ترجمة: هاشم الهلال – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
هَدَفَ كتاب سوزان ستبينغ الفلسفيّ، إلى إعطاء الجميع أدوات التفكير الحُرّ.
“هناك حاجة ملحَّة اليوم لمواطنيّ الديمقراطية للتفكير جيدًا”. هذه الكلمات التي كان من الممكن أن تكون قد كتبت بالأمس، تأتي من كتاب: (Thinking to some purpose) أو (التفكير لغرضٍ ما)، وهو كتاب شائع للفيلسوفة البريطانية سوزان ستيبنغ، نُشِر أوّل مرّة عام ١٩٣٩، في سلسلة كتب (Penguin ‘Pelican’)، هذا الكتاب الصغير باللونين الأزرق والأبيض الذي يمكن وضعه في الجيب بسهولةٍ وقراءته في القطار في ساعة غداء أو في محطة للحافلات، قد وُضِعَ للقارئ الفطن. أخذت ستيبينغ على عاتقها في هذا الكتاب مهمة إظهار أهمية المنطق في الحياة العادية وقد فعلت ذلك بشعورٍ من الإلحاح، وهي تدرك جيدًا الظروف العاصفة التي تُحيط بأوروبا.
كانت ستبينغ مُحاضرةً جامعية، ثمّ أستاذةً في عالمٍ فلسفي يهيمن عليه الرجال. بدأت تنشر باسم (L S Stebbing)، إذ كان ليزي هو اسمها الأوّل، ومع ذلك تجاهلته، وكانت تُعرف دائمًا باسم سوزان؛ لأنها كما اقترح أحد الأصدقاء لم تعجبها المناقشات الفلسفية التي تحيد عن النقاش إلى أسئلة حول الجنس أو المكانة. كانت ستيبينغ، عام ١٩٣٣، أوّل امرأة في المملكة المتحدة تُعيّن أستاذةً في الفلسفة في كلية بيدفورد حيث قضت معظم حياتها المهنية. في حين أنَّ هذا كان بمثابة خبر قومي في تلك الفترة، إلا أنَّ ستيبينغ نادرًا ما تُعرَف خارج الدوائر الأكاديمية المتخصِّصة، ولم تُراكم شيئًا مثل الهالة الأسطورية التي تحيط بعظماء الفلسفة أمثال: برتنارد راسل، أو جورج إدوارد مور (وكلاهما كانا معاصرين لها). وهي أيضًا أقلّ شُهرة من النساء الفلاسفة الأخريات اللائي ظهرن في المقدّمة في فترة ما بعد الحرب، مثل: إليزابيث أنسكوم، وفيليبا فوت، وإيريس مردوخ، وماري ميدجلي.
ولدت ستبينغ في شمال لندن عام ١٨٨٥، وتعلَّمت في كلية جيرتون، وكامبريدج، وكينغز كوليدج بلندن بين عاميّ ١٩٠٤- ١٩١٢. وتُوفِّيَت عام ١٩٤٣، عن عُمرٍ يناهز ٥٧ عامًا؛ نتيجة مضاعفاتِ مرض السرطان.
ذكرت في وصف كتابها أنها كانت مهتمة بالإشكالات الفلسفية منذ الطفولة، “تقريبًا قبل أن تعرف معنى كلمة فلسفة”. ولكن بعد أن قرأت بالمصادفة كتاب فرانسيس برادلي: الظاهر والواقع (Appearance and Reality) (١٨٩٣)، تحوّلت من دراسة التاريخ في كامبريدج إلى ما كان يُعرَف آنذاك بالعلوم الأخلاقية. سيستمر ظلّ برادلي في الظهور بشكلٍ كبير طوال مسيرة ستيبينغ المهنية التي أمضت كثيرًا منها في دحض المثالية، وهو ما أيّده برادلي. يعتبر هذا الاهتمام في مرحلة الطفولة المبكرة بالفلسفة نموذجًا لحقيقة أنّ الفلسفة عند ستبينغ لم تكن مجرد حلّ الإشكالات التي وضعها الرجال في كامبريدج أو أكسفورد، ولكنها كانت طريقة حياة، وعلى هذا النحو ليست شيئًا يتطلّب تعليمًا جامعيًّا أو وظيفة في مؤسسةٍ أكاديمية مرموقة.
هذا لا يعني التقليل من شأن مؤهلات ستيبينغ الأكاديمية. كان سجل منشوراتها الأكاديمية مثيرًا للإعجاب. نشرت بين عاميّ ١٩٢٤- ١٩٣٩، مقالًا واحدًا على الأقلّ كل عام في عددٍ من المجلات الفلسفية الرائدة في ذلك الوقت. كان اسمها معروفًا جيدًا لدى أكثر الفلاسفة المغمورين، على الأقلّ في العالَم الناطق بالإنجليزية. ومع ذلك كانت ستبينغ دائمًا مهتمة بالأفعالِ وحلّ المشكلات، لا مجرد التفكير فيها. على سبيل المثال في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي أمضت قدرًا كبيرًا من الوقت والطاقة في تأمين سلامة اللاجئين -من ألمانيا والدول التي احتلّها النازيون- على نفقتها الشخصية.
في كتابها: (Thinking to some purpose)، وهو نصّ فلسفي موجَّه إلى عامة الناس، لا تقبل مجرد التفكر في هذه القضايا المختلفة، بل تهدف إلى تثقيف الناس حول كيف يمكن للفلسفة أن تكون مفيدة للعالم الحقيقي مع تدريب قرّائها أيضًا على كيفية ممارستها. وُصِف الكتاب على غلاف طبعة بيلكان بأنه “دليل للتفكير الحُرّ يوضح كيفية اكتشاف اللامنطق في عقولِ الآخرين وكيفية تجنّبه في تفكيرنا”. وهذا تمامًا مثل دليل مستخدم السيارة الذي يوجّه المالِك إلى كيفية التنقل في الطريق من عدمه، وقد كُتِبَ “التفكير لغرضٍ ما”؛ لتزويد القرّاء بدليلٍ لكيفية التفكير بصورةٍ حُرّة، وتجنّب المزالق الشائعة.
كانت ستيبينغ حين اقترحت أنَّ القرّاء (عامة الناس) بحاجةٍ إلى تعلّم كيفية التفكير بحُريّة ومساعدتها في توفير تلك الوسائل، كانت تضيف نفسها إلى سلسلةٍ طويلة من الفلاسفة المعروفين باسم “المفكرين الأحرار”. يعود تاريخ “التفكير الحُرّ” إلى عصر التنوير الأوروبي، وكان ينطوي في الأصل على رفض السُّلطة الدينية والعقيدة الأكاديمية في ضوء التطورات الجديدة في العلوم. دفع المفكرون الأحرار بشكلٍ أساسي إلى دمقرطة المعرفة، واعتقدوا أنه يجب علينا اتباع مَنطِقَنا الخاص بدلًا من الكتاب المقدس أو النصوص الفلسفية القديمة. حتى إنَّ واجهة كتاب: “التفكير لغرضٍ ما”، تتضمن اقتباسًا من فيلسوف القرن الثامن عشر أنتوني كولينز، الذي كتب حرفيًّا كتاب: (خطاب التفكير الحُرّ).
الاقتباس المأخوذ من كتاب كولينز: “خطاب التفكير الحُرّ” (١٧١٣)، يقول: “إذا كان لدينا الحقّ في معرفة أيّ حقيقةٍ على الإطلاق، فلدينا الحقّ في التفكير بحريّة… لا توجد طريقة أخرى لاكتشاف الحقيقة”.
اعتقدت ستيبينغ مثل المفكرين الأحرار في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أنه يجب علينا تجنب التسلّط كمصدر للمعرفة والاعتماد على قدراتنا العقلانية. (على الرغم من أنّها كانت مهتمة بالتخلّص من سُلطة المؤسسات، مثل الصحافة المملوكة للقطاع الخاص أكثر من الكنيسة).
كانت ترى أنَّ الكتابة أثناء انحدار أوروبا إلى ظِلال الفاشية في الثلاثينيات من القرن الماضي، قضيةٌ ملحّة؛ إذ تعتقد أنَّ الأفراد لا يكونون أحرارًا حقًّا؛ إلا عندما يكونون قادرين على التفكير بحُريّة. تُخبر القارئ في خاتمة كِتابِها أنَّ: “موضوعها هو حُريّة العقل”. ثمّ تتابع: “إذا كان صحيحًا أننا جميعًا أحرار سياسةً واقتصادًا، فهذا لا يقتضي امتلاكنا لحريّة العقل، التي أرى ألَّا يمكن الحفاظ على مؤسساتنا الديموقراطية بدونها”.
وهكذا رسمَت خطًا بين الحريّة “السياسية والاقتصادية”، وهما الحُرّيتان التي طالما سَعت الدول الديمقراطية تقليديًّا إلى دعمها عن “حريّة العقل”. ترى ستيبينغ أنَّ تحرير عقل المرء هو بشكلٍ فريد مسؤولية شخصية، وهو كما توضح عائِقُهُ الجهل. قد يبدو الناس أحرارًا؛ لأنهم يعيشون في ديمقراطية ليبرالية، لكنَّ هذه الحريّة الظاهرة قد تكونُ وهمًا. تتمثّل الحريّة الحقيقية في أن يَعي الأفراد كيف يُفَكرون بحُريّة.
تستخدم ستيبينغ مثالًا من تجربتها الشخصية آملةً أن تَصِلَ وجهةُ نظرها إلى القارئ، حيث تصف كيف أنها عندما وقع الإضراب العام في المملكة المتحدة في مايو ١٩٢٦، كانت تجهل تمامًا الأحداث التي أدَّت إلى ذلك. تشرح ستيبينغ كيف أنَّ افتقارها إلى المعلومات جعل من المستحيل التوصّل إلى رأيّ حول الأمر الذي يمكنها أن تطمئنَ إليه؛ لأنها لم تكن قادرة على التفكير بعمقٍ في الأمر بنفسها. كتبت في كتابها: التفكير لغرضٍ ما”: “جَهلي جعلني غير حُرّة”.
ماذا يتضمّن التفكير بحُريّة؟ تُناقش ستبينغ بأنَّ إحدى الخطوات المهمة هي تدريب أنفسنا على التخلّص من عادات التفكير السيئة. على سبيل المثال، تصف ما تسمّيه: “التفكير الاختزالي”، وهو تبسيط الأفكار باستخدام توصيفاتٍ أو شعاراتٍ فجّة عنها. إذا كانت الشعارات ليست دائمًا أمرًا سيئًا، فإنها تميل إلى المبالغة في تبسيط الأفكار والأطروحات الأكثر دقةً أو تعقيدًا، وإخفاء تعقيدات الفكرة وراء عبارات جذابة. تغليف البعض للتحليل النفسي الفرويدي تحت شعار “كلّهُ يتعلَّق بالجنس” نموذجًا. يعطي هذا انطباعًا زائفًا بأنَّ نظرية سيجموند فرويد تختزل كل شيء إلى الجنس، وأنَّ منهجه سهل الفهم، و (الأسوأ من ذلك كلّه) أنه يجعل آراء فرويد تبدو سخيفة تمامًا، حتى إنَّ المرء يبدأ يتساءل عن سبب اهتمام أيّ شخص بآرائهِ في المقام الأوّل، وسواء كُنا نرى أيّ قيمة في أفكارِ فرويد الفعلية، فعلينا ألَّا نُعبّرَ عنها في مثل هذا الشكل “الاختزالي”.
أسوأ أنواع التفكير الاختزالي هو حينَ نتحدث بشعاراتٍ لا نَعي مغزاها. قد تكون هذه الاستعارة قديمة بعض الشيء للقارئ المُعاصر، تَرسم ستبينغ مع حديثها عن “التفكير الاختزالي” مقارنةً مع اللحوم المُعلَّبة؛ إذ هيَ منتجٌ معبأٌ بالفراغ تجده في الحصص الغذائية في زمن الحرب. إنها حريصة على توضيح أنه يجب علينا دائمًا التَفَكر في الشعارات التي نراها تُستخدم في الخطاب العام. (على حدّ تعبيرها: “لا تقبل الاستعارة بسرعةٍ كبيرة”.) تشرح قائلة: “قد يكون اللحم المُعلَّب غذاءً مناسبًا ولذيذًا ومفيدًا أيضًا، لكنَّ قيمتهُ الغذائية لا تعادل قيمة اللحم الطازج الذي أُخِذَ منه، كذلك الاعتقادات المُختزلة إذ يمكن ذكرها بإيجاز واختزال يجذب الانتباه. ترى أنَّ التفكير الاختزالي يأخذ شيئًا “قيّمًا” ويغلّفه بطريقةٍ يسهل بيعها، ولكن يصعب العثور على أيّ أصالةٍ فيه. أسوأ أنواع التفكير الاختزالي وفقًا لستيبينغ، هو عندما ننمو في عادة “استخدام الكلمات بأسلوبٍ ببغائيّ مُكرر”. وبعبارةٍ أخرى: هو عندما نتحدث بشعاراتٍ لا نُفكّر فيها، ولا نَعي مغزاها.
عادة سيئة أخرى تُركز عليها ستبينغ هي الاستخدام المُبهم للكلمات الثقيلة. (ما يسمّيه المنطقيون: “التوريّة”). وهو يُنتج حديثًا متجاوزًا للناس. تؤكد ستبينغ أنَّ الكلمات هي أدوات مستخدمة في سياقاتٍ معينة، وأنَّ معنى الكلمات يمكن أن يتغير اعتمادًا على مكان نطقها أو كتابتها وزمنها، سابقةً بذلك الفلسفة البراغماتية للغة التي سيؤيدها جون لانجشو أوستن. يمكن أن تشير التلميحات (“إيماءة جسدية أو نبرة صوت أو عبوس أو ابتسامة”)، إلى تغييرٍ في السياق الذي يمكن تفويتهُ بسهولة. هذا ما لا يحدث في المحادثات اليومية، ولكن تنشأ الصعوبات عند استخدام الكلمات المُبهمة في المناقشات العامة والهامة.
تُعطي ستبينغ مثالًا لميثاق “عدم التدخل”، في سياق الحرب الأهليّة الإسبانية، في الثلاثينيات. تشرح كيف يعني “عدمُ التدخل” بالمعنى الحرفي “عدم التدخل على الإطلاق”، ولكن كيف ارتبط هذا التعبير في سياق الحرب الأهليّة بـ “الحياد”. وقد أدى ذلك إلى قيام كلا الجانبين من الطيف السياسي باستخدام مصطلح: “عدم التدخل” بطريقةٍ منفصلة عن معناه الحرفي. وهذا أوجد مزيدًا من الغموض. تؤكد ستبينغ أنَّ الشيء الوحيد الذي نستطيع فعله هو توضيح كيفية استخدامنا لمصطلحات معينة وفي أيّ سياق.
كلّ ما يمكننا فعله هو أن نرى أننا نفهم الكلمات التي نستخدمها في تفكيرنا فهمًا واضحًا، ونحاول أن ننقل إلى مستمعينا ما نستخدمه للتعبير عن هذه الكلمات نقلًا تامًّا. تُوضح ستبينغ مرّة أخرى أنَّ التفكير (والتحدث) الواضح هو مفتاح الخطاب العام الناجح.
أكمَلت ستبينغ “التفكير لغرضٍ ما”، في نوفمبر ١٩٣٨، قبل أقلّ من عامٍ من اندلاع الحرب العالمية الثانية. أُشيرَ إلى التطورات الاجتماعية والسياسية الحاصلة في ألمانيا وروسيا في جميع أنحاء النصّ، وكانت ستبينغ حريصةً على مقارنتها مع السياسةِ في وطنِها بريطانيا. شدَّدت على قيمة النظام الديمقراطي خاصةً، وكانت حريصة أيضًا على الإشارة إلى الطرق التي سنتعرض بها للضغط إذا لم نسعَ للتفكير بحريةٍ كأفراد وكأمّة. اعتقدت ستبينغ أنَّ حُرّيتنا نفسها معرضة للخطر إذا لم نتعلّم التفكير الواضح.
ومع ذلك، ليس كل شيءٍ سلبيّ. فالرؤية التي قدَّمتها ستبينغ في كتابها: (التفكير لغرضٍ ما) للعالم هي في الأساس رؤية ديمقراطية. كل فرد لديه القدرة على التفكير بحُريّة، ربما لم يكونوا قد تلقوا التدريب الذي حصلت عليه. لهذا السبب، تُقدم ستبينغ لقرّائها دليلًا لا عقيدة يمكن للأفراد استخدامه لتأمين حرّيتهم في التفكير. تستخدم ستبينغ كدليل على فكرة أنَّ كل فرد لديه القدرة على التفكير بحُريّة مثالَ طفلٍ يُدعى إيميلي الذي أجاب حين أخبرته ممرضة أنْ “لا أحد يتناول الحساء بالشوكة”: “أنا أفعل، وأنا، أنا أحدٌ ما”. تأخذ ستبينغ هذا دليلًا على أنَّ غير المدربين على المنطق كالأطفال، لا يزالون قادرين على التَمنطُق. (في هذه الحالة بقياسٍ خاطئ). تعتقد -بعبارةٍ أخرى- أنَّ مثل هذا المثال يُظهر أننا جميعًا لدينا القدرة على القيام بما يفعله المناطقة المدربون، على وجه التحديد، لا الاختلاف مع ادعاءات معينة فحسب، ولكن اكتشاف الخطأ في منطق هذه الادعاءات أيضًا.
يعتبر “التفكير لغرضٍ ما”، من نواحٍ عديدة نتاج عصره. شهدت ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته وخمسينياته ارتفاعًا في عدد المتعلمين ذاتيًّا، وهُم أفراد لم يكونوا قادرين على الالتحاق بالجامعة لكنهم مع ذلك وجدوا أنفسهم متعطشين للمعرفة. صُمِّمَت سلسلة بيلكان التي ابتكرها آلين لين لتغذية هذا الجوع. وقال لين نفسه: كانت كتب بيلكان “شكلًا آخر من أشكال التعليم لأشخاص مثلي تركوا المدرسة في سِنّ السادسة عشرة”. يتضح من “التفكير لغرضٍ ما” أنَّ ستبينغ اقتنعت بروح مبادرة لين، وشرعت تفعل ما فعلته كتب بيلكان الأخرى للتاريخ والأدب والعلوم للفلسفة.
ومع ذلك، فإنَّ “التفكير لغرضٍ ما” نصّ فلسفي مهم لأكثر من مجرد أسباب تاريخية. يحاول الفلاسفة الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى إيجاد طرق لتعزيز مهاراتهم وأفكارهم في العالم خارج أقسام الجامعة. على سبيل المثال، هناك كثير من الإذاعات الفلسفية التي انتشرت وتمّ الاستماع إليها كثيرًا، وكتبُ الفلسفة الشعبية، تكون أحيانًا من أكثر الكتب مبيعًا. ينشر الفلاسفة مجلدات عن جائحة كوفيد 19، وكيفية التعامل معها. هناك أيضًا مناقشات جارية بين الفلاسفة في أماكن أكثر تخصّصًا حول ما يجب أن تكون عليه أهداف الفلسفة العامة وكيف ينبغي تنفيذها.
نُشرَ منشور حديث على المدونة للفيلسوف تيموثي ويليامسون على الإنترنت على نطاقٍ واسع، حيث يميّز بين الفلسفة الشعبية والفلسفة الشعبوية. يجادل ويليامسون بأنه إذا كان ينبغي تشجيع دمقرطة المعرفة عامة، فينبغي أيضًا أن يكون الأمر متروكًا للفلاسفة الأكاديميين المُتَمرسين لإيجاد طرق لإيصال أبحاثهم وأفكارهم إلى الجمهور العام. ويليامسون يرى أنَّ الفلسفة ليست شيئًا يمكننا القيام به بشكلٍ جيد على حدٍّ سواء مثل أيّ عِلم آخر، فإنه شيء يجب أن نُدَرب عليه؛ لأنه يتضمن اعتماد أساليب بحث متطورة للغاية وتعويد المرء على قدر كبير من الأدب القديم والمعاصر. يجادل ويليامسون بأنَّ الفلسفة الشعبية الجيدة هي مثل العلم الشعبي الجيد. يحدث ذلك عندما يجد متخصّص في المجال طريقة لإيصال آرائه إلى غير المتخصّصين بصورةٍ جذابة ومعرفية. إذا كان ويليامسون محقًّا، فإنَّ الفيلسوف المشهور الجيد للفلسفة هو ما يمثّله بيل ناي للعلم.
الفلسفة العامة طريق ذو اتجاهين. تتطلب جمهورًا فاعلًا ومتشوقًا لاكتساب المعرفة. هذا نموذج مختلف تمامًا للفلسفة العامة عن النهج الذي تتبناه ستبينغ في “التفكير لغرضٍ ما”. ترى أنه يتمثّل أحد أدوار الفلسفة في مساعدتنا على التفكير بحُريّة. هذا لا يتطلب وجود معلومات مترابطة أمامنا فقط، ولكن أيضًا معرفة ما يجب فعله بها. نجد في نموذج ستبينغ للفلسفة العامة أنَّ الهدف هو تدريب الجمهور العام على تطوير مهارات التفكير العملي التي يمكن تطبيقها في مجموعة سياقات. وهذا يتطلب أكثر من مجرد نقل المعرفة من خبيرٍ أجرى البحث المطلوب.
وفي هذا النموذج أنَّ الفلسفة العامة طريق ذو اتجاهين. إنّه لا يشبه البيئة الجامعية التقليدية حيث يقدّم المُحاضِر المعرفة إلى جمهور مُتلق. بل يتطلب الأمر جمهورًا فاعلًا ومتشوقًا لاكتساب المعرفة بالطريقة الصحيحة. توضح ستبينغ: “للمربيّ هدفان رئيسان: نقل المعلومات، وخلق تلك العادات العقلية التي ستمكّن طلابه أو تلاميذه من البحث عن المعرفة واكتساب القدرة على تشكيل حكمهم المستقلّ على أُسُسٍ منطقية”.
فستبينغ إذن تدافع عمَّا يمكن أن نطلق عليه نهج “المهارات والتدريب” للفلسفة العامة، وتمارسه، وهو أحد ما يُطلب من مُتلقيه (-أيّ: الجمهور-) بالمشاركة الفعالة بدلًا من تلقي المعلومات بشكلٍ سلبي، ويكون فيه الجمهور مجهزًا بأدوات التعلم (طرق التفكير) التي يمكن تطبيقها خارج أيّ مجال معين من مجالات الفلسفة. يركز “التفكير لغرضٍ ما” بشكلٍ أساسي على الخطاب العام المحيط بالسياسة البريطانية في الثلاثينيات. مع ذلك فإنَّ العوائق التي تحول دون التفكير الواضح وتعليمات كيفية التغلب على هذهِ العوائق، مُحددة في النصّ فيما إذا كانت ستبينغ مُحقة بشأن تطبيقها في أيّ مجال من مجالات الخطاب العام.
تشبه الفلسفة العامة اليوم كثيرًا النهجَ الذي حدده ويليامسون، حيث تُتنقل المعرفة من خبير إلى جمهور غير فاعل. هناك كثير من الكتب المقبولة والإذاعات التي يمكن الوصول إليها والتي تهدف إلى جعل القارئ على دراية بما يفكر فيه الفلاسفة (أو فكروا فيه)، ولماذا يفكرون فيه. هناك أيضًا أمثلة أكثر حداثة للنصوص التي تركز على التفكير النقدي، مثل: “التفكير لغرضٍ ما”. ومع ذلك، فإنَّ كتاب ستبينغ فريد من نوعه إلى حدّ ما؛ حيث إنه كُتِبَ ردًّا في الوقت الحالي على التهديدات التي تتعرض لها الحريّة الفردية التي رأتها تتزايد في العالم حولها. ستبينغ ترى أنَّ التفكير الواضح كان هو حلّ مشكلة معينة لمجموعة يعيشون في زمان ومكان محددين (بريطانيا في الثلاثينيات).
أعتقد أنَّ ادعاءات ستبينغ ستثير بعض الدهشة. هل هو حقًّا مكان المَناطقة للتدخل والفصل في النقاشات العمومية والسياسية؟ هل يمكن حقًّا أن تُغرس أدوات الفلسفة بنجاحٍ في نقاشٍ قصير؟ هل تتبع ستبينغ بالفعل نصيحتها الخاصة؟ بعد كل شيء، تكشف عن ولاءاتها السياسية الشخصية (التي هي معارضة فضفاضة للأرستقراطية والصحافة المملوكة مِلكية خاصة)، من خلال الأمثلة التي تناشدها على مدار النصّ. إذا لم تستطع ستبينغ نفسها تجنب تقييد فكرها بالتحيز والأحكام المسبقة، فكيف بنا؟
رغم هذه الهواجس المُحتملة، لا يزال من الصحيح أنه في الوقت الذي تتعرض فيه الفنون والعلوم الإنسانية حتى أقسام الفلسفة الفردية لضغوطٍ مؤسسية وسياسية لتبرير استمرار وجودها، فإنَّ نموذج المشاركة العامة الذي قدّمته ستبينغ في (Thinking to Some Purpose)، يستحقّ بعض الاهتمام. أنا لا أقترح استبدال نهج “نقل المعرفة” بنهج “المهارات والتدريب”. يمكن أن تكون دراسة الفلسفة والمساهمة فيها غاية في حدّ ذاتها. ولكن في عصر الأخبار المزيفة ونشرات الأخبار على مدار ٢٤ ساعة، إذا كان الفلاسفة قادرين أيضًا على مساعدتنا في أن نستريح ونَتأمّل ونَتَفكّر بوضوح، أيًّا كان الموضوع المطروح، فمن المؤكد أنَّ هذا أمرٌ جيد لهم.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.