مدخل
قد يندهش البعض من مطالعة عناوين بعض الكتابات من قبيل “فلسفة الحب” أو “ميتافيزيقا الحب”، أو عند اكتشاف وجود ذلك المجال الفلسفيّ، وهو جزءٌ من الفلسفة الاجتماعية، المختص بإشكالية الحب؛ لعلّ سبب ذلك مرّده إلى أن الفلسفة غالبًا ما تتخيّر من الموضوعات أكثرها إيغالًا في التجريد؛ من هنا كان البحث الفلسفيّ بالنسبة للجمهور من الناس مرتبطًا دومًا بالأمور بعيدة المنال، كما يصفون. والواقع أن مسألة الحب من المشكلات الفلسفية المحيّرة الصعبة، هذا بجانب أن الحب يحتل جانبًا عظيم الأهمية في حياة الكثيرين كما يبدو. ومن المعلوم أن من أهمّ ما يميّز الحب كظاهرة هو أنه يُحيل إلى خبرة إنسانية في الوجود بعيدةً كل البعد عن مجال العقل والتفكير المنطقيّ، وبالأخص التفكير الفلسفيّ، المبني على التصورات العقلية المحض، وكأن الحب بذاته ينأى عن أي محاولة عقلانية للنظر والبتّ فيه. وهذا ما جعل كثير من الفلاسفة إمّا أن يتحاشونه، باعتباره طاقة مُتفجرة خارجة عن السيطرة، وحالة من الاستغراق والنَهَم غير المحدود، وإمّا نظروا فيه بكثير من التعقُّل، ما جعلهم يخطئون كثيرًا في فَهْم الظاهرة التي نخبرها في حياتنا الجارية.
يُمكن القول بصفة عامة إن موضوع الحب ظلَّ غير جديرٍ بالبحث والنظر الفلسفي أمدًا طويلًا، هذا لما ينطوي عليه من لا عقلانية كما صدَّرنا، فهو لم يكن ليمثل موضوعًا أو إشكالية خطرة عند أغلب الفلاسفة، كإشكالية المعرفة أو الوجود على سبيل المثال، في حين أنه كان موضوعًا طريفًا، بل محبَّذًا في الأغلب لدى أهل الأدب. وسنحاول فيما يلي (الفقرة الأولى من المقال) التعرُّض إلى أهم ما يميّز التناول الفلسفي للحب عن الميادين الأخرى.
أمّا عن تهميش موضوع الحب في تاريخ التفلسف فقد جعل فئة من مُنظري النسوية المُعاصرة تذهب في القول إلى إن إهمال الحب في تاريخ الفكر يتناسب مع ما تضمره الفلسفة من ميلٍ وتفضيلٍ للذكوريّ، وتحجيب للأنثويّ، حتى في الموضوعات والإشكالات التي تتناولها. وهو إن دلّ على شيء -بالنسبة لهؤلاء- إنما يدل على ذكورية الفلسفة، وذكورية من سطّروا تاريخها، بدءًا من أفلاطون وحتى يومنا هذا. وبدءًا من هذا الأخير-تحديدًا في مأدبته symposium- نجد أن موضوع الحب لم يكن غائبًا كما يظهر، لكن كان حضوره هامشيًا ثانويًا، حيث طغت عليه إشكالات أخرى اعتبرت وقتئذ أكثر أهميةً وأعلى شأنًا. ومن الشائع أن ضربًا من الحب قد نُسب إلى أفلاطون بالتحديد، وقد نجح في الانتشار واكتسب عند الجمهور، بما لا يخلو من سوء فهم، هالةً من التقديس.
في محاورة المأدبة، يقص علينا أفلاطون على لسان أحد شخصيات المحاورة، وهي ديوتيما النبيّة، كيف وُلد إيروس (إله الحب في الميثولوجيا اليونانية كما هو معروف) وما هو نَسَبه، وكيف أن أمه، وهي إلهة الحاجة والعَوَز (أي الفَقر)، قد أغوت إله الوفور والنَماء (أي الغِنَى)، حيث إن الحاجة أرادت أن تُرزق من الوفور بغلام لضعف حالها، فولدت لنا الحب. ومنذ تلك المحاورة أيضًا وقد درج الاعتقاد في فكرة أن الحب هو البحث عما يُكمل الذات. هذا الاعتقاد الأخير هو مدار الفقرات الأساسية من هذه المقالة. هذا على اعتبار أن ذلك الاعتقاد يُمكن تحليله، فنراه يتضمن التسليم بصدق قضيتين أوليتين: (1) القضية التي تقول إن “الذات كائن ناقص/مُفتقر”، و(2) القضية القائلة إن “الحب بإمكانه أن يسُّدّ أو أن يعوّض ذلك النقص/الفَقْر”؛ في هذا المقال نُسلِّم بصحة القضية الأولى، ونشك في صدق الثانية، على أساس أنها في الواقع، كما يطمح المقال إلى أن يبيّن، أشبه بالقول بتعويض الفَقْر بالفَقْر؛ وهو ما سوف ننظر فيه في الفقرة الثالثة في محاولة إثبات أن الحب، على نقيض ما هو مطلوب أو مأمول فيه، يُضاعف من اغتراب الذات في نهاية المطاف، وبالتالي يَغْني فقرها. إنه فَقْرٌ للذات وليس للفَقْر.
نعرض أولًا: طبيعة التناول الفلسفيّ للحب، وثانيًا: نحو كوجيتو للحب يُمثل نقطة انطلاق المسار الجدليّ لكينونة المُركَّب العاطفي (العلاقة العاطفية)، وهو ما سوف نتابع مراحله في باقي أجزاء المقال. ثالثًا: محاولة اشتقاق نوعين من الحب استنادًا إلى تنوع الدلالات. فاليونانية القديمة مثلًا تُميِّز في الحب بين إيروس eros، وآغابي agape، وفيليا philia. وينتج عن ذلك وجود نمطين أساسيين من الحب: أفقيٌ ورأسيٌ. يُركز هذا المقال على النمط الأوّل تحديدًا، وعلى الحب الإيروسيّ حصرًا، بما أنه يُعادل، حسب فهمنا، الحب الرومانتيكي أو الغراميّ موضوع المقال.
1. خصوصية التناول الفلسفي للحب
يقول البعض إنّ الفلسفة عندما تتحدث عن الحب فهي كأنما تتحدث عن نفسها، إذ إنها تعني اشتقاقًا كما هو معروف وفي أبسط تعريفاتها “حب الحكمة”؛ بينما يرى هايدجر أن الفلسفة ليست حب الحكمة بقدر ما هي حكمة الحب[1]؛ نظرًا لأنها تتيح للإنسان الكشف عن العلاقة التي تجمع بين الفكر والطبيعة، الصلة الوثيقة بين الإنسان والعالَم. إنّ أهمّ ما يميز البحث الفلسفي في مسألة الحب هو أنه يتساءل حول ماهيته، ليس كظاهرة جزئية أو فردية، أي ليس كما يتم دراسة الحب على النحو الذي نراه في علوم النفس والاجتماع والدراسات الأنثروبولوجية، أو بوصفه خبرة شخصية كما هي الحال في الأدب. وحياة الشعراء غنية بقصص الحب الغراميّ، والذي يكتسب في بعض الأحيان مَسحة أسطوريّة. أمّا البحث الفلسفي، في مَراميه ومناهجه التي ينتهجها في سبيلها، يعلو ويتجاوز كلّ المنظورات تلك، وكذا الرؤى الشخصية وحالات الحب الفرديّ؛ فمن غايات الفلسفة العامة أنها تطمح إلى تكوين تصور يَشْمل التجربة الإنسانية ككل. تصورٌ يضم في نطاقه كل ما يكتنف وضع الإنسان وأحواله، كالطرق التي يتبعها ذلك الموجود الإنساني في حياته اليوميّة، ومنها التي يسلكها في بلوغ السعادة والنشوة أو لتلبية حاجاته، وبالتالي إضفاءاته الغنية بالمعنى والقيمة. وقيمة الفلسفة هي أنها قادرةٌ على أن تمدنا بهكذا تصور، بما أنها أشمل وأوسع نطاق تصوريّ له قدر من حريّة الحركة والمرونة ما يسمح لها بإثارة أي موضوعات، وبأي الطرق الملائمة. إن الفلسفة قابعة ها هنا وليس في برجها العاجيّ كما قد يُخيَّل، حتى عندما يُمارس الإنسان الحب، أو يحاول إغواء أحدهم للوقوع في حبه.
2. كوجيتو الحب
يرى ماكس شيلر أن الإنسان قبل أن يكون كائنا مُفكِرًا أو راغبًا هو كائن مُحِب. ولمّا كان أوّل موضوع للمعرفة يتحصّل عند الأنا المُفكر، بحسب ديكارت، كان هو نفسه، ذلك الأنا بوصفه كائنًا مفكرًا أو عاقلًا Cogito ergo sum، كذلك فإن نفسه تكون أوّل موضوع للحب. لذا، يمكن القول إن الأنا بالنسبة إلى نفسه يكون بمثابة الواحد والأحد، من حيث أنه في البداية لا يعرف ولا يحب غير ذاته؛ لعلَّ هذا أيضًا ما دفع أرسطو قديمًا إلى اعتبار حب الذات شرطًا أوليًّا لأنماط الحب كافة. فمن يحب نفسه قادرٌ على أن يحب ما عداه.
في البدء كان الأنا، حقيقة واحدة يقينية وكلّية. لحظة الحب هي تلك اللحظة التي يحدث عندها شقاق في هذه الواحدية الأنوية، حين يتبيَّن الأنا للوهلة الأولى أنه ليس بوسعه الحياة بمفرده، منعزلًا عن عالم الأشياء. إنه يتمتع بالقدرة على تأسيس علاقات وروابط بالأشياء من حوله. وهو مميزٌ وفريدٌ عن تلك، من حيث أنه عارفٌ أو عاقلٌ، ولكن هل المعرفة بذاتها تكفي بالنسبة إليه من أجل إشباع حاجته وشعوره الداخليّ بالفَقر؟ إن الأنا في عملية المعرفة يُبادر الأشياء الاهتمام ابتغاء معرفة طبائعها، بيد أن تلك الأشياء لا تُبادله الفضول نفسه. ولهذا لقد كان تعلق الأنا بالأشياء تعلقًا أحادي الجانب إذا جاز القول. فمن غير المتوقع -وسيكون من السذاجة إذا كان الأمر على غير هذا- أن تبادلك الأشياء من حولك -أشياء الطبيعة وظواهرها- الفضول والاهتمام نفسه، أن تعرفك كما توّد أنت معرفتها، إذ إنها بذلك تتوقف عن أن تكون مُعطاة، أي أن تكون موضوعات. إن عملية المعرفة في صورتها القصوى تنطوي على ذاتٍ عارفةٍ وموضوعٍ للمعرفة، حيث يكون الموضوع خاضعًا خضوعًا كاملًا، ممتثلًا أمام الذات العارفة. وهو ما يعني أن موضوعات المعرفة تهب نفسها للأنا تلقائيًا، يفحصها ويستكشفها، دونما أي مقاومة منها، وهو ما يميز المعرفة عن الحب كنوعين من الفاعلية الإنسانية.
وعلى العكس من ذلك، فإن ذاتًا أخرى، الأنت، قادرة على الوقوف أمام الأنا وقوف ندٍّ لندّ، فهي حتى إن وهبت نفسها للأنا فذلك يكون بعد مقاومة أو حتى خصومة، أي بعد عناء. ومن المحال أن يعثر الأنا على من يُبادله الاهتمام إلا في عالم الذوات. ذلك لأن الأنا يتعرف على ذاته ويتمثّلها عبر آخر وليس من خلال الأشياء أو الموضوعات. وهنا يبدأ الحب في الظهور، حين تظهر رغبة عارمة في السيطرة على الآخر، ولكن هناك قوة أيضًا تدفعك إلى تقديم ذاتك للآخر، أن تكون تحت تصرفه. ذلك على خلاف موضوعات الطبيعة التي يمكن أن يتملكها الأنا بسهولة، يخضعها تحت سيطرته مثلما يشاء وهي قاصرة، أي بدون مقاومة كما أشرنا[2].
إن الأنا في مساعيه تلك، المتعلقة بحاجته إلى الاهتمام والتعلق، أي الحب، يمكن أن يلتمس ذلك في طريقيّن: أفقي ورأسي؛ ويحدث النمط الثاني عبر التعلق بفكرة معقولة مجاوزة والفناء فيها، وهي فكرة الإله أو المطلق، ذلك هو الحب الصوفيّ أو الإلهيّ، أو حُب المُثُل الأفلاطونية (حب الخير، والجمال، والحق). أمّا الحب الأفقي فيقصد عالم الأغيار، الأفراد الذين هم من لحمٍ ودمٍ. فلا يكفي شكل التعلُّق الناتج عن المعرفة إشباع مثل تلك الرغبة لدى الإنسان، رغبة امتثال ذاته في شخص آخر، وهو ما يتحقق فعلًا بواسطة الحب، فحتى إذا اتخذت المعرفة شكل معرفة أشخاصٍ، فإنهم لن يكونوا إلا موضوعات للمعرفة كذلك، أي جزء من الطبيعة. وموضوعات المعرفة بالنسبة إلى الذات العارفة تقف منها الذات موقف الغريب عنها والمنفصل. إن هذه الموضوعات لا تَهب نفسها للأنا حتى يستكشفها ويتعلق بها ويتحدّ بطبيعتها ومن ثمّ يصل إلى فحواها وحقيقتها عن طوع وإرادة، وهنا يكمن جوهر التمييز بين حب الذات للذات، وتعلق الذات للموضوع.
3. من «الكُمُون» إلى «العُلُّو»
«ما الحبّ؟
الرغبة في مغادرة الذات.
الإنسان حيوان عاشق.
أن تعشق يعني أن تضحّي بنفسك وأن تَتَعَهّر.
لذلك كان كلُّ حبٍّ هو بغاء». —بودلير، اليوميات
يُفضِّل بعض الناس حال العزلة أو الوحدة. وهو ما يعني أن تبقى وحيدًا في حجرة كما أراد باسكال من قولته الشهيرة في تأملاته: “ينبع شقاء الإنسان من شيء واحد هو عدم استطاعته البقاء وحيدًا في غرفة”؛ غير أن طبيعة الإنسان وغريزته الاجتماعية غالبًا ما يرغمانه على الخروج، ألا يبقى في حجرته وحيدًا. لا سيّما إذا كان الإنسان في مرحلة الحب الجامح، مرحلة المراهقة أو الشباب، وكان صحيح البدن، فهو ينزع إلى الخروج من حجرة باسكال تلك، ويقول كيركجور في هذا المعنى: “ما هو الشباب؟ إنه حلم. والحب؟ إنه جوهر ذلك الحلم”. إذن، فلا مناص من الخروج من قوقعة الذات والانفتاح على الآخر. وهذا يعني بأحد المعاني أن يكون المرء منفتحًا على القَدَر. إن الانفتاح على الآخر وما يستجلبه ذلك من إمكانات يعني العُلُو transcendence فوق الحياة الفردية الخاصة والامتزاج بآخر والاتصال به. إن الأنا يجد نفسه في النهاية مضطرًا إلى التخليّ عن وحدانيته وعزلته، والتوجه وقصد الناس من حوله. هذا إلى أن يَظْفر بذلك الأنت الذي يجد معه كل ما هو مسلوب مفقود، كل شيء فيه ومعه قابلًا لأن يُعاش وأن يُحَب. وهو الآن يطمح إلى ذاك الاهتمام الذي ينشده من قِبَل ذلك الشخص بالتحديد ودونًا عن سائر الناس. فبمجرد وقوع الأنا في هوى شخص ما، ومع ظهور الأنت على مسرح الوجود، يحدث الانشقاق سالف الذكر، فتحل الثنائية محل الواحدية، إنها العلامات أو الأعراض الأولى على تشكُّل الحب.
إن هذا التعلق تلازمه بعض التناقضات من جهة أنه، في أول الأمر، يكتشف الأنا الآخر كأنه موضوع مليئ بالألغاز وقد استأسر اهتمامه كثيرًا، ويرغب في معرفة ذلك الموضوع أشد الرغبة. حين يجتذبه في البداية غموض الآخر وفرديته. ولا غرو، إذ إن هذا تغيّرٌ طارئ حادث على خبرة الأنا. وعلى الرغم من استقلاليّة الآخر عنه، وأنه غريبٌ دخيلٌ، إلا أنه يصّر أن ينظر إليه كما لو كان امتدادًا لذاته هو، فالمحبوب قريبٌ وبعيدٌ في آنٍ. وهذا هو مقام الوَجْد ecstasy في الحب: أن تكون خارج نفسك. ذلك هو معنى الامتداد “وليس في استطاعتنا ولا في قدراتنا ما يمكن أن يوقف هذا المَدّ”[3]. إن ذلك الامتداد بالضبط هو ما يُشكل جوهر الألم الذي نُكابده بعد انقضاء العلاقة العاطفية، أي ذلك الشعور بأنه قد بُتِر (وهو نوع من البَتْر على نطاق معنوي فعلًا) جزءٌ منك لا يمكن تعويضه أو إحلاله أبدًا؛ وهذا شعورٌ سامٍ، لأنه يُمثِّل دلالة قويّة على الإخلاص والتفاني في الحب، وهو يفرّق بين الحب الأصيل والحب الزائف، نحفظ به ماضينا على هيئة الذاكرة، إذ إن ذاك الشعور هو الوحيد القادر على أن يؤكد لنا أن التاريخ، أو الذكرى التي حييناها كانت هي ما عشناه فعلًا، واقعية أنك كنت يومًا مُغرمًا. من لَم يَخْبر ذاك الألم الناتج عن الفراق لَهو قادرٌ على تسييل وتمييع أمور العالَم بطريقة مدهشة، ولا يساوره قلق أو خوف من فكرة أن الحياة من الممكن أن تستمر على نحوٍ مختلف، في مكان آخر مع شخص آخر. وهذا هو عدم الإخلاص في الحب من وجهة نظر حنّة آرنت لأنه “يهدم الحقيقة كما كانت”.
4. العلاقة العاطفية بما هي وحدة
تنتاب الأنا، في مساره الجدليّ، نزعة إلى حال الكمون مرة أخرى، فهو يميل إلى العودة إلى العرين ولكن باصطحاب الفريسة: هذه المرَّة برفقة الآخر. لذا هو يريد التماهي identification مع الأنت، في مُركَّب واحد، أساسه وحدة العلاقة أو الحب الذي يجمعهما. إن شرط الاتحاد الحب، أي الانسجام والتوافق، والاتحاد لا يمكن أن يوجد بين الأمور المختلفة ما دامت مختلفة، كما تعلمنا محاورة أفلاطون. إن المركب الجديد (العلاقة العاطفية) غايته، في شكله السليم، تجاوز التنافرات والتناقضات بين الحبيبين، مع الإبقاء عليها في آنٍ، والإبقاء على المتناقضات يعني الإبقاء على الغيريّة، وفيها جوهرالعلاقة أو المُركَّب، ذلك المكوِّن الذي يمكن أن يُسمى بالتوتر. إن الحفاظ على ذلك التوتر، وهو المُكوِّن للعلاقة وفيه قوامها، دون محاولة أحد الطرفين التماهي ومحو الاختلاف، يعني الإبقاء عليها أطول فترة ممكنة. إننا نحب الآخر من حيث كونه ذاتًا حرةً، غير طيّعةٍ، يمكن التنازع عليها، ليس يَسهل امتلاكها، وهي فوق كل ذلك قادرة على تحطيمنا، وأن تخيَّب آمالنا. هذا يعني أيضًا أننا نحب ذات الآخر لقدرتها على الإتلاف والتدمير، وهو أمر عجيب في الطبيعة الإنسانية.
إن مثل ذاك المركب الجدليّ، الجامع للأضداد، هو ما يكوّن ما يُعرف بالحب ويسيّر مراحله. وما أن يتملك أحدهما الآخر، ويذوب الآخر فيه حتى تتحقق الوحدة المرجوة. إن الوحدة، سواء تحققت شكليًا أو مؤسساتيًا بالزواج أو غيره، تُصبح دائمًا مهددةً بخطر السأم والملل، لأن الأنا قد عاد إلى حالته الأولى، إذ إن بإتمام الوحدة والجمع بين الحبيبين، حدث أن ابتلع أحدهما في النهاية شخص الآخر، فتلاشت الثنائية أو الغيريّة، التي هي شرط الحب. هذا بالضبط ما عناه نيتشه عندما لاحظ أن “كل حب عظيم يولّد الفكرة القاسية العنيفة المتعلقة بتدمير المحبوب، كي يسرقه مرة واحدة في لعبة التغيير المدنسة: لأن الحب يخشى التغيير أكثر مما يكره الدمار”[4]. ولمّا صار أن ابتلع أحدهم الآخرَ ومحاه في كينونته هو، فقد عاد الأنا الواحد إلى وحدانيته الأولى، نزل إلى كمونٍ بعد علوٍ، وبالرغم من استمرار العلاقة إلا أنها تستمر في الوجود صوريًا بعد أن فُضَّ مضمونها، وجُردت من معناها، يَبَسَتْ ولم تعد تخفق فيها حياة. عند هذه المرحلة يشعر الأنا، كسابق عهده، بالوحدة … لقد تحول اهتمام الشخص الذي أحبه يومًا، فأصبح كمثل اهتمامه بنفسه.
ختام
إذن، الحب بذاته غير قادر على المساهمة بشيء في اكتمال الفَرْد. بل هو في الواقع يعمل عملًا مُخالفًا بتعميقه هوة الاغتراب واللاشيء. ولهذا فهو خطرٌ وجوديٌ حقيقيٌّ على الذات، فبدلًا من أن يكون عنصرًا للثبات وإمداد الفرد بالمعنى يمده، عوضًا عن ذلك، بالوهم ووعود السعادة غير الحقيقية. ولهذا فهو (على عكس ما افترض أفلاطون في المأدبة) يسهم في توسيع مدى شعور المرء بنقصانه وفَقْره، بأن يضعه أمام حقيقة الوجود الصائر والمتحول، والتوكيد على ذلك الفَقْر هو ما أودى إليه في النهاية جدل العلاقة العاطفية كما رأينا، أي بعد انقضاء الظاهر الوهميّ وانكشاف تلك الخبرة على حقيقتها؛ فالأشياء، كما يقول هايدجر، “لا تكشف عن نفسها للوعيّ إلا عن طريق الإحباط الذي تسببه، أي إفلاسها، واختفاؤها، ومخالفتها ما هو متوقع منها، أو عدم وفائها بوعودها”. إن الحب ابنٌ لأمه، الحاجة، ولا شيء أكثر من ذلك.
————-
[1] زكريا إبراهيم، مشكلة الحب، مكتبة مصر، بدون رقم طبعة، ص35.
[2] يرى البعض أنها (أي الأشياء) قاصرة عن إمدادي بأي معرفة، فالمعارف التي يفترض أنني اكتسبها من الواقع هي أمور تفرضها الذات العارفة فرضًا على مظاهر الطبيعة لتنظّم احساساتنا وأفكارنا، وهي غير مُلزمة بالنسبة للطبيعة، ولا علاقة لها بوجودها من حيث هي كذلك.
[3] Hannah Arendt, Martin Heidegger, Letters, 1925-1975, Harcourt, Brace & Company, 2004.
[4] ربما يكون ذلك سبب تعلق نيتشه بأوبرا كارمن لبيزيه، والتي انتهت بالمشهد الأخير الذي يعلن فيه دون خوسيه: “نعم! أنا قتلتها، أنا قتلت معشوقتي كارمن!”؛ الرغبة في تدمير الآخر هذا ما يشكل جوهر الحب عند نيتشه كتجربة وجودية.