
- من المهارة إلى الفكرة:
ليس للفن حضور أزلي ولا يتجه لنهاية محددة؛ كونه خاضعًا بدوره لقانون التطور، متغيرًا ومتحوّلًا مع مرور الوقت والأزمنة؛ إذ مع تتابع المراحل وتواليها تراكمت لدينا مفاهيم عدة للفن، تغيرت مع تغير رؤية الإنسان للفن ودوره. فقد عُدَّ الفن “مهارة” ومن ثم “أمرًا ذهنيًّا” و”جمالًا” و”وسيلةً تعبيرية” و”انطباعية” و”شكلانيًّا” و”غاية في ذاته”… وغيرها من المفاهيم التي قد يصعب حصرها. وإنْ بدت هذه المفاهيم على أنها متعارضة ومتناقضة فيما بينها؛ إلا أنها تمنح مفهوم الفن مرونةً كبرى؛ ما يسمح له بالقدرة على التكيّف مع مختلف الممارسات؛ وبالتالي تغيير جلده حسب الظروف التاريخية والمكانية.
اختلفت – حسب كل مرحلة زمنية – تفاسيرنا للغرض الفني تبعًا لمفهوم الفن في العصر الذي صُنع فيه، ففي العصر الكلاسيكي اصطلحنا على أن الأغراض فنية لأنها تحوي مهارة وإتقانًا من لدن صانعها (=الفنان!)، بينما في الحقبة الحداثية اصطلحنا على الغرض بأنه فني لأنه يحمل بعدًا تعبيريًّا أو انطباعيًّا صادرًا عن دواخل الفنان… وفي عصر ما بعد الحداثة قد تتعدد صيغ اصطلاح صفة الفنية على الغرض؛ لكن تبقى أهمها هي حمله للفكرة (التصوّر، المفهوم…) التي نودّ منه أن يحملها؛ إذ لم يعد العمل الفني مقيمًا في الغرض بل في الفكرة – والمفهوم – التي نود إبرازها.
هذا التنوع الذي لا يلغي أجزاءه بعضها بعضًا، هو الذي يجعلنا نتحدث عن تعدد التأويل وتضاعفه (بتعبير أمبيرتو إيكو)، ويجعلنا بالمقابل قادرين على المناقشة ومطارحة الأفكار حول الفن بعدِّه مرآةً لتصور العالم و”صناعته”.
ويذهب التوجه السوسيولوجي إلى عدِّ الأفكار على أنها “وسيلة” التواصل بين الناس، وهي ثمار التفاعل بينهم، وبين تجاذباتهم والعلاقات التي يبنونها فيما بينهم؛ وبالتالي فالأفكار نتاج البنَى الاجتماعية التي تظهر فيها. ومنه فإنْ تغيرت هذه البنى تتغير الأفكار. وما دام الفن نتاجًا لأفكار صانعه وعصره، فمن الإلزام بتغيّر الأفكار يتغير تصوّر الفن ومفهومه؛ وبالتالي، ومن هذا المنظور، تُشكّل الأشياء التي يُطلق عليها “قطع فنية” -دائمًا- جزءًا من العالم الاجتماعي، حتى لو ادعت بعض الأطراف المهتمة أنها توجد بطريقة ما في مكان “أرفع” أو “ما وراء” المجتمع في عالم أسمى. هذا هو مكمن معارضة علم الاجتماع لعلم الجمال الأكاديمي، كما يوضح بيير بورديو[1]، وإن اتفقنا مع هذه الرؤية أو لم نفعل، فإنها تظل تحمل في طياتها الكثير من “الحقيقة التاريخية” التي تطوّر عبرها مفهوم الفن. غير منفصل عن الأفكار الطبقة التي ترعاه خاصة، في كل حقبة معينة.
- من القاعدة إلى اللاقاعدة:
بنظرة خاطفة على التاريخ الحضاري وتاريخ تطور مفهوم الفن؛ نلحظ بأنه إلى حدود عصر النهضة كان من الصعب فصل الفن عن “المهارة” و”الحرفة”؛ إذ لم يكن للفنان أي استقلالية عن المؤسسة التي يعمل لديها، بكونه “ناجزًا” و”صانعًا” و”حرفيًّا”. ومع بروز مفهوم “الفنون الحرة” في عصر النهضة، غدا الفن أكثر ارتباطًا بـ”الثقافيّ” و”الذهني”؛ وبالتالي بات الغرض الفني غرضًا ذهنيًّا، لا غرضًا تزيينيًّا صنيع الحرفة؛ إلا أنه لم ينفصل عن “المهارة والإتقان”. وإن تتبعنا النظر إلى الفن بعين سوسيولوجية، سنجد أن فناني تلك الحقبة، ولكي يحظوا بمكانة رفيعة، كان عليهم أن يتقربوا من الأمراء والطبقة الحاكمة؛ ويكفي للتأكد من هذا الطرح أن نلقي نظرة على عدد اللوحات التي خُصصت لأمراء أوروبا. ومن جهة أخرى، فإن الغرض الفني ظل صنيعة يد الفنان وأدواته في مرسمه، إلى حدود منتصف القرن الماضي، حيث شكلت أعمال الفن جاهزة-الصنع (Ready-made) ثورةً على المفاهيم السابقة التي ظلت لصيقة الفن والغرض الفني من حيث إنه نتاج لعبقرية الفنان و”حرفيته”؛ إذ نُقلت الأشياء المبتذلة والمألوفة إلى عالم الفن؛ ما جعل الشيء الفني يفقد هالته القدسية، وصار “كل شيء فنًّا” كما قال مارسيل دوشان، فيمكن للأغراض كلها أن تتحول إلى أعمال فنية، فكل ما يلمسه الفنان يغدو عملًا فنيًّا، أو بتعبير فيرناندو بيسوا، إن أردنا القول: “لا وجود لأي قاعدة، كل الناس استثناءات لقاعدة لا وجود لها”؛ فقد اختفت القواعد وصارت “اللاقاعدة هي القاعدة”؛ ما يجعل من المهارة والمعرفة التقنية في الخلفية والمرتبة الثانية بعد التصوّر والفكرة، اللذين يقوم عليهما العمل الفني المعاصر في شقه الأكبر؛ ومنه لم يعد الفن أمرًا ذهنيًّا؛ بل مفهوميًّا، إن أردنا القول.
- صناعة الفن:
ما يجعلنا نخلص إلى أن مفهوم الفن لا يحدده الفنان وحده باعتباره الصانع الأول للغرض الفني الذي يتجسد عبره الفن؛ بل يدخل في ذلك الفاعلون الاجتماعيون كلهم الذين يحيطون بالفنان ويروجون ويبرزون العمل الفني إلى العالم، بما فيهم النقاد، باعتباره “صناعة استهلاكية”، بالمعنى السوسيولوجي. وهذا الأمر ليس مقتصرًا على الحقبة المعاصرة، حيث المؤسسات البنكية والرأسمالية الكبرى هي التي تحدد ما “الفن”(!!). فقد لعبت الكنيسة والنبلاء الدور نفسه الذي لعبه من بعدهما البرجوازيون؛ محددين ما يجب أن نصطلح عليه بالفن.
فهل بالتالي، حينما نحكم على غرض فني بأنه كذلك، يكون هذا الحكم نابعًا من رؤيتنا الذاتية؟ أم إننا معرضون إلى تحكم مباشر من الفاعلين البارزين (راعين ونقاد وعارضين…) في العالم الفني، عالم صناعة الفن، وهم من يصنعون آراءنا؟ ولكن أليس ونحن ندرس تاريخ الفن نجد الأمر عينه يتكرر في الحقب كلها؟ إذ وانطلاقًا من وجهة النظر نفسها، نلاحظ أن الأعمال الفنية ليست مجرد لعبة خيالات فردية، كما يذهب كلٌّ من لورينسون Laurenson وسوينغوود Swingwood، أو نزوة معزولة لعقل متحفز؛ بل باعتبارها ترجمةً للعادات المعاصرة، وتعبيرًا عن نوع معين من التفكير[2]؛ ما يجعلنا نقول إن مفهوم الفن لا يحتوي على تفسير موضوعي، ولا تتحكم به حقيقة اجتماعية ثابتة. إن التعبير عن الظرفية الفكرية السائدة، يتحكم بها براديغم paradigme العصر، الذي يحدد المعالم الكبرى للتفكير، باعتباره النموذج الأسمى.
- متى يكون لدينا فن؟
لقد تغيّر تساؤلنا عن “ما هو الفن؟” إلى “متى يكون لدينا فن؟”، وهو تساؤل جديد ينفتح على مشروع غير متناهٍ، من حيث إنه يضع الفن في “أزمة”، أزمة التحديد الذي لا يتوقف عند نقطة محددة. وفي الوقت نفسه قد فتح الحدود على الممارسات كلها، جاعلًا إياها منصهرة؛ إذ باستعارة تعبير هيرمان هيسه، يمكننا القول عن الحدود في الفن المعاصر، إنه “ما من شيء على الأرض أخسّ وأدعى إلى الغثيان من الحدود. إنها أشبه بالمدافع، أشبه بالجنرالات…”[3]. ما دفع بعضهم للقول إننا لم نعد نتحدث عن مفهوم “الفن” في ظل “موته”؛ بل عن “اللافن”، أي عن مفهوم جديد مغاير يقابل الفن باعتباره مفهومًا قديمًا “قد عفا عليه التاريخ”. بعيدًا عن هذا الطرح الذي يصعب الغوص فيه عميقًا في نصنا هذا، يمكننا أن نخلص إلى أن الفن باعتباره مفهومًا كونيًّا، قد طاله تغير جذري غير مسبوق، اخترق مكوناته وأضلاعه كلها؛ “فمع الفن المعاصر لم نعد إذن، بشكل نهائي، إزاء الفن الحديث“[4]. فلم نعد نتحدث عن الفنان بصفته صانعًا للفن، حِرفيًّا يرسم لوحاته الصباغية، باحثًا عن التناسق وعن الجمال في مركبات عمله، وهو يحاول محاكاة الطبيعة والواقع، ولم يعد هو ذلك الشخص العبقري الذي يمتلك موهبةً خارقةً تسمح له بأن يجسد ويعبر عن الخيال عبر تحفه الفنية والتي يعرضها في المعارض، من صنع يده. الفن موجود في كل شيء وفي كل مكان وحتى في “اللاشيء”، من حيث إنه وليد التصور والمفهوم، ويا لها من صدمة زلزلت عرش التصورات القديمة كلها للفن. وبالمقابل لم يعد الفنان هو ذلك الشخص القادم من المدارس الفنية أو الدارس للفن في ورش “معلّم”، فالكل فنان، والمجتمع بحد ذاته عمل فني، بتعبير جوزيف بويز.
ما يدفعنا للقول إننا لا يمكننا أن نفهم الأعمال الفنية إلا في إطار الثقافة التي صُنعت فيها، هكذا تخبرنا الرؤية السوسيولوجية؛ لكن ألا يمنع هذا القول إمكانية التأويل اللامتناهي والمضاعف (المفرط Over-interprétation)؟ وذلك في ظل الحديث عن ثالوث القصدية: قصدية المؤلف وقصدية العمل وقصدية القارئ[5]؛ ما يعني أن العمل الفني يظل يحمل معه إمكانية تأويله. وهذا ما يكسب الأعمال الفنية كلها حياتها. لننظر للكيفية المذهلة التي أعاد بها ميشيل فوكو قراءة “لوحة الوصيفات” لفيلاسكيز، لنتبيّن ذلك[6].
- الشِفرة الخفية:
لا بد أن نضيف ها هنا، بأن حياة كل عمل فني تكمن في احتوائه على سننٍ codes، تتحوّل عبر مرور الزمن إلى رموز؛ لكن ماذا عن الأعمال المعاصرة والمفاهمية؟ إن سننها في التصور الذي نشأت عنه والأفكار التي أثارتها والتي تظل تثيرها، مثالًا على ذلك أعمال فناني فن الأرض land art، التي تختفي مع عوامل الطبيعة.
- نعم للنقد، لا للحكم:
في شق آخر، يبقى الحديث عن أن أي قول بأن “هذا فن” أو “هذا ليس فنًّا” إصدارًا لحكم قيمة نابع إما عن ذاتية خالصة أو رؤية اجتماعية تتحكم بها عدة قوى، تجعل الفرد يصدر الحكم بإلغاء صفة الفن عن أغراض معينة؛ وبالمقابل، حينما نقول: “هذا عمل فني” فإننا نهب صانعه صفة “فنان”، وفي السياق نفسه فحينما نقول بـ”إن هذا الشيء ليس عملًا فنيًّا”؛ فإننا نزيل عن صاحبه صفة “الفنان”؛ لهذا يقع العديد من الناس اليوم أمام صعوبة الاعتراف بالأعمال المعاصرة على أنها أعمال فنية؛ لأنهم محكومون بثقافة محيطهم الاجتماعي، تلك الثقافة التي تحدد لهم “طريقة فهمهم للعالم”؛ ولتتضح الرؤية، فقد كانت الأعمال الفنية كلها في الحقبة الرومانسية تحمل روح ثقافة وقيم النبالة والشجاعة السائد في ذاك العصر. فأمام هذا “الحكم القيمي”، دعا بعض علماء الاجتماع إلى تغيير مصطلحاتنا؛ إذ بدل الفن يُقال “الأشكال الثقافية”، وبدل الأعمال الفنية يقال “المنتوجات الثقافية” وبدل الفنانين يقال “المنتجون الثقافيون”.
- العالم فنٌّ:
إننا بالتالي، وأمام تغيرات كبرى عاشها الفن عبر تاريخه كله، يمكن أن نخلص إلى القول إن هذا المفهوم السامي والصعب على الإمساك والتحديد، يغيّر جلده من حقبة إلى أخرى مكيّفًا نفسه حسب الظروف الجديد التي تتولد بفعل التغيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية… إلا أنه يظل وسيلتنا لمعرفة العالم وتصوره؛ بل لن يكون العالم ممكنًا إلا عبر وضعه موضع الفن؛ من حيث إنه إبراز لحقيقته المتعددة والقابلة للتأويل؛ إذ من المهم النظر إلى الفن باعتباره جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، إن لم يكن إحدى ركائزه الأساسية؛ بل إنه لوسيلة وفعل لتوجيه المجتمع نحو عملية النقد لا إلى الاهتمام بـ”الجميل” في العمل، من حيث إن العمل الفني لا يتخذ صفته الفنية من “الجميل” فحسب، (إننا أيضًا، نتحدث عن استتيقا القبيح والرعب والحرب والخراب…)؛ ما قد يلغي عنه دوره التكويني والبنائي والثقافي للمجتمع. طبعًا ليس بالمعنى الماركسي للفن؛ لكن دونما إلغاء دوره الاجتماعي في خلق فضاءات المناقشة والحوار؛ إذ إن العمل الفني يتحول إلى منصة وآغورا وساحة لا متناهية للمناقشة والجدال ومطارحة الأفكار. فالفن ليس نتاجًا لتلك الأعمال التي يعرضها فنان موهوب، بالمعنى الضيق؛ بل إنه لَخرق لهذا الأمر كله ويتجاوزه، من حيث إنه يقيم في اليومي والآني، أي في “الآن والهنا” بدوام التغيّر والتحوّل.
الفن موجود في كل لحظة من حياتنا؛ إننا جميعًا نصنع الفن بشكل لا واعٍ بطريقة من الطرق؛ حيث يصير المجتمع كله فنانًا واحدًا أو عملًا فنيًّا في الآن نفسه. ولم يكن الفن قط معزولًا عن تطور الإنسان وتقدمه، لقد كان على الدوام، حاضرًا بأشكال مختلفة في اليومي والمعيشي وما زال؛ لهذا مهما تطور مفهوم الفن فإنه لم يستقل أبدًا عن المعيشي واليومي والمجتمع.
[1] ديفيد إنغليز وجون هغسون، سوسيولوجيا الفن، طرق للرؤية، ترجمة: ليلى الموسوي، عالم المعرفة، عدد يوليو، 2007، ص 33.
[2] نفسه، ص 45.
[3] هيرمان هيسه، تجوال، ترجمة: طاهر رياض، منشورات أزمنة، ط. 1، عمان – الأردن، 1990، ص 7.
[4] Nathalie Heinich, Le paradigme de l’art contemporain, éd. Gallimard, Paris, 2017, p. 33.
[5] راجع: أمبيرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، ط. 3، الدار البيضاء، 2016. & أمبيرتو إيكو، التأويل والتأويل المفرط، ترجمة: ناصر الحلواني، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2017.
[6] انظر كتابه: الكلمات والأشياء، ترجمة: فريق جماعية، منشورات مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، 1990.