
“كانت هذه السنوات من عمري بين السادسة عشرة والثانية والعشرين عهدًا من الفوضى، عند ابتداء خلق الأرض، وعندما كانت اليابسة والماء لم يتميزا بعد، كانت تهيم في الغابات التي تغطي الوحل العكر حيواناتٌ برمائية ضخمة، وهي العهود التي تسبق النضج. فالعواطف التي تجهل نفسها كما تجهل الهدف من سعيها المضطرب الحائر تظل تسكن المناطق غير المحروثة في الروح الشابة. إن الأسنان اللبنية حين تحاول أن تشق اللثة تصيب الطفل الصغير بالحمى، ولا يذهب هذا الغليان إلا حين تظهر الأسنان وتبدأ بالنهوض بوظيفتها. وكذلك عواطفنا المبكرة؛ تعذبنا حتى نحقق صلتنا الحقيقية بالعالم!”
طاغور- ديوان أغاني المساء
عُرفت الهند بملحمتين خالدتين؛ أُولاهُما ملحمة المهابهاراتا، وتعني كلمة مها الكبير، وتدل بهاراتا على القصة؛ فتعني المهابهاراتا إذن “القصة الكُبرى”. وغني عن الذكر أن هذه الملحمة ذات مكانة سامية عند الهنود، ومثلها ملحمة الراميانا وهي الملحمة الثانية والمُبجَّلة. يقول جوستاف لوبون في كتابه عن حضارة الهند: “ذلك العالم العجيب هو زبدة العوالم جميعها وخلاصة ناطقة لأدوار التاريخ كلها وصُورة صادقة للأطوار المُترجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة”(1).
وحين يُسمي لوبون الهند زبدة الأرض فليس ذلك من قبيل المبالغة؛ فكثرة الأجناس في الهند تشمل السكان الأصليين من الدرافيدا والتاميل والراجبوت، بالإضافة إلى الآريين الأوائل والطورانيين الترك والآسيويين الصفر وسلالات المغول وحتى ذوي الأصول العربية والفارسية وهم ليسوا قِلة، ثم تأثرت الهند في العصر الحديث بالثقافات الأجنبية خصوصًا إبَّان الاستعمار الإنجليزي لعُموم الهند، ولنقل مثل ذلك عن الاستعمار الفرنسي شرق الهند والبرتغال في الساحل الغربي. فلئن كانت الهند زبدة الأرض بتعبير لوبون فإننا مع المهابهاراتا بإزاء زبدة الزبدة؛ فقد امتزجت المهابهاراتا في دماء الشعب الهندي ونخاعه، وجسدت فنونه وتاريخه وأدبه، وتحدثت عن الفارس، والأمير، والكاهن، والزوجة، والحياة والمَمات، والخير والشر وما بينهما.
كَتَبَ جواهر لال نهرو المثقف والسياسي اللامع وأحد قادة الهند الحديثة: “إني لا أعرف كتابًا في أي مكان له مثل هذا النفوذ المُستمر والأثر النفاذ على أذهان عامة الناس وقلوبهم مثل ما لهاتين الملحمتين. وعلى رغم أن تاريخهما يرجع إلى عهود بالغة في القدم، فإنهما ما زالتا قوة حية في ضمير الشعوب الهندية”(2). تسربت هذه الملحمة الجبارة إلى قلوب الهنود، وصارت شخوصها؛ كريشنا وبيشما وأرجونا والحسناء دراوبادي ويوديشتيرا، أسماء مقدسة عند عامة الهند؛ ويعود السبب لجاذبية الأدب السنسكريتي الرفيع وقدرته على التجسيد، بينما ظل كتاب الأوبنشاد المُتخم بالتجريد الفلسفي ذا مقروئيةٍ مرتبطة بالنخب والفلاسفة ممّن تمرسوا على الرياضة الفكرية.
وما يُميز المهابهاراتا أنها رجولية الطابع بخلاف الرامايانا ذات المضمون الأنثوي، ومع أنهما ملحمتان مُقدستان ضمن حوزة الفيدا (سِفر الهنود المعظّم) إلا أنهما تتفاوتان في الحجم؛ فتبلغ المهابهاراتا قرابة مئتي ألف بيت شعري وهي أضخم الملاحم الأدبية عبر التاريخ، أما الرامايانا فبالكاد تصل ربع هذا الحجم. ولا ينحصر الاختلاف في الكم وإنما أيضًا في الكيف؛ فأبطال المهابهاراتا عديدون وفصولها معقدة، فيما تتركز الرامايانا حول إنقاذ الزعيم رام لزوجته سيتا من الأسر. وإذا كانت المهابهاراتا تنشد البطولة عبر الحرب والصراع والموت فإن الرامايانا تميل إلى ترسيخ مبادئ الحياة والأسرة والتربية وتهذيب الأخلاق. أما وقت كتابة المهابهاراتا بالذات فغير معروف على وجه اليقين؛ بل إن مُنشِئها (الشاعر والراهب فياسا) أضاف إلى نفسه هالة أسطورية وسط القصة وبات مُقدّس السمعة هو الآخر وغامض التفاصيل. عاش فياسا في القرن الرابع قبل الميلاد؛ ولكن استمرت الإضافة إلى القصة بعد مماته ولم تستقر صياغتها النهائية إلا في القرن الثالث بعد الميلاد.
البُنية الأسطورية:
يعتقد فراس السواح في (الأسطورة والمعنى) أن لمِيلاد الأسطورة عمرًا طويلًا يتجاوز الجيل الواحد ويتخطى ذلك نحو آجال وأماد بعيدة تتخلق فيها القصة ويزداد ثراؤها، والنص الأسطوري “يُحافظ على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن، وتتناقله الأجيال طالما حافظ على طاقته الإيحائية بالنسبة للجماعة”، أما بالنسبة لمؤلف الأسطورة “فلا يُعرف للأسطورة مؤلف معين؛ لأنها ليست نتاج خيال فردي بل ظاهرة جمعية يخلقها الخيال المُشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها، ولا تمنع هذه الخصيصة الجمعية للأسطورة من خضوعها لتأثير شخصيات روحية مُتفوقة”(3).
وهذا يصدق أكثر ما يصدق على المهابهاراتا، ففياسا هو المؤلف العظيم، بينما نجهل بقية المؤلفين الذين توالوا على إنشائها بعده لعصور طويلة، كما أنها تكتظ بالأبطال والقوى الخارقة والصراعات المصيرية.
لا تنسجم المهابهاراتا مع الرامايانا وحدها، فهي كما تقدّم ذكره جزءٌ من أسفار الفيدا، وتسير بالتوازي مع الأوبنشاد ونشيد البهاغفاد جيتا الذي دُمِج لاحقًا بالمهابهاراتا. وتحتوي هذه الملحمة على تجسيدات المخيلة الآرية البِكر وهي تغزو شمال الهند وتستقر فيه لتنشئ ممالكها القديمة؛ لتدلنا المهابهاراتا على طباع طبقة الشاتريا (المحاربون والملوك) ومثلهم طبقة البراهمان (الكهنة والرهبان)، ومدى الانسجام بين هاتين الطبقتين الخالدتين في المجتمع الهندي.
مع ذلك فإن الحرب المقصودة في هذه الملحمة تقع وسط الشاتريا أنفسهم، فيختلط الحق بالباطل ويسري الاضطراب في أخلاق الفرسان ويواجهون الامتحان الشديد والمهول وسط ساحات المعارك، فيتقاتل أبناء العمومة رغمًا عن إراداتهم، ويسقطون في الجبرية الهندية السوداوية التي لا يفلت منها كائنًا من كان، بما في ذلك ملوك بهارت (اسم الهند القديمة).
والنسخة التي اعتمدتها لهذا المقال من إنشاء الرئيس الهندي الراحل سي راجاجوبال أشاري C.Rajajopalashari والملقّب راجاجي Rajaji وهو المعاصر لجوهر لال نهرو والمهاتما غاندي ورابيندرانات طاغور.
تقلّد راجاجي عدة مناصب مهمة في زمنه قبل أن يصبح أول رئيس للهند عام 1948، وتفرغ بعد تخليه عن المناصب كافة لإعادة كتابة الملحمتين الخالدتين بخط يده، فأسدى للهند وللعالم خدمة جليلة بإعادة تدوين هذا السّفر العظيم.
تكوين الملحمة العصرية:
تعقيد الملحمة وكثرة الشخصيات وتشابك الأحداث هو مما لا يُمكن اختزاله بسهولة؛ ولكن استطاع راجاجي بقلمه الفذ إعادة تكوين الملحمة عبر قصص قصيرة تقود في مُجملها نحو تكوين الملحمة بكاملها والحفاظ على وحدتها العضوية. تبلغ الملحمة مئة وست قصص، تسرد أحداث حرب كوروكشيترا Kurukshetra التي نشبت من أجل عرش مملكة هاستينابورا، وموقعها الحالي شمال الهند في ولاية هاريانا، على مقربةٍ من العاصمة دلهي.
حَكمَ في مملكة هاستينابورا أخوان من الملوك، باندو وشقيقه الأعمى دريتاراشترا: أنسل باندو آل باندافا، وأنسل دريتاراشترا آل كورافا. عاش أبناء العمومة في رغدٍ عظيم واستقرار لا مثيل له عندما كان الأخوان على قيد الحياة؛ لكن بدأت شرارة المشكلة مع موت باندو على أثر لعنة تلقاها من كاهن قتله بالخطأ وهو يصيد الغزلان. وبعد موت باندو تيتّم أبناؤه الخمسة وقام بتربيتهم قريب باندو، النبيل والفارس بيشما الذي سيُفصَّل القول فيه، وكان بيشما في الوقت نفسه مربيًا ومُعلمًا لأبناء الأعمى دريتاراشترا، وعلى رأسهم دوريودانا الذي أشعل الحرب بكاملها وتسبّب بخراب مالطا.
ومن ساعد بيشما في تربية أبناء الملوك هو الفارس الكبير درونا وهو أمهر الرماة في زمنه. كان درونا في شبابه كاهنًا وعالِمًا في الفيدا، أتقن الرماية وبرع بها، ورشحه بيشما ليكون معلمًا للأمراء بجانبه. في حرب الكوروكشيترا وقف بيشما ودرونا في صف آل كورافا يترأسهم دوريودانا، ومعهم شاكوني وكارنا. أما الباندافا فكان زعيمهم النبيل والراقي يوديشتيرا ويُساعده كريشنا، ويتصدر صفوفهم شقيق يوديشتيرا الفارس أرجونا الذي حُسمت بسببه الحرب، والجبار بيما الذي نال تأييد القرد الخارق هانومان.
كان الباندافا يحكمون مملكة هاستينابورا بزعامة الخلوق يوديشتيرا ومعه إخوته الخمسة أشهرهم أرجونا وبيما. أما أبناء عمه دريتاراشترا من الكورافا فأشهرهم دوريودانا، وكان هذا الأخير حاقدًا على يوديشتيرا وإخوته فدبر له مكيدة بأن أرسل إليه المقامر شاكوني حيث لعب معه الميسر وهزمه عدة مِرار حتى لم يستبقِ معه شيئًا، فرهن إخوته الخمسة وزوجته دراوبادي، ولما نجح شاكوني في الفوز طرد دوريودانا أقاربه من الباندافا إلى الغابة واشترط عدم عودتهم قبل ثلاث عشرة سنة ووقتئذٍ سيسترجعون أملاكهم.
تشرد الباندافا في الغابة وعاشوا حياة فقيرة فامتهنوا الطبخ وسياسة الخيل ورعي البقر والأغنام وخدمة الآخرين وأنفقوا وقتهم في العمل والتأمل، ولما انقضت السنون عادوا إلى هاستينابورا حسب الاتفاق المبرم، فرفض دوريودانا منحهم بوصة واحدة من المملكة؛ حينها قرر الباندافا إعلان الحرب واستعادة أملاكهم بالقوة.
خاض الباندافا الحرب بدعمٍ من كريشنا ودامت ثمانية عشر يومًا كانت الغلبة في بدايتها للكورافا، والسبب بديهي بالنظر إلى وجود بيشما ودرونا في صفهم، فالأول أخبرته الأقدار أنه لن يُغلب على يد رجل، والثاني قديس باركته الدارما (شريعة الهنود الأخلاقية) وجندل العديد من الفرسان في حروبه. لكن لم تكن النهاية في صالح الكورافا حيث أملى كريشنا على أرجونا (ومعظم هذه التعاليم موجودة في البهاجافاد جيتا) بأن ينتهج الخدعة في الحرب لإسقاط بيشما ودرونا في المعركة.
قُتِل بيشما – وهو الذي لا يقتله رجل – عبر شيكاندي، وهو محارب كان في سابق حياته فتاة، أما درونا فأدرك كريشنا نقطة ضعفه وهي حرصه الشديد على ابنه أسوثاما؛ فقال كريشنا لأرجونا:
” يا أرجونا ليس هناك من يستطيع دحر هذا الدرونا، الذي يُقاتل حسب القوانين الدقيقة للحرب، ولا نستطيع التغلب عليه ما لم نهمل قواعد الدارما. وليس أمامنا طريق مفتوحة، وليس هناك إلا شيء واحد يجعله يكف عن القتال وهو سماعه بخبر موت ابنه أسوثاما، عندها سيفقد درونا كل اهتمام بالحياة وسيرمي أسلحته؛ ولذا فلا بد لشخص ما أن يشيع خبر مقتل أسوثاما”(4).
لكن كيف لفرسان يعتنقون تقاليد الشاتريا الرفيعة أن يكذبوا؟ فقتل بيما الجبارُ فيلًا ضخمًا أسماه أسوثاما، وصرخ في الساحة ليُسمع خصومه إعلان مقتل أسوثاما، فوصل الخبر أسماع درونا من جنوده وسأل خصمه يوديشتيرا عن صحة ما قاله بيما، فقال يوديشتيرا نعم إنها الحقيقة، ثم خفض رأسه لئلا يُسمع وقال بصوت خفيض ومرتعش؛ “بل مات الفيل أسوثاما” فكذب هذه الكذبة البيضاء للقضاء مرغمًا على درونا، وهذا ما حدث، فانهار درونا وشلّت أطرافه معتقدًا بموت ابنه وجلس بوضعية اليوجا وسط عربته حتى حزَّ أحد الفرسان رأسه، فخرجت روح الفارس تتحلق من حولها هالات الضوء لتستقر في السماء.
بعد هزيمة الكورافا وقتل بيشما ودرونا ودوريودانا، أمضى الباندافا حياتهم أمراء في مملكتهم المُستردّة أخيرًا؛ لكن لم يهنأ يوديشترا بحكمه إذ كان تقيًّا وأخلاقيًّا في أعماقه؛ إذ راوده الشعور المُستمر بالذنب تجاه أبناء عمومته الذين قتلهم، ومع أن الحق كان بصفه منذ البداية لكن تقريعه لنفسه لم يتوقف. قال يوديشتيرا: “صحيحٌ أن المملكة قد عادت لي، غير أن أقربائي جميعًا قد ذهبوا، ففقدنا الأولاد والأقارب الأعزاء، ويبدو لي أن هذا النصر هزيمة كبيرة”(5). بينما احترق الشيخ دريتاراشترا في الغابة؛ حيث نشدها للرهبنة والإقامة بها بعد هزيمة أولاده فاندلع فيها حريق هائل ومات وسطها.
تقول أسطورة المهابهاراتا: انتصر الباندافا واستعادوا مُلكَهم لكن لم يهنؤوا بالحكم؛ حيث راودتهم على الدوام صور حزينة لبيشما ودرونا وأبناء العمومة الذين تربوا معهم وهم صغار وأزهقت أرواحهم على أيديهم. عاش يوديشتيرا خمسة عشر عامًا ملكًا على هاستينابورا لم يستمتع فيها ثانية واحدة بمُلكه، فنبذ حياة الرفاه وذهب مع إخوته، أرجونا وبيما وناكولا وسهاديفا وزوجته دراوبادي إلى جبال الهملايا حيث لقوا حتفهم هناك. وتُضيف الأسطورة: لقد رأى يوديشتيرا في السوراجا، وهي دار الأبديّة، عمّه الأعمى دريتاراشترا، وكارنا ودوريودانا، ومن قضوا جميعهم، ولحظتئذٍ فقط، شعر يوديشتيرا بالسلام.
سليل الملك شانتانو:
يلتقي نسب الكورافا والباندافا مع بيشما في جدهم الأكبر الملك شانتانو. إن بيشما ابن شانتانو وأمه الأسطورية جانجا التي خرجت لشانتانو من مياه النهر وخطفه جمالها، واشترطت على شانتانو ألا يرد لها أمرًا مقابل أن تبقى زوجته، وأنجبت منه عدة أبناء وأغرقتهم بالنهر المقدس عمدًا حتى وُلد الابن الثامن وتَسمَّى في البداية باسم ديفافراتا (المطيع للآلهة) قبل أن يتسمى ببيشما، ومعناه المُلتزم بتنفيذ الوعود الصعبة.
وبسبب بيشما وحده، افترق شانتانو عن جانجا لأنه عصى أوامرها وتشبث بابنه، بعدها أراد شانتانو الزواج من فتاة أخرى وهي ساتيافاتي ابنة الصياد التي رآها تسير على ضفاف نهر يامونا، فاشترط والد الفتاة أن يكون ابنها في المُستقبل هو الملك وليس بيشما، ولما لاحظ بيشما أمارات الحيرة على وجه والده بادر ونذر نفسه لإرضاء أبيه وقرر عدم الزواج ولا الإنجاب، وأن يكون أشقاؤه من ساتيافاتي هم الملوك.
أنجبت ساتيافيتي شترانجادا وفيشي ترافيريا وحكما المملكة على التوالي، أما ابنها من زوجها الأول أوباريتشارا فهو فياسا مُؤلف المهابهاراتا؛ وبالتالي يلتقي فياسا بسلالة الملك شانتو من جهة الأم.
بالعودة إلى رجل الوعود الصعبة بيشما، فقد عمَّر طويلًا وخدم بسيفه وحكمته أخويه الصغيرين وحافظ على استقرار مملكة هاستينابورا، ونصّت الأسطورة على أنه شهد وفاة أخويه، بالأخص فيشي ترافيريا الذي أنجب باندو والأعمى دريتاراشترا، وحارب مع الأحفاد في حزب الكورافا مع أن الأحقية للحُكم كانت للباندافا أبناء باندو، مع ذلك اصطف -هو ودرونا – مع الكورافا. ولا يُفهم من ذلك أن بيشما كان موافقًا للتصرفات الخسيسة لدوريودانا، فقد قال وهو الشيخ الطاعن ناصحًا لتجنب الحرب ومُشيرًا للكورافا بإنصاف الباندافا:
“إن ما يجب فعله هو الترحيب بعودتهم وإعطاؤهم نصف المملكة؛ حيث إن السكان يرغبون كذلك بمثل هذه التسوية. وهذه هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على كرامة عائلتنا. وهذه هي نصيحتي”(6).
لم يستطع بيشما في سنواته الطويلة أن يحافظ على شرفه وخدمته للأشقاء والأبناء والأحفاد إلا عبر تعليم ذاتي قاسٍ وصارم، فقد حذق الفيدا وهو شاب على يد فاسيشتا وتمرس على الرماية بتعليم والده شانتانو ودرس الشعر والعلوم عند سوكرا. كانت تعاليم طبقة الفرسان تنص على أن الحكمة المنفلتة من الضبط والحفظ يسهل نسيانها، والجهل الذي يُحيط بالإنسان يدفعه لإهمال الفضيلة والتراخي في الأخذ بها. من هنا أدانت ملحمة المهابهاراتا التخلي عن الفضيلة ونطقت بلسان بيشما وغيره في التذكير بها.
قال بيشما وهو يرى معسكرات البندافا عند تخوم مملكة هاستينابورا بعد اغتراب سنوات طويلة يحثهم على التجاوب مع طلبات المبعوث الذي جاء بطلبات الباندافا لاسترجاع مملكتهم: “لحُسن الطالع فإن الباندافا سالمون وبصحة جيدة، ورغم حصولهم على دعم الكثير من الأمراء وكونهم أقوياء بما فيه الكفاية للحرب فإنهم ليسوا مصممين عليها، ولا يزالون يبحثون عن السلام.. وإعادة أملاكهم إليهم هي الطريقة الصحيحة والوحيدة التي يجب أن تتم”(7). ثارت ثائرة كارنا وهو الذراع الأيمن لدوريودانا، واستنكر نصائح بيشما المتكررة فما كان من بيشما إلا أن قال له: “يا ابن رادا، إنك تتكلم بسُخف، فإذا لم نعمل كما طلب إلينا هذا المبعوث فستقع علينا الحرب وسنخسرها بالتأكيد، وسنُلاقي جميعًا ومعنا دوريودانا الهلاك”.
لم يكن منبع تشاؤم بيشما من الحرب الشعور بالضعف؛ بل كانت القوة المادية التي تميل للكورافا؛ لكن شعوره بظلم الباندافا سيدفعهم للانتصار الأخلاقي حتى وإن خسروا الحرب، علاوةً على أن موقعه بصفته كبير العائلة يُحتم عليه الإنصاف وصد الشباب عن طيشهم والتمسك بالدارما. اتفق دريتاراشترا مع تحذيرات بيشما المُتوالية لكنه عجز – لإعاقته وضعفه – عن كبح جموح الشباب وتهورهم بإزاء الحرب. قال دريتاراشترا ليبشما: “إن ما تقوله يا ربّ الأسرة هو الشيء الصحيح فقط، إن الحُكماء جميعهم وكذلك أنا، نعرف أن من الأفضل البحث عن السلام ولكن ماذا أفعل؟ فإن هؤلاء الأغبياء يركبون رؤوسهم رغم اعتراضي بصوت عال”(8).
قامت الحرب بين أعماء العمومة واصطف بيشما ومعه درونا إلى صف دوريودانا مرُغمًا ومُكرهًا؛ ولكنه اضطر لذلك للوفاء بنذره وقسمه لوالده شانتيانو في الذود عن حِياض المملكة ونُصرة الحاكم أيًّا كان. أما دوريودانا فلأنه يثق بإخلاص بيشما وبراعة درونا دخل الحرب واثقًا وغير مبالٍ بالأخطار كلها المحيطة بالعائلة.
إن بيشما في هذه الحالة يقف ضد نفسه، فهو يُحارب بجوارحه وعضلاته وعقله؛ لكن ضميره في مكان آخر وفي صف الباندافا، ولم يقتل أيًّا من الباندافا كيوديشتيرا وبيما وأرجونا رغم قدرته على ذلك فهو الأقوى منهم جميعًا. استلم بيشما قيادة الكورافا وضرب جيش الباندافا وألحق بهم الهزيمة في الأيام الأولى من الحرب.
حُمق دوريودانا:
في بداية الحرب وقف بيشما زعيمًا للكورافا قائلًا أمام الجيشين: “عليكم أن تعلموا دون شك أن أولاد باندو بالنسبة لي كما أنتم يا أولاد دريتاراشترا، وإنجازًا لوعدي لكم فسأقود الجيش وأنفذ واجبي، سيسقط عشرة آلاف مُحارب يوميًّا بسهامي في الميدان؛ ولكني لن أستطيع قتل أولاد باندو فأنا غير مُوافق على هذه الحرب، وإذا حصل أن قُتل الباندافا فسأتخلى عن التزاماتي جميعها في هذه الحرب”(9). كان بيشما مُربيًا لأبناء الباندافا قبل نفيهم للغابة ورحيلهم، وعندما شاهده كبير الباندافا وهو النبيل يوديشتيرا في الصف الأمامي والمُعادي له، أخبره بهذه العبارات: “أيها السيد الكبير فلتأذن لنا ببدء القتال، فقد تجرأنا عليك، يا أيها السيد الكبير الذي لا يُقهَر ولا يُقارن، إننا نبحث عن البَرَكة قبل بدء القتال”؛ فما كان من بيشما إلا أن يحترم نبالة يوديشتيرا فردّ عليه: “يا ولدي، يا من ولدت من نسل بهاراتا، لقد تصرفت جيدًا واستنادًا لقواعد سلوكنا، وقد أفرحني أن أرى ذلك. فقاتل وستنتصر، إني غير مُخيّر فأنا مُقيد بالتزامي للملك ويجب أن أقاتل في صف الكورافا ولكنك لن تُهزَم”(10).
التفت بيشما لجيشه وخطب فيهم قائلًا: “أيها الأبطال إن أمامكم فرصة نبيلة فأبواب الجنة مفتوحة أمامكم على مصراعيها. والمتعة في العيش مع أندرا وبراهما تنتظركم، فاتبعوا طريق أسلافكم وطريق دارما. قاتلوا بفرح وحققوا الشهرة والعظمة. ففارس الشاتريا لا يرغب في الموت مريضًا أو عاجزًا في فراشه ولكنه يُفضل الموت في أرض المعركة”(11). كانت قوة بيشما غير مألوفة في هذه الحرب خصوصًا مع تقدمه بالعمر وشيخوخته اللتين كانتا واضحتين عليه. مع ذلك أوفى بوعده في الاستبسال ورد هجوم الباندافا. لاحت الفرصة أمام بيشما لقتل يوديشتيرا وأرجونا وبيما وغيرهم من صناديد الباندافا لكنه جاملهم مرارًا ولم يرغب في قتل من ربّاهم في صغرهم، فانزعج دوريودانا من تساهله وفعل ما هو أقبح من ذلك حين اتهمه في إخلاصه له.
سرير السِّهام لبيشما:
تركت اتهامات دوريودانا الحمقاء أثرها في بيشما الذي ملّ وكلّ من الحرب ومُواجهة جيش الباندافا، ولم يلق من دوريودانا إلا الجحود، فجاء موت بيشما مُباغِتًا في الحرب حين عرف الباندافا نقطة ضعفه وأن القسَم المقدس الذي حماه من الموت يُشير إلى حمايته من سيوف الرجال، فأرسلوا عليه شيكاندي الذي كان في مطلع حياته فتاة. تقول الأسطورة: إن كثرة سِهام شيكاندي وأرجونا وفرسان الباندافا قد اخترقت جسد بيشما ولم يسقط على الأرض، فكانت هذه السهام سريرًا له وهو مُستلق على ظهره، ودامت مدة احتضاره طويلًا واستمرت لأيام وعلى ثغره الابتسامة.
هلك بيشما في اليوم العاشر من الحرب، وتعاقبت الأحداث المريرة على الكورافا ومعسكرهم وأخذت الكفة تميل للباندافا بعد عشرة أيام تعيسة؛ ولكن لم تكن النهاية سعيدة على الدوام، فكانت الاغتيالات تتم بالتآمر والدسيسة والخديعة، وأخذ أبناء العمومة يقتلون بعضهم بعضًا في مشاهد دامية وخيانات متتابعة، فمات بيشما ولحقه درونا وأخيرًا دوريودانا زعيم الكورافا.
لم يضطر الباندافا لمُخادعة ببيشما واغتياله وحده لكن خدعوا درونا ودوريودانا الذي ضربوه على فخذيه وهي من محرمات الحرب وأسقطوه على الأرض فلعنهم على ذلك وتمنى زوال حكمهم إذ بُني على انتصار خائن. وقد تقدم ذكر انتصار الباندافا وتمكن يوديشتيرا من استعادة ملكه الذي لم يهنأ به. فأشباح الموتى وخيالات الذكرى المؤرقة تلوح أمام ناظريه كلما اعتلى عرشه، ليزهد في كل شيء مع إخوته وغادر إلى الهملايا حيث مات هناك.
مُعانقة المصير:
إن سيرة بيشما العظيمة تشكل فصلًا دسمًا من فصول المهابهاراتا، وتمتد هذه القصة لتعطينا تفاصيل كريشنا – حليف الباندافا – ووصاياه لأرجونا، وتفصّل طويلًا في شخصية دراوبادي ووالدها دراوبادا، وكل بطل وبطلة من الأسماء الواردة في الملحمة الكبرى. لكن الدرس المُتواري خلف هذه القصة أن الأخلاق وقواعد السلوك تضطرب تمامًا في الأوقات العصيبة والمهولة، وأن الحرب رغم كراهتها وبغض الإنسان لها تكون ضرورية في بعض الأحيان لصد ما هو أشنع وأنكى، وهذا ما يقرره الواقع وليس الإنسان، فلسان حال الأسطورة يردد ما قاله الشاعر العربي:
وقد يجزع المرءُ الجليدُ ويبتلي.. عزيمةَ رأي المرء نائبةُ الدهر
تُعاوده الأيام فيما ينوبه.. فيقوى على أمر ويضعف عن أمر
وعلى غرار الهنود وشعراء العرب كتب اليوناني العظيم هيراقليطس: “الحرب هي أم الأشياء جميعها”(12). وكتب العلامة شبنجلر: “كل ما له معنى في تيار الحياة قد وُلِد ونشأ عن النصر والهزيمة”(13). ومسيرة الفارس بيشما نتاج مشوار قطعه في التعليم والتنسك وتربيته الأرستقراطية، ولم تظهر لديه هذه النزعة البطولية والأخلاقية على حين غرة. أما لو جاز لنا الحديث عن بيشما بصيغة حديثة فسنبادر لتأييد نيقولاي برديائف وهو يكتب عن أرستقراطية الروح، لا الطبقة وحدها: “نهتم قبل كل شيء بالأرستقراطية الشخصية، وبالتعبير عن حياة الإنسان الداخلية. وهي قبل كل شيء مشكلة الكرامة الإنسانية، كرامة حقيقية أكثر منها كرامة رمزية. كرامة لا تنفصل عن صفات الشخصية ومواهبها”(14).
جسدت شخصية بيشما الأسطورية والواقعية معًا، ذروة الثقل الوجودي الذي يحمله البطل على كتفيه، هذا الكاهل المُنهَك بالمصير الصعب، فلقي مصرعه في حرب لم يخترها، ومع ذلك شعر بالسعادة لأنه لم يحنث قسمه. تخلى عن العرش كي يضمن سلامة الأشقاء والأبناء لكن تقاتل الأحفاد ورفضوا مشورته. ودخل الحرب مكرهًا وفرَّط بحياته ومع ذلك تنكر له حليفه دوريودانا وأثنى عليه خصمه يوديشتيرا. أخبرتنا هذه الملحمة أن “حكمتنا جوفاء بإزاء المصير”(15). هذا المصير الذي يُترجم في جُل الثقافات والحضارات والتواريخ المُتوالية، ومع أن الجميع سواسية أمام القدر بيد أن فرديتهم تبرز من خلال المواقف وقراراتهم تجاهها، وما كان بيشما إلا واحدًا ممن اختاروا معانقة المصير بكل حرية واقتدار.
هوامش:
- جوستاف لوبون. حضارة الهند. دار العالم العربي. ص 9.
- مجلة ثقافة الهند. مجلس الهند للروابط الثقافية. مجلد 9 ص 55.
- فراس السواح. الأسطورة والمعنى. منشورات علاء الدين. ط2 ص 12.
- ملحمة مهابهاراتا. سي راجاجوبال أشاري. ترجمة: رعد عبد الجليل. دار المأمون في بغداد. ص 450. وهذه هي النسخة التي استقررت على قراءتها. أما الأعمال السينمائية والمسرحية المجسدة لهذه الملحمة فأشهرها وأحقّها بالتنويه والاحتفاء رائعة بيتر بروك المنتجَة عام 1989، وقد أداها طاقم سينمائي عالمي من مُختلف الجنسيات.
- المصدر السابق. ص 482.
- المصدر السابق. ص98.
- المصدر السابق. ص 285.
- المصدر السابق. ص 291.
- المصدر السابق. ص 307.
- المصدر السابق ص323.
- المصدر السابق ص 320.
- هيراقليطس. جدل الحرب والسلام. دار التنوير. ترجمة: مجاهد عبد المنعم. ص 65. الشذرة 53 وترجمها: مجاهد: “الحرب هي ملك الجميع وأب الجميع أيضًا”، وهذه ترجمة حرفية تفتقد للبلاغة العربية؛ إذ لا يمكن تذكير الحرب، واضطر لها مجاهد لأن الحرب وفق وصف هيراقليطس أب و”ملِك” الأشياء معًا.
- عبد الرحمن بدوي. اشبنجلر. وكالة المطبوعات. ط 1982. ص 256.
- نيقولاي برديائف. العزلة والمجتمع. ترجمة: فؤاد كامل. دار الآفاق 2018. ص 189.
- المهابهاراتا. مصدر سابق. ص 121.