الفيلسوف الجديدمقالات

مجرد لعبة؟ – باتريك ستوكس

ترجمة: منار الصلتية

عادةً ما تُستقبَل أي تقنية ترفيهية جديدة ذات قيمة استقبالَ شيءٍ ينذر بالهلاك الوشيك. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أعرب الأخلاقيون عن قلقهم من أنّ الروايات قد تؤدي إلى إثارة الغرائز الجنسية لدى القرّاء -خصوصًا النساء- وتفصلهم عن الواقع، وتقودهم للرذائل، وهجر الأسرة، بل وحتى للانتحار. وخشى الناسُ من أن ظهور الراديو قد يُلهّي عن القراءة النافعة، وفيما بعد، اِنتُقِدَت الأفلام كونها تُلهي عن التجمّع العائلي الحميم في الاستماع للإذاعة. كما كان التلفاز مَصدرًا للقلق الثقافيّ المُلِّح الذي ألهم بيلا لوغوسي لدور البطولة في فيلم الإثارة والتشويق «قَتلٌ بالتلفاز» (Murder by Television) عام 1935م، بعد عشرِ سنواتٍ فقط من عرض المُخترِع لوجي بيرد لأول تلفاز، وقبل سنةٍ من إطلاقِ هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) أول خدمةِ بثٍ تلفازي في العالم.

تلاشت مُعظم هذه المخاوف بمرور الوقت على الرغم من أن العديد من الناس سوف يستمرون بإخبارك بأنّ التلفاز يُفسد عقلك. ومع ذلك، ما تزال ألعاب الفيديو موضعَ شُبهةٍ دائمة. وربما يكون السبب ببساطة التخوّف من كل جديد، أو لعلّ ألعابَ الفيديو ملائمة لمن أراد أن يُخالف فيُذكَر. رُبما من السهل أن ننبذ هذه المخاوف؛ إذ إننا وصلنا اليوم إلى العقد الخامس من ألعاب الفيديو ولم تسقُط السماء حتى الآن، كما لم يحوّل التلفاز -الذي استمر قُرابة القرن- أعيننا إلى أشكالٍ مربّعة.

ولكن على الرغم من ذلك، فإن ألعاب الفيديو تَطرح حقًّا بعض التساؤلات الأخلاقية المزعجة. ولا تنشأ هذه الأسئلة من التقنية ذاتها وأجهزة هذه الألعاب بقدر ما تنشأ من الانغماس في عالمٍ وهمي؛ وبناء على ذلك؛ فهي ليست مشاكل تقتصر على الألعاب الإلكترونية فحسب، بل تشمل كل شيء؛ بدءًا من حرب الطلاء (بينتبول) حتى لعبة «رعاة البقر والهنود» التي يلعبها الأطفال فيما بينهم. فالمشكلة تتعلّق باللعب مهما كان نوعه؛ حيث تُجنّد فيه كمُشاركٍ فعّال في عالمٍ افتراضيّ، بمحض إرادتك.

أصبحت سلسلة ألعاب الفيديو «غراند ثفت أوتو» مصدرًا مُستمرًا للاستنكار لما تنطوي عليه من عنفٍ وجرائم. وعلى سبيل المثال، يتضمن الجزء الخامس من هذه السلسلة إمكانية استئجار عاملة جنس، ثم قتلها، وتحفّزه آلية اللعبة لفعل هذا من أجل استرداد ماله. هذا مثال واحد فقط من أمثلة كثيرة على الجرائم التي تدعو اللعبة اللاعبين لارتكابها. ففي مشهدٍ آخر، يعذّب اللاعب رجلًا ما بأقطاب كهربائية بوحشيّة، بعدها «يُكفّر» عن ذنبه بخطاب عن عدم جدوى التعذيب. إنّ مثل هذه الألعاب تكافئنا على أعمال غير قانونية وخبيثة وشريرة تمامًا بالمفهوم الأخلاقي في العالم الواقعي. ولكن هل هذا يهم من الناحية الأخلاقية؟

أو فكّر في ألعاب الجنس عبر الإنترنت التي ممكن أن تُفهَم على أنها شكل تفاعلي من أشكال الإباحية. رغم أنه لا وجود للعنف فيها، ولكن هل يمكن اعتبار ممارسة لعبة، هدفها أن تمنح «اللذة» لشخصية كرتونية على الشاشة، تصرفًا من تصرفات الخيانة؟ أم أن هذا الفعل ببساطة أبعد ما يكون عن الجنس الحقيقي، لذا لا يمكن تصنيفه ضمن هذا المفهوم؟

قد يجيب معظمنا بتلقائية: «لا»، بحجّة أننا لا نفعل هذه الأمور حقًّا؛ إذ إننا في الواقع لا نعذّب أحدًا ولا نقتله ولا نمارس الجنس فعليًّا مع أحد. ولا يمكننا إلحاق الضرر بشخصيات وهمية ولا تكوين علاقات حميمية معها، كما أننا ولا ندين إليهم بشيء؛ لذلك لا يمكنهم بحقّ أن يتوقعوا منّا الرحمة أو يجبروننا على إخفائها. ولنستعير من الإطار الفكري لفيلسوف القرن الثامن عشر، إيمانويل كانط، الذي يقول إن الكائنات الوهمية مثل التي تصادفنا في الألعاب تقبع خارج المجتمع الأخلاقي بالنسبة لفاعلين أخلاقيين، إذ توجد الحقوق والمسؤوليات فقط ضمن منظومة هذا المجتمع.

حسب رأي كانط، فإنّ الحيوانات ليست جزءًا من مجتمعنا الأخلاقي أيضًا؛ لهذا لا تعدُّ كائنات مُلائِمة لأداء الواجب الأخلاقي. ولكن حتى كانط بدا مضطربًا بما فيه الكفاية من هذه الفكرة، مما جعله يعترف بأنه قد يكون لدينا واجبات غير مباشرة لمعاملة الحيوانات بالحُسنى، ويرجع السبب ببساطة إلى أن التصرّف بقسوة تجاهها قد يُهيئنا لنكون قُساةً على البشر أيضًا. والأمر ذاته قد ينطبق على الألعاب؛ فإن قضينا وقتًا طويلًا في مُشاهدة الأسلحة الرقمية ودهس الشخصيات الافتراضية، فهل سينتهي الحال بنا إلى تلويث شخصياتنا بطرقٍ ستكون لها عواقبها السلبية في «عالمنا الواقعي»؟

تُشير بعض الدلائل إلى أنّ الجنود المعاصرين -الذين نشأوا على ألعاب التصويب وإطلاق النار- وجدوا أن ساحة المعركة مألوفة بشكلٍ غير اعتيادي مما سهّل فيها القتل. ومع ذلك، لا توجد علاقة ملحوظة بين تزايد ألعاب الفيديو العنيفة والعنف بصورةٍ عامّة. مثالًا على ذلك، جيلي الذين ترّبوا على ألعاب الرماية البدائية كلعبة «دوم» ولعبة «ولفينشتاين» ثلاثية الأبعاد، يبدو أنّهم ليسوا ميّالين للعنف أكثر من أسلافنا الذيّن كانوا يلعبون لعبة «الكرة والدبابيس» (البينبول).

إنّ ما يثير القلق ليس فكرة أن الألعاب تغيّر المجتمع الذي تدخل فيه، بل كيف أنها تُعزز الصورة التي أصبح عليها المجتمع فعليًّا وتستنسخها. وعلى الرغم من أنّ الأسلوب الساخر يغلب على لعبة «غراند ثفت أوتو-الجزء الخامس»، فما زالت تدعوك إلى التعامل مع العاملين في مجال الجنس كأشياء تُستعمَل مرة واحدة ثم يمكن التخلص منها. فعند نقطة ما، قد لا تكون النيّة الساخرة قوية بدرجة كافية -أو جادة بما يكفي- لكي تزيل تلك الرسائل السلبية. (تذكّر أن لعبة «المونوبولي» كانت تعني في الأصل نقدًا لرأسمالية مالكي الأراضي، ومع ذلك، يلعبها جميع الأشخاص الذين يريدون –بجديّة- أن يصبحوا أغنياء وأن يفلسوا جيرانهم اللاعبين).

ناقش الفيلسوف النمساوي، سيباستيان أوستريتش، مؤخرًا بأنّه «يمكن وصف أي لعبة بأنها غير أخلاقية إذا دفعتنا أن ننقُل النظرة البشعة للعالم الخيالي إلى العالم الواقعي». وهذا لا يقتصر على ألعاب الفيديو فقط؛ إذ إنّه ليس من الصعب أن نتخيل كيف يمكن لشخص ما أن يرى لعبة حرب الطلاء على أنها تطبيع للحروب وجذب لها، أو أن لعِب الأطفال للعبة «رُعاة البقر والهنود» فيه استخفافٌ بقضايا التجريد والعنف العنصريّة. بالتأكيد، لا يحمل الأطفال في عقولهم أيًّا من هذه الأفكار وهم يلعبون. ولعلّهم لا يحملون أيّة نيّاتٍ خبيثة في قلوبهم، إلا أن المعاني التي ينغمسون فيها قد تكون معانٍ مسمومة، قد تُرى اللعبة كنوعٍ من التدريب على هذه المعاني، وبتعبيرٍ خَطر: هي نوعٌ من «التلقين».

حسنًا، لكن ألا نقرأ كُتبًا ونُشاهد أفلامًا تحدثُ ضِمن عوالمٍ مُزعجةٍ أخلاقيًّا؟ هل من غير الأخلاقي أن نقرأ رواية «مُختل أمريكي» أو نُشاهد سلسلة «صِراع العروش»؟ نحتاج في هذا الموضع أن نسلّط الضوء على مقارنة مهمّة. إنّ قراءتك لكتابٍ ما لا يُلزمك بأنْ تكون مؤيدًا للعالم الأخلاقي الذي تغمس نفسكِ فيه أثناء القراءة؛ إذ يُمكنك أن تُقدّر أيّ كتابٍ من موضعِ المُراقِب المذهول، إلا أنّ الألعاب تتطلب أكثر من ذلك. وهنالك تشابه مثير للاهتمام بين هذه النقطة والمواد الإباحية؛ فقد أُعدَّتْ الإباحية لتكون مُهَيِّجة؛ فهل هي مجرد لعبة؟ إذ إنها تؤيّد ضمنيًا ما تصوّره. (نعم، للأسف، إن ذلك ينطبق على لعبة سكند لايف أيضًا). إن القصد منها أن تدمج المتفرّج فيما يُعرَض على الشاشة ليستحسن الأمر ثم يتمناه أن يستمر. وبطريقة مماثلة ولكن أكثر تفاعلية، تتطلب منك الألعاب أن تندمج فعليًّا في تنفيذ المهام إذا أردت أن تنجح فيها. لست مُجبرًا بالتأكيد على قتلِ عاملي الجنس في لعبة «غراند ثفت أوتو- الجزء الخامس»، أو قد تقوم بذلك على مضض، ولكن حينها لن تُحقق فوزًا كاملًا في اللعبة، أليس كذلك؟

في النهاية، هل سيمنعك هذا من مُمارسة الألعاب؟ ربما نعم وربما لا، ولكن في بعض الأحيان من الجدير أن تسأل نفسك على الأقل: هل أفرطّتُ في التسلية؟.

 


 

New Philosopher: Issue #20: play

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى