“عندما ندرس التاريخ فإننا، على عكس الميتافيزيقيين، نسعد، لا لما نكشفه من نفس خالدة ترقد فينا، وإنما لما نحمله من أنفس فانية بين جنبينا “
ف .نيتشه
“هناك استعمال آخر للتاريخ: إنه التقويض الدّائم لتطابقنا، ذلك لأنّ هذا التّطابق، الوهِن بالرغم من كل شيء، والذي نحاول أن نؤمّن عليه ونحفظه خلف قناع، ليس إلا افتعالا: فالتعدد يقطنه، ونفوس عدة تتنازع داخله، والأنظمة تتعارض، ويقهر بعضها بعضا”
م. فوكو
“الذّاكرة قدرة على استبعاد الماضي، لا على استعادته”
ج. دولوز
في “الاعتبارات في غير أوانها-2” التي تحمل عنوان: “في منفعة التّاريخ للحياة ومضرّته لها” يحاول نيتشه أن يجيب عن الأسئلة التالية: ما مكانة الماضي من الحاضر؟ إلى أيّ حدّ تكون الحياة في حاجة إلى التّاريخ من غير أن ترزح تحت ثقله؟ هل الدراسات التأريخية كافية للحفاظ على التراث؟ أليست تلك الدراسات، على العكس من ذلك، هي التي تقضي على التّراث فتحوّله إلى مجرّد معرفة، وتحُول بينه وبين أن يحيا؟ ألم تؤدّ “حمّى التّاريخ”، التي عرفها القرن التاسع عشر، إلى القضاء على التراث؟ ما العمل لكي نجعل التّاريخ في خدمة الذّاكرة؟
تمهيداً للإجابة عن هذه الأسئلة، يميّز نيتشه بين ثلاثة أنواع من التّاريخ: التّاريخ الأثري، وتاريخ العهود القديمة، ثم التّاريخ النّقدي. فالتاريخ الأثري وتاريخ العهود القديمة يؤكّدان على الاستعمال الإيجابي والمنتج للتاريخ بالنسبة إلى الحياة، حيث يمنحان النّاس الشّجاعة والقدرة على المقاومة، وعلى النقيض منهما، لا ينظر التّاريخ النقدي إلى الماضي باعتباره أمراً إيجابياً. ففي الوقت الذي يستخلص التاريخ الأثري من الماضي أبطاله الكبار المنتصرين والمغامرين، معتبراً إيّاهم مصدر إلهام بالنّسبة إلى الحياة، وفي الوقت الذي يُحوّل تاريخ العهود القديمة الماضي إلى سند للهوية وتقوية لُحمة الجماعة، فإن التاريخ النقدي لا يرى للماضي أيّة خدمة يُمكن أن يُسديها إلى الحياة، ولهذا يعمد إلى تقويضه من أجل إرساء قيم جديدة.
يقدّم نيتشه طريقة إيجابية لـ”صناعة التاريخ” عبر أشكاله الثلاثة: الأثري، والقديم والنقدي. فهو تاريخ موجَّه إلى الأقوياء من أجل مدِّهم بأمثلة نموذجية من الماضي، وهو أيضاً تاريخ يعتمد تحليلاً للأصول، من شأنه أن يساعد على المحافظة على قيم الجماعة، ثم هو تاريخ نقدي، سيحكم على الماضي ويحاكمه، مقترحاً قيماً جديدة.
إن الاقتداء بالماضي من شأنه أن يوجّه الوجود الحالي، إلا أن تاريخ العهود القديمة، عندما لا يعود يستجيب للحاجيات الحيوية للحاضر، يظل مهدّدا بأن ينحلّ إلى تكديس وقائع تاريخية. حينئذ تسود المحافظة من أجل المحافظة، فتفقد الحياة دفقها الحيويّ. التّاريخ النّقدي يكون هو كذلك في خدمة الحياة التي يتطلب استمرارُها وتفتّحها مساءلة الماضي، إذ إن أيّ محاكمة للماضي ينبغي أن تكون باسم الحياة.
لن يعمل هايدغر في “”الكينونة والزمان” إلا على تأكيد موقف نيتشه هذا، فهو يرى مثله أن التأريخ “يستأصل الإنسان من تجذّره التاريخي إلى حدّ أن اهتمامه لا يعود منصبّا إلا على تعدّد النماذج والاتجاهات والآراء الفلسفية الممكنة عند أكثر الثقافات بعداً وغرابة… ونتيجة لذلك فإن الإنسان، بما يوليه من اهتمام بالتأويل الفيلولوجي الموضوعي للتراث، لا يعود في استطاعته أن يدرك حتى أبسط شروط إمكان الرّجوع الحقيقي إلى الماضي كتملّك خلاق.” وهذا هو الموقف ذاته الذي سيؤكد عليه كتاب “المدخل إلى الميتافيزيقا: “لا يحدّد علم التاريخ إطلاقا، من حيث هو علم، العلاقةَ الأصيلة بالتاريخ والمنابع الأصلية، وإنما هو يفترض دوما هذه العلاقة. من ثمة فلا يتبقى لعلم التاريخ إلا أحد أمرين: إما أن يعمل على تشويه العلاقة بتلك المنابع، وهي علاقة تاريخية أصيلة، فيسيء تأويلها ويختزلها في مجرّد معرفة بالعهود القديمة، أو على العكس من ذلك، يفتح هذه العلاقة بالمنابع الأصلية، بعد أن تكون قد ثُبِّتت أسسها، يفتحها على آفاق جوهرية، فيسمح لنا بأن نعيش تجربة المنابع الأصلية بما لدينا من جهتنا من انغماس فيها”.
ما يعيبه صاحب “الاعتبارات” على معاصريه بالضبط هو العلاقة غير المتوازنة التي يقيمونها بين التاريخ والحياة. فهم يرزحون تحت ثقل معارف موسوعية من غير أن يكون لتلك المعارف وقع على الحياة الفعلية. هذا فضلا على أن النموّ اللامحدود للحسّ التاريخي يُضعف من شأن القدرة على بناء المستقبل، ويجعل أجيالا بكاملها تحسّ أن الرّكب قد فاتها. نشتم هنا سعيا وراء مناهضة كل نزعة هيجلية مبسَّطة ترى في كل شيء صيرورة متواصلة وبدايةً ونموا وغاية.
سيقوم نيتشه أساسا ضد هذه النزعة، وسيعتبر أن “حمّى التاريخ” التي يعرفها القرن، علامة على تراث جامد غير حيّ، ورغبة في ابتداع تراث لا يعمل إلا على ملء الحاضر. لذا فهو يستنتج أن الهوَس التأريخي مُضرّ بالحياة بقدر ما يضرّها فقدان الذّاكرة. نقرأ في “الاعتبارات“: ” إن الحياة في أمسّ الحاجة إلى خدمات التاريخ، لكن من الضّروري أيضا أن نقتنع بهذه القضية التي ينبغي إثباتها فيما بعد: وأعني أن المبالغة في الدراسات التاريخية مضرّة بالكائنات الحية”، إذ لا مبرر للتاريخ في نظر نيتشه إلا إذا كان في خدمة العمل والحياة.
ما هو اللقاح المضادّ لـ”حمّى التاريخ” هذه؟ يجيب صاحب “الاعتبارات“: ” اللقاح المضاد هو اللاتاريخي والفوق تاريخي (التاريخ الأعلى): أعني باللاتاريخي فنّ القدرة على النسيان والانغلاق داخل أفق محدود. كما أدعو “تاريخا أعلى” القدرات التي تحيد بالأنظار عن الصّيرورة نحو ما يعطي للوجود طابع الخلود، أي نحو الفنّ والدين”.
على عكس الحيوان الذي يعيش حاضرا من غير تاريخ، فإن الإنسان لا يمكنه أن ينسى، وهو يظلّ مرتبطا بماضيه. إلا أنّه في حاجة كذلك إلى النسيان كي يمْكنه أن يعمل. إذ إنّه إذا ما اختزل في التاريخ، فإنه سيصبح مثقلا بمعرفة تاريخية يعوزها الأساس الحيوي لوجودها.
هذه الفعالية الإيجابية للنسيان ستتجلى بشكل أكثر وضوحا في كتاب “جنيالوجيا الأخلاق” حيث سيقول نيتشه إن النسيان “ليس فحسب ملكة مُعطِّلة سلبية vis inertiae، وإنما هو قوة فعّالة، وقدرة ايجابية بالمعنى الدقيق للكلمة، قدرة ينبغي أن ننسب إليها أنّ كل ما يحصل لنا في الحياة، وكلّ ما نتشربه ونتلقّاه لا يمثل أمام وعينا في عملية الهضم النفسي( يمكننا أن نسمّيها التشرّب النّفسي) إلا بمقدار ما تَمثل أمامه العملية المتعدّدة التي تتمّ في جسمنا عندما نتمثل الطعام ونهضمه”.
لا يعني ذلك أن صاحب الجنيالوجيا يقول بأنّ الحياة تقتضي محْو الماضي، وإنما هو يطلب فهما آخر للماضي، فيضع مقابل ما يدعوه الغريزة التراثية، ما يسميه الغريزة الكلاسيكية: “الرغبة في الحياة تقتضي الغريزة الكلاسيكية، أما الرغبة في الحقيقة فتقتضي الغريزة التراثية. الأولى تُخضع الماضي إلى معالجة فنية، إنها تُحوّل شكله بفعل قوّة الفنّ”، كي تقيم تاريخا يؤسّس لذاكرة مضادّة للذاكرة باعتبارها تطابقا وتكلّساً للفكر. وبعبارة أخرى، إنها تقيم تاريخا يأخذ بعين الاعتبار ملَكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد والثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي، وعلى إنقاذ الحياة من سيطرة الذاكرة.