُّ إلى الوحدة كمفهوم وشعور غائم، هل معنى الوحدة أن نكون بلا رفقة؟ أم أن الوحدة شعور بانعدام التواصل يصاحبنا في حضور الآخرين؟ أم أن الوحدة تتجلى عندما نكون غير مرئيين؟ يمكننا أخذ نفَسٍ عميق الآن، ثم نعترف أن الوحدة هي كل ما سبق، الوحدة أن تكون رفيق نفسك، أن تفقد معنى الشعور بحميمية الآخر وافتقادك له، الوحدة ألا ترى سوى انعكاس ظلك في نهار يوم يعج بالحياة. الوحدة هي مراقبة الوحيدين في اللوحات والأفلام والأغاني لنقول: «أعرف هذا الشعور جيدًا، أنا مثلهم تمامًا، هائم في غيمة من الوحدة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى