مقالات

ابن باجة وصورة الفيلسوف في الأندلس

محمد صلاح بوشتلة

تقديم:

يُعدُّ أبو بكر بن باجة البداية الحقيقية للمُغامرة الفلسفية في صقع الغرب الإسلامي، كما يَعِدُ بمغامرة أكبر وأوسع نشاطا مثلها أبو الوليد بن رشد. مغامرة ابن باجة الفلسفية التي تـماهت بمغامراته السّياسية التي تقاسمتها فترات الاستوزار والتّنكيب والسّجن، المغامرة التي تميزَ صاحبها بنضوج فكري، وفني كبير وعميق، بالرّغم من هلاك ابن باجة المبكر والمفجع فــــي ريـــق شبابه[1]، واستلال اسمه بالتّالي من قائمة الباقين على قيد الحياة المُنتجة، دونما أن تمهله ولا حتى أن تهمله صُحف القدر أو تصفح عنه يد المنون التي لا تنسى ولا تسهى، لتترك له الفرصة ليصل ربما حد النّضوج المرتجى عمريا كي يستكمل “الدّازين” الباجوي دورته التّامة وتحولاته الكاملة، ليقول ما تدسه جعبته، ولتتوضح أفكاره وتسمو رقابها وتينع، وليمتاز فيلسوفنا بالرّغم من قهر القَدر ونفاد كلمته بالوعي الفَلسَفي المتكامل والمتملك لأصول وأبعاد قائمة بذاتها، مصاغة ضمن نسق فلسفي يكاد يكون الأكثر تكاملا بين من سبقه لا من لحقه[2].

لقد شُغل ابن باجه دوما بالبحث عن هوية الفَلسَفة المُضَيّعة، لهذا فقد صاغ فلسفته في نسق ذي جِدَّةٍ وجِدية يشهد عليها قول تلميذ ابن الإمام فيه: “ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم فإنه إذا قرنت أقاويله فيها بأقاويل ابن سِينا والغَزّالي، وهما اللذان فتح الله عليهما بعد أبي نصر في المشرق في فهم تلك العلوم ودونوا فيها، بان لك الرّجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرِسطُو”[3]، ليُكوِّن ابن باجة نسقاً يمكن تحديد فصوله وتصنيفها. في بداية ارتقت بالنّظر الفَلسَفي من الهِواية إلى مقامات ومنازل الاحتراف المتقن للنظر وعلومه، ومن المحاولة البسيطة التي تميز بها عمل من قبله إلى محاولة التّجذير والتّأسيس الأكثر عمقا، فــ “عطل بالبرهان التّقليد، وحقق بعد عدمه الاختراع والتّوليد”[4]، خاصة وصاحبها هو الفَيلَسُوف الشّاعر[5]، الذي “أراد أن يمنح للحكمة روح العقيدة وروح الطّريقة”[6]، وبالتّالي الانتقال بالفَلسَفة الـمُسْلمة في الغرب الإسلامي من خانَةِ أن تكون رياضة للذهن الوقاد فقط، تُمَارَسُ على الهامش وفي فراغات الوقت كفعل للبذخ في مبتذل الزمن، إلى نظام معرفي متكامل له جِدَّته وجدواه وله إغراءاته الجميلة التي تدعو له وإليه، وطرف جديد ومتميز من حيث هو طريق يحاول صاحبه منافسة ومزاحمة الفقيه ومنازعة الصّوفي والمتكلم المكانة التي يعيشانها ويسعيان إليها في حلم صاحب المعرفة الفلسفية بإحقاق نصر البقاء والسّيطرة وتضييق فجوة السيادة على العالم وتسييره وإدارته لأموره.

1 ـ تعاسة الفيلسوف والقدر الماكر:

نصيب ابن باجة من حياته كان هو التعاسة والكدر بالتأكيد، تضامن في صنعهما الأصحاب وأولياء نعمه، والأعداء، حيث أنه عاش حياة مأساوية بامتياز، تتهدده فيها الأخطار، وتحفُه من كل جانب النكبات، وتحاصره مكاره العمر وشقاوة المصير، وكثرة الأعداء والحَسَدة، ليموت لا بتعب الحياة الذي ينهك وينخر قوى ورغبات الديمومة عند الواحد منا في آخر العمر، حينما تتغلب قوى الاستسلام على قوى الاندفاع، فتكون أرواحنا لقمة سائغة بين أصابع ملك الموت، ولكن بسم دسه له صديقٌ وزميل في حرفة من إحدى الحرف الكثيرة التي كان ابن باجة يتقنها، كان لا يتوقع منه ابن باجه أن يكون ضحيته كما بقية الناس، فلربما كان يتوقع أن يستهلك عمره في القضاء على بقية الناس قبل أن يظفر بحياة طبيب مثله، يقول ابن باجة:

“يا ملك الموت وابن زهر … جاوزتما الحد والنّهاية

ترفقا بالورى قليـــــــــلا … في واحد منكما الكفاية”.

وستلاحق التعاسة وكدر القدر، فيما بعد مماته أيضا، حيث لم يشتهر بين العارفين به بغير ترجمة جافة وبغيضة وشديدة البؤس ليس لابن باجة فقط، بل لأنصار الفلسفة في الغرب الإسلامي، حيث سيتلاشى جسد ابن باجة، وستتبدّد كتبه، وستتوزع بين المكتبات ولغات غير العربية، لاتينية وعبرية، وسنحتفظ له من كل الذّكريات بذكريات وصور لا تنمحي ألصقها به مترجموه، أو بالأحرى مترجم واحد هو الفتح بن خاقان، ليلخص لنا ابن رشد حياة شيخ مشائيي عصره المأساوية ابن الصائغ وسط قلوب ملؤها الشّقاوة والغلظة والبغض للفلسفة وأهلها، فيقول: “وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي، كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو يأمن على نفسه منها. ولذلك فإنه [يفضل] التّوحد ويعيش عيشة المنعزل.” [7]

حياة الصّراع إذن مع كل الجبهات من قادت ابن باجة إلى الانتهاء بالفلسفة إلى فن تدبير النفس والبدن إلى أن تصير فنّاً لتدبير السّياسة والمدن، فكان تدبير المتوحد عنده مهربا فجيعاً لحياته التي تعرفت إلى محن السجن أكثر من مرة، وانتهت نهايتها الفجيعة حينما قتل مسموماً، ففضل اعتزال الناس على مستوى التّنظير لبطله المفهومي، المتوحد المنكفئ على خويصة نفسه دون مخالطة جهالات بني مدينته، لكن دونما أن يتنازل حقيقة عن مقارعة هموم ومهام الوزارة ومعالجة أمور السّياسة، رغم تهديده المتوالي برغباته في السفر البعيد عن المدينة المرابطية، واعتزال مكائد السّياسة واضطرابها.

بهذا فالمتوحد في سعيه الدّؤوب لإقامة المدينة الكاملة بتعبير ابن الصّائِغ، والفاضلة بتعبير أبي نصر، أي تحقق الخير الأفضل والكمال الأقصى الذي “إنما ينال أولًا بالمدينة”[8]، وكذا “بالاجتماع الذي يتعاون على نيل السّعادة”[9]. لا يمكنه أن ينأى عن مجتمعه وينصرم وينصرف عن مدينته، وينعزل عنها ذلك أنه قد “تبين (…) أن الإنسان مدني بالطّبع، وتبين في العِلْم المدني أن الاعتزال شر كله.”[10]. ما دامت ماهية الوجود البشري ككل ينسفها الاعتزال، ليكون البقاء في المدينة حلا مقبولا إلى حين تجاوز واقعه الهزيل والمتناقض في غياب الوحدة المطلقة، كما سيتكرر مع شخصيات نجيب محفوظ في روايته “ثرثرة فوق النّيل” حيث اختارت هذه الشّخصيات العزلة والانعزال دون الهجرة والسّفر البعيد عن مجتمعاتها وخارج أوطانها[11]، ومهما كانت عُزلة وغرابة المتوحد في المدينة النّاقِصّة المنتكسة التي تجعل من المتوحد جمهورية فردية فاضلة في حد ذاته يسوس نفسه لا مدينته الفاضلة، فإن ابن باجة ظل يضع آماله الإصلاحية على متوحدِه هذا ويحمله مهام أنه “سيساهم في إنجازها في مستقبل غير منظور”[12]، من بينها إقامة “مدينة فاضلة تتصالح فيها من جديد الأنا مع محيطها المجتمعي، فيعيش “المتوحد” غربة المناضل، أو المكلف برسالة مستحيلة (أو) بمهمة خارقة”[13] لقلب النُّظم إذ لا يعوزه شيء ولا تنقصه صفة، هو وبقية المتوحدين الذين على شاكلته “في كل الحكومات غير الكاملة التي يعيشون فيها، (أي) أن يكونوا نواة للمدينة الفاضلة (…) لأنهم مواطنو الحكومة الكاملة، الذين تدفعهم جرأتهم الرّوحية إلى استباق حدوثها”[14]. فالمجتمع بأي حال مهما كانت علاقته عدائية للفلسفة ” وعدم اعترافه بهما يدعو إلى تنكر أو عدم معرفة الأخيرة به”[15].

2  ـ الفتح بن خاقان وأغراض التّرجمة:

لقد حظيت ترجمات الفتح بن خاقان في “القلائد” بامتداد كبير في سياقات التّأريخ لأهل الفكر في الأندلس، وتكررت أطراف منها عند من أتوا بعده، لمعاصرةِ صاحبها لكثير من أدباء الأندلس ومفكريها الفاعلين في حقل السّياسة والشعر أي لجماعة العلم والمعرفة في عصره، غير أنها تجاوزت كونها ترسيماً لحقائق التّاريخ وبياناً تاريخياً لتفاصيله، فقد حفلت بالتّقريظ والمديح، كما احتفلت بالنقد والمؤاخذة واللوم الكبيرين، فتعرض غالب المتَرجم لهم بترجمات حافلة كلها مديح، وتعريض بنزر يسير من تلك الشخصيات التي كانت محلا للتقريع والتّجريح، حيث انطلق الفتح من نقطة التّعالي وتمجيد الأنا وتعاليها، لا من مثل أبي حيان التّوحيدي شبيهه في جعل الكتابة والتّرجمة محلاً للانتقام والتّشفي، أبو حيان الذي حينما سأله أبو عبد الله العارض عن سليمان المنطقي بالقول: “كيف كان كلامه فينا، وكيف كان رضاه عنا، ورجاؤه بنا؟” وعن محله من محل ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ويحيى بن عدي عندئذ قال التّوحيدي: “وصف هؤلاء أمر متعذر وباب من الكلفة شاق، وليس مثلي من جسر عليه، وبلغ الصواب منه، فإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم، وأشرف بعد ذلك عليهم، فعرف حاصلهم وغائبهم وموجودهم ومفقودهم.”.

التّرجمة وكتابة سير المعاصرين تصير عند الفتح أداة للتأديب وتعذيب معارضيه والتّنكيل والانتقام ممن آذاه يوما، أو قلّل من مواهبه وقدراته وشخصه الكريم، فالقاضي عياض الذي سبق أن ترجم له الفتح في “القلائد” لم يجد بُدّا من إقامة الحد على الفتح، يوما، لحضوره مجلسه، وقد تنسم فيه رائحة الخمر، ولأنه يعرف سلاطة لسان الفتح وقسوة هجائه فقد سارع بأن بعث إليه مباشرة بعد حادثة إقامة الحد تلك بثمانية دنانير، وعمامة، ليستدر صمته، وينسيه ما بدر منه، موقف القاضي عيّاض بالتّأكيد كان محرجاً أمام الفتح، فالقاضي المرابطي كان ملزما بتطبيق وإقامة أحد حدود الله، لكنه يعرف شهوة الانتقام النهمة التي يمتاز بها ابن خاقان هذا.

نعم، وقد تصبح التّرجمة مجاملة لتجربة صداقة جميلة الذّكر أو مشيخة قديمة لذيذة التّذكر لا مجرد تأييد مذهبي فقط، أو ربما أيضا مصدراً للاسترزاق، وجمع المال ولعله هو الإطار الذي ستدور في مداراته ترجمات الفتح لمعاصريه ولابن باجة، فصاحبنا الفتح لا قناعة له بأحد، ولا يقتنع بأحد ما، فما يُقنعه هو المال والهدايا الملوكية والعطايا الأميرية فقط، هذه وحدها من تجعله مهذّبا أكثر من اللّزوم، وحرمانه منها من يحرمه من التّهذيب اللازم في حالة غيابها، فيسلط سوط عذابه وترهيبه وعتابه وتطاوله الأرعن في وجه مانعيه، فالرّجل لا يستجدي أحدا، ولا يستصغر نفسه وهو يطالب بمستحقاته، إذ إنه حينما يضعك ضمن لائحة من سيترجم لهم، فلست مخيرا بين أن ترسل له مما أحسن الله به إليك وعليك أو ألا ترسل، بل يجب عليك مراسلته، وإلا فإنها مناسبة للزج بك لجة غضبته وسخطه.

بالتّأكيد للترجمة أهداف نبيلة وراقية، غير أنها مع الفتح تصير ضد كل هدف نبيل، وتعاكسه تماماً، وتركب غرض التّرجمة لا لبناء صرح التّاريخ المؤسَّس على الصّراحة والفضيلة وتحري الصّدق في الشهادة، ولكن لينحرف بها إلى مساوئ أخرى، لا تهم حقيقة التّرجمة وأغراضها لا من قريب ولا من بعيد، وليست من آدابها ولا من أدبها، إذ يذكر ياقوت الحموي أن الفتح عمد إلى طريقة ماكرة في جمع كتابه، سبيله الاسترزاق وتكوين ثروة على هامش مكتوباته، فقد جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس، ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر يُعرّفه عزمه على تأليف كتابه، ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره، كي يضمَّه إلى مادة الكتاب، ففهم من فهم رسالته المشرّفة، فعمد أغلبهم ـ ممن فهم بالطبع ـ إلى إرسال منتخبات من أعمالهم إليه مصحوبة بالمال والهدايا الجزلة، فكل من أرضته صلته أحسن في كتابه وصفه، وأغدق عليه من الصفات ما يكبر صفته جزاءً حسنا لإحسان المترجَم له للمترجم، وكل من تغافل عن بره هجاه الفتح وثَلب، ومن هنا نتحسس إسرافه في مدح بعض من ترجم لهم، وقصده الإمعان في النيل من شمائل بعضهم الآخر، نيلًا شديدًا، ولو كانوا من ذوي الأدب والفضل في زمنه، كما حالة ابن باجة الذي أرسل له الفتح رسالته للغرض نفسه، وكان حينئذ وزيرًا لصاحب ألمرية، فلما وصلت إليه رسالته تهاون في الرد عليه، ولم يجبه إلى طلبه الذي بالتّأكيد يعرفه ابن باجة ولا يمكن أن يخفى عليه، وبالتّالي لم يرسل إليه شيئًا من العطاء، ولم يركن إلى ابتزازه.

لم يكن من الفتح أمام جرأة قرار ابن باجة إذن إلا أن أورد في كتابه “القلائد” في ترجمة مليئة بالهجاء وزاخرة بأغراضه، المرغوب منها التّشهير والنيل من شخصه، دونما أن ينهي الأمر بشكل ودي وطيب، بالصفح ذكرا عنه لا بذكره بالخير ولا بما هو سيء ومنكر، فالفتح هنا يكون أول من يبادر في عرض مقترحه (منتوجه)، لا ربما استعجالاً منه للمال، ولكن لربما ليضمن المال أولا على عكس أصدقائه الشعراء التّكسبيين الذين لا يمكن تفعيل مكافآتهم ومدّهم بها، ولا المطالبة بها إلا بعد وقوفهم بين يدي الأمير وتسجيل إعجابه بقصائدهم، فلا ينتظر حتى يكتب كتابه ويرسل به إلى المذكورين فيه ممن يهمهم أمره، بل يضمن أولاً أجره جزاء عمله ونظير مجازاته البديعة، ويضمن هو التّرجمة التي تليق بأصحاب الأجر أو بالأحرى بالأجر، كل حسب ما أعطى وأنفق، وألا يتجشم عناء الكتابة والبحث بين حُلْوِ الكلمات وجميل الاستعارات عما تستحقه الشخوص المترجم لها وما لا تستحقه قبل أن يرى جزاء تعبه أمامه، فيضمن لهم الأوصاف التي تليق بأجرتهم وتلائم كرمهم، ويستعلم أيضا، وبشكل مسبق المستحق لغضبته، والمستحق لكرم توصيفاته وبنات مدائحه.

المطالبة بالأجر بعد إتمام العمل قد تكون عملاً أكثر إرهاقاً وتعباً، بل وقد تصير عملاً غير مجدٍ وطائشاً، قد يكون هو ضحيتها الأول، فلا هو يملك سلطة على متَرجَميه ليعطوه بعد أن يكون كتب وحبّر ما حبّر، ولا هو يمكن أن يعيد صياغة ترجمات هؤلاء الذين منعوه مكافآتهم نظير إيغاله في مديحهم، وحديثه عنهم بما هم أهل له وغير أهل له، ومن العسير تحويرها من جديد بعدما أن تكون ترجمات المدح الأولى قد انتشرت بين الناس، وتداولتها حوانيت الكتبيين والنّساخ، وذاعت بين القراء، وإن كان ممكنا ففي ذلك ارتكاب لصيغة مفعمة بالتّزوير والتّراجع عن الصيغة الأولى التي أنشأها أول مرة، وارتباكٌ سمج للكتابة ولهويتها، فالفتح يود أن يكتب وهو في طمأنينة تامة وسعيدة، لا يود أن يكون ضحية سؤال مرتاب هو: من سيعطي ومن ذاك الذي سيمنعني عطاءه؟ فيضع الجميع أمام الأمر الواقع: ادفع أولا، وإلا ستدفع الثمن غالياً.

“القلائد” لهذا قد يصنف من طينة الكتب الشّريرة التي لا تكتب من أجل غرض الكتابة، أي أن تكون التّرجمة غاية في ذاتها، بل هي مجرد وسيلة وقنطرة لأغراض تكسبية صرفة وجافّة، خالية من أي مضمونٍ آخر، وغير أخلاقية بالمرة، فليست لأجل أي مقصد آخر تأريخي كان أو أدبي، خاصة وأن التّبذير والإسراف على ملذات الحياة صفتان لازمتا حياة الفتح الخاصة حتى آخر عمره، بل وكانتا علة موته، بل وقادتاه في بعض أيامه إلى الفقر ومن ثم وهبتاه صفتا الجشع والحاجة الدائمة إلى المال والتّشوف إلى مداخيل جديدة له، الصفتان عينهما اللتان قادتا الفتح إلى هذا الأسلوب المقيت لاستدرار المال حتى أن ابن الخطيب يخبرنا عنه بقوله: “إلا أنه كان محارفا مقدورا عليه، لا يمل من المعاقرة والقصف، حتى هان قدره، وابتذلت نفسه وساء ذكره، ولم يدع بلدا من بلاد الأندلس إلا ودخله، مسترفدا أميره واغلاً في عليته، وكان معاصرا للكاتب أبي عبد الله ابن أبي الخصال، إلا أن بطالته أخلدت به عن مرتبته”.

3 ـ التّرجمة لابن باجة بين “مطمح الأنفس” و”القلائد”:

لقد عجز الفتح عن الوفاء لما دوّنه وخطّه في “القلائد”، إذ لم تأت ترجمة “المطمح” لتآزر ترجمة “القلائد”، بل لتهدمها أصلاً، لتصير التّرجمة لعبة عند الفتح، وتكتيكاً أدبياً يتغير بتغير الأحوال، وبتغير عطاءات المترجَم لهم المعبرة عن ندمهم على إقتارهم ذات مرة، والمعتبرة بما حاق بهم في سابق التّرجمات الأخرى، فالفتح ما بين كتابيه “المطمح” و”القلائد” يسهل عليه تغيير أمكنة ومواقع اللعب، بتغيير مواقفه بالسهولة نفسها، ويتلاعب بشخوص أصحاب التّراجم وبصفاتهم بكل بساطة ودونما إحساس بالذنب، ولا شعور بالحياء عما سيلحقه هو من أوصاف التّذبذب أو التّوتر بل وحتى الكذب والافتراء، إذ يُكذب نفسه بنفسه، ويمتد تلاعبه إلى من سيقرأ له فيما بعد، وسيهتم بترجماته الصادقة حينا والضاربة في صدقيتها حيناً آخر، ومن سيعتمد على ترجماته فيما يلي من زمن في إنجاز بحث تاريخي ما، أو في صياغة وتركيب صورة شخصية أدبية أو تاريخية ما، قَلَّ كلام أصحاب التّواريخ والطبقات عنها، فهو في حق ابن باجة لا يثبت على رأي، ولا يستقر له قرار، يتقلب في كلامه عنه، وينقلب على مواقفه منه، فينسج “المطمح” ما كان في “القلائد”، وينسخ ما في الأخير ما سيكون في “المطمح”.

هل كان الفتح بن خاقان يعتقد أن ترجمة “المطمح” قادرة على إبطال مفعول ما وضعه أو بالأحرى لغّمه في “القلائد” من تهم لا تكاد تنتهي؟ بالطبع لا يمكن. لكن هل وضع الفتح في باله مدى الإحراج الذي وضع نفسه فيه؟ بالطبع  مرة أخرى قد لا يكون وجد أي إحراج يذكر في ذلك، وإلا لمَ وضع ترجمة ابن باجة في مطمحه معاكسة لما في قلائده؟ وحتى إن وجد هذا الحرج، فلم يجد مراغما في إزاحته وتحييده ليضع عوض ما في “القلائد” ترجمة أخرى تعاكسها وتناقضها من أساسها، فينسلخ هو عن معتقده الأول في ابن باجة ويتخلى عنه، ويتوب عن كل اتهاماته، بشكل طيِّع وكأن لا شيء كان منه، ولا تهماً في حق الرّجل بدرت عنه، في تعبير صارخ وصريح عن خبثٍ ومكرٍ مضمرين، يتقنهما الفتح جيداً، ويجعل منهما تكتيكا للكتابة عنده، وكأن فتح “القلائد” يوهمنا أنه ليس هو من ألف “المطمح”، أو أنه ليس هو من ألف “القلائد” أصلاً، وأن ابن باجة “القلائد” لم يكن بأي حال ابن باجة “المطمح”. ليكون اللاستقرار هو ما يهيم بالفتح، ويخترق ترجماته لابن باجة، إذ يتردد بين الهجاء والمديح غير المعتدلين اللذين أحاط بهما ابن الصائغ.

كان يمكن أن تكون التّرجمة في “المطمح” عبارة عن استئناف السير بعد سقطة “القلائد” تلك لولا تدارك ابن باجة الأمر، بإرساله الصلة للفتح كما يحكي ذلك أصحاب التّراجم والإخباريين، غير أن السؤال الذي يُطرح هنا، لماذا لم يُسقط الفتح ترجمة ابن باجة في “القلائد” بعد كتابته لترجمة أخرى في “المطمح” عنه؟ خاصة والفتح كان على شفى أن يسقط ترجمة القاضي عياض حينما أقام عليه حد شرب الخمر، أهي رغبة ثابتة وراسخة في الحفاظ على ما سبق أن اتهم به ابن باجة؟ ومن ثمة الحفاظ على هذه التّرجمة الفضيحة لتتداول وتسافر أينما سافر الكتاب فيصير معها ابن باجة شخصية محط التّهكم والسخرية من لدن قارئي “القلائد”؟ أم أن الأمر يتجاوز رغبة الفتح لأن ما بين “القلائد” و”المطمح” من سنـوات هي كافيـة لانتشار النسخة الأصل وتعاظم خبرها واتساع رقعة استعمالها، وهذا وحده سبب كاف لعدم سقوطها، بل ويجعل أمر إسقاطها بلا جدوى تذكر؟

الفتح لم يأبه لمدى التّناقض الذي سيكون عليه بالتّأكيد، وهو ينتقص من ابن الصائغ في محل ويمجده في محل آخر، دون البحث منه عن منطقة عادلة بينهما، فهو يدينه في “القلائد” ويتبناه في مطمح الأنفس، يخاصمه للحظة، ويعفو عنه أو يصادقه في لحظة أخرى، في توتر غريب يؤكد تناقض الرّجل وعدم ثباته، في وثبة لا رابط بينها، ولا تناظر، فإذا كانت “القلائد” مجالاً لاستعراض الشتائم والتّلذذ اللغوي بالقذف في الرّجل، فـ”المطمح” مجال تتوزعه مشاعر التّعبير عن الإعجاب والتّقدير والإطناب في بناء المجازات المفعمة بالافتخار بالرّجل باعتباره موهبة أندلسية فذة، وتبجيله والتّعريف بقصب السبق لديه في الفهم وحسن التّعبير والإنشاء، أي التّخلي عن الطابع الهجومي والقتالي الذي طغى في “القلائد” لصالح المهادنة والمجاملة التي سيطرت على ترجمة ابن باجة في “المطمح”، ليكون أكثر شاعرية معه، فيقول الفتح في “المطمح” عن ابن الصائغ : “نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوّجت بعصره الأعصار، وتأرّجت من طيب ذكره الأمصار، وقام أوان المعارف واعتدل، ومال للأفهام فنناً وتهدّل، وعطّل بالبرهان التّقليد، وحقّق بعد عدمه الاختراع والتّوليد، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتّحقيق، الذي هو للإيمان شقيق، والجد، الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يودّ عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبّات والنّحور، وتدّعيه مع نفاسة جوهرها البحور، وقد أثبت منه ما تهوى الأعين النّجل أن يكون إثمدها، ويزيل من النفوس حزنها وكمدها “[16].

 التّبدل الذي طبع علاقة الفتح بابن باجة هو ما دعا المقري أن يستغرب التّناقض الطارئ الكبير بين لحظة “القلائد” المتجهمة والمتهجمة ولحظة “المطمح” المتوددة والودودة بقوله: “وأين هذا من تحليته له في بعض كتبه؟.” ليبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: أي التّرجمتين شهادة الزور؟ وعلى أيهما يمكن أن يعول القارئ في صياغة أي قول عن ابن الصائغ؟ ما الذي جعل ابن خاقان يتنازل عن موقفه في “القلائد” من ابن باجة ليلزم نفسه مدح الأخير؟

تغير الفتح الغريب ذاك من ابن الصائغ يجعل الفتح في موقف مثير للشفقة. فإذا كان من أسباب التّرجمة القدحية لابن باجة هو استهتار ابن الصائغ بإرسال صلته وهديته للفتح قبل تأليفه كتابه “القلائد”، فسبب التّرجمة التّمجيدية في “المطمح” هو تدارك ابن باجة للأمر وإرساله لصلة للفتح قبل ترجمته له في “المطمح” تجنبا للعواقب الوخيمة التي قد تأتيه من قلم الفتح السليط والفتاك، وكي لا يُشَهر به مرة ثانية، فيُنتج المزيد من الاتهامات التي قد يملك وقد لا يملك ابن باجة القدرة على دفعها أمام معاصريه وأمام من سيأتون فيما بعد، وكأن الفتح يعتقد من وراء كل هذا أنّ لا شيء يجب أن يُتمسك به إلى ما لا نهاية، ففي سياسة الأدب لا عدو دائم، ولا صديق دائم، ولا شيء يُلزمنا أن نلتزم بآرئنا إلى النهاية، حتى مواقفنا وأحكامنا من الناس يجب أن نتنازل عنها، ولكن مع حضور المكافأة، فأداء المكافأة أو الصلة عند الفتح هو مقابلٌ جيد للخنوع من المترجَم لهم، واعتراف لذيذ بشخصه الكريم، وإحساس غير متوقع بالانتصار أمام منافس ومزاحم في الأدب وأمام أبواب الحجابة السلطانية إبن الصائغ، حيث تصير ترجمة “المطمح” لا عفواً وصفحاً عن ابن باجة وغفراناً ربما لذنبه الذي كان قبل “المطمح”، من استهتاره الأول بأمر الصلة ما قبل كتابة “القلائد”، بل تكريماً له عن معركة ليِّ الذراع التي لم يقبلها ابن باجة، ليستسلم كليا أمام الفتح ويسارع إرسال صلته استدراكا للتّرجمة الفضيحة تلك.

ختم القول:

تصبح الثقة إذن في التّرجمتين مستعصية وغير مقبولة البتة، فلا مكان لترجيح الواحدة على الأخرى، أو على الأقل يجب الاحتراس منها والتّعامل معها بتوجس مريب، فلا التّرجمة التي رفض عندها ابن باجة تقديم مكافأته، ولا التي قَبِل عندها تقديم صلة للفتح لنهيه عن الإمعان في الزراية به وجب تصديقها بشكل تام، فكلاهما منحول لأغراض تتفوق على الموضوعية، فيصعب ويعسر علينا التّحديد أيُّ التّرجمتين يجب أن نصدق؟ أيُّ ترجمة لابن باجة يجب أن نتبنى؟ فبالتّأكيد لقد انتحل الفتح زوراً وبهتاناً في أحدهما، وهو كان أدرى الناس بابن باجة، فالرّجلان صديقان جمعت بينهما القصور المرابطية، والهويّةُ الأندلسيّة، والتّكالب على جمع حطام الدّنيا والتّلذذ بعيشها.

إحدى التّرجمتين إذن زائفة وكاذبة، والاعتماد على أحدهما دون الأخرى يترك في النفس كثيرا من الشك، فلا تكف التّرجمة غير المعتمدة على التّأكيد أن صورة ابن باجة الحقيقة ضائعة التّقاطيع، ولا تمت للأصل الحقيقي بصلة، فترجمة “القلائد” كانت بنيّة الانتقام من تهكم وسخرية ابن باجة، وتحت وقع رفضه صلة الفتح، والثانية هي الأخرى كانت تحت وقع صلة ومكافأة ابن باجة، فأيهما الزائف وأيهما الصّادق، أم أن ابن باجة خَلْطٌ وخَليطٌ بين التّرجمتين، وهذا يستحيل لالتباس الأمر وتخليطه على ابن باجة وشخصه وعلى القارئ نفسه، فتوفر شرط المكافأة في ترجمة ابن باجة في “المطمح” يجعل الفتح يتوب عن غيِّه الذي كان منه في “القلائد”، وينعت ابن الصّائغ بنعوت وأوصاف يحار فيها القارئ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ صادقاً عليه قول المتنبي:

“يا مَنْ يُقَتِّلُ مَنْ أرَادَ بسَيْفِهِ *** أصْبَحتُ منْ قَتلاكَ بالإحْسانِ

فإذا رَأيتُكَ حارَ دونَكَ نَاظرِي *** وَإذا مَدَحتُكَ حارَ فيكَ لِساني”.

——————–

[1]– عبد الرّحمن بَدَوي، رسائل جديدة لابن باجة، مجلة المعهد المصري للـدراسات الإسلامية بمدريــــد، 1970، المجلد 15، مـــدريد، ص. 7.

[2] – الإشارة هنا لابن رشد الحفيد.

[3]– الوزير ابن الامام، تصدير لجموع رسائل ابن باجة، ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق ماجد فخري، بيروت، دار النّهار، 1991، ص.  177.

[4]– الفتح بن خاقان الإشبيلي (ت 529هـ)، مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأنْدلُس، تحقيق محمّد علي شوابكة، دار عمار ـ، مؤسسة الرسالة، الطّبعة الأولى – 1403هـ / 1983م، ص. 397.

[5]– من المعلوم أن ابن باجة اشتهر بالشعر والموسيقى عند القدماء أكثر من شهرته بالفَلسَفة والعلوم الحكْمية.

[6]– القول الإنسي لابن باجة، الفلسفة في المغرب، مطبعة الأندلس، الدار البيضاء، ط. 1، ص.  2.

[7]– ابن رُشْد، الضروري في السّياسة: مختصر كتاب السّياسة لأفلاطون، نقله عن العبرية إلى العَربيّة أحمد شحلان؛ بيروت، مركز دراسات الوحدة العَربيّة، 1998، ص. 141.

[8]– الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق السيد نادر، بيروت، المكتبة الكاثوليكية، 1951، ص. 16.

[9]– ابن باجة، تدبير المتوحد، ص. 90.

[10]– م ن.

[11]– انظر نجيب محفوظ، ثرثرة فوق النّيل، دار مكتبة مصر، القاهرة، 1965، ص.43.

[12]– محمّد ألوزاد، القَول الإنسي، م م، ص. 124.

[13]– المرجع نفسه، ص. 124

[14]– هنري كوربان، تاريخ الفَلسَفة الإسلامية، م م، ص. 346.

[15]– Libera, la philosophie midievale, parais, puf, 1993,p. 160

[16] – مطمح الأنفس، ص.214.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى