
«تُرى كيف
سننجو
من هذا العصر
الحديث
ونتعلم
التنفس ثانية؟»
قصيدة تمرين، وليامز كارلوس وليامز
«ثم ضرب الدهر ضربانه وأُجلينا عن منازلنا، وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة، وغابت عن بصري ستة عوام، فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وماكدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة، وقد تغير أكثر محاسنها وذهبت نضارتها، فُنيت تلك البهجة».
ابن حزم، طوق الحمامة
أُنتِجَ فيلم «باترسون» سنة 2016م من بطولة آدم درايفر، وجولشيفته فاراهاني، ويروي قصة شاب يُدعى باترسون، يعيش في بلدة تحمل ذات الاسم، وتجمعه علاقة حبٍّ مع لورا. يستعرض الفيلم مظاهر هذه العلاقة التي تجمع بين الحميميّة والرتابة، تتخلّلها مشاهدُ متفرقة من عمل باترسون سائقَ حافلة، ولقائه مع صاحب البار وشخصيات أخرى، وانغماس لورا في نشاطات مختلفة، كالتزين، والعزف، وإعداد فطائر البانكيك.
أخرج الفيلم جيم جارموش، واتبع فيه – كعادته – أسلوبًا مستقلاً بكتابة الفيلم وإخراجه.
قام جارموش بإخراج ثلاثين عملًا متنوّعًا بين الروائيّ والوثائقيّ، تميز فيها أسلوبه في الطرح بالتبسيط والواقعيّة، سواء على مستوى اختيار «الكادرات» واللقطات، أم على مستوى الحوارات والشخصيّات، التي تتسم غالبًا بالبساطة والاعتياديّة، وكثيرًا ما يطغى فيها الاهتمام بمنطوق الشخصيّة بدلًا عن الأحداث. يلاحظ المتابع لسينما جيم جارموش مسارًا خاصًّا يحتفي بفنانين أحبهم المؤلف، وخصَّص أفلامًا لتكريمهم، كفيلم Mystery Train (1989) حول المغني إلفيس برسلي، وفيلم Dead Man (1995) حول الشاعر الإنجليزيّ ويليام بليك. تقتبس أفلام جارموش أحداثها من سيرة الفنان ومادته، إلا أنّه لا يكتفي بذلك، بل يُضيف بصمته الخاصّة، وينتقي من حياة الفنان ما يعكس حبه للشخصيّة ويشكل طابعه السينمائيّ الخاص، مما يضفي عليها طابعًا مختلفًا عن أفلام السير الذاتيّة التقليديّة. وفي هذا الإطار تندرج هذه القراءة في فيلم «باترسون»، المتعلق بشخصيّة الشاعر الأمريكيّ الرائد ويليام كارلوس ويليامز، ونحاول من خلالها اكتشاف تأثيرات قصائده وأسلوبه في الفيلم.
عاش ويليام كارلوس ويليامز في مطلع القرن العشرين، وجمع بين مهنة الطبّ وكتابة الشعر والقصص. قال عنه الشاعر العراقيّ عبد القادر الجنابي في مقدمة مختاراته الشعريّة «ما ليس شعرًا في نظرهم»: «وبحكم وظيفته كطبيب، جاءت معظم قصائده قصيرة، بسبب كتابته لها في عيادته أثناء زيارات المرضى». تنطلق رؤية ويليامز في الشعر من النظر إلى الواقع ثم التعبير عنه كما هو، بعيدًا عن «الشعرنة» وتضخيم مواضيع بعينها – شعريًّا وجماليًّا – على حساب مواضيع أخرى تبدو هامشيّة في ظاهرها، لكنّها تنطوي في جوهرها على شاعريّة تحتاج إلى تناولها بتبصُّر وموضوعيّة. يوضح ويليامز أنّه «ليس هناك مواضيع غير شاعريّة ومواضيع أخرى مخصّصة للمعالجة الفنيّة». ويصف آلن غينسبرغ قصائد ويليامز بأنّها «لا يمكن تمييزها عن حديثنا اليومي، ولا يمكن تفريق موادها العمليّة عن مشاعرنا الاعتياديّة، كما أنّها حين تُدرَكُ وتقدّر بشكل واع تحوّل كلَّ شعورنا بالوجود إلى كون ودي جديد كليًّا، نتصرف فيه بحريّة كأنّنا في بيوتنا، ويفيض العقل بكل مشاعره بحيوية وسخاء، لأنها ليست معاقة بالغضب».
اخترتُ رسالة «طوق الحمامة في الألفة والألاف» لمؤلفها ابن حزم الأندلسيّ، مصدرًا أساسيًّا، وأداة تأويليّة وتحليليّة في ما يشبه مقاربة بينها وبين الفيلم، وقد جمع فيها ابن حزم بين أصناف الفلسفة والأدب والمذكرات الشخصيّة، في محاولة منه للإجابة عن تساؤل طرحه صديقه الشاطبيّ حول: ماهية الحب. وفي جانب آخر تضمنت الرسالة ما يشبه الوقوف على أطلال قرطبة، عبر سرد قصص الحبِّ والصداقة التي يدور أغلبها في هذه المدينة، أو نصوصٍ مباشرة تذكر موضعها بكثير من الحنين. يوجد تشابه بين أطلال قرطبة ابن حزم وأطلال باترسون جارموش، إذ كما تناول ابن حزم براءة الحبّ القرطبيّ، تناول جيم براءة الحب من خلال شخصيتَي باترسون ولورا، وما تتميزان به من بساطة ومباشرة، بعيدًا عن ضوابط الحياة الحديثة وقيودها.
ينقسم المقال إلى ثلاثة أقسام، أولها: الزمن تعريفًا للحب، أتناول فيه تحليلًا لعنصر الزمن في الفيلم، لشرح ماهية الحب التي قدمها جارموش مقابل ما ذكره ابن حزم في رسالته «طوق الحمامة»، والدور المحوريّ الذي يلعبه الزمن في الفيلم من خلال نظرة جيم للواقع، التي توجه تدفق الفيلم في شكل زمن مباشر رتيب، كما هي قصائد وليام كارلوس وليامز أيضًا.
في القسم الثاني، أتناول بمزيد من التفصيل الجانب الشعريّ للفيلم، من خلال قصائد باترسون وأعمال لورا في الرسم والعزف والطبخ، والصلة بينها وبين شعريّة الفيلم ذاته، مع وقفة خاصة عند مشهد الطفلة الشاعرة.
في القسم الثالث والأخير أتطرق إلى المقابلة بين أطلال ابن حزم في قرطبة وأطلال جيم جارموش في باترسون.
الزمن تعريفًا للحب
«رجل يشبه مدينة، وامرأة تشبه وردة
خلال الخارج المتصلب الذي أمسكها بإحكام كل هذا الوقت»
قصيدة باترسون، وليامز كارلوس وليامز.
يبدأ الفيلم من زاوية كاميرا علويّة، تطلُّ على زوجين متعانقين، آدم درايفر وجولشيفته باراهاني، مع عبارة توضح الزمن: «يوم الاثنين». يدور حوار حول حلم للزوجة بولادة توأم، ثم يقوم آدم درايفر، الذي يجسد شخصيّة »باترسون«، بتغيير ملابسه قبل أن يتناول إفطاره ويذهب إلى عمله سائقَ حافلات، ثم يكتب الشعر، وبعد أن يستريح بجانب الشلالات يكتب الشعر من جديد، ليعود بعد ذلك إلى زوجته ويدور بينهما حوار متوتر حول نشر شعره، يتناولان بعده طعامهما، قبل أن يصطحب باترسون كلبه إلى الحانة ثم ينتهي اليوم.
يتكرر هذا الجو الحميميّ على امتداد الساعتين، فطوال أسبوع كامل تتغير بعض التفاصيل أحيانًا، إلا أن الأمور تبقى دائمًا كما هي، باستثناء اللقطات التي يشرع فيها باترسون بإلقاء الشعر، حيث نشهد تتابعًا وتدفقًا للمشاهد بتكرار رتيب مباشر. في إشارته الدائمة لليوم مع كل استيقاظ للشخصيّتين، يذكرنا جارموش أن ما يتحرك هو الزمن، ويستسقي هذه المباشرة والتعاطي مع الزمن كما هو تمامًا، من أسلوب وليامز نفسه، فكأنّه يحول الزمن عن طريق السرد السينمائيّ إلى قصيدة لكارلوس وليامز.
يطرح الفيلم غايته في معنى الحبّ بإبراز معنى هذا الزمن المباشر والرتيب. ويرشدنا ابن حزم إلى هذا المعنى، فبعد تبنيه للتعريف الأفلاطوني للحبّ – باعتباره التقاءً في عالم المُثل – يعود فيستطرد قائلًا: «حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس، فهي التي لا فناء لها إلا بالموت». نقرأ هذه الفكرة في صدر رسالته، ثم نستكشف بعدها عبر أبوابها الثلاثين أخبارًا تذمَّ القصص التي تكون عابرة ولا يستدل بها على معنى الحبّ في نظره. فقد أفرد ابن حزم بابًا بعنوان «باب من أحبّ من نظرة واحدة»، يذكر فيه قصة شاعر يدعى يوسف بن هارون، تعلق قلبه بجارية في السوق اسمها «خلوة» وتردد في السعي إليها، إلى أن جمعهما الزمان، وأصبح قادرًا على الاختلاء بها، فكرهها. يقول ابن حزم معلقًا على قصّة هذا الشاعر: «فمن أحبَّ من نظرة واحدة، وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة؛ فهو دليل على قلّة الصبر، ومخبر بسرعة السلو، وشاهد الطرافة والملل. وهكذا في جميع الأشياء: أسرعها نموًّا، أسرعها فناءً، وأبطؤها حدوثًا أبطؤها نفادًا». وفي باب الهجر، يعتبر ابن حزم الملل من أسبابه لكنه يذمّه فيقول: «وأما من تزيا باسم الحُب وهو ملول فليس منهم، وحقُّه أن يبهرج مذاقه، ويُنفى عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم».
يشهدنا الإيقاع الزمنّي لعلاقة لورا وباترسون هذه الرتابة التي تؤدي بنا إلى الملل، ونحن نشهد ألفتهم، فقد أراد المؤلف جيم جارموش من خلال الزمن الخاص للفيلم أن يشهدنا على ذاك المعنى الكامن في الرتابة: أنّ الحبَّ يمنح الشخصيّات والأشياء معان تتجدد بوجودنا مع من نحبُّ، لنقترب حينها من الألفة.
يقرُّ ابن حزم بكون الحبِّ حدثًا يغيّر في الإنسان، لا بل يزلزله، فيخصص بابًا بعنوان «علامات الحب»، يذكر فيه ما يصيب أحدَهم إذا أحب مِن تَحوُّلٍ وتبدل، بدءًا من إدمان النظر، والإبدال في حال العين، حتى بُهوت المحبّ، فيقول بإيجاز:
«فكم بخيلٍ جاد، وقطوبٍ تطلّق، وجبانٍ تشجّع، وغليظِ الطبع تظرّف، وجاهلٍ تأدّب، وتفلٍ تزيّن، وفقيرٍ تجمّل، وذي سنٍّ تفتّى، وناسكٍ تفتّك، ومصونٍ تهتّك».
فقد يعد هذا الحب حدثًا خاصًّا لدى الإنسان، إلا أنّه لا يكون في كل الأحيان محمودًا في نظر ابن حزم، وإنما قد يكون آفة على صاحبه أو شهوة زائلة.
وفي حالة لورا وباترسون لا نرى ماذا حدث لهما، لكننا نستسقي الأحداث من عدة إشارات، منها خلفيّة باترسون العسكريّة، الظاهرة صراحة منذ المشهد الأول في صورة شخصيّة له أثناء خدمته العسكريّة، وأيضًا من خلال جموده الواضح في تعابيره وردود فعله، التي تضطرب بشكل كوميديّ حين يقفز على إيفريت، الشخصيّة الهزليّة الذي تطلعنا أحداث الفيلم إدعاءها الحب لشخصية أخرى اسمها ماريا، في مشهد حين يطلب ماريا التحدث وهي ترفض، يجلس بجانب باترسون مقابل روب صاحب البار ويلقي في مايشبه خطبة عن حبه لها لدرجة التقديس بشكل مؤثر، لكن روب يقول: يجب عليك أن تكون ممثلاً ليتحول المشهد لكوميديا – وهي صفة ملازمة لمشاهد إيفريت- بين إدعاء الحب وكوميديا الموقف حوله باكتشاف زيفه.
نتذكر اقتباس لابن حزم:
«وقد تعرض في الحب الإذاعة ، وهو منكر مايحدث من أعراضه ولها أسباب : منها أن يريد صاحب هذا الفعل أن يتزيا بزي المحبين، ويدخل في عدادهم ، وهذه خلابة لاترضى، وتجليحٌ بغيض، ودعوى في الحب زائفة».[1]
ومشهد لإيفريت أخر يهددها بالانتحار باستخدام مسدس محشو بالبوب كورن الذي ينقذ ماريا هو باترسون نفسه، لكنّنا نستشعر رقةً في تعامله مع لورا، كما في مشهد مجاملته لها على طاولة الطعام عند تناوله فطيرة سيئة المذاق قامت بإعدادها، أو من خلال التعاطي مع مسألة أحلامها ومواهبها.
وفي المقابل تأتي لورا، ذات الأصول الفارسيّة، من خلفيّة ثقافيّة مختلفة، وتتميز بكونها مليئة بالحيويّة، تملأ كلّ زوايا البيت بـ «أسلوبها البصريّ المتميّز». وتتضح لنا عفويتها من اختلاف أحلامها، فهي لا تخجل من قولها مرة إنّها تريد أن تصبح غنيّة بسبب الكب كيك، ومرة أخرى إنها تريد أن تكون مغنية جيتار مشهورة.
مشهد عودة باترسون إلى البيت بعد يوم عمل مرهق بسبب عدم امتلاكه للهاتف النقال، يسبقه مشهد صاحب البار وهو يسأل لورا عن مدى تقبلها لفكرة عدم امتلاك رجل حديث هاتفًا نقالًا؟ فيجيبه بأنّها تتفهّم ذلك. وفي المشهد الذي يعود فيه باترسون إلى بيته مرهقًا، تعاتبه لورا، ولكنها أيضًا تواسيه وتخفف عنه، تؤمن بشعر شريكها، وينشئ هذا الحدث لديها علاقة مع الشعر.
«ومن الناس من لا تصحُّ محبته إلا بعد طولِ المُخافتة، وكثيرِ المُشاهدة، ومتمادي الأُنس، وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت، ولا يَحيك فيه مرُّ الليالي، فما دَخل عسيرًا لم يخرج يسيرًا؛ وهذا مذهبي».
ويستطرد:
«إنّي لأطيل العجب مِن كل مَن يدعي أنّه يحبُّ مِن نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حُبَّه إلا ضربًا من الشهوة، وأمّا أن يكون في ظنِّي متمكنًا من صميم الفؤاد نافذًا في حجاب القلب فما أُقدِّر ذلك، وما لصق بأحشائي حُبٌّ قطُّ إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جدٍّ وهزل».
«وأمّا ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسديّ، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة، فإذا غَلبت الشهوة وتجاوزت هذا الحدّ، ووافق الفصلَ اتصالٌ نفسانيّ تشترك فيه الطبائع مع النفس يُسمَّى عشقًا».
«إذًا نحن أمام عاشقين، تطاولا في المشاهدة وتماديا بالأنس، والتزام طويل ومشاركة بكل جدٍّ وهزل، تثبتها تلك المشاهد الدالة على حدوث العشق».
ويوحي لنا ذلك الاختلاف والتوافق أن الرتابة ليست وليدة الصدفة، بل هي متولدة من زمن سابق وممتدّ.
شعرية الشخصيات والطفولة
تحيلنا كتابة الشعر عند باترسون بشكل واضح إلى سيرة وليام كارلوس وليامز، الذي كان يكتب الشعر أثناء عمله طبيبًا، وله قصيدة مشهورة بعنوان «عربة يد حمراء»:
كم يعتمد
على
عربة يد
حمراء
صقلت بماء
المطر
جوار الدجاج
الأبيض
وُلِدَت هذه القصيدة أثناء زيارة مريض لعيادته، حين نظر عبر النافذة إلى عربة يد حقيقية يحوم حولها دجاج أبيض، أوحت له بكتابتها لتصبح بعدها من عيون الشعر الأمريكي التصويريّ الحديث.
تنتهج قصائد باترسون خط شعر وليامز بالطبع، فهو «أسطورته» على حد تعبير لورا حبيبته، ويضيف جيم المجاز الذي تتميز به، إذ يتلاعب بالمونتاج في تداخل الشلال وصورة لورا مع الكلمات، مما يضيف بعدًا مختلفًا عن رتابة الأيام وسيرها العادي لدى باترسون، من خلال عادات: الكتابة، والقراءة، والذهاب بصحبة الكلب للبار، وتأمل الشلالات.
وهي عادات مستقلة لديه عن لورا، التي يتمثل لديها هذا البعد في الاهتمام بالفنون، والطبخ، والإنترنت، والعزف. ويأتي تصريحها في أحد المشاهد بأنها تنتظر خروج باترسون للبار لكي تكمل تعلمها للعزف شاهدًا على هذه الاستقلالية لكليهما عن الآخر.تبدو شخصية لورا مقتبسة من قصيدة لويليام كارلوس وليامز التي ألقاها باترسون أثناء الفلم، وهي قصيدة تقول عنها لورا إنها تحبها بعنوان «فقط لأقول»:
لقد أكلت
الخوخ
الذي كان
في الثلاجة
ومن المحتمل أنك
احتفظت به
للفطور
سامحيني
كان لذيذاً
حلو المذاق
جد بارد
يقول عبدالقادر الجنابي: هذه القصيدة كانت مجرد ملاحظة موجهة إلى زوجته، ألصقها وليامز على باب الثلاجة، ثم نشرها في مابعد كما هي في أحد دواوينه. هذه هي شعرية الحدث اليومي والحياتي العابر! وصفها ألن غنزبرغ بما يلي: «حيث الشعر والحياة توءمان متماثلان، لا فاصل بينهما، فالملاحظة التي كتبها لإعلام زوجته، متطابقة مع ما يضع في كتاب شعري، لإعلام الأبدية».
إن شخصية لورا، تمثل ذلك العفوي العابر والشعري في آن واحد، حتى في الكادرات التي يختارها جيم لها، تبدو الشاشة وكأنها مفعمة بطاقة ما، طاقة لورا.
وللشعر في الفيلم خصوصية كبيرة أيضًا عند جيم جارموش، ويتمثل في حضوره على مستويات مختلفة ذلك في حلم لورا حول التوأم، وإجابة باترسون الساخرة بأن له طفلًا ولها الآخر! نلاحظ في الفيلم الحضور اللافت للتوائم من كبار السن والأطفال في عالم باترسون، في مجاز يتجلى ويتكثف حين يلتقي بفتاة يكتشف أنها شاعرة، في مشهد من أروع مشاهد الفيلم.
من ناحية تقنية، تتبع الكاميرا باترسون بحركتها الاعتيادية أثناء تصوير المشاهد التي يمشي فيها، بإبقائها ثابتة بينما يتحرك هو بانسيابيّة تامّة. نكتشف من حركة عينَي باترسون أنّه انتبه إلى شخص ما، ومع ظهور الفتاة يبقى وضع الكاميرا ثابتًا على مستوى واحد، بينما يستأذن ويجلس بجانبها، وينساب الحوار بينهما حول عمله سائقَ شاحنة. تنتقل الكاميرا إلى لقطة مقربة حين تلقي الطفلة قصيدتها «يسقط المطر» لتعود بعد انتهائها إلى إطارها الأول. ومع سماع صوت تشغيل سيارة عائلتها، تنطلق الفتاة، التي نكتشف أنّها توأم لفتاة أخرى كما تقول لباترسون! ثم تقف! تلتفت وتسأل: هل تحب إيميلي دكنسون؟ يجيبها باترسون: نعم، فتقول: أمر رائع. سائق حافلة يحبُّ إيميلي دكنسون!
إن اختيارات المخرج بتوسيع وتضيق اللقطة في هذا المشهد، تعطي انطباعًا وكأن التصوير كان تفاعلاً مع الشخصيات لا العكس، وهذا مايظهره بهذه الانفعالية العاطفية.
تبدو لهذا الجزء من الفيلم عدة دلالات ممكنة، فقد يكون تفسيرًا لحلم لورا، أو مجازًا للمؤلف لا يستطيع أحد تفسيره، أو مشهدًا يحيلنا إلى تقدير ما أراد المؤلف تقديمه للجيل الجديد، الذي طالما وُصِمَ بأنّه مستلب من التقنية، ففي حين نرى الشاعرة تكتب الشعر بدفتر ورقيّ تقليديّ، مع ظهور مختلف للأطفال في ثنايا الفيلم أيضًا.
إلى جانب هذا المشهد، تلفت انتباهنا شخصيّة «الكلب» التي تبدو غامضة، فهو الذي يمزق شعر باترسون، ويؤدي بهذا إلى نهاية غير سعيدة لليلة حميميّة قضاها مع لورا في مشاهدة فيلم كلاسيكي. لا نفهم جيدًا دلالات هذا المشهد ورمزيّة الفعل الذي اقترفه الكلب، ولكننا نرى مقدمةً له في بداية الفيلم، حين يستوقف بعض الشبان باترسون ليحذروه من تمردُّ كلبه، إلا أنّها تبقى واقعةً دون خطٍّ سرديٍّ واضح، ويمكن النظر إليها باعتبارها مجازًا للتدفق الزمنيّ ليس إلا.
قرطبة وباترسون .. سينما الطلل
عُرف الوقوف على الأطلال في الشعر العربيّ – خاصة الجاهلي – الذي امتلأت معلقاته، وقصائده بهذا النوع من الشعر الذي يبكي آثار الديار الباقية مكانًا، والمهجورة أرواحًا.
في رسالة «طوق الحمامة» يبدو واضحًا – إلى درجة الافتضاح – وقوف ابن حزم على أطلال قرطبة، وبكاؤه إياها، ومراوحته في ذلك بين التصريح المباشر والتضمين عبر القصص والأخبار، كقصته الشخصيّة في حبّ فتاة جميلة الملامح وتعلقه بها أثناء وجوده في قرطبة، ثم رؤيته لها وهي تشيخ وتهرم بعد سقوط المدينة.
ونرى هذا النوع من الوقوف على الأطلال في الفيلم، من خلال حائط البار الذي يمتلئ بصور شخصيات بارزة من مدينة باترسون، أو حتى من خلال الشخصيّات ذاتها كما يقول الشاعر وليامز بحرفيّته:
رجل يشبه مدينة.
فباترسون الذي يشبه المدينة الطلليّة عند جيم، لا يمتلك هاتفًا نقالًا، يحبّ بإخلاص، ويكتب الشعر. وينسحب هذا التجلي على الشخصيات الأخرى، عند لورا يتعلق الأمر دائما بالمنزل وانطلاقتها في عفوية أحلامها تكاد تمثل ما يُفقد من عنصر حميمي ذي خصوصية غير مشاعة، وفي البار وصاحبه، الذي يصرّ على ألا يكون هناك تلفاز، ويشارك زبائنه الحديث، يتجلى هذا الوقوف الطللي حين ينظر باترسون إلى هاتف عمومي مُحطم في موقف يحتاجه اليه، حتى يضطر لأخذ هاتفاً نقالاً.
إنّ جيم جارموش يقف على عتبة ليبكي الحب والشعر والحيويّة، التي فقدتها المدينة الحديثة. يُطرح هذا الفيلم في مباشرته أيضًا في سياق نظريات وفلسفات نقديّة ترى أنّ الحبّ – بوصفه قيمةً – مهدد بسبب الحداثة، وهذا مايجعل الفيلم -باعتقادي- ينحى منحى طلليًا؛ أي أنه يقف على طلل الحب، ويبكيه.
الوقوف على هذه الأطلال يخلده جيم جارموش في المشهد الأخير، فبعد أن تتوقف عجلة الزمن، حين يخسر باترسون دفتر شعره بفعل عبثيّ من كلبه، تعود للدوران مجددًا، عندما يلتقي برجل غريب يهديه دفترًا جديدًا فيستأنف كتابة الشعر مرة أخرى. وينتهي عند استمرار الأثر المتمثل بـاستكمال دورة الزمن بعودته إلى لقطة علويّة للمتحابين، وظهور يوم الاثنين في أسبوع جديد، يبشر بتدفّق زمن الحبّ واستمراره لدى باترسون.
———————
[1] الخلابة : المخادعة ، والتجليح : المكالحة والمجلح : هو الذي يركب رأسه في الأمر ، ويجاهر مكاشفاً دون تستر * رسائل ابن حزم – تحقيق إحسان عباس- المجلد الأول صـ ١٤٩
المصادر:
- رسائل ابن حزم – تحقيق الدكتور إحسان عباس – الطبعة الثانية – المجلد الأول.
- ماليس شعرياً بنظرهم – مختارات شعرية لعبدالقادر الجنابي – دار التنوير .
* كل الشكر للصديق فيصل الفرهود والصديقة بتول الحربي على قراءتهم للمقال وتعليقهم مما أسهم في تطويره.